( 130 )
آل عمران
13
التمثيل الثالث عشر
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَولادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصحَابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ * مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ في هذِهِ الحَياةِ الدُّنيا كَمَثَلِ ريحٍ فِيها صِرّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون ).(1)
تفسير الآيات
الصرّ : الريح الباردة نحو صرصر، قال الشاعر:
لا تعدلنّ أتاويين (2)تضربهمنكباء صرّ بأصحاب المحلات
ونقل الطبرسي عن الزجّاج أنّه قال: الصرّ صوت لهب النار التي كانت في تلك الريح، وأضاف: و يجوز أن يكون الصرّ صوت الريح الباردة الشديدة.
وعلى كلّ تقدير فالمراد هو الريح السامة التي تهلك الحرث.
والمراد من (حرث قوم ظلموا أنفسهم )الذين زرعوا في غير موضع
____________
1 ـ آل عمران: 116ـ 117.
2 ـ الاَتاوي: جمع الاِتاوة: الخراج .
( 131 )
الزراعة أو في غير وقتها، فهبّت عليه العواصف فذهب أدراج الرياح، إذ لا شكّ انّ للزمان و المكان تأثيراً بالغاً في نمو الزرع، فالنسيم الهادىَ الذي يهب على الزرع ويلامسه والاَرض الخصبة كلها عوامل تزيد في طراوة الزرع ونضارته.
هذا هو المشبه به، فالكافر إذا أنفق ماله في هذه الحياة الدنيا بغية الانتفاع به، فهو كمن زرع في غير موضعه أو زمانه، فلا ينتفع من إنفاقه شيئاً، فانّ الكفر وما يتبعه من الهوى يبيد إنفاقه، ولذلك قال سبحانه: (إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْني عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَولادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً ).
( 132 )
الاَنعام
14
التمثيل الرابع عشر
(أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِى بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُون ). (1)
تفسير الآية
نزلت الآية في حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل بن هشام، و ذلك انّ أبا جهل آذى رسول الله فأخبر بذلك حمزة، وهو على دين قومه، فغضب وجاء ومعه قوس فضرب بها رأس أبي جهل وآمن، وهو المروي عن ابن عباس.
وقيل: إنّها نزلت في عمار بن ياسر حين آمن وأبي جهل، و هو المروي عن أبى جعفر، ولكن الظاهر انّها عامة في كلّ موَمن وكافر، ومع ذلك لا يمنع هذا نزولها في شخصين خاصين.
ففي هذه الآية تمثيلات وتشبيهات جعلتها من قبيل التشبيه المركب نذكرها تباعاً:
1. يقول سبحانه: (أَوَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ )وقد شبّه الكافر بـ”الميت” الذي هو مخفف الميّت والموَمن بالحي.
____________
1 ـ الاَنعام:122.
( 133 )
وليست الآية نسيجاً وحدها فقد شبّه الموَمن في غير واحد من الآيات بالحي، والكافر بالميت، قال سبحانه: (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوتَى )(1) (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيّاًً) (2) و (وَما يَسْتَوِي الاََحْياءُ وَلاَ الاََمْواتُ ). (3)
2. يقول سبحانه: (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشي بِهِ فِي النّاسِ) فقد شبّه القرآن بالنور، حيث إنّ الموَمن على ضوء القرآن يشق طريق السعادة، قال سبحانه: (يا أَيُّهَا النّاسُ قَد ْ جاءَكُم بُرهانٌ مِنْ رَبّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبيناً ). (4)
وقال سبحانه: (مَا كُنْتَ تَدري مَا الكِتابُ ولاَ الاِِيمَانُ ولكِن جَعَلْناهُ نُوراً)(5) ، فالقرآن ينوّر الدرب للموَمن.
3.يقول سبحانه (كمَن مَثله فِي الظُلمات لَيْس بِخارجٍ مِنْها )، فالمراد من الظلمة إمّا الكفر أو الجهل، ويوَيد الاَوّل قوله سبحانه: (اللهُ وَلِيُّ الّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّور ). (6)
ثمّ إنّه سبحانه شبه الكافر بالذي يمكث في الظلمات لا يهتدى إلى شيء بقوله: (كَمَنْ مَثَلهُ فِي الظُّلمات )ولم يقل: كمن هو في الظلمات، بل توسط لفظ المثل فيه، ولعل الوجه هو تبيين انّه بلغ في الكفر والحيرة غاية يضرب به المثل.
