أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم 1
7 يناير,2019
بحوث اسلامية, صوتي ومرئي متنوع
863 زيارة
أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم
تأليف : آية الله الشيخ جعفر السبحاني
مقدمة الناشر
لا يأتي المرء بجديد إذا ذهب إلى القول بأن الحقبة الزمنية التي شهدت البعثة
المباركة لخاتم الأنبياء محمد ( صلى الله عليه وآله ) وسنوات عمره المعطاءة القصيرة كانت تؤلف بحد
ذاتها انعطافا رهيبا وتحولا كبيرا في حياة البشرية ، في وقت شهد فيه الخط البياني
الدال على مدى الابتعاد المتسارع عن المنهج السماوي وشرائعه المقدسة انحدارا
عميقا وترديا ملحوظا أصبح من العسير على أحد تحديد مدى انتهائه وحدود
أبعاده .
بلى ، إن مجرد الاستقراء المتعجل لأبعاد التحول الفكري والعقائدي في حياة
البشرية عقيب قيام هذه الدعوة السماوية في أرض الجزيرة – المسترخية على رمال
الوهم والخداع وسيل الدم المتدافع – يكشف وبلا تطرف ومحاباة عظم ذلك التأثير
الإيجابي الذي يمكن تحديد مساره من خلال رؤية التحول المعاكس في كيفية
التعامل اليومي مع أحداث الحياة وتطوراتها ، وبالتالي في فهم الصورة الحقيقية
لغاية خلق الإنسان ودوره في بناء الحياة .
كما أن هذه الحقائق المجسدة تكشف بالتالي عن عظم الجهد الذي بذله صاحب
الرسالة ( صلى الله عليه وآله ) في تحقيق هذا الأمر وتثبيت أركانه ، في وقت شهدت فيه البشرية جمعاء
ضياعا ملحوظا في جميع قيمها ومعتقداتها ، وخلطا وتزييفا مدروسا في مجمل
عقائدها ومرتكزات أفكارها ، كرس بالتالي مسارها المبتعد عن الخط السماوي
ومناهجه السوية ، وأن أي استعراض لمجمل القيم السائدة آنذاك – والتي كانت
تؤلف المعيار الأساسي والمفصل المهم الذي تستند إليه مجموع السلوكيات الفردية
والجماعية ، وتشذب من خلاله – يكشف عن عمق المأساة التي كانت تعيشها تلك
الأمم في تلك الأزمنة الغابرة .
فمراكز التشريع الحاكمة آنذاك – والتي تعتبر في تصور العوام وفهمهم مصدر
القرار العرفي والشرعي المدير لشؤون الناس والمتحكم بمصائرهم ومسار
تفكيرهم – تنحصر في ثلاثة مراكز معلومة أركانها الأساسية : اليهود بما يمتلكونه
من طرح عقائدي وفكري يستند إلى ثروات طائلة كبيرة ، والصليبيون بما يؤلفونه
من قوة مادية ضخمة تمتد مفاصلها ومراكزها إلى أبعد النقاط والحدود ، وأصحاب
الثروة والجاه من المتنفذين والمتحكمين في مصائر الناس .
ومن هنا فإن كل الضوابط الأخلاقية والمبادئ العرفية والعلاقات الروحية
والاجتماعية كانت تخضع لتشذيب تلك المراكز وتوجيهها بما يتلاءم وتوجهاتها التي
لا تحدها أي حدود .
إن هذه المراكز الفاسدة كانت تعمل جاهدة لأن تسلخ الإنسان من كيانه
العظيم الذي أراده الله تعالى له ، ودفعه عن دوره الكبير الذي خلق من أجله عندما
قال تعالى للملائكة : { إني جاعل في الأرض خليفة } ( 1 ) بل تعمل جاهدة لأن
تحجب تماما رؤية هذه الحقيقة العظيمة عن ناظر الإنسان ليبقى دائما بيدقا أعمى
تجول به أصابعهم الشيطانية لتنفيذ أفكارهم المنبعثة من شهواتهم المنحرفة .
وأما ما يمكن الاعتقاد به من بقايا آثار الرسالات السابقة ، فلا تعدو كونها
ذبالات محتضرة لم تستطع الصمود أمام تيارات التزييف والكذب والخداع التي
مسخت صورتها إلى أبعد الحدود .
نعم بعث محمد ( صلى الله عليه وآله ) إلى قوم خير تعبير عنهم قول جعفر بن أبي طالب للنجاشي :
أيها الملك كنا أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع
الأرحام ، ونسئ الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف .
هذا في الوقت الذي كانت فيه مراكز القوى تلك تتضخم وتتعاظم على حساب
ضياع البشرية وموت مبادئها .
وهكذا فقد كانت الدعوة الإسلامية الفتية وصاحبها ( صلى الله عليه وآله ) في مواجهة هذه
المراكز بامتداداتها الرهيبة وقدراتها العظيمة ، والتي كونت أعنف مواجهة شرسة
وقتالا ليس له مثيل صبغ أرض الجزيرة ورمالها الصفراء بلون أحمر قان لسنوات لم
يعرف فيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخيرة أصحابه للراحة طعما وللسكون مسكنا .
إن تلك الحصون المليئة بالشر والخراب لم تتهاو إلا بعد جهد جهيد وسيل
جارف من الدماء الطاهرة التي لا توزن بها الجبال ، من رجال وقفوا أنفسهم
وأرواحهم من أجل هذا الدين وصاحبه ( صلى الله عليه وآله ) .
