المنهج الجديد في تربية الطفل 3
January 5, 2022
بحوث اسلامية
871 Views
الدرس الثالث: هدف تربية الطفل
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف أهمية الهدف ومعناه في اللغة والاصطلاح الفلسفيّ والتربويّ.
2- يُميّز بين أقسام الهدف التربويّ شكلاً ومضموناً.
3- يربط بين معنى الكمال والهدف التربويّ.
4- يُحدّد هدف تربية الطفل بشكل واضح.
تمهيد
اتّضح ممّا تقدّم في تعريف التربية – الدرس الأوّل – أنّ هدف التربية: “إيصال الطفل المتربِّي إلى الكمال المستعدّ له”.
وفي هذا الدرس[1] سنتوقّف عند تحليل معنى الهدف، ومعنى الكمال، ثمّ نقوم بعملية الربط بينهما.
ما هو الهدف لغة؟
الهدف لغة اسم لكلّ شيء مرتفع، ومنه سُمّي الغرض هدفاً[2]. قال ابن فارس: “هدف:… يدلّ على انتصاب وارتفاع… والهدف: الغرض“[3].
ما هو الغرض لغة؟
الغرض والهدف في اللغة العربية بمعنى واحد[4]. قال الراغب الأصفهانيّ: “الغرض: الهدف المقصود بالرمي، ثمّ جعل اسماً لكلّ غاية يتحرّى إدراكها”[5].
ما هي الغاية لغة؟
أصل الغاية في اللغة العربية: الراية، وسُمّيت نهاية الشيء غايته، لأنّ كلّ قوم ينتهون إلى
غايتهم في الحرب أي رايتهم، ثم كثر حتى قيل لكلّ ما ينتهي إليه غاية[6]. فالغاية أقصى الشيء ومنتهاه[7].
وبهذا يتبيّن أنّ الغاية والغرض والهدف بمعنى واحد، وسنستعمل هذه المفردات الثلاث بمعنى مترادف في الكتاب.
الغرض والغاية بالاصطلاح الفلسفيّ
الغرض من الشيء ما لأجله ذلك الشيء[8].
والغرض: “غاية فعل فاعل يوصف بالاختيار“[9].
والغرض: “مراد الفاعل من الفعل إذا انتهى إليه“[10].
والغاية: الفائدة المقصودة من الفعل، بمناسبة انتهاء الفعل إليها، أي ما يفعل الفاعل فعله لأجله[11].
الهدف في الاصطلاح التربويّ
إنّ مصطلح الهدف بالمعنى الواسع في العلوم التربوية له مفهوم تتقاطع عنده التعريفات، فقد عرّف الهدف التربويّ بأنّه: “الغاية أو النتيجة التي يُصار إلى تحقيقها بعد القيام بمجهود معيّن“[12].
أو “المتغيّر المطلوب الذي تسعى العملية التربوية أو الجهد التربويّ إلى تحقيقه“[13].
يقول محمد حسنين العجمي: “الأهداف هي النتائج المطلوب تحقيقها في المستقبل، وإذا كان المطلوب تحقيق هذه النتائج في المستقبل البعيد فإنّها تُسمّى غايات، وأهدافاً استراتيجية، أمّا إذا كان تحقيقها في الأجل القصير فإنّها تُسمّى أهدافاً تكتيكية”[14].
وإذا رصدنا تقسيمات الهدف في العلوم التربوية المعاصرة، نُلاحظ وجود نوعين من التقسيم، التقسيم الشكليّ للأهداف، والتقسيم المضمونيّ.
التقسيم الشكليّ للأهداف
يُلاحظ أنّ مفردة الهدف تُستعمل في العلوم التربوية المعاصرة بعدّة معانٍ، على الشكل التّالي[15]:
1- الأغراض التربوية Educational pur poses: وهي تُمثّل النتائج النهائية المرغوب فيها من الناحية التربوية، وتُعتبر من أكثر مفاهيم الأهداف شمولاً، وتحتاج إلى وقت طويل لتحقيقها، مثل: إعداد الإنسان العابد، فهو غرض للتربية أو هدف نهائيّ لها.
