الرئيسية / القرآن الكريم / الامثال في القران – الشيخ جعفر السبحاني

الامثال في القران – الشيخ جعفر السبحاني

( 86 )

سورة البقرة
3

التمثيل الثالث



قال سبحانه: (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّهِمْ وَأَمّا الّذينَ كَفَروا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاّ الْفاسِقِينَ * الَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الاََرضِ أُولئِكَ هُمُ الخاسِرُون ). (1)
تفسير الآيات
الحياء تغيّر وانكسار يعتري الاِنسان من تخوّف مايعاب به ويُذمّ، يقال: فلان يستحي أن يفعل كذا، أي أنّ نفسه تنقبض عن فعله.
فعلى هذا فالحياء من مقولة الانفعال، فكيف يمكن نسبته إلى الله سبحانه مع أنّه لا يجوز عليه التغيّر والخوف والذم؟
الجواب: إنّ إسناد الحياء كإسناد الغضب والرضا إلى الله سبحانه، فإنّها جميعاً تسند إلى الله سبحانه متجردة عن آثار المادة، ويوَخذ بنتائجها، وقد اشتهر قولهم: “خذوا الغايات واتركوا المبادىَ” فالحياء يصدُّ الاِنسان عن إبراز ما
____________
1 ـ البقرة:26ـ27.


( 87 )

يضمره من الكلام، والله سبحانه ينفى النتيجة، أي لا يمنعه شيء عن إبراز ما هو حق، قال سبحانه: (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُوَْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِ مِنَ الحَقّ ). (1)
وأمّا ضرب المثل فقد مرّ الكلام فيه، وقلنا: إنّ لاستخدام كلمة “ضرب المثل” في التمثيل بالاَمثال وجوهاً:
منها: أنّ ضرب المثل في الكلام يذكر لحال ما يناسبها، فيظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفياً، وهو مأخوذ من ضرب الدراهم، وهو حدوث أثر خاص فيها، كأن ضرب المثل يقرع به أذن السامع قرعاً ينفذ أثره في قلبه، ولا يظهر التأثير في النفس بتحقير شيء وتقبيحه إلاّ بتشبيهه بما جرى العرف بتحقيره ونفور النفوس منه. (2)
البعوضة: حيوان حقير يشبه خرطومه خرطوم الفيل، أجوف وله قوّة ماصة تسحب الدم، وقد منح الله سبحانه هذا الحيوان قوة هضم ودفع كما منحه أُذناً وأجنحة تتناسب تماماً مع وضع معيشته، وتتمتع بحساسية فائقة، فهي تفر بمهارة عجيبة حين شعورها بالخطر، وهي مع صغرها وضعفها يعجز عن دفعها كبار الحيوانات. وقد اكتشف علماء الحيوان موَخراً انّ البعوضة قادرة على تشخيص فريستها من مسافة تقرب عن 65 كيلومتراً.
قال أمير الموَمنين علي (عليه السلام) في حقّها: “كيف ولو اجتمع جميع حيوانها، مناطيرها وبهائمها، وما كان من مراحها وسائمها، وأصناف أسناخها وأجناسها، ومتبلدة أُممها وأكياسها، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها، ولا عرفت
____________
1 ـ الاَحزاب:53.
2 ـ تفسير المراغى:1|70.


( 88 )

كيف السبيل إلى إيجادها، ولتحيّـرت عقولها في علم ذلك وتاهت وعجزت قواها وتناهت، ورجعت خاسئة حسيرة، عارفة بأنّها مقهورة، مقرة بالعجز عن إنشائها، مذعنة بالضعف عن إفنائها”. (1)
يقول الاِمام جعفر بن محمد الصادق 8بشأن خلقة هذا الحيوان الصغير:
“إنّما ضرب الله المثل بالبعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين، فأراد الله سبحانه أن ينبّه بذلك الموَمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعته”. (2)
إلى هنا تمّ تفسير مفردات الآية، وأمّا تفسير الآية برمّتها فقد نقل المفسرون في سبب نزولها وجـهين0
الاَوّل: أنّ الله تعالى لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين، أعني قوله: (مثلهم كمَثل الذي استوقد ناراً) وقوله: (أو كصيّب من السماء) قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الاَمثال، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الثاني: أنّه سبحانه لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت تكلّم فيه قوم من المشركين وعابوا ذكره، فأنزل الله هذه الآية. (3)
ولا يخفى ضعف الوجه الاَوّل، فإنّ المنافقين لم ينكروا ضرب المثل، وإنّما أنكروا المثلين اللّذين مثّل بهما سبحانه حال المنافقين، وعند ذلك لا يكون التمثيل بالبعوضة جواباً لردّ استنكارهم، لاَنّهم أنكروا المثلين اللّذين وردا
____________
1 ـ نهج البلاغة: الخطبة186.
2 ـ مجمع البيان:1|67.
3 ـ مجمع البيان: 1|67.