هذا هو تفسير الآية على وجه التفصيل.
____________
1 ـ الروم:52.
2 ـ يَس:70.
3 ـ فاطر:22.
4 ـ النساء:174.
5 ـ الشورى:52.
6 ـ البقرة:257.
( 134 )
وحاصل الآية: انّ مثل من هداه الله بعد الضلالة ومنحه التوفيق لليقين الذي يميز به بين المحق والمبطل، والمهتدي والضال، ـ مثله ـ من كان ميتاً فأحياه الله و جعل له نوراً يمشي به في الناس مستضيئاً به، فيميز بعضه من بعض.
هذا هو مثل الموَمن، ولا يصح قياس الموَمن بالباقي على كفره غير الخارج عنه، الخابط في الظلمات المتحير الذي لا يهتدي سبيل الرشاد.
وفي الحقيقة الآية تشتمل على تشبيهين:
الاَوّل: تشبيه الموَمن بالميّت المحيا الذي معه نور.
الثاني: تشبيه الكافر بالميّت الفاقد للنور الباقي في الظلمات، والغرض انّ الموَمن من قبيل التشبيه الاَوّل، دون الثاني.
( 135 )
الاَعراف
15
التمثيل الخامس عشر
(وَهُوَ الّذِي يُرْسِلُ الرّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتّى إِذا أَقلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ المَوتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون * وَالبَلَد الطَّيّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَالّذي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرّفُ الآيات لِقَومٍ يَشْكُرُون ). (1)
تفسير الآية
“أقلّ” من الاِقلال، وهو حمل الشيء بأسره.
والنكد: العسر الممتنع من إعطاء الخير، يقال نكد إذا سئل فبخل ، قال الشاعر:
وأعطي ما أعطيته طيّباًلا خير في المنكود والناكد “البلد الطيب”: عبارة عن الاَرض الطيب ترابها، ففي مثلها يخرج الزرع نامياً زاكياً من غير كدٍّ ولا عناء، كلّ ذلك بإذنه سبحانه.
والبلد الخبيث هي الاَرض السبخة التي خبث ترابها لا يخرج ريعها إلاّ
____________
1 ـ الاَعراف:57ـ 58.
( 136 )
شيئاً قليلاً، و كأنّها لا تعطي إلاّ شيئاً قليلاً وهو بالعسر.
وتصريف الآيات عبارة عن تكررها.
ذكر سبحانه في الآية الا َُولى بأنّه يرسل الرياح مبشرةً برحمته، فإذا حملت سحاباً ثقالاً بالماء ساقه سبحانه إلى بلد ميت فتحيا به الاَرض وتوَتي ثمراتها.
وعاد سبحانه في الآية الثانية إلى القول بأنّ هطول المطر وسقي الاَرض جزء مما يتوقف عليه خروج النبات، وهناك شرط آخر وهو أن تكون الاَرض خصبةصالحة للزراعة دونما إذا كانت خبيثة، هذا هو حال المشبه به.
وأمّا المشبه فهو انّه سبحانه يُشبِّهُ الموَمن بأرض طيبة تلين بالمطر ويحسن نباتها ويكثر ريعها، كما تشبه قلب الكافر بالاَرض السبخة لا تنبت شيئاً، فقلب الموَمن كالاَرض الطيبة وقلب الكافر كالاَرض السبخة.
( 137 )
الاَعراف
16
التمثيل السادس عشر
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغَاوِين *وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاََرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْركْهُ يَلْهَث ذلِكَ مَثَلُ الْقَومِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * ساءَ مَثَلاً الْقَومُ الّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُون ). (1)
تفسير الآيات
النبأ: الخبر عن الاَمر العظيم ومنه اشتقاق النبوة، أخلد إلى الاَرض أي سكن إليها.
السلخ: النزع، وقوله : (أخْلد إلى الاَرض )لصق بها، واللهث أن يدلع الكلب لسانه من العطش، واللهاث حرّ العطش.
هذا هو تفسير مفردات الآية، وأمّا المضمون فالآية تمثيل يتضمن مشبهاً ومشبهاً به، أمّا الثاني فقد اختلفت كلمة المفسرين في المراد منه، فالاَكثر على أنّ المراد هو بلعم بن باعوراء الذي كان عالماً من علماء بني إسرائيل، وقيل من
____________
1 ـ الاَعراف:175ـ177.
