الرئيسية / الاسلام والحياة / ليالي بيشاور – 70 لسلطان الواعظين

ليالي بيشاور – 70 لسلطان الواعظين

موقف عثمان من صحابة النبي (ص) المقربين:

ومن أسباب ثورة المسلمين على عثمان وقتله ، إيذاؤه بعض الصحابة المقربين إلى رسول الله (ص) والمكرمين لديه ، وما كان لهم جرم سوى إنهم كانوا ينهونه عن المنكر ويأمرونه بالمعروف ، منهم : عبد الله بن مسعود ، وهو الحافظ لكتاب الله ، والكاتب الضابط للقرآن الكريم على عهد رسول الله (ص) ، وكان يحظى عند النبي (ص) وعند الشيخين باحترام وافر .

وذكر ابن خلدون في تاريخه أن عمر بن الخطاب في أيام خلافته وحكومته كان يقرب عبد الله بن مسعود ولا يفارقه أبدا ، لأنه كان ذا اطلاع كامل على القرآن ، وقد روى المحدثون أحاديث كثيرة عن رسول الله (ص) في حقه ، ذكرها ابن أبى الحديد أيضا في شرح النهج .

وذكر المؤرخون : أن عثمان لما أراد أن يجمع المصاحف أمر بأخذ النسخ الموجودة عند الأصحاب ، ومنها النسخة التي كانت عند عبد الله بن مسعود ، اذ كان من كتاب الوحي ومحل ثقة النبي (ص) ، ولكن ابن مسعود أبا أن يعطيه نسخته ، فذهب عثمان بنفسه إلى بيت ابن مسعود وأخذ نسخته قهرا ، فلما سمع ابن مسعود أن نسخته أحرقت مع سائر النسخ ، حزن حزنا شديدا وكان حينذاك بالكوفة ، فبدأ يطعن في عثمان ، ويكشف الستار عن أعماله المخالفة لسنة النبي والقرآن وسيرة الشيخين .

وكان الجواسيس يخبرون الوليد بن عقبة والي الكوفة ، فكتب فيه الوليد إلى عثمان ، فأمره أن يبعثه إلى المدينة .

وقال ابن أبى الحديد في شرح النهج 3/43 ـ عن الواقدي وغيره : أن ابن مسعود دخل المدينة ليلة جمعة ، فلما علم عثمان بدخوله قال : أيها الناس إنه قد طرقكم الليلة دويبة ، من تمشي على طعامه يقي‏ء و يسلح .

فقال ابن مسعود: لست بدويبة، و لكنني صاحب رسول الله( ص) يوم بدر، و صاحبه يوم أحد ، و صاحبه يوم بيعة الرضوان ، و صاحبه يوم الخندق ، و صاحبه يوم حنين .

و صاحت عائشة : يا عثمان ! أ تقول هذا لصاحب رسول الله ( ص ) ؟!

فقال عثمان : اسكتي ، ثم قال لعبد الله بن زمعة بن الأسود : أخرجه إخراجا عنيفا !

فأخذه ابن زمعة ، فاحتمله حتى جاء به باب المسجد ، فضرب به الأرض ، فكسر ضلعا من أضلاعه .

فقال ابن مسعود : قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان .

و في رواية : أن ابن زمعة كان مولى لعثمان ، أسود مسدما طوالا .

وقال ابن أبى الحديد في صفحة 44 : وقد روى محمد بن اسحاق عن محمد بن كعب القرظي : أن عثمان ضرب إبن مسعود أربعين سوطا ، لأنه قام بتجهيز أبي ذر الغفاري ودفنه .

قال : وهذه قصة أخرى ، ثم يذكرها بالتفصيل .

أقول : الله أكبر ! وهل دفن مؤمن كأبي ذر ، يستوجب التعزيز والتعذيب ؟!

وقال ابن أبي الحديد في صفحة 42 و 43 : و لما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه أتاه عثمان عائدا .

فقال : ما تشتكي ؟

فقال : ذنوبي .

قال : فما تشتهي .

قال : رحمة ربي .

قال : أ لا أدعو لك طبيبا ؟

قال : الطبيب أمرضني .

قال : أ فلا آمر لك بعطائك ؟

قال : منعتنيه و أنا محتاج إليه و تعطينيه و أنا مستغن عنه !

قال : يكون لولدك .

قال : رزقهم على الله تعالى .

