الرئيسية / القرآن الكريم / الحفظ من الشرور ببركة سورة الرحمن

الحفظ من الشرور ببركة سورة الرحمن

  [ 4 ]

(الرحمن * علّم القرآن) (سورة الرحمن، الآيات: 1و2).

وجهان في إعراب كلمة الرحمن:

كلمة الرحمن التي وردت في صدر السورة هي آية كاملة، ولها وجهان إعرابيان.

الوجه الأول: هو أن تكون كلمة الرحمن خبراً لمبتدأ محذوف تقديره هو الله دلّ عليه المعنى بحيث يكون أصل العبارة (الله الرحمن).

الوجه الثاني: أن تكون كلمة الرحمن مبتدأً للجملة التي تليها (علَّم القرآن) بحيث تكون العبارة اللاحقة خبراً للمبدأ، وتأتي العبارات التالية (خلق الإنسان. علّمه البيان… الخ) خبراً ثانياً وثالثاً وهلمّ جرا لذلك المبتدأ (الرحمن)، وقد حذف حرف العطف (الواو) بين الأخبار المتعددة لتعدد العطف، وهو امر مألوف لغةً.

سبب افتتاح السورة بكلمة الرحمن:

لقد افتتحت السورة بكلمة الرحمن لأن متن السورة اشتمل على احصاء وذكر بعض النعم والآلاء الإلهية، المادية منها والمعنوية، الظاهرية منها والباطنية التي أنعم الله بها على عباده، ثم عزز السورة بذكر ألطافه الدنيوية والاُخروية بما فيها اصناف الرحمات العامة والخاصة، لأجل كل ما سبق جاء الاسم الشريف (الرحمن) في بداية السورة تذكيراً لنا بعظمة تلك النعم والآلاء الإلهية وتعريفاً لنا بأقسام رحمة الله (عز وجل).

يقول الإمام الصادق (ع) في معنى (الرحمن) انه اسم خاص لصفة عامة، و(الرحيم) اسم عام لصفة خاصة كما أشار إلى ذلك صاحب تفسير مجمع البيان، فاسم (الرحمن) يختص بالله وحده ويحمل صفة رحمته الواسعة الشاملة لكل شيء، اما اسم (الرحيم) فهو اسم عام قد يشترك به الآخرون ولكنه يحمل عن الله عز وجل صفة الرحمة الخاصة بالمؤمنين لوحدهم.

لم لا يقال لغير الله رحماناً؟

على الرغم من ان كلمة (الرحمن) هي صفة ولكنها تدخل في حكم الاسم العلم لأنها صفة غالبة، وطبقاً لذلك لم يحصل الجواز في تسمية غير الله تعالى بالرحمن فكان هذا الاسم خاصاً بالذات الإلهية المقدسة، ولو اردنا ان نقول لغير الله رحماناً لما صح ذلك حتى نسبق هذا الاسم بكلمة عبد حينئذ يصح منا أن نناديه بعبد الرحمن.

وقد ذهب البعض إلى ان العلة الكامنة وراء عدم جواز تسمية غير الله رحمن، لأن الرحمن هو من يمتلك الرحمة الواسعة (ورحمتي وسعت كل شيء) (سورة الأعراف، الآية: 156). فرحمة الله عز وجل تسع لتشمل وتغطي كل شيء من اناس وجمادات وملائكة وسائر الخلق بملكها وملكوتها، وما خلق الله وأمره إلاّ من آثار رحمته (عز وجل).

فالنباتات والزروع في حقيقتها اثر من آثار رحمة الله كما يؤكد ذلك قوله تعالى: (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها) (سورة الروم، الآية: 50). بل إن وجود أي موجود هو بفضل رحمة الله تعالى فقد أعطاه بمقدار وجوده وبمقدار ما تستدعيه ارادته تعالى في بقاء الموجود ودوامه، وهذا الأمر لا يمكن ان يصدر عن غير الله تعالى، لذلك انحصرت الرحمة الواسعة الشاملة بالله وحده، وصدق اسم الرحمن عليه دون سواه (تبارك ربنا وتعالى).