2- الغايات التربوية Educational Aims: وهي أيضاً تُشابه الأغراض التربوية من حيث كونها أهدافاً بعيدة المدى، لكنّها أقلّ عمومية منها، فهي تقع بعد الأغراض التربوية في التصنيف، مثل: المشاركة الفاعلة للفرد في الحياة الاجتماعية.
3- الأهداف العامة التربوية Educational Goals: وهي تقع في منتصف الطريق بين الغايات التربوية والأهداف التربوية الخاصّة المذكورة أدناه، كالأهداف المطروحة لبرنامج تربويّ محدّد، مثل: الاستثمار الأمثل لأوقات الفراغ.
4- الأهداف الخاصّة التربوية: وهي عبارة عن الإجراءات التي ينبغي القيام بها وتنفيذها من أجل تحقيق الأهداف العامّة على مستوى التطبيق الفعلي لها في زمان ومكان محدّدين. ويُعبّر عنها بالأهداف السلوكية، أو الأهداف الإجرائية. ويكون هذا النوع من الأهداف قابلاً للقياس والملاحظة[16].
وبهذا يتبيّن أنّ الجامع المشترك للأهداف بالتقسيمات المختلفة هو: النتيجة المطلوب تحقيقها في المستقبل من خلال القيام بعمل ما أو مجموعة أعمال محدّدة.
تقسيم شكليّ آخر للأهداف
وبهذا يتبيّن أنّه يُمكن تقسيم الهدف إلى ثلاثة أقسام:
1- الهدف النهائيّ: وهو ما يكون مطلوباً بذاته حسب قصد الفاعل[17]. وبهذا يتبيّن أنّه يُرادف الغرض التربويّ (أو الغاية على بعض الآراء)[18].
2- هدف وسيط: وهو ما يكون مطلوباً لأجل التوصّل به إلى هدف آخر أعلى منه[19]. وبهذا يتبيّن أنّه يُرادف الغاية التربوية والأهداف العامّة التربوية.
3- هدف سلوكيّ: وهو الأداء العمليّ الذي يقوم به المتربّي، وهو هدف جزئيّ يحصل في زمان خاص محدّد[20]. وبهذا يظهر أنّه يُرادف الهدف الخاصّ التربويّ.
وبهذا يتّضح، أنّ تصنيف الأهداف إلى وسيطة ونهائية أمر نسبيّ يختلف بالقصود والوجوه والاعتبارات، فقد يكون الهدف وسيطاً لشخص ونهائياً لآخر. نعم، لا بدّ من وجود هدف تنتهي عنده سلسلة الأهداف، ويُعتبر هو الهدف الذي ليس بعده هدف آخر.
ما هو الكمال مفهوماً؟
1- الكمال لغة[21] يدلّ على تمام الشيء[22]. وتتمّة كلّ شيء ما يكون تماماً لغايته[23]. والكمال الانتهاء إلى غاية ليس وراءها مزيد من كلّ وجه[24]. فالكمال لغة هو الوصول إلى الغاية المطلوبة والهدف المنشود.
قال الراغب الأصفهانيّ: “كمال الشيء حصول ما فيه الغرض منه، فإذا قيل: كَمُلَ، فمعناه حَصَلَ ما هو الغرض منه“[25].
وقد عرّف الفلاسفة والعرفاء الكمال بهذا المعنى أيضاً[26].
فالكمال في تربية الطفل معناه وصول الطفل إلى الهدف الذي هو مقتضى طبيعته وفطرته.
تحليل المبادئ النفسية للفعل الإنسانيّ
لكي يتجلّى المعنى المراد من الهدف (الغاية والغرض) بشكل واضح سنقوم بتحليل مبادئ الفعل الاختياريّ الإنسانيّ من وجهة نظر علم النفس الفلسفيّ. وقد لخّص المطلب نصير الدين الطوسيّ بقوله: “والفاعل منّا يفتقر إلى تصوّر جزئيّ ليتخصّص الفعل، ثم شوق، ثم إرادة، ثم حركة من العضلات، ليقع منّا الفعل”[27].
بيان ذلك: أنّ الفعل الإنسانيّ ينطلق من مجموعة مبادئ نفسية، مرتّبة هندسياً على الشكل التالي[28]:
أولاً: (المعرفة) أن يتصوّر الإنسان ما في الفعل من كمال ومصلحة أو مفسدة، كأن يتصوّر أنّ في العفو عن الطفل فلان عند الإساءة مصلحة له وللطفل.