( 89 )

في حقهما، فلا يكون عدم استحيائه سبحانه من التمثيل بالبعوضة ردّاً على اعتراضهم.
وأمّا الثاني، فقد ورد ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في مكة المكرمة، لاَنّ الاَوّل ورد في سورة الحج، وهي سورة مكية، والآخر ورد في سورة العنكبوت، وهي أيضاً كذلك. وهذه الآية نزلت في المدينة، فكيف تكون الآية النازلة في مهجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جواباً على اعتراض المشركين في موطنه؟
وعلى كلّ تقدير فالآية بصدد بيان أنّ الملاك في صحة التمثيل ليس ثقل ما مثّل به أو كبره، فلا التمثيل بالبعوضة عيب ولا التمثيل بالاِبل والفيل كمال، وإنّما الكمال أن يكون المثل مبيناً لحقيقة وواقعة غفل عنها المخاطب من دون فرق بين كون الممثل صغيراً أو كبيراً.
وبعبارة أُخرى: إذا كان الغرض التأثير فالبلاغة تقضي بأن تضرب الاَمثال لما يراد تحقيره بحقيرها ولما يراد التنفير بما اعتادت النفوس النفور منها، فالملاك هو كون المثل مفيداً لما يريد المتكلم تحقيقه، من غير فرق بين حقير الاَشياء وكبيرها، وهو سبحانه يشير إلى ذلك المعنى بقوله: (إِنَّ الله لا يَسْتَحْيي أن يضربَ مثلاً ما بَعوضة) (بل) فوقها في الصغر كالجراثيم التي لا ترى إلاّ بالمجهر، كما تقول: فلان لا يبالي أن يبخل بنصف درهم فما فوقه أي مما فوقه في القلة.
ولو أُريد ما فوقه في الكثرة يقول مكانه “فضلاً عن الدرهم والدرهمين”.
فما في كلام بعض المستشرقين من أنّ الصحيح أن يقول “فما دونه” غير تام. للفرق بين قوله: “فما فوقه” وقوله “فضلاً” و الاَوّل بقرينة المقام بمعنى فما فوقه في الصغر والحقارة لا بمعنى “فضلاً”.
وربما تفسر الآية بأنّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها في


( 90 )

الكبر، ولكن الاَوّل هو الاَوفق لمقصود المتكلم . كما يقال عند لوم المتجرى: بأنّك تقترف جريمة لاَجل دينار بل فوقه، أي نصف دينار، والمراد من الفوقية هو الفوقية في الحقارة.
وقد أورد الزمخشري على نفسه سوَالاً، وهو: كيف يضرب الله المثل لما دون البعوضة وهي في النهاية في الصغر؟ ثمّ أجاب:
إنّ جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات، وقد ضربه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلاً للدنيا، وفي خلق الله حيوان أصغر منها ومن جناحها ربما رأيت في تضاعيف الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يجليها للبصر الحاد إلاّ تحركها فإذا سكنت، فالسكون يواريها، ثمّ إذا لوّحت لها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها، فسبحان من يدرك صورة تلك وأعضاءها الظاهرة والباطنة، وتفاصيل خلقتها، ويبصر بصرها، ويطلع على ضميرها، ولعل في خلقه ما هو أصغر منها وأصغر سبحان الذي خلق الاَزواج كلّها مما تنبت الاَرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون.(1)
وقال البيضاوي: لما كانت الآيات السابقة متضمنة لاَنواع من التمثيل عقب ذلك ببيان حسنه، وما هو الحق له والشرط فيه، وهو أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر، والخسة والشرف، دون الممثل، فانّ التمثيل إنّما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له، ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس، ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه، فانّ المعنى الصرف إنّما يدركه العقل مع منازعة من الوهم، لاَنّ من طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة، ولذلك شاعت الاَمثال في الكتب الاِلهية وفشت في عبارات البلغاء، وإشارات الحكماء، فيمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم
____________
1 ـ الكشاف:1|205ـ 206.


( 91 )

بالعظيم، وإن كان المثل أعظم من كلّ عظيم، كما مثل في الاِنجيل على الصدور بالنخالة، والقلوب القاسية، بالحصاة، ومخاطبة السفهاء، بإثارة الزنابير، وجاء في كلام العرب: أسمع من قراد، وأطيش من فراشة، وأعز من مخ البعوض. (1)
وربّما يتصور أنّ التمثيل بالاَشياء الحقيرة الخسيسة لا يليق بكلام الفصحاء، وعلى هذا فالقرآن المشتمل على النمل والذباب والعنكبوت والنحل لا يكون فصيحاً فضلاً عن كونه معجزاً.
وأجاب عنه صدر المتألهين الشيرازي (المتوفّى عام 1050هـ)بقوله: إنّ الحقارة لا تنافي التمثيل بها، إذا شرط في المثال أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي يستدعي التمثيل به كالعظم والحقارة، والشرف والخساسة، لا على وفق من يوقع التمثيل ويضرب المثال، لاَنّ الغرض الاَصلي منه إيضاح المعنى المعقول، وإزالة الخفاء عند إبرازه في صورة المشاهد المحسوس، ليساعد فيه الوهم العقل ولا يزاحمه، فانّ العقل الاِنساني مادام تعلقه بهذه القوى الحسيّة لا يمكنه إدراك روح المعنى مجرّداًعن مزاحمة الوهم ومحاكاته، لاَنّ من طبعه كالشياطين الدعابة في التخييل وعدم الثبات على صورة.
ولذلك شاعت الاَمثال في الكتب الاِلهية، وفشت في عبارات الفصحاء من العرب وغيرهم، وكثرت في إشارات الحكماء ومرموزاتهم، وصحف الاَوائل ومسفوراتهم، تتميماً للتخيّل بالحس، فهناك يضاعف في التمثيل، حيث يمثل أوّلاً المعقول بالمتخيل، ثمّ يمثل المتخيل بالمرسوم المحسوس المهندس المشكل. (2)
ثمّ إنّه سبحانه يذكر أنّ الناس أمام الاَمثال على قسمين:

____________
1 ـ تفسير البيضاوى:1|43.
2 ـ تفسير القرآن الكريم:2|192ـ 193.


( 92 )

أ: الموَمنون: وهم الذين قال سبحانه في حقّهم: (فَأَمّا الّذين آمَنُوا فَيَعْلَمُون انّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّهِمْ ).
ب: الكافرون: وهم الذين قال سبحانه في حقّهم: (وَأَمّا الّذين كَفَروا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللهُ بِهذا مثَلاً ). والظاهر أنّ قولهم (أراد اللّهُ) كان على سبيل الاستهزاء بادّعاء الرسول أنّ المثل وحي منزل من الله ، وإلاّ فانّ الكافرين والمنافقين كانوا ينكرون الوحي أصلاً.
ولا غرو في أن يكون شيء سبب الهداية لطائفة وسبب الضلال لطائفة أُخرى، وما هذا إلاّ لاَجل اختلاف القابليات، فمن استعد لقبول الحقّ والحقيقة فتصبح الآيات الاِلهية سبب الهداية، وأمّا الطائفة الاَُخرى المعاندون الذين صمّوا مسامعهم عن سماع كلمة الحق وآياته فينكرون الآيات ويكفرون بذلك.
ثمّ إنّ الظاهر أنّ قوله سبحانه: (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاّ الفاسقين) من كلامه سبحانه، ولا صلة له بكلام المنكرين، بل تم كلامه بقوله: (بها مثلاً) وهو انّ الاَمثال توَثر في قوم دون قوم.
ثمّ إنّه يعلّل إضلال غير الموَمنين بفسقهم ويقول: (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاّ الفاسقين )، والفسق: عبارة عن خروج النواة من التمر، وفي الاصطلاح: من خرج عن طاعة الله ، سواء أكان مسلما متجرياً أو كافراً فاسقاً.
وقد أطنب المفسرون الكلام في مفاد الجملة الاَخيرة أعني: (يُضِلُّ به كثيراً وَيَهْدي بهِ كَثيراً) فربما يتوهم أنّ الآية بصدد الاِشارة إلى الجبر، فحاولوا تفسير الآية بشكل يتلاءم مع الاختيار، وقد عرفت أنّ الحقّ هو أنّ الآية بصدد بيان أنّ المواعظ الشافية والكلمات الحِكَمية لها تأثير معاكس فيوَثر في القلوب المستعدة تأثيراً إيجابياً وفي العقول المنتكسة تأثيراً سلبياً.


( 93 )

هذا هو تفسير الآية .
وربّما يحتمل أنّ الآية ليست بصدد بيان ضرب المثل بالبعوضة كضربه بالعنكبوت والذباب، بل الآية خارجة عن نطاق ضرب المثل بالمعنى المصطلح، وإنّما الآية بصدد بيان قدرته وعظمته وصفاته الجمالية و الجلالية، والآية بصدد بيان أنّ الله سبحانه لا يستحيي أن يستدل على قدرته وكماله وجماله بخلق من مخلوقاته سواء أكان كبيراً وعظيماً كالسماوات والاَرض، أو صغيراً و حقيراً كالبعوضة والذباب، فمعنى ضرب المثل هو وصفه سبحانه بصفات الجلال أو الكمال.
ويدل على ذلك أنّه سبحانه استدل على جلاله وكماله بخلق السماوات والاَرض وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الّذِي خَلقَكُمْ وَالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الّذي جَعَلَ لَكُمُ الاََرضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ). (1)
يلاحظ على تلك النظرية بأمرين:
أوّلاً: لو كان المراد من ضرب المثل وصفه سبحانه بالقدرة العظيمة لكان اللازم أن يأتي بالآية بعد هاتين الآيتين مع أنّه فصل بينهما بآيات ثلاث تركّز على إعجاز القرآن و التحدّي به، ثمّ التركيز على الجنة وثمارها كما هو معلوم لمن راجع المصحف الكريم.
وثانياً: انّ القرآن يفسر بعضه بعضاً، فقد جاء قوله: (فَأَمّا الّذينَ آمنوا فيعلمون انّه الحق من ربّهم) في سورة الرعد بعد تشبيه الحق و الباطل بمثل رائع
____________
1 ـ البقرة:21ـ 22.