قال : استغفر لي يا أبا عبد الرحمن .

قال : أسأل الله أن يأخذ لي منك حقي !

وقال ابن أبي الحديد في صفحة 42 : وقد روي عنه أيضا من طرق لا تحصى كثيرة ، أنه كان يقول : ما يزن عثمان عند الله جناح ذباب .

قال ابن أبي الحديد : وتعاطي ما روي عنه في هذا الباب يطول ، و هو أظهر من أن يحتاج إلى الاستشهاد عليه ، و أنه بلغ من إصرار عبد الله على مظاهرته بالعداوة ، أن قال لما حضره الموت : من يتقبل مني وصية أوصيه بها على ما فيه؟

فسكت القوم و عرفوا الذي يريد .

فأعادها ، فقال عمار بن ياسر رحمه الله تعالى : أنا أقبلها .

فقال ابن مسعود : ألا يصلي علي عثمان .

قال : ذلك لك .

فيقال : إنه لما دفن جاء عثمان منكرا لذلك ، فقال له قائل : أن عمارا ولي الأمر .

فقال لعمار : ما حملك على أن لم تؤذني ؟!

فقال : عهد إلي ألا أؤذنك .

فوقف على قبره و أثنى عليه . ثم انصرف و هو يقول : رفعتم و الله أيديكم عن خير من بقي .

فتمثل الزبير بقول الشاعر :

لا ألفينك بعد الموت تندبني و في حياتي ما زودتني زادي

إيذاؤه عمار بن ياسر

ومن أعمال عثمان الثابتة عليه ، ولم ينكره أحد من المؤرخين ، وهو خلاف العدل والرحمة ، وظلم ظاهر ، لم يرض به المؤمنون ، ولو كان أبو بكر وعمر حيين لأنكرا عليه وانتقما منه :

ضربه وإيذاؤه عمار بن ياسر ، الصحابي الجليل الذي قال فيه رسول الله (ص) : ” عمار ملئ إيمانا من قرنه إلى قدميه ” . وشهد له ولأبويه بالجنة ، بل قال (ص) : إن الجنة إليه .

وكان السبب في ضربه أمورا ، منها كما نقل ابن أبي الحديد في شرح النهج 3/50 قال : و روى آخرون أنّ السبب في ذلك أنّ عثمان مرّ بقبر جديد ، فسأل عنه، فقيل : عبد اللّه بن مسعود، فغضب على عمّار لكتمانه إيّاه موته ، إذ كان المتولّي للصلاة عليه و القيام بشأنه ، فعندها وطئ عثمان عمّارا حتى أصابه الفتق .

قال ابن أبي الحديد في صفحة 50 : و روى آخرون ، أن المقداد و عمارا و طلحة و الزبير و عدة من أصحاب رسول الله (ص) كتبوا كتابا ، عددوا فيه أحداث عثمان و خوفوه به و أعلموه أنهم مواثبوه إن لم يقلع .

فأخذ عمار الكتاب فأتاه به ، فقرأ منه صدرا ثم قال له : أ علَيّ تقدم من بينهم !

فقال : لأني أنصحهم لك .

قال : كذبت يا ابن سمية !

فقال : أنا و الله ابن سمية و ابن ياسر .

فأمر عثمان غلمانا له ، فمدوا بيديه و رجليه ، ثم ضربه عثمان برجليه ـ و هي في الخفين ـ على مذاكيره ، فأصابه الفتق و كان ضعيفا كبيرا فغشي عليه .

قال ابن أبي الحديد في صفحة 49 : ثم أخرج فحمل حتى أتي به منزل أم سلمة (رضي الله عنها ) ، فلم يصل الظهر والعصر والمغرب ، فلما أفاق توضأ وصلى .

ومن أحب التفصيل ، فليراجع مروج الذهب 1/437 ، وشرح النهج ـ لابن أبي الحديد ـ الجزء الثالث ، طبع دار إحياء التراث العربي .

إيذاؤه أبا ذر الغفاري:

ومن أسباب ثورة المسلمين على عثمان ، إيذاؤه أبا ذر ونفيه إلى الشام ، لكن أبا ذر لم يسكت ، بل كان يتكلم في مظالم عثمان ومآثم معاوية بن أبي سفيان ، عامله على الشام ، فكتب معاوية إلى عثمان يخبره عن كلام أبي ذر ، فطلبه عثمان واسترده إلى المدينة ، فلما وصل إليها ، نفاه إلى الربذة مع عياله ، فبقي هناك حتى وافاه الأجل ، فمات مقهورا ، مغلوبا على أمره ، وخلف ابنته الوحيدة فريدة من غير والٍ وحام في ذلك المكان الموحش .

