الرئيسية / القرآن الكريم / دروس منهجية في علوم القرآن

دروس منهجية في علوم القرآن

الدرس الخامس

8 – اشتمال القرآن الكريم على أسماء وحوادث قديمة لم يعرفها المجتمع آنذاك، وبعضها لم تتعرض له الكتب القديمة مثل قضية صالح وبلقيس وسد مأرب ونحو ذلك، بل حتى بعض ما تحدثت عنه المصادر الأخرى تناولها القرآن بدقة ومعقولية، وبعضها أكدتها البحوث والتحريات الحديثة.

وقد ذكر المؤرخون ميل النصراني (عداس) غلام صفوان بن أمية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عندما أخبره (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن النبي يونس بن متى ومسقط رأسه نينوى، حيث فوجىء عداس بهذه المعلومات اليسيرة من عربي يعيش في مكة(1)، فكيف بالعدد الهائل من المعلومات التي تضمنها القرآن الكريم بمجموع آياته؟!

9- اشتماله على منظومة عقائدية دقيقة ومنسجمة مع العقل والبرهان، خاصةً مسألة التوحيد وبحوثها التي هي أهم قضية عقائدية شغلت فكر الانسان واهتمامه، فقد طرحها الإسلام من خلال القرآن والسنّة بشكل دقيق سليم من كل إشكال وتهافت حتى انبهر بها العلماء في العصور المختلفة بهذا الطرح القرآني الدقيق، مع ان ذلك مما لا تستوعبه العقول والأذهان العادية للبشر، ولذلك نجد أن عدم استيعاب هذه الفكرة كانت مشكلة البشرية ومازالت، بمن فيهم اتباع الأديان السماوية التي حملت نفس الفكرة حيث ضلّوا عنها بعد رحيل أنبيائهم، وسيطرت عليهم أفكار منحرفة، مثل فكرة الشريك وفكرة التجسيم وغير ذلك.

فكيف يتصور أنّ انساناً يعيش في تلك العصور المظلمة وفي ذلك المجتمع الجاهلي المتوحش يتعامل بهذه الدقة مع هذه القضية الحساسة التي شغلت الفلاسفة والعلماء في كل عصر، فترى القرآن الكريم تحدّث كثيراً عن موضوع التوحيد وصفات الباري سبحانه بدقة متناهية من دون أن يحيد عن الصراط المستقيم.

10- التشريع الشامل لمختلف جوانب الحياة، وشؤون الأفراد والمجتمع من الطقوس العبادية، والتشريعات في مجال العلاقات العامة والخاصّة، وتهذيب النفس، وغير ذلك، حيث لا يعقل أن يبتكر كلَّ ذلك شخص قبل أربعة عشر قرناً ينتمي الى مجتمع يتجذر التخلف في أعماقه.

وقد تنبّه الكثير من الباحثين الغربيين وغيرهم إلى هذه النقطة بالذات فصارت من أهم ما يجذب المثقفين للإسلام في هذا العصر.

وتبقى على العلماء مسؤولية التمعن في مصادر التشريع الإسلامي لإبراز هذا الجانب المشرق من الإسلام، وطرح الحلول السليمة الكفيلة بحلّ المشاكل المعقّدة التي تواجهها المجتمعات، من خلال فهم دقيق وواع لمصادر التشريع وحدوده، وعرض ذلك في اطروحة وصياغة قانونية حديثة.

11- وهناك شواهد أخرى على ارتباط القرآن بالله تعالى نذكر منها..

أ: مجموعة آيات العتاب التي يلوح من بعضها الشدة التي كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) في غنى عنها – لو كانت من إنشائه – علماً أنّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يستثمره لإثبات صحة دعواه حتى تفسّر على أنّها مقصودة له، نخص بالذكر الآيات المدنية المذكورة التي نزلت في أوج قوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) حيث لم يكن في حاجة لمثل هذه الأساليب لتدعيم سلطته.

ب: اختلاف مضمون القرآن وطبيعة سلوك النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) المختلفين تماماً عن مضمون كلام أصحاب العلوم الغريبة وسلوكهم.

ج: ما عُرف عنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) من أنّه الصادق الأمين قبل دعوته، ولذلك صدّقه أقاربه والمحيطون به وتحمّلوا الشدائد في سبيل ذلك.

د: بعض المواقف الحازمة التي تكشف عن الارتباط بالله تعالى مثل موضوع قبلة المسلمين وتبدلها من بيت المقدس الى الكعبة، ففي مكة وبداية الدعوة حيث كان يفترض – من منظور مصلحي – جذب القرشيين الى الإسلام جُعلت القبلة الى بيت المقدس مما أثار غيظ المكيين حيث طعنهم في أقدس رمز عندهم، والذي كان أهم مصدر لوضعهم المعنوي والمادي المتميّز، بالإضافة الى أنّه كان خلاف رغبته (صلى الله عليه وآله وسلّم) – كما دلّت عليه الآية الكريمة فيما بعد -.

وفي المدينة حيث كان يفترض – كذلك – جذب أهل الكتاب وضرب مصالح أهل مكة أُرجعت القبلة الى الكعبة ممّا يكشف عن أنّ أمر التشريع المذكور لا يخضع للرغبة البشرية، وإنما هو تابع للإرادة الإلهية رعايةً لمصالح لا يعرفها غيره تعالى.

هـ: كشف العديد من الآيات القرآنية عن حقائق علمية أثبتها العلم الحديث، وهو ما يعبّر عنه بالاعجاز العلمي(2). ونؤكد هنا على أهمية الاعتدال والموضوعية وعدم تحميل الآيات القرآنية خلاف ظاهرها لمجرد تطبيقها على مقولة أو نظرية علمية حديثة. لأن القرآن كتاب هداية وليس كتاباً جامعاً للنظريات العلمية التي هي شؤون بشرية.

12- ونضيف الى الدلائل على صحة انتساب القرآن والرسالة الغراء لله سبحانه موقف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته(عليهم السلام) الصلب وتفانيهم في سبيل هذا الدين العظيم مع علمه (صلى الله عليه وآله وسلّم) بمصير أهل بيته المفجع – كما دلّت عليه نصوص كثيرة ذكرها أيضاً من لم يكن من اتباع أهل البيت(عليهم السلام)(3) – فلو لم يكن محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) مرسلاً ومرتبطاً بالله لم يكن إقدامه على ما سيؤول إلى مقتل أسرته وذرّيته معقولاً.

ولا يحتمل في حقّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يكون على وهم وقناعة خاطئة، لأنّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن يعتمد على النظريات المجرّدة القابلة للخطأ، بل يعتمد على مشاهدة الواقع العيني. ونظير موقفه (صلى الله عليه وآله وسلّم) موقف أهل بيته(عليهم السلام) – خاصةً الإمام علي (عليه السلام) – في استقامتهم ومعاناتهم في سبيل الرسالة الإسلامية حيث بذلوا كل غال ونفيس.

1– يراجع الكامل في التاريخ: 2 92.

2– يُراجع ماكتبه مصطفى محمود في هذا المجال، وغيره.

3– الأمالي للشيخ الطوسي: 315، مناقب آل أبي طالب 3:213، بحار الأنوار 45:227 و231.

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...