( 94 )

يأتي البحث عنه إن شاء الله.
قال سبحانه: (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فسالَتْ أَودِيَةٌ بِقَدَرِها…) إلى أن قال: (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الاََمثالَ) ثمّ قال: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ انّمَا أُنزل إِلَيكَ مِن ربِّكَ الحقُّ كَمَن هو أعمى إِنّما يَتَذَكّرُ أُولُوا الاَلباب * الّذين يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ ولاَ يَنْقُضُونَ المِيثاقَ).(1)
تجد أنّ الآيات في سورتي البقرة والرعد كسبيكة واحدة يفسر بعضها البعض.
ففي سورة البقرة ذكر ضرب المثل بالبعوضة، كما ضرب في سورة الرعد مثلاً للحق والباطل.
ففي سورة البقرة قال سبحانه: (وَأَمّا الّذين آمنوا فيعلمون أنّه الحقّ من ربّهم ).
وفي سورة الرعد قال سبحانه: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أنّ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبّكَ الحَقُّ كمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الاََلباب ).
وفي سورة البقرة قال: (وَما يُضِلُّ بهِ إِلاّ الفاسِقينَ )، وفسَّره بقوله: (الّذين ينقضون عهد الله من بَعْدِ ميثاقِهِ…) الخ.
وفي سورة الرعد، فسّر أُولي الاَلباب بقوله: (الّذينَ يُوفُونَ بعَهدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ المِيثاق ). (2)
فبمقارنة هذه الآيات يعلم أنّ المراد من ضرب المثل هو المعنى المعروف أي التمثيل بالبعوضة لتحقير معبوداتهم أو ما يشبه ذلك.
نعم ما نقلناه عن الاِمام الصادق (عليه السلام) ربّما يوَيد ذلك الوجه كما مرّ ،فتدبّر.

____________
1 ـ الرعد: 17 ـ 20.
2 ـ الرعد:20.


( 95 )

سورة البقرة
4

التمثيل الرابع



(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَانَّ مِنَ الحِجارَة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الاََنْهارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُون ). (1)
تفسير الآية
جاءت الآية بعد قصة البقرة التي ذبحها بنو إسرائيل، وقد كانوا يجادلون موسى (عليه السلام) بغية التملّص من ذبحها، ولكن قاموا بذبحها و ما كادوا يفعلون.
وكان ذبح البقرة لاَجل تحديد هوية القاتل الذي قام بقتل ابن عمه غيلة واتهم بقتله شخصاً آخر من بني إسرائيل، فصاروا يتدارأون ويدفعون عن أنفسهم هذه التهمة، فرجعوا في أمرهم إلى موسى (عليه السلام) ، وشاء الله أن يظهر حقيقة الاَمر بنحو معجز، فقال لهم موسى (عليه السلام): (انّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة )، فلمّـا ذبحوها ـ بعد مجادلات طويلة ـ أمر سبحانه أن يضربوا المقتول ببعض البقرة حتى يحيى المقتول ويعين هوية القاتل.
قال سبحانه: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يحيي اللهُ المَوتى وَيُريكُمْ آياتِهِ
____________
1 ـ البقرة:74.


( 96 )

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ). (1)
ومع روَية هذه المعجزة الكبرى التي كان من المفروض أن تزيد في إيمانهم وانصياعهم لنبيهم موسى (عليه السلام)، لكن ـ و للاَسف ـ قست قلوبهم بنحو يحكي سبحانه شدة تلك القساوة و يقول:
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كالحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ).
وبما أنّ الحجر هو المعروف بالصلابة والقساوة شبّه سبحانه قلوبهم بالحجارة وقال: إنَّ قُلوبهُمْ (كالحِجارَة أَوْ أَشَدّ قَسوَة) أي: بل أشدّ قسوة، فكلمة “أو” موضوعة مكان بل.
ثمّ إنّ القلوب إمّا بمعنى النفوس الناطقة، فعندئذ تكون نسبة القساوة إلى الروح نسبة حقيقية. أو انّ المراد منها هو العضو المودع في الجهة اليسرى من الصدر الذي ليس له دور سوى تصفية الدم وإرساله إلى سائر الاَعضاء، وعندئذٍ تكون النسبة مجازية، وإنّما نسبت القساوة إلى ذلك العضو ، لاَنّه مظهر من مظاهر الحياة الاِنسانية، وأوّل عضو يتأثر بالاَُمور النفسانية كالفرح والغضب والحزن والجزع، فلامنافاة في أن يكون المدرك هو النفس الناطقة، ومع ذلك يصحّ نسبة الاِدراك إلى القلب.
ثمّ إنّه سبحانه وصف قلوبهم بأنّها أشدّ قسوة من الحجارة، وعلّل ذلك بأُمور ثلاثة:
الاَوّل: (وَانّ مِنَ الحِجارة لَما يَتَفَجَّرُ مِنْه الاََنْهار ).
الثاني: (وَانَّ مِنْها لما يَشَّقّق فيَخرج مِنْهُ الماء ).