ثانياً: (الاعتقاد) أن يُصدّق ويعتقد الإنسان بجلب الفعل الكذائيّ – كالعفو – الكمال والمصلحة له (وللطفل المتربّي) أو المفسدة، وكذا في جانب الترك، فإذا اعتقد بذلك تتشكّل عنده قضية عملية مفادها: فعل العفو واجب.
ثالثاً: (الحبّ والشوق) بعد المعرفة والاعتقاد تتولّد في القلب حالة من الميل والحبّ فالشوق والرغبة بالفعل (بسبب القوّة الشهوية)، أو حالة من الكراهة والنفور (بسبب القوّة الغضبية)[29].
رابعاً: (الإرادة) والعزم والتصميم نحو الفعل أو الترك.
خامساً: إصدار الأمر بالفعل أو الترك من قِبَل القوّة العاملة للبدن للقيام بالعمل، أي بعث أو زجر النفس والقوّة العاملة للعضلات والأعضاء والجوارح نحو العمل.
النتيجة: حصول الفعل في الخارج، فتتحقّق المصلحة، أو عدم حصوله (إذا كان المطلوب ترك الفعل كضرب الطفل مثلاً) فتندفع المفسدة.
بعد هذه المقدّمات، يتّضح أنّ تصوّر المصلحة في الفعل الذي هو عبارة عن الهدف المراد الوصول إليه من قِبَل المربّي، له دور أساس في تحريك المربّي نحو القيام بعملية التربية بأسلوب العفو مثلاً، ولذا يُطلق على هذه المرحلة من تصوّر الهدف اسم العلّة الغائية، فتصوّر الهدف هو الذي يُحرّك المربّي نحو التربية، وبعد صدور الفعل التربوي تتحقّق الغاية أي الهدف العمليّ[30].
ما هو وجه الحاجة لمعرفة الهدف التربويّ؟
انطلاقاً ممّا تقدّم يتّضح أنّ المربّي والمتربّي كليهما يحتاجان إلى معرفة الهدف الحقيقيّ والواقعيّ للعمليات التربوية، فإنّ معرفة الهدف تُساعد المربّي على إيصال المتربّي إليه، كما تُعينه على تحديد ما هي الطرائق والأساليب والوسائل التي يستطيع من خلالها إيصال المتربّي إلى هدفه، وتُساعده أيضاً على تحديد وتقويم مدى فعالية العمليات التربوية
التي يعتمدها في تحقيق الهدف.
كما تُساهم أيضاً في جعل المربّي قادراً على المقارنة والمقايسة بين الهدف النظريّ من جهة والهدف العمليّ من جهة ثانية، بمعنى هل ما تمَّ رسمه على المستوى النظريّ من أهداف من أجل تحقيقه بواسطة العمليات التربوية هو عينه ما تحقّق في الواقع فعلاً بعد التربية أم لا.
كما أنّ معرفة الهدف تُساعد المتربّي على معرفة المطلوب منه وتُثير فيه الدافعية نحو التربّي[31].
ما هو الكمال مصداقاً؟
تقدّم البحث عن الكمال مفهوماً، وقد حان الوقت لبيان المصداق الحقيقيّ للكمال، فما هو المصداق الذي ينطبق عليه مفهوم الكمال ذاتاً؟
تقوم فلسفة التربية الإسلامية على الاعتقاد بأنّ الله تعالى هو الكمال الذاتيّ وما عداه لا ينال الكمال إلا ببركة فيضه تعالى[32]. نعم، قد يُخطئ الإنسان في تشخيص المصداق الواقعيّ، فيحسب ما ليس بكمال كمالاً له. وبما أنّ الكمال والغاية متّحدان مصداقاً، فإنّ الغاية الحقيقية هي الله تعالى، وهو (تعالى) غاية كلّ ذي غاية[33].
الغاية الحقيقية للتربية الإسلامية
وبهذا يتّضح أنّ الغاية النهائية للتربية الإسلامية هي مساعدة الطفل على الوصول إلى الكمال المطلوب له، أي القرب من الله تعالى، وبعبارة أخرى: الهدف الميتا -استراتيجيّ لتربية الطفل وصوله إلى مقام العبودية والقرب من الله تعالى. قال عزّ وجلّ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[34].