وذكر إساءة عثمان وإيذاؤه لأبي ذر ، صحابي رسول الله كثير من أعلامكم ، منهم : ابن سعد في طبقاته 4/168 ، والبخاري في صحيحه في كتاب الزكاة .

وابن أبي الحديد في شرح النهج 3/54 ـ 58 ، واليعقوبي في تاريخه 2/148 ، والمسعودي في مروج الذهب 1/438 ، وغيرهم من المؤرخين فقد ذكروا تفصيل معاملة عثمان السيئة ، وكذلك عماله المجرمين وإساءتهم لأبي ذر الطيب الصادق ، صاحب رسول الله (ص) .

حتى أن عثمان أهان الإمام علي (ع) لأنه شايع أبا ذر حين تبعيده إلى الربذة ، فخرج لتوديعه مع الحسنين (ع) ، وذكروا كذلك أن عثمان ضرب عبد الله بن مسعود أربعين سوطا لأنه تولى دفن أبي ذر عليه الرحمة(51).

الحافظ : إيذاء أبي ذر عليه الرحمة ونفيه لم يصدر من عثمان ، وإنما كان بأمر بعض عماله ومن غير علمه ، وإلا فإن عثمان أجل من هذه الأعمال ، والمشهور أنه كان رحيما شفيقا يحمل بين جنبيه قلبا رقيقا .

قلت : إن كلامك هذا خلاف الواقع ، وقد صدر من غير تحقيق ، فإن التاريخ يؤكد أن الأوامر الصادرة في تبعيد أبي ذر إنما كانت من نفس عثمان إلى عماله ، وهم قاموا بكل ما فعلوا ، تنفيذا لأوامره !

وإذا أردت أن تعرف حقيقة الأمر ، فراجع تاريخ اليعقوبي 1/241 ، وشرح النهج لابن أبي الحديد 3/55 ، وغيرهما ، فقد سجلوا كتاب عثمان إلى معاوية ـ وهو عامله على الشام ـ فقد كتب فيه : أما بعد فاحمل جندبا إلي على أغلظ مركب وأو عره .

فوجه به مع من سار به الليل والنهار ، وحمله على شارف ليس عليها إلا قتب ، حتى قدم به المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد .

فبالله عليكم أنصفوا ! هل هذا معنى الرحمة والرأفة مع شيخ كبير طاعن في السن كأبي ذر رحمة الله تعالى عليه !!(52).

ولا أدري لم استحق هذا الرجل الكريم ذلك الظلم العظيم ؟!

وكيف نسي عثمان منزلة أبي ذر ورتبته السامية عند رسول الله (ص) ؟

وكيف نسي حديث النبي (ص) في حقه حين أعلم المسلمين فقال (ص) : إن الله أمرني بحب أربعة ، وأخبرني أنه يحبهم .

قالوا : يا رسول الله ! ومن هم ؟

قال (ص) : علي منهم ـ ثلاثا ـ ثم قال : وأبو ذر ومقداد وسلمان .

ذكر هذا الحديث من أعلامكم ، منهم : الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء 1/172 ، وابن ماجة في السنن 1/66 ، والحافظ سليمان القندوزي في ينابيع المودة : الباب 59 ، وابن حجر المكي في

” الصواعق المحرقة ” الحديث الخامس من الأربعين حديثا في فضل الامام علي (ع) عن الترمذي والحاكم ، وابن حجر العسقلاني في الاصابة 3/455 ، والترمذي في صحيحه 2/213 ، وابن عبد البر في الاستيعاب 2/557 ، والحاكم في المستدرك 3/130 ، والسيوطي في ” الجامع الصغير ” وغير هؤلاء من علماؤكم الموثوقين لديكم .

فهل النبي (ص) يعذر عثمان ؟! هل يعذره في تلك المعاملات السيئة التي عامل بها حبيبه وصاحبه أبا ذر الذي أمره الله تعالى بحبه ؟!!

هل هذه الأعمال البربرية ، تصدر من ذي رحمة ورأفة ، أم ذي صلابة وقسوة ؟!!