تجلي رحمة الله في ثمار الصيف:

في كتاب توحيد المفضل، ساق الإمام الصادق (ع) جملة من الأمثلة على رحمة الله الواسعة ومن جملة ما ذكره الإمام (ع): فانظر إلى البطيخ، فلو كانت نبتة هذه المثار أشجاراً لما استطاعت أغصانها أن تتحمل ثقل وزن هذه الثمار (إذ قد يصل وزن بعض هذه الثمار إلى عشرات الكيلو غرامات) لذلك كانت هذه النبتة زاحفة على الأرض مفروشة عليها.

ومن رحمته الواسعة أيضاً ان خلق الثمار ذات القدرة على اختزان السوائل من ثمار الصيف ليطفئ بها الإنسان حرارة صيفه ويمد بدنه بما ينضح منه من عرق لئلا يجف البدن فتكون هذه الثمار معيناً لبدن الإنسان من حيث الرطوبة والسوائل اللازمة لتوقي جفاف البدن. فجعل الله ثمار البطيخ والرقي وأشباه ذلك في فصل الصيف دون الشتاء تبعاً للمنفعة اللازمة.

اعطاء الحس والشعور اللازمين للموجودات:

ولقد أعطى الله تعالى لكل شيء من الكائنات ما يستلزمه في حياته، حتى المقدار الضروري من الحس والشعور والوسائل والأسباب التي يفترض وجودها لتحقق الشعور والحس والادراك، فمثلاً نرى الحس والشعور موجودين في النباتات، فهي عندما تنمو نراها تتنحى عن الأجسام الصلبة التي تعترض حركتها بحيث تبقي على نفسها من حالة استمرار تعرضها لأشعة الشمس باعتبارها أحد العناصر اللازمة في تأمين الغذاء والنمو ومواصلة الحياة، لأن الجزء الذي لا يتعرض إلى أشعة الشمس بصورة مباشرة أو غير مباشرة سيؤول إلى التلف والفساد، وهذا المقدار المحدود من الحس والادراك لازم وضروري في حياة النبات، لذلك يهبه الباري تعالى وفق مستلزمات حياة النباتات.

وما صدق على النبات، يصدق على الحيوان أيضاً فهو كالنبات وسائر الأحياء الأخرى بحاجة ماسة إلى توافر الشعور والادراك فيه ولكن على نحو اكثر رقي وتطور مما هو عليه في النبات.

فهو (الحيوان) يحتاج إلى الحس والشعور اللازمين لتوفير الاستعدادات الدفاعية والحفاظ على حياته من الأخطار الخارجية المحدقة به ومن الأخطار الداخلية المحيقة به أيضاً، بحيث نرى أن قوائم الحيوان وعيونه وآذانه وأسنانه وغيرها تكون على نحو تمكنه من تأمين الدفاع الذاتي له في مواجهة الأعداء.

فنجد من الحيوانات ما هو زاحف على بطنه، ومنها ما يمشي على رجلين ومنها ما يمشي على أربع كما يشير إلى هذه الحقيقة قوله تعالى (فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع) (سورة النور، الآية: 45). وقوله عز وجل (الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) (سورة طه، الآية: 50). إذاً أعطى الله (عز وجل) لكل موجود ومخلوق تركيبته وهيئته التي تناسبه حالاً وكمالاً، وهذا ما نعبر عنه بالرحمة التي خُلق الله فيها الموجود وأعطاه من القدرة التي تمكنه من تمييز الضر والسوء من الخير والصلاح كيما يستطيع دفع ذلك الضر وجلب النفع لنفسه وهو ما عبّر عنه الباري تعالى بالهدى، وما الهدى الاّ لون من ألوان الرحمة الإلهية لمن يتأمّل.

إلمام الحيوان بصنعة الطب:

ولقد ذكر بعض أهل العلم عن معرفة الحيوانات لمنفعة الطب قائلين:ـ

1 ـ إذا مرض الأسد، فانه يعالج نفسه من خلال أكل القردة.

2 ـ ويعالج الكلب نفسه بأكل ورق النيل[1].

3 ـ ويعالج الخنزير البري نفسه بأكل السرطان.

4 ـ ويعالج البعير نفسه بتناول ورق البلوط.

5 ـ ويعالج الضبع نفسه بأكل عذرة الكلب.

6 ـ ويعالج الببر[2] نفسه بتناول الكلاب.

7 ـ ويعالج الدب نفسه بأكل النمل.

8 ـ ويعالج الذئب نفسه بأكل التراب.

9 ـ ويعالج النمر نفسه بأكل التراب.