إشكالية هدفيّة القرب من الله تعالى لعملية تربية الطفل
انطلاقاً من تحليل معنى الهدف والكمال من جهة، وربطهما بالقرب من الله تعالى من جهة ثانية، والأخذ بعين الاعتبار أنّ الطفل غير مكلّف من جهة ثالثة، وأنّ قيامه بالأعمال العبادية ما قبل سنّ التمييز ليس عبادياً أي لا يقع قُربيّاً بالاتّفاق، وبعد سنّ التمييز موضع خلاف بين المشروعية والتمرينية، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يُمكن جعل هدف تربية الطفل إيصاله إلى القرب من الله تعالى؟
ويقع الجواب عن هذا السؤال في عدّة نقاط:
أوّلاً: ذكرنا أنّ الهدف ينقسم إلى نهائيّ، ووسيط، وسلوكيّ، والأهداف السلوكية والوسيطة تقع على صراط الوصول إلى الهدف النهائيّ، والوصول إلى الهدف النهائيّ لا يشترط فيه عقلاً وعقلائياً وشرعاً فترة زمنية محدّدة، ولذا نرى أنّ التخطيط الاستراتيجيّ في وقتنا الحاضر كثيراً ما يستعمل كلمات مثل: “خطّة عشرية” و”خطّة عشرينية“، أي أنّه يُراد حصد ثمار الخطّة بعد عشر أو عشرين سنة، وكلّ السياسات والتدابير والإجراءات التي تمتدّ من 0 سنة وحتّى 20 سنة مثلاً، هي في الحقيقة عنصر مساهم في التقدّم خطوة خطوة وشيئاً فشيئاً نحو تحقيق الهدف النهائيّ، ومقياس النجاح أو الفشل بالنسبة للهدف النهائيّ إنّما يحصل بعد انتهاء السقف الزمنيّ المنوطة به الخطّة الاستراتيجية، وليكن أمر التربية كذلك بالنسبة للطفل، فإنّ التربية هي عبارة عن عملية تدريجية مستدامة طويلة الأمد، تزوّد الطفل بالخصائص والفعليات والقابليات والاستعدادات التي تجعله عند بلوغ سنّ التكليف إنساناً ربّانياً متقرّباً من الله تعالى. وقد اتّضحت هذه النقطة ممّا ذكرناه سابقاً من أنّ الهدف الميتا -استراتيجيّ هو النتيجة المطلوب وصول المتربّي إليها في المستقبل البعيد.
ثانياً: ينقسم الكمال إلى نوعين: حقيقيّ- دينيّ[35]، وطبيعيّ – إضافيّ.
ونقصد بالكمال الحقيقيّ: الوصول إلى منزلة القرب من الله تعالى بمفهومها التشكيكيّ الواسع[36].
أمّا الكمال الإضافيّ: فهو تحقّق ما فيه الكمال للشيء بحسب طبيعته المقتضية له، حتّى لو لم يكن فاعلاً مختاراً أصلاً، فوصول النبات أو النحل أو الطير…إلخ بفعل الرعاية والاهتمام من قِبَل المزارع أو غيره إلى إنتاج ما هو متوقّع منها يُعتبر تربية حقيقة، رغم كون العملية التربوية في هذا المجال غير متعلّقة بالتقرّب من الله تعالى. وهكذا الأمر في الطفل، فإنّ وصول الطفل إلى حياة صحّية بدنياً خالية من الأمراض من خلال اعتماد نظام غذائيّ معيّن، أو تعويد الطفل على القيام بالآداب العامة مع والديه كالطاعة والاحترام وتقبيل اليد، أو زرع الإحساس بجمال الطبيعة في نفس الطفل، أو تعليمه الأحرف والكلمات والحساب ورفع أميّته، أو تعليمه مهارات التفكير، أو مهارات سلوكية رياضية…، هي كمالات إضافية للطفل بحسب ما تقتضيه طبيعته وفطرته.