( 138 )
الكنعانيين أُوتي علم بعض كتاب الله ، ولكنّه كفر به ونبذه وراء ظهره، فلحقه الشيطان وصار قريناً له وكان من الغاوين الضالين الكافرين.
والاِمعان في الآية يعرب عن بلوغ الرجل مقاماً شامخاً في العلم والدراية، وعلى الرغم من ذلك فقد سقط في الهاوية، وإليك ما يدل على ذلك في الآية:
أ: لفظ (نبأ) حاك عن أنّه كان خبراً عظيماً لا خبراً حقيراً.
ب: قوله: (الذي آتَيْناهُ آياتنا) حاك عن إحاطته بالحجج والبيّنات وعلم الكتب السماوية.
ج: قوله: (فانسلخ منها )يدل على أنّ الآيات والعلوم الاِلهية كانت تحيط به إحاطة الجلد بالبدن إلاّ انّه خرج منها.
ويوَيد ذلك انّه سبحانه يعبر عن التقوى باللباس، ويقول: (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيرٌ ). (1)
د: قوله: (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطان )يدل على أنّ الشيطان كان آيساً من كفره وقد انقطعت صلته به، لكنّه لما انسلخ من الآيات لحقه الشيطان واتبعه فأخذ يوسوس له كلّ يوم إلى أن جعله من الضالين.
إلى هنا تم تفسير الآية الا َُولى، وأمّا الآية الثانية فهي تتضمن حقيقة قرآنية، وهي انّه سبحانه تبارك و تعالى كان قادراً على رفعه وتنزيهه وتقريبه إليه، ولكنّه لم يشأ، لاَنّ مشيئته سبحانه لا تتعلق بهداية من أعرض عنه واتّبع هواه، إذ كيف يمكن تعلق مشيئته بهداية من أعرض عن الله وكذب آياته، ولذلك يقول:
(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها )أي لرفعناه بتلك الآيات “ولكن ما شئنا” وليس
____________
1 ـ الاَعراف:26.
( 139 )
ذلك للبخل منه سبحانه، بل لفقدان الاَرضية الصالحة، لاَنّه أخلد إلى الاَرض ولصق بها، وكأنّها كناية عن الميل والنزوع إلى التمتع بالملاذ الدنيوية، ومعه كيف تشمله العناية الربانية.
ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى وجه آخر لعدم تعلّق مشيئته بهدايته، وهو انّ هذا الاِنسان بلغ في الضلالة والغواية مرحلة صارت سجية وطبيعة له، ومزج بها روحه ونفسه وفطرته، فلا يصدر منه إلاّ التكذيب والاِدبار عن آياته، فلذلك لا يوَثر فيه نصيحة ناصح ولا وعظ واعظ، ولتقريب هذا الاَمر نأتي بتمثيل في ضمن تمثيل، ونقول:
(فَمَثَلهُ كَمَثل الكَلْب انْ تَحْمل عَلَيه يَلْهَث أَوْ تَتْركهُ يَلهَث )، وذلك لاَنّ اللهث أثر طبيعي لسجيته فلا يمكن أن يخلّص نفسه منها.
هذا هو المشبه به، وهو يعرب عن أنّ الهداية والضلالة بيد الله تبارك وتعالى، وقد تعلّقت مشيئته بهداية الناس بشرط أن تتوفر فيه أرضية خصبة توَهله لتعلّق مشيئته تعالى به، فمن أخلد إلى الاَرض ولصق بها، أي أخلد إلى المادة والماديات، فلا تشمله الهداية الاِلهية بل هو محكوم بالضلال لكن ضلالاً اختيارياً مكتسباً.
هذا هو حال المشبه به، وقد عرفت أنّ التمثيل يتضمن تمثيلاً آخر.