الحافظ : إنما لاقى أبو ذر عقاب أعماله ! لأنه كان في الشام يدعو الناس لعلي كرم الله وجهه ، وكان يقول علانية : بأني سمعت رسول الله (ص) يقول : ” علي خليفتي فيكم ” فكان يعرض بعثمان والشيخين ، بأنهم غصبوا الخلافة من علي بن أبي طالب ، فكان بهذه الكلمات يوقع الخلاف بين المسلمين في الشام ، فيشتت آراءهم بعد أن كانوا على رأي واحد ، والخليفة المسؤول على حفظ الدين ووحدة الكلمة واتحاد المسلمين ، ولم يكن بد لعثمان من طلب إرجاعه إلى المدينة ، ليجعله تحت نظره ويراقب أمره .

قلت :

أولا : كان في المدينة تحت نظره ولكن أبعده إلى الشام ثم استرده إلى المدينة !

ثانيا : وهل الإسلام يخالف بيان الحق ؟!

وهل من العدل والدين أن من صدع بالحق يجب أن ينفى ويعذب حتى يموت صبرا ؟!!

ثالثا : وعلى فرض أن يكون من حق الخليفة أن يجعل من يحب تحت نظره ويراقب أموره ، فهل من حقه أيضا أن يصدر حكما قاسيا في حق المتهم ، قبل أن يراه ويحاكمه ويسمع كلامه ودفاعه عن نفسه ؟!

وهل يسمح الدين القويم والعقل السليم للخليفة ، أو لأي حاكم ، أن يحكم على متهم ـ قبل ثبوت الجرم ـ وهو شيخ كبير مسن ضعيف نحيف ، بحكم لا يطيقه ولا يتحمله ؟! كما حكم عثمان وأمر في كتابه لمعاوية : أن احمل جندبا ـ يعني : أبا ذر ـ على أغلظ مركب وأوعره من غير قتب !! فلما وصل المدينة تساقط لحم فخذيه من الجهد .

فهل هذا بحكم العدل والرحمة ؟! وهل هذا من المروءة والرأفة ؟!!

وإذا كان عثمان يريد وحدة الكلمة واتحاد المسلمين فقام بتبعيد أبي ذر رحمه الله تعالى لكي لا تشق عصا المسلمين ، فلماذا اختلف المسلمون على عهده وانشقت عصاهم ، وثاروا على عثمان وقتلوه ؟!!

فالمنصف المحق يعرف إنما اختلف المسلمون وثاروا على عثمان وخلعوه ، بسبب ارتكابه تلك الأعمال المخالفة للإسلام والعرف !

وإذا كان الخليفة كما تزعمون ، حريصا على وحدة الكلمة واتحاد المسلمين ، فكان يجب عليه أن يلبي طلبات الثائرين ، وكلها كانت أمورا شرعية وعرفية ، ومن أهمها أنهم كانوا يطالبوه بعزل بعض عماله المفسدين الظالمين ، وإبعاد حاشيته ، أمثال : مروان طريد رسول الله (ص) والوليد بن عقبة الفاسق ، ومعاوية الفاجر ، الذين لعنوا في القرآن الكريم وعلى لسان النبي العظيم (ص) .

الحافظ : من أين نعرف أن أبا ذر كان صادقا ، وبالحق ناطقا ، فنحن نقول : إنه كان يجعل الأحاديث على لسان رسول الله (ص) : كما أنتم تقولون في أبي هريرة !

أبو ذر أصدق الناس:

إني أستغرب كلامك ، فكأنك لم تطالع تاريخ أبي ذر رحمه الله ولو لمرة واحدة ، وإلا لما كنت تتكلم بهذا الكلام الواهي ، فإن كلامك هذا يناقض كلام رسول الله (ص) ويخالف حديثه الشريف في حق أبي ذر إذ قال (ص) : ما أقلت الغبراء وما أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر .

وهذا حديث مشهور ، نقله أعلامكم ومحدثوكم ، منهم : محمد بن سعد في طبقاته 4/167 و 168 ، وابن عبد البر في الاستيعاب 1/48 باب جندب ، والترمذي في صحيحه 2/221 ، والحاكم في المستدرك 3/342 ، وابن حجر العسقلاني في الاصابة 3/622 ، والمتقي الهندي في كنز العمال 6/169 ، والامام أحمد في المسند 2/163 و 175 ، وابن أبي الحديد في شرح النهج 3/56 ط. بيروت ـ دار احياء التراث العربي ، والحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء ، وفي كتاب ” لسان العرب ” وكتاب ” ينابيع المودة ” فقد رووه بأسانيد كثيرة وطرق عديدة .