فكلّ عملية تُعطي الطفل المعلومات الصحيحة، وتُكوّن لديه العادات الحسنة، وتُشكّل لديه المهارات العقلية والحركية المفيدة، وتُكسبه الاتّجاهات والمشاعر العاطفية والوجدانية الجميلة، وتمنحه حياة صحّية ونمواً سليماً، وتجعله يُقدِم على الأعمال والسلوكات الخيّرة، هي تربية حقيقية لأنّها إيصال للطفل إلى كمالاته الإضافية، وكمال كلّ شيء بحسبه، ولم يشترط في تعريف التربية إيصال المتربّي إلى كماله الحقيقيّ فقط، بل إيصال المتربّي إلى كمالاته الإضافية هو تربية حقيقة – كما تبنّيناه وذكره السيد البروجردي في تعريفه للتربية -.
ومن الأفضل أن ينطلق المربّي في كلّ الإجراءات والأعمال والأنشطة التي يقوم بها للصناعة الإيجابية لشخصية الطفل من خلفية جعلها واقعة على صراط استعداد وتهيّؤ الطفل ليكون متربّياً بالكمال الحقيقيّ في مرحلة عمرية محدّدة، وعليه لأجل ذلك الأخذ بعين الاعتبار أنّ العمليات التربوية للطفل بهذا المعنى مأخوذة بالنظر الآليّ في مدى تأثير ما يقوم به قولاً وعملاً على تهيئة نفس الطفل لتقبّل الربّانية، لا أن تكون تلك العمليات مأخوذة بالنظر الاستقلاليّ بما هي في حدّ نفسها، وفي هذا السياق كلّما نوى المربّي بالعمليات التربوية نية القربة من الله تعالى، كلّما كانت تربيته للطفل فعلاً عبادياً له ثماره الطيّبة عليه وعلى الطفل نفسه.
ونُشير بهذه المناسبة، إلى أنّ بذل الجهد من أجل إيصال الطفل إلى الكمالات المطلوبة مع عدم تحقّق الهدف واقعاً وتخلّف غاية الفعل عنه بسبب عوامل خارجية أو عناصر متعلّقة
بالمتربّي نفسه، لا ينزع صفة التربية عن مجموع الأعمال التي قام بها المربّي خلال سنوات عديدة، فإنّ من اهتمّ بالبذرة وزرعها في الأرض وسقاها وأنبتت فسيلة ثمّ صارت شجرة وقام بتطعيمها…، وبسبب مرض معيّن أُصيبت به الشجرة فلم تحمل ثمراً، لا يُلغي وصف من قام بسلسلة تلك التدابير بأنّه مربٍّ.
ما هو هدف تربية الطفل؟
بناءً على جميع ما تقدّم، يتّضح أنّ هدف تربية الطفل هو: إيصاله إلى الكمال الذي تقتضيه فطرته وطبيعته، وتنمية استعدادات وقابليات خاصة عند الطفل، تُساعده على أن يكون إنساناً عابداً في المستقبل مع دخوله سنّ التكليف.
التقسيم المضمونيّ للأهداف التربوية
كُنّا قد ذكرنا التقسيم الشكليّ للأهداف التربوية، ونختم الدرس بذكر التقسيم المضمونيّ لأهداف تربية الطفل بشكل مختصر.
هذا التقسيم المضمونيّ للأهداف هو بنحو يتلاءم مع نظرة فلسفة التربية الإسلامية إلى طبيعة الطفل – والذي سنُعالجه في الدرس السادس -، حيث إنّ موضوع التربية هو الطفل والإنسان، ولا بدّ من أن تُقسّم الأهداف بنحو يتناسب مع المكوّنات الذاتية للشخصية الإنسانية.
1- الأهداف العقلية – الفكرية – المعرفية – الاعتقادية (بالمعنى الأعم)[37]: وتتعلّق بالجانب العقليّ والنشاط الذهنيّ والفكريّ من شخصية الطفل، وتهدف إلى تعليم الطفل وإكسابه المعلومات والمعارف والعقائد الضرورية وكيفية التفكير حول الأشياء.
2- الأهداف القلبية – النفسية – الوجدانية: وتتعلّق بالجانب القلبيّ والنفسيّ الداخليّ من شخصية الطفل، وتهدف إلى جعل الطفل يعيش الملكات الفاضلة والمشاعر والانفعالات والاتّجاهات النفسية الإيجابية تجاه الأمور المرغوب فيها، ويعيش الميول السلبية تجاه الأمور غير المرغوبة.