____________
1 ـ البقرة:73.


( 97 )

الثالث: (وَإنّ مِنْها لما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله ).
أمّا الاَوّل: أي تفجّر الاَنهار من الحجارة، كالعيون الجارية من الجبال الصخرية.
وأمّا الثاني: كالعيون الحادثة عند الزلازل المستتبعة للانشقاق والانفجار المستعقب لجريان الاَنهار.
وأمّا الثالث: كهبوط الحجارة من الجبال العالية إلى الاَودية المنخفضة من خشية الله .
ولا مانع من أن يكون للهبوط علة طبيعية كالصواعق التي تهبط بها الصخور وعلة معنوية التي كشف عنها الوحي، وهي الهبوط من خشية الله .
وعلى ضوء ذلك فالحجارة على الرغم من صلابتها تتأثر طبقاً للعوامل السالفة الذكر، وأمّا قلوب بني إسرائيل فهي صلبة لا تنفعل أمام وحيه سبحانه وبيان رسوله، فلا تفزع نفوسهم ولا تخشع لاَمره ونهيه.
ومن عجيب الاَمر أنّ بني إسرائيل رأوا بأُمّ أعينهم ليونة الحجارة حيث استسقى موسى لقومه، فأمر بأن يضرب بعصاه الحجر ، فلمّا ضربه انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً بعدد الاَسباط .
ثمّ إنّ ظاهر الآية نسبة الشعور إلى الحجارة حيث إنّها تهبط من خشية الله ، وهذه حقيقة علمية كشف عنها الوحي وإن لم يصل إليها الاِنسان بأدواته الحسية.
يقول صدر المتألهين: إنّ الكون بجميع أجزائه يسّبح لله ويحمده ويثني عليه تعالى عن شعور، فلكلّ موجود من هذه الموجودات نصيب من الشعور والاِدراك بقدر ما يملك من الوجود من نصيب.


( 98 )

وعلى هذا الشعور تسّبح الموجودات كلّها، خالقها وبارئها وربّها سبحانه وتنزّهه عن كلّ نقص وعيب.
ثمّ يقول: إنّ العلم والشعور والاِدراك كلّ ذلك متحقّق في جميع مراتب الوجود، ابتداء من “واجب الوجود” إلى النباتات والجمادات، وانّ لكلّ موجود يتحلّى بالوجود سهماً من الصفات العامة كالعلم والشعور والحياة. و…و… ولا يخلو موجود من ذلك أبداً، غاية ما في الاَمر أنّ هذه الصفات قد تخفى علينا ـ بعض الاَحيان ـ لضعفها وضآلتها.
على أنّ موجودات الكون كلما ابتعدت عن المادة والمادية، واقتربت إلى التجرد، أو صارت مجردة بالفعل ازدادت فيها هذه الصفات قوة وشدة ووضوحاً، وكلّما ازدادت اقتراباً من المادة والمادية، وتعمّقت فيها، ضعفت فيها هذه الصفات، وضوَلت حتى تكاد تغيب فيها بالمرّة، كأنّها تغدو خلوة من العلم والشعور والاِدراك، ولكنّها ليست كذلك ـ كما نتوهم ـ إنّما بلغ فيها ذلك من الضعف، والضآلة بحيث لا يمكن إدراكها بسهولة وسرعة. (1)
وليست هذه الآية هي الفريدة في بابها، بل هناك آيات توَكد على جريان الشعور في أجزاء العالم من الذرة إلى المجرّة.
يقول سبحانه: (تُسَبّحُ لَهُ السَّمواتُ السَّبْعُ وَالاََرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ). (2)
وبما أنّنا بسطنا الكلام في سريان الشعور إلى أجزاء العالم برمّته في الجزء الاَوّل من هذه الموسوعة، فلنقتصر على ذلك، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محلّه.

____________
1 ـ الاَسفار:1|118 و 6|139، 140.
2 ـ الاِسراء:44.


( 99 )

سورة البقرة
5

التمثيل الخامس


(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَنِداءً صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ). (1)
تفسير الآية
النعيق: صوت الراعي لغنمه زجراً، يقال: نعق الراعي بالغنم، ينعق نعيقاً، إذا صاح بها زجراً.
والنداء: مصدر نادى ينادي مناداة، وهو أخص من الدعاء، ففيه الجهر بالصوت ونحوه، بخلاف الدعاء.
وفي تفسير الآية وجوه:
الاَوّل: انّ الآية بصدد تشبيه الكافرين بالناعق الذي ينعق بالغنم، ولا يصح التشبيه عندئذٍ إلاّ إذا كان الناعق أصم، ويكون معنى الآية: انّ الذين كفروا الذين لا يتفكرون في الدعوة الاِلهية، كمثل الاَصم الذي ينعق بما لا يسمع نفسه ولا يميز من مداليل نعاقه معنى معقولاً إلاّ دعاءً ونداءً وصوتاً بلا معنى.
وجه التشبيه: انّ الناعق أصم كما أنّ هوَلاء الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون.