10 ـ ويعالج الفهد نفسه بأكل الفئران.

11 ـ ويعالج الثعلب نفسه بأكل القصب، وهكذا أيضاً بالنسبة للأرنب.

12 ـ ويعالج الغراب نفسه بأكل الشعير.

13 ـ ويعالج الهدهد نفسه بأكل العقارب.

14 ـ ويعالج الحمام الجبلي نفسه بأكل الجراد.

15 ـ وتعالج القطة نفسها بأكل نبتة سطوح المنازل[3].

الأدوية الناجحة للأوجاع القلبية للقطط، والعمى عند الأفاعي:

واعجب ما قيل عن أدوية آلام الحيوانات التي توصلت إليها تلك الحيوانات بفضل ما أودعه الله تعالى فيها من غرائز ما ذكره الدميري في كتابه (حياة الحيوان) فقد أشار إلى موارد لطيفة بهذا الشأن، يقول إن القطط عندما تشتكي وجع القلب، تذهب إلى سطوح المنازل حيث ينبت عشب أخضر زاهي اللون فتتداوى به عن طريق أكله، فلا تلبث حتى تتحسن أحوالها وتعود لها عافيتها من جديد، وعن الأفاعي (وهي أنواع من الحيّات السامة) يقول إن الأفاعي غالباً ما تعمر ألف سنة أو اكثر، فهي بعد أن تطوي من عمرها الألف عام تصاب بالعمى أو بضعف البصر الشديد، فتتحرك (وفق الغريزة التي أودعها الباري فيها) صوب شجرة تدعى شجرة الرازيانه أو شجرة الأسرار، (وتمتاز هذه الشجرة بالقدرة على سحب الأشياء والادواء الحائلة دون القدرة على الأبصار لدى الأفاعي)، فتطوي الافعى الفيافي والقفاز والمسافات من خلال قدرتها الفائقة على الشم حتى تعثر على تلك الشجرة ثم تقترب منها وتأخذ بدلك عينيها بورق تلك الشجرة لتنتهي من عملية الدلك هذه وقد عادت صحيحة البصر.

الرحمة الواسعة التي لا تستثني شيئاً:

كل ذلك كان من آثار رحمة الله الواسعة التي لا تغادر شيئاً من أشياء الوجود، والجميع يرفل في نعيمها، الغني والفقير على حد سواء، باعتبار ان هذه الرحمة هي لون من ألوان العطاء الإلهي الذي يعم جميع الكائنات دون تفاوت أو استثناء يقول تعالى (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) (سورة الملك، الآية: 3). ويذهب القرآن الكريم إلى تأييد هذا الأمر في قوله (عز وجل) (انزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها) (سورة الرعد، الآية: 17). وهو تشبيه لرحمة الله تعالى التي مثلها مثل الماء الذي تمطره السماء فتمتلئ به الاوعية، كل وعاء بقدر سعته، فالكأس يمتلئ بسعته، والحفيرة تمتلئ بسعتها، والبحر يمتلئ بسعته، فرحمة الله الرحمانية تغمر الخلائق جميعاً كل حسب قدره وسعته واستعداداته الذاتية وقابلياته التكوينية لينعموا بها.

سمِعَ البارئ منّا ما عَجزنا عنهُ مُقالاً

 

نَحنُ كنّا عَدَماً دونَ أنْ نُفصِح سُؤالاً

والرحمة الخاصة بالمؤمنين أوسع:

