الشيعة في العصر العباسي
دار الزمان على بني أمية ، وقامت ثورات عنيفة ضدهم أثناء خلافتهم ، إلى أن
قضت على آخر ملوكهم ( مروان الحمار ) : { فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد
لله رب العالمين } ( 3 ) وامتطى ناصية الخلافة بعدهم العباسيون ، والذين تسربلوا
بشعار مظلومية أهل البيت للوصول إلى سدة الخلافة وإزاحة خصومهم الأمويين
عنها ، بيد أنهم ما أن استقر بهم المقام وثبتت لهم أركانه حتى انقلبوا كالوحوش
الكاسرة في محاربتهم للشيعة وتشريدهم وتقتيلهم ، فكانوا أسوأ من أسلافهم
الأمويين وأشد إجراما ، ولله در الشاعر حين قال :
والله ما فعلت أمية فيهم * معشار ما فعلت بنو العباس
1 – كان أول من تولى منهم أبو العباس السفاح ، بويع سنة ( 132 ه ) ومات
سنة ( 136 ه ) ، قضى وقته في تتبع الأمويين والقضاء عليهم ، وهو وإن لم يتعرض
للعلويين ، لكنه تنكر لهم ولشيعتهم ، بل وأوعز إلى الشعراء أن يتعرضوا لأولاد
علي وأهل بيته في محاولة مدروسة للنيل من منزلتهم وتسفيه الدعوة المطالبة
بإيكال أمر الخلافة الإسلامية إليهم . هذا محمد أحمد براق يقول في كتابه ” أبو
العباس السفاح ” : ” إن أصل الدعوة كان لآل علي ، لأن أهل خراسان كان هواهم
في آل علي لا آل العباس ، لذلك كان السفاح ومن جاء بعده مفتحة عينوهم لأهل
خراسان حتى لا يتفشى فيهم التشيع لآل علي . . . وكانوا يستجلبون الشعراء
ليمدحوهم ، فيقدمون لهم الجوائز ، وكان الشعراء يعرضون بأبناء علي وينفون عنهم
حق الخلافة ، لأنهم ينتسبون إلى النبي عن طريق ابنته فاطمة ، أما بنو العباس
فإنهم أبناء عمومة ” ( 1 ) .
2 – ثم جاء بعده أبو جعفر المنصور ، وبالرغم مما أثير حوله من منزلة ومكانة
وذكاء ، إلا أن في ذلك مجافاة عظيمة للحق وابتعادا كبيرا عن جادة الصواب ، نعم
حقا إن هذا الرجل قد ثبت أركان دولته وأقام لها أسسا قوية صلبة ، إلا أنه أسرف
كثيرا في الظلم والقسوة والإجرام بشكل ملفت للأنظار ، ويكفي للإلمام بجرائمه
وقسوته ما كتبه ابن عبد ربه في العقد الفريد عن ذلك حيث قال :
إن المنصور كان يجلس ويجلس إلى جانبه واعظا ، ثم تأتي الجلاوزة في أيديهم
السيوف يضربون أعناق الناس ، فإذا جرت الدماء حتى تصل إلى ثيابه ، يلتفت
إلى الواعظ ويقول : عظني فإذا ذكره الواعظ بالله ، أطرق المنصور كالمنكسر ثم يعود
الجلاوزة إلى ضرب الأعناق ، فإذا ما أصابت الدماء ثياب المنصور ثانيا قال
لواعظه : عظني ! ! ( 2 ) .
فماذا يا ترى يريد المنصور من قوله للواعظ : عظني ، وماذا يعني بإطراقه بعد
ذلك وسكوته ، هل يريد الاستهزاء بالدين الذي نهى عن قتل النفس وسفك
الدماء ، أو يريد شيئا آخر ؟ ! وليت شعري أين كان المؤرخون وأصحاب الكلمات
الصادقة المنصفة من هذه المواقف المخزية التي تقشعر لها الأبدان ، وهم يتحدثون
عن هذا الرجل الذي ما آلوا يشيدون بذكره ويمجدون بأعماله ، وهلا تأمل القراء في
سيرة هذا الرجل ليدركوا ذلك الخطأ الكبير .
بلى إن هذا الرجل أسرف في القتل كثيرا ، وكان للعلويين النصيب الأكبر ،
وحصة الأسد من هذا الظلم الكبير .