____________
1 ـ البقرة:171.


( 100 )

وفي هذا المعنى المشبه هو الكافرون الذين لا يفهمون من الدعوة النبوية إلاّ صوتاً ودعوة فارغة من المعنى.
والمشبه به: هو الناعق الاَصم الذي ينعق بالغنم، ولكن لا يسمع من نعاقه إلاّ دعاءً ونداءً.
وهذا الوجه وإن كان ينطبق على ظاهر الآية، ولكنّه بعيد من حيث المعنى، إذ لو كان الهدف هو التركيز على أنّ الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون لكفى تشبيههم بالحيوان الذي هو أيضاً كذلك، فما هو الوجه لتشبيههم بإنسان عاقل أخذ منه سمعه لا يسمع من نعاقه إلاّ صوتاً ونداءً؟
الثاني: انّ المشبه هو النبي (صلى الله علثيه وآله وسلم)، والمشبه به هو الناعق للغنم، والمراد ومثلك أيها النبي في دعاء الذين كفروا كمثل الذي ينعق في البهائم التي لا تسمع من نعيقه إلاّ دعاءً ونداءً ما، فتنزجر بمجرد قرع الصوت سمعها من غير ان تعقل شيئاً، فهم ـ الكافرون ـ صمّ لا يسمعون كلاماً يفيدهم، وبكم لا يتكلمون بما ينفع، وعمي لا يبصرون، فهم لا يعقلون شيئاً، لاَنّ الطرق الموَدية إلى التعقل موصدة عليهم.
ومن ذلك ظهر أنّ في الكلام قلباً أو عناية أُخرى يعود إليه، فانّ المثل بالذي ينعق بما لا يسمع إلاّ دعاءً ونداءً مثل الذي يدعوهم إلى الهدى لا مثل الكافرين المدعوين إلى الهدى، إلاّ انّ الاَوصاف الثلاثة التي استنتجت واستخرجت من المثل وذكرت بعده، وهي قوله: (صمّ بكمٌ عميٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون) ، لما كانت أوصافاً للذين كفروا لا لمن يدعوهم إلى الحقّ استوجب ذلك أن ينسب المثل إلى الذين كفروا لا إلى رسول الله تعالى فأنتج ما أشبه القلب. (1)

____________
1 ـ الميزان:1|420.


( 101 )

ثمّ إنّ صاحب المنار فسّر الآية على الوجه الاَوّل وقال: (مثل الذين كفروا) أي صفتهم في تقليدهم لآبائهم وروَسائهم كمثل الذي لا يسمع إلاّ دعاء ونداءً، أي كصفة الراعي للبهائم السائمة ينعق ويصيح بها في سوقها إلى المرعى ودعوتها إلى الماء وجزها عن الحمى، فتجيب دعوته وتنزجر بزجره بما ألفت من نعاقه بالتكرار. شبّه حالهم بحال الغنم مع الراعي يدعوها فتقبل، ويزجرها فتنزجر، وهي لا تعقل مما يقول شيئاً، ولا تفهم له معنى وإنّما تسمع أصواتاً تقبل لبعضها وتدبر للآخر بالتعويد، ولا تعقل سبباً للاِقبال ولا للاِدبار. (1)
يلاحظ عليه: أنّ الآية بصدد ذمهم وانّهم لا يعتنقون الاِيمان ولا يمتثلون الاَوامر الاِلهية ونواهيها، وعلى ذلك تصبح الآية نوع مدح لهم، لاَنّهم لو كانوا كالبهائم السائمة يجيبون دعوة النبي كقبولها دعوة الراعي وينزجرون بزجره(صلى الله عليه وآله وسلم) كانتهائها عن نهي الراعي، فيكون ذلك على خلاف المقصود، فانّ المقصود بشهادة قوله (صم بكم عمي )انّهم لا يسمعون كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ولا ينطقون بالحقّ ولا ينظرون إلى آيات الله وانّهم في واد والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في واد آخر.
وأين هم من البهائم السائمة التي تقع تحت يد الراعي فتنتهى بنهيه؟!

____________
1 ـ تفسير المنار:2|93ـ 94.


( 102 )

سورة البقرة
6

التمثيل السادس


(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالّذين آمنوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ). (1)
نزلت الآية عندما حوصر المسلمون واشتد الخوف والفزع بهم في غزوة الاَحزاب فجاءت الآية لتثبّت قلوبهم وتعدهم بالنصر.
وقيل: إنّ عبد الله بن أُبي قال للمسلمين عند فشلهم في غزوة أحد: إلى متى تتعرضون للقتل، ولو كان محمّد نبياً لما واجهتم الاَسر والتقتيل؟، فنزلت الآية.
تفسير الآية
وردت لفظة “أم” للاِضراب عما سبق و تتضمن معنى الاستفهام، و المعنى “بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة”.
و (البَأساء ): هي الشدة المتوجهة إلى الاِنسان من خارج نفسه كالمال والجاه والاَهل.
و”الضرّاء”: هي الشدة التي تصيب نفس الاِنسان كالجرح و القتل، وقيل:
____________
1 ـ البقرة:214.


( 103 )

انّ “البأساء”نقيض “النعماء”، “الضراء” نقيض “السراء” ، و”الزلزلة” شدة الحركة، و الزلزال البلية المزعجة لشدة الحركة والجمع زلازل، وأصله من قولك زلّ الشيء عن مكانه، ضوعف لفظه بمضاعف معناه، نحو صرى وصرصر، وصلى وصلصل، فإذا قلت زلزلته، فمعناه كرّرت تحريكه عن مكانه.
وقد جاء ما يقرب من مضمون الآية في آيات أُخرى، منها قال سبحانه: (وَالصّابِرينَ فِي البَأْساءِ وَالضَّرّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولئِكَ الّذينَ صَدَقُوا وَأُوْلئِكَ هُمُ المُتَّقُون ). (1)
وقال سبحانه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون ). (2)
وقال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍ إِلاّ أَخَذْنا أَهْلَهَا بِالبَأْساءِ والضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرّعُون ). (3)
تدلُّ مجموع هذه الآيات على دوام الابتلاء والامتحان في جميع الاَُمم خصوصاً في الاَُمة الاِسلامية.
ثمّ إنّ الهدف من امتحان أبناء البشر هو تحصيل العلم بكفاءة الممتحن، لكنّه فيه سبحانه يستهدف إلى إخراج ما بالقوة من الكمال إلى الفعلية مثلاً: فانّ إبراهيم (عليه السلام) كان يتمتع بموهبة التفاني في الله و بذل ما يملك في سبيله غير انّه لم تكن لها ظهور و بروز، فلما وقع في بوتقة الامتحان ظهرت تلك الموهبة إلى الوجود بعد ما كانت بالقوة.