أما القسم أو النوع الآخر من رحمة الخالق (تعالى) فهي الرحمة الخاصة بالمؤمنين، والتي يُعبر عنها بالرحمة الرحيمية، وهي اوسع من الرحمة الرحمانية بمراتب متعددة، فهي وان كانت محدودة بأهل الإيمان إلاّ انها من حيث الكم والمقدار تعدل مائة ضعف من الرحمة الرحمانية وهذا ما يؤكده قول النبي (ص) (ان لله عز وجل مائة رحمة، انزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه، فبها يتعاطفون ويتراحمون، وأخّر تسعاً وتسعين يرحم بها عباده يوم القيامة)[4] فما رحمة الله عز وجل الواسعة التي عمّت الخلائق أجمعين الاّ جزء من مائة جزءٍ من الرحمة الإلهية التي اودعها (جل جلاله) في قلوب وأرواح المؤمنين وأوليائه الصالحين وهذا يعني ان الرحمة الرحيمية هي رحمة اكتسابية لا تكوينية، أي انها تصل إلى متناول بني البشر من خلال السعي لها وطلبها فهي تختلف عن سنخ الرحمة العامة التي هي في واقع الحال قد صارت في متناول الجميع دون سعي لها أو طلب للحصول عليها، فبالرحمة الرحيمية التي يحصل عليها العبد ينعم بآثارها المتجسدة بالمنازل الشامخة والمراتب المعنوية الرفيعة ونيل جنة الخلد والوصول إلى رضوان الله تعالى، وهذا لا يتحقق بالضرورة الاّ ان يرتفع الإنسان إلى منزلة الإنسانية التي ارادها الله له، وبعكس ذلك فان الانحدار نحو مرتبة الحيوانية لا تؤمن للمرء اكتساب هذا القسم من الرحمة كما قد سلّمنا بداهة إلى أنه ما من سبيل للحيوانات إلى الجنة والرضوان، ولو قلنا جدلاً بأن الحيوانات يمكن أن يصار بها إلى الجنة فستبقى غير قادرة على الانتفاع من سنايا الجنة ومواهبها. وما يصدق على الحيوانات ذوات الاربع يصدق أيضاً على الحيوانات ذوات الرجلين، لأن العدل يأبى على الله عز وجل أن يساوي في النعيم بين المؤمن الكادح وبين الحيواني، اللاهي باعتبار التمايز بين القدرات المعنوية والبهيمية، ثم إن الجنة وما فيها محض أنوار، وهذه الأنوار لا يستطيع الابصار بها من عمي عنها في دار الدنيا، ومن انعدمت لديه القدرة على رؤية الأنوار ستنعدم لديه القدرة على رؤية الألوان فلن يكون بمقدار الأعمى ان يبصر ألوان ازاهير واوراد الجنة وانعدام التمييز لديه فصارت الألوان كلها سوداء في ناظريه، ومن يفقد حاسة شمه لن يعد بمقدوره ان يشم طيب الروائح والعطور، بل وما فائدة انغام الجنة وصوت داود (ع) لمن به صمم؟!، وبعد كل هذا وذاك أيحسن الادراك من عمي وصم وبكم عن الحق كما يقول المولى تعالى (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) (سورة البقرة، الآية: 171). إذاً لا بد من توفر الاستعداد والصلاحية الذاتية الاختيارية لدى الافراد لنيل الرحمة الرحيمية، وعندما نقول اختيارية نعني ان يفتح المرء اذنيه لسماع دوي الحق وان يكشف عن بصره لرؤيته جلياً وأن ينزع الاغلال والاصفاد المادية التي يقيد بها يديه ورجليه.

العمى والصمم الناشئ عن ارتكاب المعاصي واقتراف الذنوب:

ففي النظرة المحرمة إلى غير المحارم خيانة، لأنها سهم شيطاني يسدده المرء نحو بصيرته ولعل تكرارها يؤدي إلى الاصابة بالعمى فيصبح المرء محروماً من القدرة على رؤية ألوان الرحمة الخاصة بسبب عميه عن رؤية الحق بعينه.

وكل استماع واصغاء للغو المحرم من موسيقى مطربة أو أغانٍ محرمة ما هو الاّ إسدال لستائر الصمم على الأذن الباطنية لدى الإنسان، مما يؤدي الاسراف فيها إلى وقوع الصمم في أذني المرء الظاهريتين، ويعدّ الكذب واستماع التهمة وعيوب الناس من جملة اللغو المحرم استماعه، ولو تحاشى المرء كل ذلك لكتبت له الرحمة الخاصة وعداً من الله حقاً كما يبشر الله تعالى عباده بها في قوله (فسأكتبها للذين يتقون) (سورة الأعراف، الآية: 156). اذ ان الرحمة الرحيمية قد آل بها الله عز وجل على نفسه أن يهبها للمتقين من عباده ومعنى ذلك ان يتناسب نيل الرحمة الرحيمية مع مقدار التقوى لدى العبد المسلم، فكلما ارتفع منسوب التقوى لديه ازداد نصيبه من الاستعدادات والقابليات على الانتفاع والاستمتاع بألوان وعطور ونعم الجنة، وكلما ازداد تطهر الإنسان وزكى عمله في دار الدنيا كلما تحقق له الرصيد الأوفى من النعيم والسعادة الابدية في الآخرة، لأن الآخرة هي دار الفصل والتمايز بين الطاهرين والمتنجسين كما يشير إلى هذه الحقيقة قوله عز وجل (ان يوم الفصل ميقاتهم أجمعين) (سورة الدخان، الآية: 40). فكيف يمكن لنا أن نرى من قد علا الدرن والاقذار جسده وهو يجالس سلمان الفارسي؟!!