بناء على هذا الحديث الشريف ، لا يحق لكم أن تنسبوا الكذب لأبي ذر رحمه الله تعالى ، لأن تكذيبه يكون تكذيب رسول الله (ص) وهو كفر !

ولذلك ، فنحن نعتقد أن كل ما أعلنه أبو ذر صدق محض ، وحق بحت ، وليس لنا ولكم إلا التصديق والقبول .

وبناء على الحديث الآخر الذي رويته لكم قبل هذا ، عن أعلامكم وطرقكم ، بأن (ص) قال : إن الله تعالى أمرني بحب أربعة … كان أبو ذر أحدهم ، ومن الواضح أن الله سبحانه لا يأمر نبيه بحبه رجل كاذب يجعل الحديث وينسبه إلى النبي والعياذ بالله !

ثم أقول : لو كان لبان ، أي : لو كان أبو ذر كاذبا لكان علماؤكم بينوا أكاذيبه وأعلنوا كذبه ، كما بينوا أباطيل أبي هريرة وأكاذيبه .

بالله عليكم فكروا في هذه الحقائق وأنصفوا !

هل من الحق والعدل والرحمة والرأفة : أن رجلا من خواص أصحاب محمد (ص) ومن المقربين لديه ، والذي حبه فرض من الله عليه (ص) وهو أصدق الأمة ، بل أصدق إنسان على وجه الغبراء وتحت السماء ، يعامل تلك المعاملة السيئة ، فيعذب وينفى إلى صحراء قاحلة ، فيموت فيها جوعا وعطشا !! لأنه عمل بواجبه فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وصدع بالحق وأعلن
الحقيقة ؟!!

والجدير بالذكر أن رسول الله (ص) أخبر بابتلائه ومصابه في الله تعالى ، فقد روى أبو نعيم في حلية الأولياء 1/162 بإسناده عن أبي ذر الغفاري أنه قال : كنت عند رسول الله (ص) فقال : أنت رجل صالح وسيصيبك بلاء من بعدي .

قلت : في الله ؟

قال (ص) : في الله .

قلت : مرحبا بأمر الله .

والآن ، وبعد سرد هذه الحوادث الفجيعة والوقائع الفظيعة ، بقي عليكم ، إما أن تردوا وتكذبوا كل أعلامكم وكبار علمائكم من أصحاب الصحاح والمسانيد والتواريخ والتفاسير وغيرهم الذين ذكروا هذه الحوادث ونقلوا تلك الوقائع .

وإما أن تذعنوا بأن عثمان لا تشمله الآية الكريمة ، ولا تنطبق عليه جملة ( رحماء بينهم ) فقد كان فظا غليظا ، وصعبا قاسيا ، شديدا على المؤمنين ، ورؤوفا رحيما شفيقا بالفاسقين والمنافقين !!

الحافظ : لقد ثبت عندنا وعند كثير من العلماء الأعلام : أن أبا ذر رحمه الله ، هو الذي اختار المقام في الربذة من غير إجبار ، بل أحب أن يجتنب الأحداث ، فسافر إلى مسقط رأسه الربذة .

قلت : هذا قول بعض المتأخرين من علمائكم المتعصبين ، وهو قول اجتهادي من غير دليل وبدون أي مستند تاريخي(53)، وإلا فكبار علمائكم ذكروا أنه أبعد إلى الربذة بالقهر والجبر ، حتى كاد أن يكون هذا الخبر من المسلمات غير القابلة للنقاش .

وكنموذج ، انقل هذا الخبر الذي رواه الامام أحمد في المسند 5/156 ، وابن أبي الحديد في شرح النهج 3/57 ، قال : روى الواقدي عن مالك بن أبي الرجال ، عن موسى بن ميسرة : أن أبا الأسود الدؤلي قال : كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه ، فنزلت الربذة ، فقلت له : أ لا تخبرني ؟ أ خرجت من المدينة طائعا أم أخرجت مكرها ؟

فقال : كنت في ثغر من ثغور المسلمين ، أغني عنهم ، فأخرجت إلى مدينة الرسول (ص) فقلت: أصحابي و دار هجرتي ، فأخرجت منها إلى ما ترى !

