أهل السنَّة ومعالم الحكومة الاِسلامية
إنّ النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- هو القائد الذي تفانى في أداء رسالة ربّه وهداية أُمَّته بكلّ إخلاص و عزيمة، ولم يكن شيء عنده أعزّ من هداية الناس و بقاء شريعته والنظام الذي يحمي الشريعة، فعلى ذلك كان على مفترق طرق:
أ: أن ينصب قائداً محنكاً يخلفه في كلّمهامه و يقطع دابر الخلافات بعده ويكون عمله نموذجاً للآخرين.
ب: أن يبيِّن معالم الحكومة وخصوصياتها بكلّدقة وتفصيل، حتى تستغني الاَُمة بذلك عن التنصيب ويكون كلامه هو الملهم عبْر الاَجيال في تعيين نوع الحكومة للمسلمين.
بيد أنّ التصور السائد عند أهل السنّة هو أنّه – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- لم يسلك الطريق الاَوّل ولم ينصب خليفة بعده، بل ترك الاَمر إلى الاَُمَّة، ومع ذلك لا يوجد في مجموع ما بأيدينا من الكتاب والروايات المروية في الصحاح والمسانيد شيء يرسم الخطوط العريضة لنوع الحكومة وأركانها وخصائصها وصفات الحاكم وبرامجه، مع أنّه تكلم في أبسط الاَُمور فضلاً عن أخطرها، كما هو واضح لمن طالع الصحاح والمسانيد خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الاِنسان.
——————————————————————————–
( 99 )
ولمّا وجد علماء أهل السنة أنفسهم أمام تلك المعضلة حاولوا حلَّ عقدتها بترسيم خطوط عريضة لحكومة إسلامية من عند أنفسهم تارة باسم الشورى، وأُخرى باسم أهل الحل والعقد، وثالثة باتخاذ حكومة الخلفاء الاَربعة وما يليها أُسوة وبياناً لنوع الحكومة الاِسلامية وخصوصياتها.
كلّ ذلك يعرب عن أنّ علماء أهل السنة لم يتجردوا عن كلّ رأي مسبق فأخذوا خصوصيات الحكومات القائمة بعد النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- حجّة شرعية للمسلمين عامة.
مع أنهم لم يعتمدوا في إقامة دعائم الحكومة على دليل قرآني أو سنة نبوية، وإنّما وضعوا حلولاً استحسانية والتي لا تكون حجّة إلاّ على أنفسهم.
وها نحن نطرح هذه الفروض على بساط البحث كي يعلم مدى إتقانها.
* هل الشورى أساس الحكم الاِسلامي؟
هناك من اتخذ الشورى أساساً للحكم الاِسلامي، واستدلُّوا على ذلك بآيتين:
الاَُولى: قوله سبحانه: (…وََشاوِرْهُمْ فيالاََمْرِ فَإذا عَزمْتَ فَتَوَكّلْ عَلىَ اللّهِ…)(1) قائلين بأنّه سبحانه أمر نبيَّه بالمشاورة تعليماً للاَُمَّة، بأن يتشاوروا في مهام الاَُمور ومنها الخلافة.
والذي يوَخذ عليه: انّ الخطاب موجّه إلى الحاكم الذي ثبت كونه حاكماً بوجه من الوجوه ثمّ أمره بالمشاورة في غير هذا الاَمر. بأن يشاور أفراد الاَُمّة فيما
____________
(1)آل عمران: 159.
——————————————————————————–
( 100 )
يرجع إلى غير أصل الحكومة، غاية الاَمر يتعدّى عنه إلى غير النبيّ – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- من أفراد الاَُمّة، لكن مع حفظ الموضوع، وهو إذا تمت حكومة فرد و ثبتت مشروعيته، فعليه أن يشاور الاَُمّة، وأمّا المشاورة في تعيين الاِمام والخليفة عن طريق الشورى فلا تعمُّه الآية.
الثانية : قوله سبحانه (وَ أمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) .(1)
استدلُّوا بالآية على أنّ نوع الحكومة يتلخص في الشورى فإنّ إضافة المصدر(أمر) إلى الغير(هم) يفيد العموم والشمول لكل أمر ، و منه الخلافة والاِمامة فالموَمنون بحسب هذه الآية يتشاورون في جميع أُمورهم حتى الخلافة.
يلاحظ عليه: أنّ الآية تأمر بالمشورة في الاَُمور الموضوعة على عاتق الموَمنين فلابدّ أن يحرز أنّ هذا الاَمر(تعيين الاِمام) أمر مربوط بهم فما لم يحرز ذلك لم يجز التمسك بعموم الآية في مورده.