فاستطاع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يقيم حكومة الله تعالى في الأرض ، وأن يثبت فيها
الأركان على أساس الواقع والوجود ، فلم تجد آنذاك كل قوى الشر بدا من
الاختباء في زوايا العتمة والظلام تتحين الفرص السانحة والظروف الملائمة
للانقضاض على هذا البنيان الذي بدا يزداد شموخا وعلوا مع تقادم السنين .
لقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يدرك عيانا أن نقطة ضعف هذه الأمة يكمن في تفرقها
وفي تبعثر جهودها مما سيمكن من ظهور منافذ مشرعة في هذا البنيان الكبير
لا تتردد أركان الكفر وأعداء الدين المتلونون والمتسترون من النفوذ خلالها
والتسلل بين أهلها ، وفي ذلك الخطر الأكبر . ولذا فإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يصرح
ويحذر من افتراق أمته ، ويلوح للمفترقين بالنار والجحيم .
بيد أن ما حذر منه ( صلى الله عليه وآله ) وما كان يخشاه ، بدت أول معالمه الخطرة تتوضح في
اللحظات الأولى لرحيله ( صلى الله عليه وآله ) وانتقاله إلى عالم الخلود ، وعندها وجد أعداء هذا
الدين الفرصة مؤاتية للولوج إلى داخل هذا البناء ، والعمل على هدمه بمعاول أهله
لا بمعاولهم هم .
فتفرقت هذه الأمة فرقا فرقا وجماعات جماعات ، لا تتردد كل واحدة من أن
تكفر الأخرى ، وتكيل لها التهم الباطلة والافتراءات الظالمة ، وانشغل المسلمون
عن أعدائهم بقتال إخوانهم والتمثيل بأجسادهم ، وحل بالأمة وباء وبيل بدأ
يستشري في جسدها الغض بهدوء دون أن تنشغل بعلاجه .
نعم بعد هذه السنين المرة من الفرقة والتشتت بدأ المسلمون في أخريات
المطاف يلعقون جراحا خلفتها سيوف إخوانهم لا سيوف أعدائهم في حين ينظر
إليهم أعداؤهم بتشف وشماتة .
إن ما حل بالمسلمين من مصائب وتخلف في كافة المستويات أوقعتهم في براثن
المستعمرين أعداء الله ورسله يعود إلى تفرق كلمتهم وتبعثر جهودهم وتمزق
وحدتهم ، ولعل نظرة عاجلة لما يجري في بقاع المعمورة المختلفة يوضح لنا هذه
الصورة المؤلمة والمفجعة ، فمن فلسطين مرورا بلبنان ، والعراق ، وأفغانستان ،
والبوسنة والهرسك ، والصومال وغيرها وغيرها مشاهد مؤلمة لنتائج هذا التمزق
والتبعثر .
وإن كان من كلمة تقال فإن للجهود المخلصة الداعية إلى الالتفات إلى مصدر
الداء لا أعراضه فقط الثقل الأكبر في توقي غيرها من المضاعفات الخطيرة التي
تتولد كل يوم في بلد من بلاد المسلمين لا في غيرها .
ولا نغالي إذا قلنا بأن للجمهورية الإسلامية في إيران ومؤسسها الإمام
الخميني – رضوان الله تعالى عليه – الفضل الأكبر في تشخيص موضع الداء وتحديد
موطنه .
ولعل الاستقراء المختصر لجمل توجيهات الإمام ( قدس سره ) طوال حياته ولسنين
طويلة يدلنا بوضوح على قدرته التشخيصية في وضع يده على موضع الداء ،
ودعوته إلى الالتفات إلى ذلك ، لا إلى الانشغال بما عداه .
فمن نداء له ( قدس سره ) إلى حجاج بيت الله الحرام في عام 1399 ه قال : ومن واجبات
هذا التجمع العظيم دعوة الناس والمجتمعات الإسلامية إلى وحدة الكلمة وإزالة
الخلافات بين فئات المسلمين ، وعلى الخطباء والوعاظ والكتاب أن يهتموا بهذا
الأمر الحياتي ويسعوا إلى إيجاد جبهة للمستضعفين للتحرر – بوحدة الجبهة ووحدة
الكلمة وشعار ( لا إله إلا الله ) – من أسر القوى الأجنبية الشيطانية والمستعمرة
والمستغلة ، وللتغلب بالأخوة الإسلامية على المشاكل .
فيا مسلمي العالم ، ويا أتباع مدرسة التوحيد : إن رمز كل مصائب البلدان
الإسلامية هو اختلاف الكلمة وعدم الانسجام ، ورمز الانتصار وحدة الكلمة
والانسجام ، وقد بين الله تعالى ذلك في جملة واحدة : { واعتصموا بحبل الله جميعا
ولا تفرقوا } ( 1 ) والاعتصام بحبل الله تبيان لتنسيق جميع المسلمين من أجل الإسلام
وفي اتجاه الإسلام ولمصالح المسلمين ، والابتعاد عن التفرقة والانفصال والفئوية
التي هي أساس كل مصيبة وتخلف .
وقال ( قدس سره ) في كلمة له مع وفد من كبار علماء الحرمين الشريفين سنة 1399 ه :
رمز انتصار المسلمين في صدر الإسلام كان وحدة الكلمة وقوة الإيمان .
لو كان ثمة وحدة كلمة إسلامية ، ولو كانت الحكومات والشعوب الإسلامية
متلاحمة فلا معنى لأن يبقى ما يقارب مليار إنسان مسلم تحت سيطرة القوى
الأجنبية ، لو أن هذه القدرة الإلهية الكبرى تقترن بقوة الإيمان ، ونسير جميعا
متآخين على طريق الإسلام فلا تستطيع أية قوة أن تتغلب علينا .
2019-01-07