لذلك كان حريّ بنا جميعاً ان نبادر ونسارع بالرجوع إلى ذواتنا ونجيل النظر في شريط عمرنا لنبحث فيه عن مقدار ما كسبنا فيه من حصيلة التقوى لنعرف درجة اللياقة والاستعداد في نيلنا لرحمة الله الرحيمية الخاصة.

إذاً نخلص بالقول من كل ما سبق أن (الرحمن) هو صاحب الرحمة العامة الشاملة لكافة الموجودات في عالم الدنيا، و(الرحيم) هو صاحب الرحمة الخاصة بالمؤمنين، ورغم ان الرحمة الرحمانية تشمل الجميع إلا ان الرحمة الرحيمية أهم واكبر لأنها الرحمة الباقية الابدية، وهي الرحمة التي تنفع الإنسان في يوم يكون فيه في أشد الحاجة وأمسّها إلى مثل تلك الرحمة ولكن لن ينالها أبداً إلا من سار في ركب أهل الايمان وأعدّ نفسه للتأهل بها.

التوفيق للإسلام في ضيافة إبراهيم الخليل (ع):

وفي مناقب سيدنا ابراهيم الخليل (ع) أنه كان لا يتناول الطعام وهو وحيد دون أن يكون عنده ضيف، ولعله كان يخرج في كثير من الأحايين ثم يقف على قارعة الطريق ليقدم الدعوة إلى الضيافة لعابر سبيل، وفي أحد الأيام جلب بصحبته رجلاً كافراً قد دعاه لتناول الطعام في ضيافته، ولما شرعا بتناول الطعام بادر النبي ابراهيم بالقول (بسم الله الرحمن الرحيم) ثم التفت إلى ضيفه قائلاً: قل بسم الله وباشر بتناول طعامك، فأجابه الرجل: ولكني لا ادري من هو الله لاذكر اسمه! فقال ابراهيم (ع): إذاً انفض يديك عن الطعام وانصرف لشأنك.

فأنصرف الضيف إلى حال سبيله، وفي تلك الاثناء نزل الوحي الإلهي على ابراهيم وهو يحمل العتاب قائلاً: لِمَ رددت الضيف؟ لقد كان الله تعالى يرزقه طيلة سنيّه السبعين، ولما أوكل الله تعالى لك رزقه ليوم واحد رددته!

(ولقد أجاد الشاعر الإيراني سعدي الشيرازي وهو يصف رحمة الباري تعالى في جزيل عطائه حيث يقول:

براين خوان يغماچه وشمن چه دوست

 

اديم زمين سفره عام اواست

ومعناه:

قد دعا لها الشقي ممن بَرَا والسعيدا

 

وما أديم الأرض إلاّ مائدة منه غيداً

فلما سمع ذلك من الوحي، سارع ابراهيم إلى اللحوق بضيفه وطلب منه العودة، فاعترته الدهشة وقال له: ليس لك إلى ذلك من سبيل حتى تعرفني سبب لحوقك بي، فحدثه ابراهيم (ع) بما جرى من خبر الوحي، وهنا اعترى الكافر الخجل من عظيم أدب ربه وراح يقول: الويل لي، كيف يكون عندي هكذا رب ثم أولي بوجهي عنه وعلى إثر ذلك أعلن هذا الرجل اسلامه على يد الخليل ابراهيم (ع).

نعم اسلم بفعل ما للرحمة والتوفيق من جاذبية، فوصل ببركتهما إلى ساحل الهداية، ولذلك جاء الحديث النبوي الشريف (اكرموا الضيف ولو كان كافراً) لما لهذا الأدب الرباني من جاذبية في تربية الإنسان وجره إلى ساحل النجاة، ولكن وللأسف الشديد بل ومع كل الأسى، فأن ضيف كربلاء الكريم سبط الرسول (ص) وفلذة كبد أمير المؤمنين وبضعة الزهراء البتول (ع) لم يحجب عنه الماء وهو ظمآن فحسب بل وانتهك أهل الكوفة حرمته ثم أوردوه الردى بعد أن دعوه إليهم.

