15 – وديعة الرسول
ولم يدخر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسعا في إبلاغ أمته ما لأهل بيته
من كرامة وفضل وحرمة ، منذ بداية البعثة الشريفة ، من خلال وحي الآيات
الكريمة ، وما صدر منه صلى الله عليه وآله وسلم من قول ، وفعل ، وعلى طول
الأعوام التي قضاها في المدينة المنورة بين أصحابه وزوجاته في المسجد ، وفي
الدار ، وخارجهما على الطريق ، وفي كل محفل ومشهد .
لقد وعد على حبهم ، وتوعد على بغضهم وحربهم ، وأبلغ ، وأنذر ، ورغب
وحذر ، بما لا مزيد عليه .
ولما حضر ، ودنت وفاته ، اتخذ قرارا حاسما نهائيا ، في مشهد رائع ، يخلد
على الأذهان ، فلنصغ للحديث من رواية أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه
وآله وسلم :
[ 167 ] جاءت فاطمة ، ومعها الحسن والحسين ، إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ، في المرض الذي قبض فيه .
فانكبت عليه فاطمة ، وألصقت صدرها بصدره ، وجعلت
تبكي ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : مه ، يا
فاطمة ، ونهاها عن البكاء .
فانطلقت إلى البيت ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم –
وهو يستعبر الدموع – : اللهم أهل بيتي ، وأنا مستودعهم
كل مؤمن ، ثلاث مرات ( 1 ) .
فالمشهد رهيب :
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسجى ، ستفقده الأمة بعد أيام ، وتفقد
معه : الرحمة للعالمين ،
وأما أهل البيت عليهم السلام ، فسيفقدون – مع ذلك – الأب ، والجد ، والأخ ،
تفقد الزهراء أباها ، ويفقد الحسنان جدهما ، ويفقد علي أخاه
وانكباب فاطمة على أبيها ، يعني منتهى القرب ، إذ لا يفصل بينهما شئ
سوى الصدر ، والصدر محل القلب ، والقلب مخزن الحب ، فالتصاق الصدرين بين الأب
والبنت ، في مرض الموت ، ينبئ عن منظر رهيب ملئ بالحزن والعاطفة ، بما لا
يمكن وصفه .
وليس هناك ما يعبر عن أحزان فاطمة عليها السلام ، إلا العبرة تجريها ،
والرسول الذي يؤذيه ما يؤذي ابنته فاطمة ، لا يستطيع أن يشاهدها تبكي ،
فينهاها .
لكنه هو الآخر ، لا يقل حزنه على مفارقة ابنته الوحيدة ، وسائر أهل بيته ،
الذي أعلمه الغيب بما سيجري عليهم من بعده ، فلم يملك إلا استعبار الدموع .
على ماذا يبكي رسول الله ؟
إن كلامه الذي قاله يكشف عن سبب هذا البكاء في مثل هذه الحالة ، والميت
إنما يوصي بأعز ما عنده ، فهو في أواخر لحظات حياته ، إنما يفكر في أهم ما يهتم
به ، فيوصي به ، والرسول يشهد الله على ما يقول ، فيقول : اللهم ، أهل بيتي .
ويجعلهم وديعة ، يستودعها كل مؤمن برسالته ، وحفظ الوديعة من
واجبات المؤمنين [ الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ويؤكد على ذلك ،
فيقوله ثلاث مرات .
ولا يظن – بعد هذا المشهد ، وهذا التصريح – أن هناك طريقة أوغل في التأكيد
على حفظ هذه الوديعة ، مما عمله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن لنقرأ
السيرة الحسينية لنجد ما فعلته الأمة بوديعة الرسول هذه !
وفي خصوص الحسين جاء حديث الوديعة ، في رواية زيد بن أرقم قال :
[ 322 ] أما – والله – لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يقول : اللهم إني استودعكه وصالح المؤمنين .
وقد ذكر ابن أرقم هذا الحديث في مشهد آخر ، حيث كان منادما لابن زياد ،
فجئ برأس الحسين ، فأخذ ينكث فيه بقضيبه ، فتذكر ابن أرقم هذا الحديث ، كما
تذكر أنه واجب عليه أن يقوله في ذلك المشهد الرهيب الآخر ، وراح يتساءل :
فكيف حفظكم لوديعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
مع أن زيد بن أرقم نفسه هو ممن يوجه إليه هذا السؤال ؟
وسنقرأ الإجابة في الفصل [ 31 ] ضمن : المواقف المتأخرة .
شاهد أيضاً
الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ
أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...