3- الأهداف البدنية – السلوكية – المهاراتية: وتتعلّق بالجانب البدنيّ والجوارحيّ من شخصية الطفل، وتهدف إلى تلبية الاحتياجات البدنية للطفل، وتنمية الجانب الجسميّ له، وإكساب العادات والسلوكات الحسنة، وتدريبه وتأهيله على القيام بالنشاطات البدنية والمهارات الحركية اللازمة من أجل تحقيق الأهداف المطلوبة في الساحات المختلفة.
الساحات التربوية للأهداف المضمونية المختلفة
لكلّ بُعدٍ من تلك الأبعاد الثلاثة المذكورة ساحات معيّنة، هي المجال الحيويّ الذي يتحرّك فيه الطفل من خلال هذه الأبعاد، وتعود إليها ولا تخرج عنها، فالأخلاق والاجتماع والاقتصاد والسياسة والإعلام والجمال والفن والرياضة و… هي ساحات وشؤون تلك الأبعاد الثلاثة، فالتربية الاقتصادية للطفل ليست شيئاً وراء إعطاء المعرفة أو كيفية النظر إلى الأشياء والتفكير فيها (البعد الذهنيّ)، أو تكوين القيم والميول والاتّجاهات، والشوق والتوجه العاطفيّ نحو الشيء… (البعد القلبيّ)، أو إيجاد الفعل والعمل والسلوك أو تعديله وتغييره (البعد البدنيّ)، وهكذا في الساحات الأخرى. وهذه الساحات متطوّرة، بمعنى أنّها تتوسّع دائرتها بنحو لا يُمكن مقارنته مع ما كان سابقاً، كالتربية الجهادية والتربية المهنية والتربية الاقتصادية…، ويُمكن أن تنشأ في كلّ زمان ساحات جديدة، فمثلاً لم يكن في السابق ما يُعرف اليوم بالتربية الإعلامية…إلخ، وعليه، لا بدّ من التمييز بين أهداف التربية بلحاظ الطبيعة الإنسانية الثلاثية الأبعاد للطفل، فهي ثابتة، وبين أهداف التربية بلحاظ شؤون حياة الطفل ومجالات ممارسة نشاطاته العقلية والقلبية والجسدية، فهي عديدة متنوّعة، تختلف من زمان إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، ومن طفل إلى آخر، ومن مرحلة عمرية إلى أخرى.
ومن ساحات التربية بهذا المعنى: التربية الصحّية، التربية البيئية، التربية الإعلامية، التربية الاجتماعية، التربية الجمالية، التربية الفنّية، التربية الرياضية، التربية العبادية، التربية الاقتصادية، التربية الفكرية، التربية الأخلاقية، التربية السياسية[38]… إلخ.
المفاهيم الرئيسة
– يُستعمل الهدف والغرض والغاية في اللغة العربية بمعنى واحد.
– الهدف في الاصطلاح الفلسفيّ عبارة عن الفائدة التي يُريد الفاعل تحقيقها من خلال قيامه بالفعل.
– الهدف بالمعنى التربويّ عبارة عن النتيجة المطلوب تحقيقها في المستقبل من القيام بالعملية التربوية.
– هناك ارتباط خاص بين الهدف والكمال، لأنّ الكمال عبارة عن تحقيق الهدف من وجود الشيء، فالكمال والهدف متّحدان مصداقاً.
– تنقسم الأهداف إلى أهداف شكلية وأهداف مضمونية، وتنقسم الأهداف الشكلية إلى: أهداف عليا نهائية (الأغراض التربوية)، وأهداف متوسّطة (الغايات والأهداف العامة التربوية)، وأهداف خاصة سلوكية.
– تهدف تربية الطفل في الرؤية الإسلامية إلى إيصاله للكمال الذي تقتضيه فطرته وطبيعته، وتنمية استعدادات وقابليات خاصة عنده، تُساعده لكي يكون إنساناً عابداً في المستقبل مع دخوله سنّ التكليف.
– ينقسم الكمال إلى حقيقيّ واقعيّ، ووهميّ خياليّ، والكمال المطلوب إيصال الطفل إليه هو الكمال الحقيقيّ لا الموهوم.