[ 5 ]

(الرحمن * علّم القرآن * خلق الإنسان* علّمه البيان) (سورة الرحمن، الآيات: 1 ـ 4).

تعلم القرآن أحد السبل المشرعة نحو نيل النعم:

لقد ذكرنا آنفاً ان العلة الكامنة في افتتاح هذه السورة الكريمة بالاسم المبارك (الرحمن) هي ما تستعرضه هذه السورة من ألوان النعم الظاهرية والباطنية على ما سيأتي التطرق إليه، ولعل اكبر هذه النعم التي تستعرضها السورة هي نعمة تعليم القرآن (علّم القرآن) التي لولاها لما تيسّرت الاستفادة من سائر النعم الأخر، فقد علّم الرحمن تعالى حبيبه محمد (ص) القرآن، وقام النبي (ص) بدوره في تعليمه لسائر المسلمين، هذا الكتاب الذي جمع بين دفّتيه مختلف المعارف والعلوم المشتملة على المعاني التي لا تنتهي حدودها بقوالب لفظية اتسعت لهن ألفاظ القرآن بالشكل الذي يعجز عن مساجلته بني البشر، فضلاً عن الاتيان بمثله باعتبار عجز قدراتهم، ولقد اتسع قلب الرسول الكريم (ص) على الاستاع لهذا القول الثقيل من الوحي (انا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً) (سورة المزمّل، الآية: 5). فأجراه البارئ عز وجل على لسان النبي الشريف بيسر وعلّمه الآخرين، ولذلك يعد بعض العلماء مسألة قبول الوحي مشكلة حقيقية لم يستطع أحد ان ينبري لها سوى رسولنا الكريم (ص) بما أمدّه الله تعالى من قوة وقدرة الهيتين جعلتاه مؤهلاً لاستقبال الالقاء الإلهي للقرآن وحمله إلى الآخرين بكل يسر وسهولة (ولقد يسّرنا القرآن للذكر). (سورة القمر، الآية: 17).

لا يعدو الإنسان المنزلة الحيوانية عند التجرّد عن الروحانية:

وبفضل القرآن ومعارفه وتعاليمه الأخلاقية يترفّع الإنسان عن حد البهيميّة فيستحيل إنساناً، وبغير ذلك يبقى الإنسان موجوداً حيوانياً يمشي على رجلين، ولعله يتسافل وينحدر في شهواته إلى ما دون أي حيوان آخر، بل قد يتوحش في سلطان غضبه إلى الدرجة التي تهون دونه كل الوحوش الكاسرة، أو يصبح حريصاً على جمع الأموال فيتفوق على كل حيوان (ذلك مبلغهم من العلم) (سورة النجم، الآية: 30). لذلك تأتي بركة القرآن الكريم في تنظيم وتقنين الاستفادة من الروح وملكاتها كما يؤكد هذه الحقيقة الحديث الشريف الذي استشهد به عامة أصحاب التفاسير في قول الرسول (ص) (أشراف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل) لأن الشرف الذي يكتسبه الناس من القرآن سواء كان معرفة أو كمالاً انما هو شرف حقيقي استودعه القرآن لبني البشر، وعلى ذلك كان الأفراد المشتغلون والمتعاطون للقرآن هم الذين قد اكتسبوا الشرف والكمال لما في القرآن من نظام للحياتين في داري الدنيا والآخرة، ولقد كان القرآن شفاء من علل واسقام الجهل، إذ ان الطب الإلهي القرآني هو الذي يتصدّى لعلاج وشفاء الأمراض والادواء الباطنية للنفس والهوى وما يعتلج في الصدور (وشفاء لما في الصدور) (سورة يونس، الآية: 57). وكذلك فان القرآن يأخذ بأيدي الناس نحو الهدى والرشاد من خلال آياته المشتملة على المعارف القرآنية وتحديد ملامح المبدأ والمعاد واستعراض صفات الله تعالى وأفعاله، ولولا القرآن لما أطلّع أحد على أبناء مبدأه ومعاده وحقيقة وجوده بشكل واضح.