وأمّا المشبه فقد اختلفت كلمة المفسرين فيه، فربما يقال: إنّ المراد أُمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر، وكانت قصته انّه قرأ الكتب وعلم أنّ الله سبحانه يرسل رسولاً في ذلك الوقت، ورجا أن يكون هو ذلك الرسول، فلمّـا بعث سبحانه محمداً حسده ومرّ على قتلى بدر فسأل عنهم، فقيل: قتلوا في حربهم مع النبي، فقال: لو كان نبياً لما قتل أقرباءه، وقد ذهب إلى الطائف ومات بها،
( 140 )
فأتت أُخته الفارعة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فسألها عن وفاته، فذكرت له انّه أنشد عند موته:
كل عيش وإن تطاول دهراًصائر مرة إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بداليفي قلال الجبال أرعى الوعولا
إنّ يوم الحساب يوم عظيمشاب فيه الصغير يوماً ثقيلاً ثمّ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لها أنشديني من شعر أخيك فأنشدت:
لك الحمدُ والنعماءُ والفضلُ ربّناولا شيء أعلى منك جدّاً وأمجدُ
مليكٌ على عرش السّماءِ مهيمنٌلعزّته تعنُو الوجوهُ وتسجدُ
ثمّ أنشدته قصيدته التي يقول فيها:
وقف الناس للحسابِ جميعاً فشقيّ معذّب وسعيد والتي فيها:
عند ذي العرش تُعرضونَ عليهيعلمُ الجهرَ والسِـراءَ الخفيّا
يوم يأتي الرحمنُ وهو رحيمإنّه كان وعدُهُ مأتيّا
( 141 )
ربّ إن تعفُ فالمعافاةُ ظنّيأو تُعاقِبْ فلم تعاقِب بريّا
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : “إنّ أخاك آمن شعره، وكفر قلبه” وأنزل الله تعالى الآية.(1)
وقيل: إنّه أبو عامر بن النعمان بن صيفى الراهب الذي سمّاه النبي الفاسق، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، فقدم المدينة، فقال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما هذا الذي جئت به، قال: “جئت بالحنيفية دين إبراهيم”، قال: فأنا عليها، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : “لست عليها ولكنّك أدخلت فيها ما ليس منها”.
فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منّا طريداً وحيداً، فخرج إلى أهل الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدّوا السلاح، ثمّ أتى قيصر وأتى بجند ليخرج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة، فمات بالشام طريداً وحيداً.
والظاهر انّ المشبه ليس خصوص هذين الرجلين، بل كما قال الاِمام الباقر( عليه السلام ): ” الاَصل في ذلك بلعم، ثم ضربه الله مثلاً لكل موَثر هواه على هدى الله من أهل القبلة”. (2)
وفي الآية دلالة واضحة على أنّ العبرة في معرفة عاقبة الاِنسان هي أُخريات حياته، فربما يكون موَمناً في شبابه ويرتد عن الدين في شيخوخته وهرمه، فليس صلاح الاِنسان وفلاحه في عنفوان شبابه دليلاً على صلاحه ونجاته في آخر عمره.
____________
1 ـ مجمع البيان:2|499ـ 500.
2 ـ مجمع البيان:2|500.
( 142 )
وبذلك يعلم أنّ ترضّي القرآن عن المهاجرين والاَنصار في قوله سبحانه: (لَقَدْ رَضِي اللهُ عَنِ الْمُوَْمِنينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ). (1)
ويوَيد ما ذكرناه انّه سبحانه حدّد ظرف الرضا بقوله: (إِذ يُبايعونك )ولا يكون دليلاً على رضاه طيلة حياتهم، فلو دلّ دليل على زلّة واحد منهم، فيوَخذ بالثاني جمعاً بين الدليلين.
وقد يظهر مفاد قوله سبحانه: (والسَّابِقُونَ الاََوّلُونَ مِنَ المُهاجِرينَ وَالاََنْصَارِ وَالّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْري تَحْتَهَا الاََنهَارُ خالِدينَ فِيهَا أَبَداً ذلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ ). (2)
فانّ الآية دليل على شمول رضى الله لهم، فيوَخذ بالآية مالم يدل دليل قطعي على خلافها، فلو ثبت بدليل متواتر أو خبر محفوف بالقرينة ارتداد واحد منهم أو صدور معصية كبيرة أو صغيرة، فيوَخذ بالثاني، وليس بين الدليلين أي خلاف، إذ ليس مقام صحابي أو تابعي أعلى من مقام ما جاء في هذه الآية، أعني من آتاه الله سبحانه آياته وصار من العلماء الربانيين ولكن اتبع هواه فانسلخ عنها.
فما ربما يتراءى من إجماع غير واحدمن المفسرين بهذه الآيات كلى عدالة كافة الصحابة فكأنّها غفلة عن مفادها وإغماض عما صدر عن غير واحد من الصحابة من الموبقات والمعاصي والله العالم.
____________
1 ـ الفتح:18.
2 ـ التوبة:100.
( 143 )
سورة التوبة
17
التمثيل السابع عشر
(وَالذّين اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُوَْمِنينَ وإِرْصاداً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاّ الحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَومٍ أَحقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهّرين * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ على تَقْوَى مِنَ اللهِوَرِضْوانٍ خَيرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدي القَومَ الظّالِمين ). (1)
تفسير الآيات
“الضرار”: هو إيجاد الضرر عن عناد.