وبعبارة أُخرى انّ النزاع في أنّ الخلافة هل هي مفوّضة إلى الاَُمَّة، أو هي أمر مختص بالسماء؟ و مادام لم يحرز كون هذا الموضوع من مصاديق الآية لا يحتج بها على أنّصيغة الحكومة الاِسلامية هي الشورى.
* نقد فكرة أنَّ الشورى أساسالحكم
1. و مما يدل على أنّ الشورى لم تدخل حيز التنفيذ طيلة التاريخ هي انّ بيعة أبي بكر قد انعقدت بخمسة، وهم :عمر بن الخطاب ، أبو عبيدة الجراح، أسيد بن حضير، بشر بن سعد، و أسلم مولى أبي حذيفة.
____________
(1)الشورى: 38.
——————————————————————————–
( 101 )
ثمّ خرجوا من السقيفة وابوبكر قدّامهم يدعون الناس لمبايعته، ولاَجل ذلك كان عمر بن الخطاب يرفع عقيرته فوق المنبر، ويقول: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرها.
وأمّا خلافة عمر فقد عقدت له الخلافة بتعيين الخليفة الاَوّل، و أمّا خلافة عثمان فقد حصر عمر الشورى في ستة أشخاص انتخبهم هو بنفسه ليعقدوا لاَحدهم، كما هو واضح من التاريخ.
2. لو كان أساس الحكم و منشوَه هو الشورى، لوجب على الرسول – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- الخوض في تفاصيلها وخصوصياتها وأُسلوبها على الاَقلّ. مع انّه لا نجد في الصحاح والمسانيد أثراً لذلك.
فلو كانت الشورى مبدأًً للحكومة لكان على النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- بيان حدود الشورى وتوعية الاَُمَّة وإيقافها على ذلك حتى لا تتحيَّر بعد رحيله، و مع الاَسف الشديد لا نجد شيئاً من ذلك في كلام النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- .
ومن جملة الاَُمور التي كان من المفروض بيانها، هي:
أوّلاً: من هم الذين يجب أن يشتركوا في الشورى المذكورة؟ هل هم العلماء وحدهم، أو السياسيون وحدهم، أو المختلط منهم؟
ثانياً: من هم الذين يختارون أهل الشورى؟
ثالثاً: لو اختلف أهل الشورى في شخص فبماذا يكون الترجيح، هل يكون بملاك الكم، أم بملاك الكيف؟
إنّ جميع هذه الاَُمور تتصل بجوهر مسألة الشورى، فكيف يجوز ترك بيانها، وتوضيحها وكيف سكت الاِسلام عنها، إن كان جعل الشورى طريقاً إلى تعيين الحاكم؟
——————————————————————————–
( 102 )
3. لو كانت الشورى مبدأًً للحكم لكانت واضحة المعالم فيما يمس متن الشورى، ومنها العدد الذي تنعقد به الشورى، وقد اختلفوا في عدد من تنعقد بهم الشورى إلى مذاهب شتى يذكرها الماوردي (364ـ 450هـ) في كتابه: «الاحكام السلطانية» و يقول:
الاِمامة تنعقد بوجهين:
أحدهما: باختيار أهل العقد و الحل.
والثاني: بعهد الاِمام من قبل.
فأمّا انعقادها باختيار أهل العقد والحل، فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الاِمامة منهم على مذاهب شتى، فقالت طائفة: لا تنعقد إلاّبجمهور أهل العقد والحل من كلّبلد ليكون الرضا به عاماً، والتسليم لاِمامته إجماعاً، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة، باختيار من حضرها ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.
وقالت طائفة أُخرى: أقلُّ من تنعقد به منهم الاِمامة (خمسة) يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الاَربعة، استدلالاً بأمرين:
أحدهما: أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها، ثمّ تابعهم الناس فيها، و هم: عمر بن الخطاب، و أبوعبيدة الجرّاح، وأسيد بن حضير، وبشر ابن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة.
الثاني: أنّ عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لاَحدهم برضا الخمسة، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلّمين من أهل البصرة.
وقال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاّها أحدهم برضا الاثنين
——————————————————————————–
( 103 )
ليكونوا حاكماً وشاهدين، كما يصحّ عقد النكاح بولي و شاهدين.
وقالت طائفة أُخرى: تنعقد بواحد لاَنّ العباس قال لعلي: أُمدد يدك أُبايعك، فيقول الناس: عمّ رسولاللّه بايع ابن عمه، فلا يختلف عليك اثنان، ولاَنّه حكم و حكم الواحد نافذ.(1)
وهذه الوجوه تسقط كون الشورى أساس الحكم و أنّالنبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- ارتحل واعتمد في صيانة دينه بنظام مبني على الشورى وهي مجملة من جهات شتى.