الأشراف، أصحاب اللّيل:

والمجموعة الثانية من أشراف الأمة هم أصحاب الليل كما ورد في الرواية الشريفة الآنفة الذكر، والمقصود بأصحاب الليل هم أهل إحياء الليل الذين يقضون الليل قياماً لله تعالى ويقفون على عتبته المقدسة في الأسحار ويتوجهون إليه وقد استيقنوا ما سيؤول إليه معادهم ببركة ما اخبرهم به القرآن العظيم، لذلك تراهم قد أعدّوا عددهم وهيّئوا زادهم في رحلة إلى دار البقاء بما صدقوا به واعتقدوه فلن يصيبهم بعد ذلك نصب أو قتر مما يصيب أهل الدين الذين حرصوا على الدنيا وأموالها فهم يقومون الليل ويكدّون النهار رجاء جمع المال ونيل الأوطار من نعم تزول ونعيم لا يطول، فرحل أهل الآخرة في حرصهم على طلب الحسنات والزهد في الدنيا سعياً وراء لآخرة، لذا نراهم يهجرون الفراش الوثير والنوم الهانئ إلى رقدة القبر، فيقومون الليل يتلوون في بكاء وأنين وبث الشكوى متأرجحين بين الخوف من ربهم والرجاء لما عنده في دعاء وتضرع ومناجاة كما يتصور هذا المشهد الرائع في قوله تعالى (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً) (سورة السجدة، الآية: 16).

خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه:

يقول النبي المختار (ص) (خيركم ـ أو خياركم ـ من تعلّم القرآن وعلمه)[5] والمقصود بالتعلّم هنا هو العلم المقرون بالعمل، وبالطبع فان العلم بالقرآن يؤدي إلى معرفة الله وتوحيده والاستخبار عن المعاد من خلال الآيات الدالة على المعاد كيما يضمّها القلب في كنفه ويستحضرها الفكر متاعاً للسفر نحو الدار الآخرة فيتعرف الإنسان على آيات العمل ليعمل بها، اما تعلّم القراءة لوحده فلا نعتقد بوجود نفع كبير فيه باعتبار ان تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه انما هو في الواقع مقدمة للمعرفة واليقين والعمل.

أفليس عجيباً ان يلم المرء بتعاليم القرآن الاخلاقية بشكل جيد ويُحسن تلاوة القرآن وينقل علومه ومعارفه ويعلّمها بشكل فذ، لكنه في سلوكه العملي يقف على النقيض من ذلك؟ ولكي نضع هذا الأمر موضع الوضوح نورد هنا بعض الأمثلة على ذلك.

العفو، ودفع السيئة بالحسنة:

فلقد ورد في جملة التعاليم الأخلاقية القرآنية، العفو والتجاوز عن المسيئين، يقول المولى عز وجل: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبّون أن يغفر الله لكم) (سورة النور، الآية: 22). أي لو عفى بعضكم عن بعض لعفى الله عنكم، وفي آية أخرى يقول تبارك وتعالى (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن) (سورة فصلت، الآية: 34). فكيف بنا لا نستغرب ادعاءات البعض أنهم من أهل القرآن ثم نجدهم لا يتجاوزون عمن أساء بحقهم أو يدفعون السيئة بالحسنة!!

إذاً لا بد لأهل القرآن ان يردوا على من فحش لهم بالقول بليّن الحديث، وان يحسنوا القول فيمن ذكرهم في غيابهم بسوء، وان يحترموا من احتقرهم، وان يصلوا من قطعهم، أليس كذلك؟

تعلّم القرآن لأجل العمل به:

لذلك كان تعلم القرآن يهدف إلى الحصول على النتائج العلمية والعملية التي تحقق خير البشرية كما نجده في الرواية الشريفة التالية التي أوردها كتاب بحار الأنوار في المجلد التاسع عشر من باب قراءة القرآن كما في مضمونه الآتي: (في صدر الإسلام الأول كان الرجل الذي يعلن اسلامه يبعث به إلى أحد أصحاب النبي (ص) لأجل ان يتعلّم القرآن، فيباشر الصحابي تعليم المسلم الجديد العهد بالاسلام عشر آيات ولا يُعلمه عشر أخريات حتى يعلم العشر الأوائل)، وها قد تعلمنا نحن أيضاً هاتين الآيتين المتضمنتين للعفو عن المسيء، ومقابلة الإساءة بالاحسان، كيما نجعلهما نموذجين في حياتنا العملية لكي لا نكون ممن ادعى نسبة لأهل القرآن ثم تلكّأ في العمل بما فيه.