“الاِرصاد” بمعنى الاِعداد.
“البنيان” مصدر بنى.
و “التقوى” خصلة من الطاعة يحترز بها عن العقوبة، والواو فيه مبدلة من الياء لاَنّها من وقيت.
“شفا”: شفا البئر وغيره، جُرفُه، ويضرب به المثل في القرب من الهلاك.
____________
1 ـ التوبة:107ـ 109.
( 144 )
“الجرف” جرف الوادي جانبه الذي يتحفر أصله بالماء،وتجرفه السيول فيبقى واهياً.
قال الراغب: يقال للمكان الذي يأكله السيل فيجرفه، أي يذهب به، جرف هار البناء وتهوّر : إذا سقط، نحو: إنهار.
ذكر المفسرون انّ بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء، وبعثوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتيهم، فأتاهم وصلى فيه، فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غُنْم بن عوف، فقالوا: نبني مسجداً فنصلي فيه ولا نحضر جماعة محمد وكانوا اثني عشر رجلاً، وقيل خمسة عشر رجلاً، منهم: ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، ونبتل بن الحرث، فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء، فلمّا فرغوا منه، أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يتجهّز إلى تبوك.
فقالوا: يا رسول الله إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي فيه لنا وتدعو بالبركة.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) :”إنّي على جناح سفر، ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلّينا لكم فيه”، فلمّـا انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد.
إنّ الآية تشير إلى الفرق الشاسع بين من بنى بنياناً على أساس محكم، ومن بناه على شفا جرف، فالاَوّل يبقى عبر العصور ويحتفظ بكيانه في الحوادث المدمرة، بخلاف الثاني فانّه سوف ينهار لا محالة بأدنى ضربة.
فالموَمن هو الذي يعقد إيمانه على قاعدة محكمة وهو الحقّ الذي هو تقوى الله ورضوانه، بخلاف المنافق فانّه يبني إيمانه على أضعف القواعد
( 145 )
وأرخاها وأقلّها بناءً وهو الباطل، فإيمان الموَمن و دينه من مصاديق قوله: (أَفَمَنْ أسَّس بُنيانه على تقوى من الله ورضوان )ولكن دين المنافق كمن (أسّس بنيانه على شفا جرف هار )فلا محالة ينهار به في نار جهنم.
( 146 )
سورة يونس
18
التمثيل الثامن عشر
(إِنَّما مَثَلُ الحَياة الدُّنيا كَمَاءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الاََرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النَّاسُ والاََنْعَامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الاََرْضُ زُخْرُفَهَا وَ ازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْهَا أَتاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأن لَمْ تَغْنَ بالاَمْسِ كَذلِكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُون * واللهُ يَدعُو إلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ). (1)
تفسير الآيات
قوله: (فاخَتلَطَ بهِ نَبات الاََرض )فلو قلنا بأنّ الباء للمصاحبة، يكون معناه أي اختلط مع ذلك الماء نبات الاَرض، لاَنّ المطر ينفد في خلل النبات، وإن كانت الباء للسببية يكون المراد انّه اختلط بسبب الماء بعض النبات ببعض حيث إنّ الماء صار سبباً لرشده والتفاف بعضه ببعض.
قوله: (ازّيّنت )أصله تزينت، فادغمت التاء بالزاى وسكِّنت الزاي فاجلبت لها ألف الوصل.
فقوله: (أخذت الاََرْضُ زُخرفها وازَّيّنت )تعبير رائع حيث جعلت
____________
1 ـ يونس:24ـ 25.
( 147 )
الاَرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كلّ لون فاكتستها وتزينّت بغيرها من ألوان الزين.
قوله: (قادرون عليها )، أي متمكنون من استثمارها والانتفاع بثبوتها.
قوله: (أتاها أمرنا )كناية عن نزول بعض الآفات على الجنات والمزارع حيث يجعلها “حصيداً” شبيهاً بما يحصد من الزرع في استأصاله.
قوله: (كأن لم تغن )بمنزلة قوله: كأن لم ينبت زرعها.
قوله: (دار السلام )فهو من أوصاف الجنة، لاَنّ أهلها سالمون من كل مكروه، بخلاف المقام فانّها دار البلاء.
هذا ما يرجع إلى تفسير مفردات الآية.