يقول المسعودي : جمع المنصور أبناء الحسن ، وأمر بجعل القيود والسلاسل في
أرجلهم وأعناقهم ، وحملهم في محامل مكشوفة وبغير وطاء ، تماما كما فعل يزيد بن
معاوية بعيال الحسين . ثم أودعهم مكانا تحت الأرض لا يعرفون فيه الليل من
النهار ، وأشكلت أوقات الصلاة عليهم ، فجزأوا القرآن خمسة أجزاء ، فكانوا
يصلون على فراغ كل واحد من حزبه ، وكانوا يقضون الحاجة الضرورية في
مواضعهم ، فاشتدت عليهم الرائحة ، وتورمت أجسادهم ، ولا يزال الورم يصعد
من القدم حتى يبلغ الفؤاد ، فيموت صاحبه مرضا وعطشا وجوعا ( 1 ) .
وقال ابن الأثير : دعا المنصور محمد بن عبد الله العثماني ، وكان أخا لأبناء
الحسن من أمهم ، فأمر بشق ثيابه حتى بانت عورته ، ثم ضرب مائة وخمسون
سوطا ، فأصاب سوط منها وجهه فقال : ويحك أكفف عن وجهي ، فقال المنصور
للجلاد : الرأس الرأس ، فضربه على رأسه ثلاثين سوطا ، وأصاب إحدى عينيه
فسالت على وجهه ، ثم قتله – ثم ذكر – : وأحضر المنصور محمد بن إبراهيم بن
الحسن ، وكان أحس الناس صورة ، فقال له : أنت الديباج الأصفر ، لأقتلنك قتلة
لم أقتلها أحدا ، ثم أمر به ، فبني عليه أسطوانة وهو حي ، فمات فيها ( 1 ) .
3 – ثم ولي بعده المهدي ولد المنصور ، وبقي في الحكم من سنة ( 158 ه ) إلى سنة
( 169 ه ) وكفى في الإشارة إلى ظلمه للعلويين ، أنه أخذ علي بن العباس بن الحسن
ابن علي بن أبي طالب ، فسجنه فدس إليه السم فتفسخ لحمه وتباينت أعضاؤه .
4 – ولما هلك المهدي بويع ولده الهادي ، وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر ،
سار فيها على سيرة من سبقه في ظلم العلويين والتضييق عليهم ، وكفى في الإشارة
إلى ذلك ما ذكره أبو الفرج الإصبهاني في مقاتل الطالبيين حيث قال :
إن أم الحسين صاحب فخ هي زينب بنت عبد الله بن الحسن بن الحسن بن
علي بن أبي طالب ، قتل المنصور أباها وأخوتها وعمومتها وزوجها علي بن
الحسن ، ثم قتل الهادي حفيد المنصور ابنها الحسين ، وكانت تلبس المسوح على
جسدها ، لا تجعل بينها وبينه شيئا حتى لحقت بالله عز وجل ( 2 ) .
5 – ثم تولى بعده الرشيد سنة ( 170 ه ) ومات ( 193 ه ) وكان له سجل أسود
في تعامله مع الشيعة تبلورت أوضح صوره فيما لاقاه منه الإمام موسى بن جعفر
الكاظم ( عليه السلام ) ، وهو ما سنذكره لاحقا إن شاء الله تعالى ، وإليك واحدة من تلك
الأفعال الدامية التي سجلها له التأريخ ورواها الإصبهاني عن إبراهيم بن رباح ،
قال : إن الرشيد حين ظفر بيحيى بن عبد الله بن الحسن ، بنى عليه أسطوانة وهو
حي ، وكان هذا العمل الإجرامي موروثا من جده المنصور ( 3 ) .
6 – ثم جاء بعده ابنه الأمين ، فتولى الحكم أربع سنين وأشهرا ، يقول
أبو الفرج : كانت سيرة الأمين في أمر آل أبي طالب خلاف من تقدم لتشاغله بما كان
فيه من اللهو ثم الحرب بينه وبين المأمون ، حتى قتل فلم يحدث على أحد منهم في
أيامه حدث .
7 – وتولى الحكم بعده المأمون ، وكان من أقوى الحكام العباسيين بعد أبيه
الرشيد . فلما رأى المأمون إقبال الناس على العلويين وعلى رأسهم الإمام الرضا ،
ألقى عليه القبض بحيلة الدعوة إلى بلاطه ، ثم دس إليه السم فقتله .
