دروس منهجية في علوم القرآن
15 يناير,2019
القرآن الكريم, صوتي ومرئي متنوع
782 زيارة
الدرس الثاني والأربعون (المفسّرون)
طبقات المفسّرين
قبل التعرض لطبقات المفسرين يمكننا اعتبار القرآن الكريم نفسه والرسول العظيم نفسه من المفسرين للقرآن، إذ وردت آيات عديدة تصلح ان تكون مفسِّرة لآيات قرآنية أخرى، لذلك انطلقت فكرة تفسير القرآن بالقرآن.
وكذلك الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) حيث دلّت نصوص وروايات كثيرة انه كان يفسّر ما يحتاج الى التفسير من الآيات النازلة عليه، أو يبيّن المصاديق البارزة لمعاني بعض الآيات، مثل ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) متواتراً انه كان يشير الى بيت علي وفاطمة ويصرّح بأنّهم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً. وكذلك في تفسير آية التصدّق عندما تصدق الإمام (عليه السلام) بخاتمه، وكذلك آيات التصدق في سورة الإنسان وغير ذلك.
ولا غرابة في ذلك، لأنّ الذي ينزّل القرآن عليه هداية للناس من الطبيعي أن يتصدى لتفسيره وبيان معانيه، وربما تكون في بعض الآيات الكريمة إشارة الى ذلك ﴿…وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(1).
ولكن السؤال الذي يطرح هنا عن حدود التفسير الذي تصدّى له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) فهل شمل القرآن كله تفسيراً شاملاً لكل جوانب آياته او اقتصر على بعض الآيات وبما يتطلبه الظرف والموقف؟
ويوجد اتجاهان في الإجابة على هذا السؤال، حيث يرى بعض الباحثين ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يفسّر إلاّ بعض الآيات حسب ما اقتضته الظروف ويستشهدون على ذلك بأمرين..
أولهما: قلّة ما ورد عن الصحابة من التفسير بالمأثور، لذلك نجد الصحابة يحتارون في تفسير الآيات القرآنية مما يكشف عن قلّة ما تلقّوه من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) في التفسير.
ثانيهما: بعض الروايات الدالة على ذلك، منها ما أخرجه البزار عن عائشة من انّ رسول الله ما كان يفسّر إلاّ آياً بعدد(2).
بالاضافة الى شواهد اُخرى يستشهد بها أنصار هذا الرأي.
بينما يرى الفريق الآخر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد قام بعملية تفسير شاملة للقرآن، ويمكن الاستشهاد لهذا الفريق بدليلين:
أحدهما: بعض الآيات الكريمة التي نسبت هذا الدور للرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلّم) مثل قوله تعالى ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾(3)، وقوله تعالى: ﴿…وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(4).
ثانيهما: طبيعة دور القرآن ومكانته بين المسلمين، فمن الواضح ان القرآن الكريم ليس مجرد كتاب نُزّل ليتبرّك به المسلمون او يحفظوا ألفاظه ليقرؤوها في طقوس معينة، بل هو الكتاب الذي اُنزل لإخراجهم من الظلمات الى النور، فهو إمامهم وهاديهم الى سواء السبيل، ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(5) وان الآيات القرآنية كانت تنزل لتوجيه المسلمين بالاتجاه الذي ترسمه، وتحدد المواقف في المناسبات التي تنزل فيها، فلا معنى لفرض جهل المسلمين بمعاني وتفسير الآيات القرآنية المتتالية مع شعورهم بضرورة اتّباع النهج المرسوم فيه والالتزام بمحتوياته وتعاليمه، وبما ان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) هو العارف بتفسيره فلابدّ أن يكون قد بيّنه لأصحابه على نطاق واسع شامل.
وأما قلة المأثور عن الصحابة من التفسير بالمأثور فقد يرجع الى انعدام التدوين – ولو بسبب منعه بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) – من ناحية، وانشغال الصحابة بالحروب وابتعادهم عن الجوّ العلمي من ناحية ثانية.
ونحن أمام هذين الاتجاهين المتباينين في تحديد دور الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) في تفسير القرآن الكريم – يمكن أن نخلص الى نتيجة تلتقي جزئياً مع كلا الاتجاهين، ولتوضيح ذلك نشير الى عدّة نقاط جديرة بالملاحظة وهي..
أ: ان القرآن الكريم دعا المسلمين الى التدبّر في آياته ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾(6).
ب: انّ الناس – بمن فيهم الصحابة – يختلفون في قدراتهم الذهنية ومستوياتهم الثقافية والعلمية.
ج: ما ورد ان للقرآن الكريم ظهراً وبطناً، وكذا ما ورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) في بيان عمق القرآن الكريم مثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلّم): “ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة رد، ولا تنقضي عجائبه”(7).
د: ان القرآن الكريم حمّل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مسألة بيانه للناس، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(8).
بعد ملاحظة هذه النقاط يمكننا أن نخلص الى أن مستوىً عاديّاً من الفهم لجلّ الآيات القرآنية كان منتشراً بين الصحابة أو كثير منهم، يستند بعضه الى بيان من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وبعضه الى الفهم الذاتي باعتبارهم اهل اللغة وضمن الوسط الذي نزل فيه القرآن الكريم.
أما الفهم الدقيق لمعانيه العميقة – كما ورد في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلّم): “ظاهره انيق وباطنه عميق” – فلم يبيّنه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) على نطاق واسع وشامل، لعدم استيعاب المجتمع آنذاك لها، وعدم توفر الظرف المحيط به – خاصة مع ملاحظة ضعف المستوى الثقافي وانشغال المسلمين بالحروب والتحديات الأخرى – ولذا ورد أنه لا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة رد، ولا تنقضي عجائبه.
نعم، هناك كثير من النصوص والشواهد الدالة على أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد خصَّ علياً (عليه السلام) بهذا الفهم المتميّز، وان كانت آلية هذا التعليم غير معروفة، فهل كان بشكل تفصيلي او باعطائه مفاتيح الفهم الدقيق للآيات؟ هناك روايات مُختلفة المضمون، ليس هذا محل بحثها.
1– سورة النحل: 44.
2– التفسير والمفسّرون: 1 51.
3– سورة البقرة: 151.
4– سورة النحل: 44.
5– سورة الاسراء: 9.
6– سورة ص: 29.
7– الدارمي: 2 435، كتاب فضائل القرآن، يراجع أيضاً صحيح الترمذي: 11 30، والبحار: 9 7، عن تفسير العياشي.
8– سورة النحل: 44.
2019-01-15