وأمّا تفسيرها الجملي، فنقول:
نفترض أرضاً خصبة رابية صالحة لغرس الاَشجار وزرع النبات وقد قام صاحبها باستثمارها من خلال غرس كلّ ما ينبت فيها، فلم يزل يتعاهدها بمياه الاَمطار والسواقي، فغدت روضة غنّاء مكتظة بأشجار ونباتات متنوعة، وصارت الاَرض كأنّها عروس تزيّنت وتبرجت، وأهلها مزهوّون بها يظنّون انّها بجهدهم ازدهرت، وبإرادتهم تزيّنت وانّهم أصحاب الاَمر لا ينازعهم فيها منازع. فيعقدون عليها آمالاً طويلة، ولكن في خضم هذه المراودات يباغتهم أمره سبحانه ليلاً أو نهاراً فيجعل الطري يابساً، كأنّه لم يكن هناك أي جنة ولا روضة.
هذا هو المشبه به والله سبحانه يمثل الدنيا بهذا المثل، وهو انّ الاِنسان ربما يغتر بالدنيا ويعوّل الكثير من الآمال عليها مع سرعة زوالها وفنائها، وعدم ثباتها واستقرارها.
( 148 )
يقول موَيد الدين الاصفهاني المعروف بالطغرائي في لاميته المعروفة بلامية العجم:
ترجو البقاء بدار لا ثبات لهافهل سمعت بظل غير منتقل وقد أسماها سبحانه متاع الحياة الدنيا في مقابل الآخرة التي أسماها بدار السلام في الآية التالية، وقال: (الله يدعو إلى دار السلام ).
ثمّ إنّه يبدو من كلام الطبرسي انّ هذا التمثيل من قبيل التمثيل المفرد، فذكر أقوالاً:
أحدها : انّه تعالى شبَّه الحياة الدنيا بالماء فيما يكون به من الانتفاع ثمّ الانقطاع.
وثانيها : إنّه شبهها بالنبات على ما وصفه من الاغترار به ثمّ المصير إلى الزوال عن الجبائي وأبي مسلم.
وثالثها: إنّه تعالى شبَّه الحياة الدنيا بحياة مقدَّرة على هذه الاَوصاف. (1)
والحقّ أنّه من قبيل الاستعارة التمثيلية حيث يعبر عن عدم الاعتماد والاطمئنان بالدنيا بما جاء في المثل، وإنّما اللائق بالاعتماد هو دار السلام الذي هو سلام على الاِطلاق وليس فيها أي مكروه.
وقد قيّد سبحانه في الآية دار السلام، بقوله: (عند ربّهم) للدلالة على قرب الحضور وعدم غفلتهم عنه سبحانه هناك.
ويأتي قريب من هذا المثل في سورة الكهف، أعني :قوله:
____________
1 ـ مجمع البيان:3|102.
1 ـ مجمع البيان:3|102.
( 149 )
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الاََرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ على كُلّ شَىْءٍ مُقْتَدراً ). (1)
وسيوافيك بيانها في محلها.
ويقرب من هذا ما في سورة الحديد، قال سبحانه:
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ولَهْو وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ في الاََمْوالِ وَالاََولادِ كَمَثلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهيج فَتَراهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إِلاّ مَتاعُ الغُرُور ). (2)
____________
1 ـ الكهف:45.
2 ـ الحديد:20.
( 150 )
سورة هود
19
التمثيل التاسع عشر
(إِنَّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات وَأَخْبتُوا إِلى رَبّهِمْ أُولئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُون * مَثَلُ الفَريقَين كَالاََعْمى وَالاََصَمّ وَالبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُون ). (1)
تفسير الآيات
يصوّر سبحانه الكافر كالاَعمى والاَصم، والموَمن بالبصيروالسميع، ثمّ ينفي التسوية بينهما ـ كما هو معلوم ـ غير انّ هذا التمثيل يستقي مما وصف به سبحانه كلا الفريقين بأوصاف خاصة.
فقال في حقّ الكافر: (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُون ). (2)
والمراد كان لهم أسماعاً وأبصاراً ولكنّهم لم يكونوا يستخدمونها في سماع الآيات وروَية الحقائق، فنفي الاستطاعة كناية عن عدم استخدام الاَسماع، كما أنّ نفى الاَبصار كناية عنه.
ثمّ إنّه سبحانه وصف الموَمن في الآية التالية بأوصاف ثلاثة:
____________
1 ـ هود:23ـ 24.
2 ـ هود:20.
1 ـ هود:23ـ 24.
2 ـ هود:20.