8 – مات المأمون سنة ( 210 ه ) وجاء إلى الحكم ابنه المعتصم فسجن محمد بن
القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب إلا أنه استطاع
الفرار من سجنه .
9 – ثم تولى الحكم بعده الواثق الذي قام بسجن الإمام محمد بن علي الجواد ( عليه السلام )
ودس له السم بيد زوجته الأثيمة أم الفضل بنت المأمون .
10 – وولي الحكم بعد الواثق المتوكل ، وإليك نموذجا من حقده على آل البيت
وهو ما ذكره أبو الفرج قال : كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب ، غليظا
في جماعتهم ، شديد الغيظ والحقد عليهم ، وسوء الظن والتهمة لهم . واتفق له أن
عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره يسئ الرأي فيهم ، فحسن له القبيح في
معاملتهم ، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله ، وكان من ذلك أن
كرب ( 1 ) قبر الحسين وعفى آثاره ، ووضع على سائر الطرق مسالح له لا يجدون
أحدا زاره إلا أتوه به وقتله أو أنهكه عقوبة .
وقال : بعث برجل من أصحابه ( يقال له الديزج وكان يهوديا فأسلم ) إلى قبر
الحسين وأمره بكرب قبره ومحوه وإخراب ما حوله ، فمضى ذلك فخرب ما حوله ،
وهدم البناء وكرب ما حوله مائتي جريب ، فلما بلغ إلى قبره لم يتقدم إليه أحد ،
فأحضر قوما من اليهود فكربوه ، وأجرى الماء حوله ، ووكل به مسالح ، بين كل
مسلحتين ميل ، لا يزوره زائر إلا أخذوه ووجهوا به إليه .
وقال أيضا : حدثني محمد بن الحسين الأشناني : بعد عهدي بالزيارة في تلك
الأيام ، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها ، وساعدني رجل من العطارين على
ذلك ، فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل ، حتى أتينا نواحي الغاضرية ،
وخرجنا نصف الليل ، فصرنا بين مسلحتين ، وقد ناموا ، حتى أتينا القبر فخفي
علينا ، فجعلنا نشمه ( نتسمه خ ل ) ونتحرى جهته حتى أتيناه ، وقد قلع الصندوق
الذي كان حواليه ، وأحرق وأجري الماء عليه ، فانخسف موضع اللبن وصار
كالخندق ، فزرناه وأكببنا عليه – إلى أن قال : – فودعناه وجعلنا حول القبر
علامات في عدة مواضع ، فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين
والشيعة حتى صرنا إلى القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه .
وقال أيضا : واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج ، فمنع آل أبي طالب
من التعرض لمسألة الناس ومنع الناس من البر بهم ، وكان لا يبلغه أن أحدا أبر
أحدا منهم بشئ وإن قل إلا أنهكه عقوبة ، وأثقله غرما ، حتى كان القميص يكون
بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة ، ثم يرقعنه ويجلسن على
مغازلهن عواري حواسر ، إلى أن قتل المتوكل فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم
بمال فرقه بينهم ، وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادة مذهبه ( 1 ) .
11 – وولي بعده المنتصر ابنه ، وظهر منه الميل إلى أهل البيت وخالف أباه – كما
عرفت – فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه فيما بلغنا .
وأول ما أحدثه انه لما ولي الخلافة عزل صالح بن علي عن المدينة ، وبعث
علي بن الحسين مكانه فقال له – عند الموادعة – : يا علي إني أوجهك إلى لحمي
ودمي فانظر كيف تكون للقوم ، وكيف تعاملهم – يعني آل أبي طالب – فقلت :
أرجو أن أمتثل رأي أمير المؤمنين – أيده الله – فيهم ، إن شاء الله . قال : إذا تسعد
بذلك عندي ( 1 ) .
12 – وقام بعده المستعين بالأمر ، فنقض كلما غزله المنتصر من البر
والإحسان ، ومن جرائمه أنه قتل يحيى بن عمر بن الحسين ، قال أبو الفرج :
وكان – رضي الله عنه – رجلا فارسا شجاعا ، شديد البدن ، مجتمع القلب ،
بعيدا من رهق الشباب وما يعاب به مثله ، ولما أدخل رأسه إلى بغداد جعل أهلها
يصيحون من ذلك إنكارا له ، ودخل أبو هاشم على محمد بن عبد الله بن طاهر ،
فقال : أيها الأمير ، قد جئتك مهنئا بما لو كان رسول الله حيا يعزى به .