ثم قال : بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد ، إذ مر بي رسول الله ( ص ) فضربني برجله و قال: لا أراك نائما في المسجد !

فقلت : بأبي أنت و أمي ! غلبتني عيني فنمت فيه .

فقال : كيف تصنع إذا أخرجوك منه ؟!

فقلت : إذن ألحق بالشام ، فإنها أرض مقدسة ، و أرض بقية الإسلام ، و أرض الجهاد .

فقال : فكيف تصنع إذا أخرجت منها ؟!

فقلت : أرجع إلى المسجد .

قال : فكيف تصنع إذا أخرجوك منه ؟!

قلت : آخذ سيفي فأضرب به .

فقال ( ص) : أ لا أدلك على خير من ذلك ، انسق معهم حيث ساقوك ، و تسمع و تطيع ، فسمعت و أطعت ، و أنا أسمع و أطيع ، و الله ليلقين الله عثمان و هو آثم في جنبي .

و كان يقول بالربذة : ما ترك الحق لي صديقا ، ردني عثمان بعد الهجرة أعرابيا !

علي مصداق ( رحماء بينهم ):

كل ما ذكرناه كان ردا على تأويل الشيخ عبد السلام لجملة ( رحماء بينهم ) على عثمان ، وقد أثبتنا خلافه .

واعتقادنا أن الذي يكون من أجلى مصاديق هذه الجملة هو الإمام علي عليه السلام ، إذ حينما بويع بالخلافة وتسلم الحكم ، عزل كل من ظلم الناس وجار على الضعفاء في حكومة عثمان .

وقد أشار عليه بعض الصحابة أن يترك الأمور على حالها ويقوي أركان حكومته ، فإذا استتب له الأمر وتمكن من الرقاب بدأ بعزلهم واحدا واحدا ، فأجابه الإمام : والله لا أداهن في ديني ، ولا أعطي الرياء في أمري .

ولما أشار عليه ابن عباس في معاوية فقال : ولِّه شهرا واعزله دهرا .

قال عليه السلام : والله لا أطلب النصر بالجور ، فليس لي عند الله عذر إن تركت معاوية ساعة يظلم الناس .

وجاءه طلحة والزبير يطلبان حكومة مصر والعراق ، فلو لبى طلبهما لما خرجا عليه وما كانت فتنة البصرة ومعركة الجمل ، ولكنه هيهات أن يغلب على أمره ، فإنه أبى أن ينصب للولايات إلا العدول الكفوئين من المؤمنين ممن امتحنهم الله عز وجل ونجحوا في الأحداث والفتن التي عاصروها ، ولم يميلوا عن طريق الحق ، ولم تلههم الدنيا بزخرفها ، ولم يكنزوا الذهب والفضة ، ولم يجمعوا أموال المسلمين المحرومين إلى أموالهم !

ولقد حورب عثمان وحصر ، على أن يعزل بعض ولاته وعماله فلم يجب إلى ذلك ، فكيف يفتتح الإمام علي عليه السلام أمره بهذه الدنية ويداري الأشخاص بالولايات ، على أن يكون خليفة بالظاهر ، وليس له مراقبة أمورهم والنظر في أعمالهم ؟!!

والجدير بالذكر ، أننا نرى بعض الناس الذين ينظرون إلى أمور على ظواهرها ولا يفكرون في حقائقها ، ولا يدرسون الوقائع دراسة تعمق وإمعان ، فيقيسونها بمقياس الدنيا لا الدين ، وينوها بمعيار الشياطين والمغوين ، لا المعيار الذي عينه رب العالمين ، فيستشكلون على سياسة أمير المؤمنين عليه السلام !

ولكن لو تعمقوا وأنصفوا ، لأذعنوا أن عليا عليه السلام كان يريد إدارة البلاد والعباد بالسياسة الدينية والطريقة الإلهية ، فهو لم يطلب الحكم إلا ليقيم الحق ويدحض الباطل ، ويقيم حدود الله سبحانه على القوي والضعيف ، فيأخذ حقوق الضعفاء المحرومين من الأقوياء الظالمين .

فالراعي والرعية والرئيس والمرؤوس عنده سواء ، والأصل عنده رضا الله عز وجل لا رضا الناس ، فلم تكن قاعدته في الحكم قاعدة غيره من الحكام والخلفاء ، إذ جعلوا رضا الناس واستمالة قلوب الرؤساء أصلا لحكوماتهم فطلبوا النصر بالجور .