____________
1 ـ البقرة:177.
2 ـ الاَنعام:42.
3 ـ الاَعراف:94.


( 104 )

وما ذكرنا هو المستفاد من الآيات وقد صرح به الاِمام أمير الموَمنين (عليه السلام) في بعض خطبه: قال:
“لا يقولنّ أحدكم: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة، لاَنّه ليس أحد إلاّ و هو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلاّت الفتن، فانّ الله سبحانه يقول: (وَاعْلَمُوا أنّما أَموالكُمْ وَأَولادكُمْ فِتْنَة) ومعنى ذلك انّه يختبرهم بالاَموال والاَولاد ليتبيّن الساخط لرزقه والراضي بقسمه، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الاَفعال التي بها يُستحق الثواب والعقاب”. (1)
إلى هنا تبين معنى مفردات الآية وسبب نزولها والآيات التي وردت في هذا الصدد في حقّ سائر الاَُمم.
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تفسير الآية.
يقول سبحانه: إنّ الابتلاء بالبأساء والضراء سنة إلهية جارية في الاَُمم كافة ولا تختص بالاَُمة الاِسلامية، فالتمحيص وتمييز الموَمن الصابر عن غير الصابر رهن الابتلاء. فلا يتمحض إيمان المسلم إلاّ إذا غربل بغربلة الامتحان ليخرج نقياً.ولا يترسخ الاِيمان في قلبه إلاّ من خلال الصمود والثبات أمام أعاصير الفتن الهوجاء.
وكأنّ الآية تسلية لنبيه وأصحابه مما نالهم من المشركين وأمثالهم، لاَنّ سماع أخبار الاَُمم الماضية يسهّل الخطب عليهم، وانّ البلية لا تختص بهم بل تعم غيرهم أيضاً، ولذلك يقول: (أَمْ حَسِبْتُمْ )أي أظننتم وخلتم أيها الموَمنون أن تدخلوا الجنة (ولمّا يَأْتِكُمْ مَثلُ الّذين خَلوا مِنْ قَبْلِكُم )، أي أن تدخلوا الجنة ولما تبتلوا وتمتحنوا بمثل ما ابتليت به الاَُمم السالفة وامتحنوا به. فعليكم بالصبر والثبات كما صبر هوَلاء وثبتوا.

____________
1 ـ نهج البلاغة: قسم الحكم: الحكمة 93.


( 105 )

وعلى ضوء هذا فالمثل بمعنى الوصف ـ وقد تقدم منّا القول ـ بأنّ من معانى المثل هو الوصف. فقوله: (وَلَما يَأْتِكُم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء )، أي” لمّا يأتكم وصف الذين خلوا من قبلكم” فلا يدخلون حظيرة الاِيمان الكامل إلاّ أن يكون لهم وصف مثل وصف الذين واجهوا المصائب والفتن بصبر وثبات وعانوا الكثير من القلق والاضطراب، كما قال تعالى في حقّ الموَمنين: (وَزلزلوا زِلزالاً شَديداً) ففي خضّم هذه الفتنة التي تنفد فيها طاقات البشر ، فإذا بالرحمة تنزل عليهم من خلال دعاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصالح الموَمنين.
كما قال سبحانه: (وَزلزلوا حتى يقول الرسول والّذين آمنوا معه متى نصر الله)والجملة ليست إلاّ طلب دعاء للنصر الذي وعد الله به رسله والموَمنين بهم واستدعاءً له، كما قال تعالى: (وَلَقدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُون )(1)، وقال تعالى: (كَتَبَ اللهُ لاََََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلي ). (2)
يقول الزمخشري: ومعناه طلب الصبر وتمنّيه واستطالة زمان الشدة، وفي هذه الغاية دليل على تناهي الاَمر في الشدة، وتماديه في العظم… فإذا لم يبق للرسل صبر حتى ضجّوا، كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمح ورائها.
وعند ذلك يخاطبون بقوله سبحانه: (ألا إنّ نصر الله قريب) أي يقال لهم ذلك إجابة لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر. (3)
ثمّ إنّ القراءة المعروفة هي الرفع في قوله: (حَتى يَقول الرسول )، وعند ذلك تكون الجملة لحكاية حال الاَُمم الماضية . وقرىَ بنصب “يقول” و على
____________
1 ـ الصافات:171ـ172.
2 ـ المجادلة:21.
3 ـ الكشاف:1|270في تفسير الآية.