وأدخل الأسارى من أصحاب يحيى إلى بغداد ولم يكن فيما رؤي قبل ذلك من
الأسارى أحد لحقه ما لحقهم من العسف وسوء الحال ، وكانوا يساقون وهم حفاة
سوقا عنيفا ، فمن تأخر ضربت عنقه .
قال أبو الفرج : وما بلغني أن أحدا ممن قتل في الدولة العباسية من آل أبي
طالب رثي بأكثر مما رثي به يحيى ، ولا قيل فيه الشعر بأكثر مما قيل فيه .
أقول : إن العباسيين قد أتوا من الجرائم التي يندى لها الجبين وتقشعر منها
الجلود في حق الشيعة بحيث تغص بذكرها المجلدات الكبيرة الواسعة ، بل وفاقوا
بأفعالهم المنكرة ما فعله الأمويون من قبل ، ولله در الشاعر حيث قال :
تالله إن كانت أمية قد أتت * قتل ابن بنت نبيها مظلوما
فلقد أتاه بنو أبيه بمثلها * هذا لعمرك قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا * في قتله فتتبعوه رميما
ومن أراد أن يقف على سجل جرائم الدولتين ( الأموية والعباسية ) وملف
مظالمهم فعليه قراءة القصائد الثلاث التي نظمها رجال مؤمنون مخلصون ، عرضوا
أنفسهم للمخاوف والأخطار طلبا لرضى الحق :
1 – تائية دعبل الخزاعي الشهيد عام ( 246 ه ) ، فإنها وثيقة تأريخية خالدة
تعرب عن سياسة الدولتين تجاه أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وقد أنشدها الشاعر للإمام
الرضا ، فبكى وبكت معه النسوة .
أخرج الحموي عن أحمد بن زياد عن دعبل الخزاعي قال : أنشدت قصيدة
لمولاي علي الرضا – رضي الله عنه – :
مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات
قال دعبل : ثم قرأت باقي القصيدة ، فلما انتهيت إلى قولي :
خروج إمام لا محالة واقع * يقوم على اسم الله والبركات
فبكى الرضا بكاء شديدا .
ومن هذه القصيدة قوله :
هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه * ومحكمه بالزور والشبهات
تراث بلا قربى ، وملك بلا هدى * وحكم بلا شورى ، بغير هداة
وفيها أيضا قوله :
لآل رسول الله بالخيف من منى * وبالبيت والتعريف والجمرات
ديار علي والحسين وجعفر * وحمزة والسجاد ذي الثفنات
ديار عفاها كل جون مبادر * ولم تعف للأيام والسنوات
منازل كانت للصلاة وللتقى * وللصوم والتطهير والحسنات
منازل وحي الله معدن علمه * سبيل رشاد واضح الطرقات
منازل وحي الله ينزل حولها * على أحمد الروحات والغدوات
إلى أن قال :
ديار رسول الله أصبحن بلقعا * ودار زياد أصبحت عمرات
وآل رسول الله غلت رقابهم * وآل زياد غلظ القصرات
وآل رسول الله تدمى نحورهم * وآل زياد زينوا الحجلات
وفيها أيضا :
أفاطم لو خلت الحسين مجدلا * وقد مات عطشانا بشط فرات
إذا للطمت الخد فاطم عنده * وأجريت دمع العين في الوجنات
أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي * نجوم سماوات بأرض فلات ( 1 )
2 – ميمية الأمير أبي فراس الحمداني ( 320 – 357 ه ) ، وهذه القصيدة تعرف
بالشافية ، وهي من القصائد الخالدة ، وعليها مسحة البلاغة ، ورونق الجزالة ،
وجودة السرد ، وقوة الحجة ، وفخامة المعنى ، أنشدها ناظمها لما وقف على قصيدة
ابن سكرة العباسي التي مستهلها :