* هل البيعة أساس الحكم الاِسلامي؟
هل البيعة سبيل إلى تعيين الحاكم الاِسلامي و أساس له.وقد اتخذه غير واحد ممن كتب في نظام الحكومة الاِسلامية أساساً لها، وقد أمضاها النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- عن غير موضع، حيث بايعه أهل المدينة في السنة 11و 12 و 13 من البعثة، بايعوه على أن لا يشركوا باللّه ولا يسرقوا ولا يقترفوا فاحشة.
كما بايعوه في البيعة الثانية على نصرته والدفاع عنه، كما يدافعون عن أولادهم وأهليهم.(2)
إنّ الموارد التي بايع فيها المسلمون رسول اللّه – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- لا تنحصر في هذين الموردين بل توجد في موارد أُخرى، أعظمها وأفضلها بيعة الرضوان المذكورة في تفسير قوله سبحانه: (لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُوَْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
____________
(1)الاَحكام السلطانية: 7.
(2)السيرةالنبوية:1|431ـ 438.
——————————————————————————–
( 104 )
فَعَلِمَ ماَ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) .(1)
يذكر المفسرون أنّ رسول اللّه – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- بعث رسولاً في صلح الحديبية إلى قريش، وقد شاع أن َّ مبعوث النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- قد قتل، فاستعدّ المسلمون للانتقام من قريش، ولمّا رأى النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- أنّ الخطر على الاَبواب، وبما أنّ المسلمين لم يخرجوا للقتال وإنّما خرجوا للعمرة، قرر رسول اللّه – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- أن يُجدِّد بيعته مع المسلمين فجلس تحت شجرة وأخذ أصحابه يبايعونه على الاستقامة والثبات والوفاء واحداً بعد الآخر، ويحلفون له أن لا يتخلّوا عنه أبداً وأن يدافعوا عن حياض الاِسلام حتى النفس الاَخير، وقد سميت هذه البيعة «بيعة الرضوان».(2)
وقد بايعت الموَمنات النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- في فتح مكة، وقد ذكر التفصيلَ قوله سبحانه وقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جاءَكَ الْمُوَْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللّهِشَيْئاً ولا يَسْرِقنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَولادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرينَهُ بَيْنَ أَيدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وََ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيم) .(3)
* نقد فكرة انّ البيعة أساس الحكم
لو أمعن القارىَ الكريم في تفاصيل الموارد التي بايع فيها المسلمون ـكلّهم أو بعضهمـ قائدهم يقف على أنَّه لم تكن ا لغاية منالبيعة الاعتراف بزعامة الرسول و رئاسته فضلاً عن نصبه و تعيينه، بل كان الهدف التأكيد العملي
____________
(1)الفتح: 18.
(2)السيرة النبوية: 2|315.
(3)الممتحنة: 12.
——————————————————————————–
( 105 )
على الالتزام بلوازم الاِيمان المسبق، ولذلك نجد جرير بن عبداللّه، قال: بايعت رسولاللّه – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- على إقام الصَّلاة، و إيتاءالزَّكاة، و النصح لكلِّ مسلم.(1)
وقال أيضاً: «و أن تدفعوا عني العدو حتى الموت(2) ولا تفرُّوا من الحرب».(3)
والحاصل أنّ البيعة كانت تأكيداً للاِيمان الذي أظهروه برسالته ونبوَّته فلازم ذلك إطاعة قوله وأمره، فكانت البيعة تأكيداً لما أضمروا من الاِيمان.
نعم لا يمكن أن ينكر أنّ البيعة في العهود التي أعقبت وفاة النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- كانت طريقاً لتنصيب الحاكم وذلك تقليداً للجاهلية، حيث كان الرائج فيها انّه إذا مات أمير أو رئيس عمدوا إلى شخص فأقاموه مقام الراحل من خلال البيعة.
والظاهر أنّ تعيين بعض الخلفاء من خلال البيعة كان تقليداً لما كان رائجاً بينهم قبل الاِسلام ، ولا يكون هذا دليلاً تاريخياً أو شرعياً على أنّ البيعة طريق لتعيين الخليفة، بغض النظر عن سائر المواصفات والضوابط، و غاية ما هناك أنّالبيعة إحدى الطرق فيما لم يكن هناك نص إذا كان المبايع واجداً للملاكات والمواصفات التي يجب أن يتمتع بها الحاكم.
____________
(1) كتاب الاِيمان.: لاحظ ايضاً صحيح البخاري،5|55، بيعة الاَنصار.
(2)مسند أحمد:4|15.
(3)مسندأحمد:3|292.