نزول السكينة في قلب قارئ القرآن:

وعنما يجلس المرء ليتلو القرآن ينزل الله تعالى عليه النور والسكينة فيعمر قلبه بهما كما في قوله تعالى (هو الذي انزل السكينة في قلوب المؤمنين) (سورة الفتح، الآية: 4). وانما يتم نزول السكينة في قلوب المؤمنين لكي يزدادوا إيماناً، وهذه البركة القرآنية العظيمة انما تحصل لأهل القرآن لكي لا تضطرب بعد ذلك قلوبهم تأثراً بالاضطرابات الدنيوية، فيشمخ اولئك كالجبال الرواسي، وينعمون بالاً لأنهم (من فزع يومئذ آمنون) فلا تهولهم الافكار ولا الظنون، وقد جاء في حديث شريف ما مضمونه (خيركم من كان كحال المرتحل، قيل وما ذاك يا رسول الله (ص)؟ قال: (من يختم القرآن ثم يعاود الكرّة من جديد)[6] وعن الإمام الصادق (ع): (عندما تعييك الحاجة، فأجعل القرآن وسيلتك في طلب الحوائج)[7].

القرآن، أعظم النعم الآلهيّة:

ولا شك ان القرآن الكريم هو افضل نعم الله تعالى على الإنسان، فقد اشتملت سورة الرحمن على ذكر الكثير من النعم الربانية ما ظهر منها وما بطن، وعلى رأس تلك النعم جاء ذكر القرآن والشمس والقمر وغيرها ولكن ما الفائدة من سائر النعم الإلهية فيما لو افتقد الإنسان نعمة الهدي القرآني؟ فتصور نفع وجود الجنة للناس في حال افتقادهم للقرآن الهادي والدليل الصائب نحو الجنان، لذلك جاء الباري تعالى بذكر تعليم القرآن في أول سرده للنعم، وجاءت آخر وصايا النبي (ص) بالتزام القرآن والعترة النبوية (ص).

التوسل بالقرآن والعترة لأجل قضاء الحوائج العظيمة:

روي عن الإمام الصادق (ع) كما جاء في كتاب الصلاة من كتاب بحار الأنوار أنه قال: (لو كانت لديك حاجة هامة فتوضأ عندما يسدل الليل أستاره على الدنيا وصلّ لله ركعتين، تقرأ في الأولى بعد الحمد آية الكرسي، وفي الثانية بعد الحمد أواخر سورة الحشر (لو أنزلنا هذا القرآن…) ثم تقرا هذا الدعاء بعد سلام الصلاة (وهو الدعاء الذي يقرأ في ليالي القدر) وقد نشرت القرآن على رأسك قائلاً بك يا الله عشر مرات ثم بمحمد (ص) عشر مرات ثم… (وتذكر أسماء بقية المعصومين الاربعة عشر على النحو الذي مر ذكره) إلى ان تصل إلى ذكر الحجة (ع) ثم تطلب حاجتك فانها تقضى باذن الله تعالى أياً كانت الحاجة). نعم لأن التوسل بالقرآن والعترة لا يرد وخصوصاً في أوقات السحر لأن له فضيلة اكبر.

 

[1] النيل، نبات ينمو في المناطق الحارة كالهند ويستعمل في صناعة صبغ الملابس والأقمشة باللون الأزرق (النيلي).

[2] البَبْر، بفتح الباء الأولى وسكون الثانية، وهو حيوان من السنوريّات يشبه النمر ولكنه اضخم منه ويقارن الأسد في هيئته ولكنه يتخلف عنه في الفعالية والنشاط.

[3] وهو نبات طبيعي ينبت على سطوح المنازل الطينية في فصل الربيع.

[4] تفسير مجمع البيان، للطبرسي.

[5] تفسير البرهان، (ج1، ص4).

[6] بحار الأنوار، المجلد التاسع عشر.

[7] بحار الأنوار، المجلد التاسع عشر.

شاهد أيضاً

الحفظ من الشرور ببركة سورة الرحمن .. سورة الرحمن عروس القرآن

[ 1 ] بسم الله الرحمن الرحيم (الرّحمن * علّم القرآن * خلق الإنسان * ...