بني علي دعوا مقالتكم * لا ينقص الدر وضع من وضعه
قال الأمير في جوابه ميميته المعروفة وهي :
الحق مهتضم والدين مخترم * وفئ آل رسول الله مقتسم
إلى أن قال :
يا للرجال أما لله منتصر * من الطغاة ؟ أما لله منتقم ؟
بنو علي رعايا في ديارهم * والأمر تملكه النسوان والخدم ! ( 1 )
3 – جيمية ابن الرومي التي رثى بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد ، ومنها :
أمامك فانظر أي نهجيك تنهج * طريقان شتى مستقيم وأعوج
ألا أي هذا الناس طال ضريركم * بآل رسول الله فاخشوا أو ارتجوا
أكل أوان للنبي محمد * قتيل زكي بالدماء مضرج ( 2 )
وكم من الإنصاف فيما كتبه الأصبهاني عن مدى العبء الذي تحمله أهل البيت
وشيعتهم من أجل كلمة الحق ، وموقف الصدق ، وما ترتب على ذلك من تكالب لا
يعرف الرحمة من قبل الحكومات الجائرة المتلاحقة للقضاء على هذا الوجود
المقدس واجتثاثه من أصله ، حيث ذكر :
” ولا يعرف التأريخ أسرة كأسرة أبي طالب بلغت الغاية من شرف الأرومة ،
وطيب النجار ، ضل عنها حقها ، وجاهدت في سبيل الله حق الجهاد من الأعصار ،
ثم لم تظفر من جهادها المرير إلا بالحسرات ، ولم تعقب من جهادها إلا العبرات ،
على ما فقدت من أبطال أسالوا نفوسهم في ساحة الوغى ، راضية قلوبهم مطمئنة
ضمائرهم ، وصافحوا الموت في بسالة فائقة ، وتلقوه في صبر جميل يثير في النفس
الإعجاب والإكبار ، ويشيع فيها ألوان التقدير والإعظام .
وقد أسرف خصوم هذه الأسرة الطاهرة في محاربتها ، وأذاقوها ضروب
النكال ، وصبوا عليها صنوف العذاب ، ولم يرقبوا فيها إلا ولا ذمة ، ولم يرعوا لها
حقا ولا حرمة ، وأفرغوا بأسهم الشديد على النساء والأطفال ، والرجال جميعا ،
في عنف لا يشوبه لين ، وقسوة لا تمازجها رحمة ، حتى غدت مصائب أهل البيت
مضرب الأمثال ، في فظاعة النكال ، وقد فجرت هذه القسوة البالغة ينابيع الرحمة
والمودة في قلوب الناس ، وأشاعت الأسف الممض في ضمائرهم ، وملأت عليهم
أقطار نفوسهم شجنا ، وصارت مصارع هؤلاء الشهداء حديثا يروى ، وخبرا
يتناقل ، وقصصا تقص ، يجد فيها الناس إرضاء عواطفهم وإرواء مشاعرهم ،
فتطلبوه وحرصوا عليه ” ( 1 ) .
نعم ، لقد اقترن تأريخ الشيعة بأنواع الظلم والنكال ، والقتل والتشريد ، بحيث
لم تشهده أي طائفة أخرى من طوائف المسلمين . بلى ، لم ير الأمويون
ولا العباسيون ولا الملوك الغزانوة ولا السلاجقة ولا من أتى بعدهم أي حرمة
لنفوسهم وأعراضهم وعلومهم ومكتباتهم ، فحين كان اليهود والنصارى
يسرحون ويمرحون في أرض الإسلام والمسلمين ، وقد كفل لهم الحكام حرياتهم
باسم الرحمة الإسلامية ، كان الشيعة يأخذون تحت كل حجر ومدر ، ويقتلون
بالشبهة والظنة ، وتشرد أسرهم ، وتصادر أموالهم ، ولا يجدون بدا من أن يخفوا
كثيرا من عقائدهم خوف النكال والقتل ، وبأيدي وقلوب نزعت منها الرحمة .
فلا تثريب إذن على الشيعي أمام هذه الوحشية المسرفة من أن يتعامل مع
أخيه المسلم بالتقية ، وأن يظهر خلاف ما يعتقده ، بل اللوم أجمعه يقع على من حمله
على ذلك ، بعد أن أباح دمه وعرضه وماله .