( 106 )

هذا تكون الجملة في محل الغاية لما سبقها وهو قوله (مسّتهم البأساء والضراء) و (زلزلوا) ولعل القراءة الا َُولى أفضل لبعد كون الجملة غاية لمس البأساء والضراء والزلزال.
وقد تبين ممّا ذكرنا أنّ المثل بمعنى التمثيل والتشبيه، فتشبيه حال الاَُمة الاِسلامية بالاَُمم السابقة في أنّهم يعمّهم البأساء والضراء والزلزال، فإذا قرب نفاد طاقاتهم وصمودهم في المعارك يدعو الرسول ومن معه من الموَمنين لهم بالنصر والغلبة والنجاح.
ثمّ إنّ بعض الكتّاب ممن كتب في أمثال القرآن جعل الآيات الثلاث التالية من الاَمثال القرآنية. (1)
أ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حاجَّ إِبْراهيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهيمُ رَبّي الّذي يُحْيي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَومَ الظّالِمين).(2)
ب: (أَوْ كَالّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مائَةَ عامٍ فَانْظُر إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُر إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَانْظُرْ إِلى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ). (3)

____________
1 ـ الدكتور محمد حسين علي الصغير: الصورة الفنية في المثل القرآني:144؛و الدكتور إسماعيل إسماعيلي: تفسير أمثال القرآن:191.
2 ـ البقرة: 258.
3 ـ البقرة:259.


( 107 )

ج: (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَ لَمْ تُوَْمِن قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِى قالَ فَخُذْ أَرْبَعةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ). (1)
ولا يخفى ما فيها من الضعف.
أمّا الآية الاَُولى فلاَنّ المراد من التمثيل هو التشبيه الذي يصور فيه غالباً غير المحسوس بالمحسوس ويقرّب المعنى إلى ذهن المخاطب، ولكن التشبيه في الآية الا َُولى الذي قام به مناظر إبراهيم كان تشبيهاً غير صحيح، وذلك لاَنّه لمّا وصف إبراهيم ربّه بأنّه يحيي ويميت أراد منه من يضفي الحياة على الجنين ويقبضه عندما يَطعن في السن، ولكن المناظر فسّره بوجه أعم وقال: أنا أيضاً أُحيي وأُميت، فكان إحياوَه بإطلاق سراح من كُتب عليه القتل، وقتل من شاء من الاَحياء، مع الفرق الشاسع بين الاِحياء والاِماتة في كلام الخليل وكلام المناظر، فلم يكن هناك أي تشبيه بل مغالطة واضحة فيه.
وأمّا الآية الثانية، فلم يكن هناك أي تشبيه أيضاً، لاَنّه يشترط في التمثيل الاختلاف بين المشبه و المشبه به اختلافاً نوعياً، كتشبيه الرجل الشجاع بالاَسد ومُحمرَّ الشقيق بأعلام الياقوت، و أمّا الآية المباركة فانّما هي من قبيل إيجاد مِثْل للمشبه، فالرجل لما مرّ على القرية الخاوية على عروشها و قد شاهد بأنّه باد أهلها ورأي عظاماً في طريقها إلى البِلاء فقال: (كيف يحيي هذه الله بعد موتها) فأماته الله سبحانه مائة عام ثم أحياه كما هو ظاهر الآية، وعلى ذلك فأوجد مِثْلاً للمشبه مع الوحدة النوعية وإنّما الاختلاف في الصنف، وقد عرفت لزوم وجود التباين النوعي بين المشبّه و المشبّه به.

____________
1 ـ البقرة:260.


( 108 )

وأمّا الآية الثالثة، فمفادها هو أنّ إبراهيم كان موَمناً بقدرته على إحياء الموتى ولكن طلب الاِحياء ليراه بعينه، لاَنّ للعيان أثراً كبيراً في الاطمئنان ورسوخ العلم في القلب، فطلب الروَية ليطمئن قلبه ويزداد يقينه، فخاطبه سبحانه بقوله: (فَخُذْ أَربَعة من الطّير فصرهنّ إليك )، أي أملهنّ وأجمعهنّ وضمهنّ إليك. (ثُمّ اجعل عَلى كُلّ جَبل مِنهُنَّ جزءاً) هذا دليل على أنّه سبق الاَمر بقطعهنّ وذبحهنّ. (ثمّ ادعُهُنَّ يأتينك سعياً )، ولم يذكر في الآية قيام إبراهيم بهذه الاَعمال استغناء عنه بالقرائن.
هذا هو مفهوم الآية وأمّا انّها ليست مَـثَلاً، فلعدم توفر شرائط المثَل من المشبه والمشبه به، وإنّما هو من قبيل إيجاد الفرد من الاَمر الكلي أي إحياء الموتى سواء أكان إنساناً أم لا.
فالاَولى عدّ هذه الآيات من القصص التي حكاها القرآن الكريم للعبرة والعظة لكن لا في ثوب المثل. فلننتقل إلى التمثيل السابع في سورة البقرة.

شاهد أيضاً

نهج البلاغة – خطب الإمام علي (عليه السلام)

(باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام)  (ومواعظه ويدخل في ذلك المختار من أجوبة مسائله) ...