فكان علي عليه السلام رحيما بالضعفاء ، طالبا لحقوق المحرومين ، مواسيا للمساكين ، رؤوفا بالفقراء ، عطوفا على الأرامل والأيتام ، فكان يعرف بأبي الأرامل والأيتام ، وصاحب المساكين.

وروى المحدثون والمؤرخون : أنه نظر الإمام علي عليه السلام إلى امرأة على كتفها قربة ماء ، فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها ، وسألها عن حالها ، فقالت : بعث علي بن أبي طالب زوجي إلى بعض الثغور فقتل ، وترك صبيانا يتامى ، وليس عندي شيء ، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس ، فانصرف الإمام علي عليه السلام وبات ليلته قلقا ، فلما أصبح حمل زنبيلا فيه طعام ، فقال بعضهم : أعطني أحمله عنك ، فقال : من يحمل وزري عني يوم القيامة ؟ فأتى وقرع الباب فقالت : من هذا ؟ قال : أنا العبد الذي حمل معك القربة ، فافتحي فإن معي شيئا للصبيان ، فقالت : رضى الله عنك وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب ، فدخل وقال : إني أحببت اكتساب الثواب ، فاختاري بين أن تعجني وتخبزي وبين أن تعللي الصبيان لأخبز أنا ، فقالت : أنا بالخبز أبصر عليه وأقدر ، ولكن شأنك والصبيان ، فعللهم حتى أفرغ من الخبز ، قال : فعمدت إلى الدقيق فعجنته ، وعمد علي عليه السلام إلى اللحم فطبخه ، وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره .

فرأته امرأة تعرفه فقالت لأم الصبيان : ويحك هذا أمير المؤمنين ..

فكان رحيما ورؤوفا برعاياه حتى أهل الذمة منهم ، فإنه كان يوما على المنبر في مسجد الكوفة فسمع بأن بسر بن أرطاة هاجم بعض البلاد التي كانت تحت حكومته ، فروع الناس وأرعبهم وأخذ سوار امرأة معاهدة ذمية من يدها .

فبكى علي عليه السلام من هذا الخبر وقال : لو أن امرءا مات من هذا الخبر أسفا ما كان ملوما ، بل كان به جديرا .

وكان عليه السلام رحيما بعدوه وصديقه ، فإن عثمان على ما كان عليه من سوء التصرف وسوء السيرة معه حتى إنه ضرب الإمام عليه السلام بالسوط ـ كما رواه ابن أبي الحديد عن الزبير بن بكار ، في شرح النهج 9/16 ـ مع كل ذلك فقد ذكر المؤرخون ـ منهم ابن أبي الحديد في شرح النهج 2/148 ـ أنه : لما مُنع عثمان الماء واشتد الحصار عليه ، فغضب علي عليه السلام من ذلك غضبا شديدا ، وقال لطلحة : أدخلوا عليه الروايا فكره طلحة ذلك و ساءه ، فلم يزل علي ( ع ) حتى أدخل الماء إليه.

ونقل أيضا في صفحة 153 عن أبي جعفر ـ الطبري ، صاحب التاريخ ـ قال : فحالوا بين عثمان و بين الناس ، و منعوه كل شي‏ء حتى الماء ، فأرسل عثمان سرا إلى علي ( ع ) و إلى أزواج النبي ( ص ) أنهم قد منعونا الماء ، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا ماء فافعلوا .

فجاء علي ( ع ) في الغلس ، فوقف علي ( ع ) على الناس ، فوعظهم و قال : أيها الناس ! إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين و لا أمر الكافرين ، إن فارس و الروم لتأسر فتطعم و تسقي ، فالله الله ! لا تقطعوا الماء عن الرجل .

فأغلظوا له و قالوا : لا نَعِم و لا نعمة عين .

فلما رأى منهم الجد نزع عمامته عن رأسه و رمى بها إلى دار عثمان يعلمه أنه قد نهض ، و عاد …. إلى آخره .

شاهد أيضاً

ليالي بيشاور – 19 حوارات اسلامية و بحوث هادفة

الغلاة ليسوا من الشيعة : لقد نسبت أشعار الغلاة الإيرانيين إلى الشيعة الموحدين المؤمنين، فخلطت ...