هذا هو طغرل بيك أول ملك من ملوك السلاجقة ورد بغداد سنة 447 ه ،
وشن على الشيعة حملة شعواء ، وأمر بإحراق مكتبة الشيعة التي أنشأها أبو نصر
سابور بن أردشير ، وزير بهاء الدولة البويهي ، وكانت من دور العلم المهمة في
بغداد بناها هذا الوزير الجليل في محلة بين السورين في الكرخ سنة 381 ه على
مثال بيت الحكمة الذي بناه هارون الرشيد ، وكانت من الأهمية العلمية بمكان ،
حيث جمع فيها هذا الوزير ما تفرق من كتب فارس والعراق ، واستكتب تآليف
أهل الهند والصين والروم ، كما قاله محمد كرد علي ، ونافت كتبها على عشرة آلاف
من جلائل الآثار ومهام الأسفار ، وأكثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلفين ( 1 ) .
قال ياقوت الحموي : وبها كانت خزانة الكتب التي أوقفها الوزير أبو نصر
سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة ، ولم يكن في الدنيا أحسن كتبا
منها ، كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولهم المحررة ( 2 ) .
وكان من جملتها مصاحف بخط ابن مقلة على ما ذكره ابن الأثير ( 3 ) .
ولما كان الوزير سابور من أهل الفضل والأدب ، فقد أخذ العلماء يهدون إليه
مصنفاتهم المختلفة ، فأصبحت مكتبته من أغني دور الكتب ببغداد ، وقد أحرقت
هذه المكتبة العظيمة في جملة ما أحرق من محال الكرخ عند مجئ طغرل بيك ،
وتوسعت الفتنة حتى اتجهت إلى شيخ الطائفة وأصحابه فأحرقوا كتبه وكرسيه
الذي كان يجلس عليه للكلام .
قال ابن الجوزي في حوادث سنة ( 448 ه ) : وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت
داره ، ثم قال في حوادث سنة ( 449 ه ) : وفي صفر هذه السنة كبست دار أبي جعفر
الطوسي متكلم الشيعة في الكرخ ، وأخذ ما وجد من دفاتره وكرسي يجلس عليه
للكلام ، وأخرج إلى الكرخ وأضيف إليه ثلاث مجانيق بيض كان الزوار من أهل
الكرخ قديما يحملونها معهم إن قصدوا زيارة الكوفة ، فأحرق الجميع ( 1 ) .
وأخيرا فلعل القارئ الكريم إذا تأمل بتدبر وتأن إلى جملة ما كتب وألف من
المراجع التاريخية – وحتى تلك التي كتبت في تلك العصور التي شهدت هذه المجازر
المتلاحقة ، والتي بلا أدنى شك كان أغلبها يجاري أهواء الأسر الحاكمة آنذاك –
فإنه سيجد بوضوح أن بقاء الشيعة حتى هذه الأزمنة من المعاجز والكرامات
وخوارق العادات ، كيف وإن تاريخهم كان سلسلة من عمليات الذبح ، والقتل ،
والقمع ، والاستئصال ، والسحق ، والإبادة ، قد تظافرت قوى الكفر والفسق على
إهلاكهم وقطع جذورهم ، ومع ذلك فقد كانت لهم دول ودويلات ، ومعاهد
وكليات ، وبلدان وحضارات ، وأعلام ومفاخر ، وعباقرة وفلاسفة ، وفقهاء ،
ومحدثون ، ووزراء وسياسيون ، ويؤلفون اليوم خمس المسلمين أو ربعهم .
نعم إن ذلك من فضله سبحانه لتعلق مشيئته على إبقاء الحق وإزهاق الباطل
في ظل قيام الشيعة طيلة القرون بواجبها وهو الصمود أمام الظلم ، والتضحية
والتفدية للمبدأ والمذهب وقد قال سبحانه : { إن يكن منكم عشرون صابرون
يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا
يفقهون } ( 2 ) .
ولا يفوتنك أخي القارئ الكريم أن ثوراتهم المتعاقبة على الحكومات الظالمة
الفاسدة الخارجة عن حدود الشريعة الإسلامية العظيمة هي التي أدت إلى
تشريدهم وقتلهم والفتك بهم ، ولو أنهم ساوموا السلطة الأموية والعباسية ،
لكانوا في أعلى المناصب والمدارج ، لكن ثوراتهم لم تكن عنصرية أو قومية أو طلبا
للرئاسة ، بل كانت لإزهاق الباطل ورفع الظلم عن المجتمع ، والدعوة إلى إعلاء
كلمة الله وغير ذلك مما هو من وظائف العلماء العارفين .
شاهد أيضاً
الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ
أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...