– تنقسم الأهداف مضمونياً في الرؤية التربوية الإٍسلامية بنحو يتلاءم مع النظرة الفلسفية الإسلامية إلى طبيعة الطفل، وهي على ثلاثة أقسام: الأهداف المعرفية -الاعتقادية: وتهدف إلى تعليم الطفل التفكير، وإكسابه المعلومات والمعارف والعقائد الضرورية حول الأشياء. والأهداف القلبية -الوجدانية: وتهدف إلى جعل الطفل يعيش المشاعر والميول الانفعالية والاتّجاهات النفسية الإيجابية تجاه الأمور المرغوب فيها. والأهداف البدنية -المهاراتية: وتهدف إلى إكساب الطفل النشاطات البدنية والمهارات الحركية اللازمة في الحياة، وتأمين احتياجاته البدنية.
أسئلة الدرس
1- عرِّف الهدف التربويّ بأسلوبك الخاصّ.
2- بيّن طبيعة العلاقة بين الهدف التربويّ وبين تحقيق الكمال المطلوب للطفل.
3- اضرب أمثلة على الأهداف التربوية حسب تقسيمها الشكليّ: نهائيّ، وسيط، خاصّ.
4- عالج إشكالية كيف يُمكن أن يكون هدف التربية الإسلامية إيصال الطفل المتربّي إلى الكمال الحقيقيّ الذي هو الله تعالى، في حين أنّ الطفل لا يعرف معنى القرب من الله ولا يُمارسه في حياته.
5- لماذا يحتاج المربّي والمتربّي إلى معرفة وتحديد الأهداف للعمليات التربوية التي يقوم بها؟ اضرب أمثلة على ذلك.
6- اذكر ثلاثة أمثلة على كلّ قسم من أقسام الأهداف المضمونية: ثلاثة أهداف معرفية – عقائدية، ثلاثة أهداف وجدانية – قلبية، ثلاثة أهداف بدنية – سلوكية.
[1] يراجع حول هذا الدرس: عجمي، سامر توفيق، التربية مفهومها غايتها موضوعها، الفصل الثاني، حيث تمت استفادة هذا الدرس من الكتاب المذكور مع تلخيص.
[2] الصحاح، ج4، ص1442.
[3] معجم مقاييس اللغة، ج6، ص39.
[4] كتاب العين، ج4، ص8.
[5] مفردات ألفاظ القرآن، ص359. والصحاح، ج3، ص1093.
[6] الفروق اللغوية، ص382. ومعجم مقاييس اللغة، ج4، ص400.
[7] لسان العرب، ج15، 143.
[8] الرازي، قطب الدين، شرح الإشارات والتنبيهات، ج1، ص8، حاشية رقم: 1.
[9] ابن سينا، الحسين بن عبد الله، الإشارات والتنبيهات، ج3، ص149.
[10] المرتضى، علي بن الحسين، رسائل الشريف المرتضى، ج2، ص278.
[11] اليزدي، محمد تقي مصباح، تعليقة على نهاية الحكمة، ج2، ص59.
[12] الزغول، عماد عبد الرحيم، مقدمة في علم النفس التربوي، ص42.
[13] الشيباني، عمر محمد التومي، تطور النظريات والأفكار التربوية، ص 282.
[14] العجمي، محمد حسنين، الإدارة والتخطيط التربوي النظرية والتطبيق، ص368.
[15] يراجع: سعادة، جودت أحمد، صياغة الأهداف التربوية والتعليمية في جميع المواد الدراسية، ص29-47.
[16] يراجع: مدكور، علي أحمد، نظريات المناهج التربوية، ص229. الدريج، محمد، التدريس الهادف، ص7.
[17] اليزدي، تعليقة على نهاية الحكمة، ج2، ص60.
[18] كما أشار محمد حسنين العجمي، مصدر سابق.
[19] المصدر نفسه، ص60.
[20] الزغول، مصدر سابق، ص44.
[21] يُميّز بعض فقهاء اللغة بين الكمال والتمام، فالتمام مختصّ بالذوات، فيُقال: فلان تام الخِلقة، والكمال مختصّ بالصفات. ويرى بعضهم أنّ: التّمام: الإِتْيانُ بما نَقص من الناقِص. والكَمالُ: الزِّيادةُ على التَّمامِ، فالكَمال تَمامٌ وزِيادَة. ونشير إلى أن بعض الحكماء ميّز بين الكمال والتمام، بأنّ التمام يعني توفّر الشيء على جميع أجزائه، كما في الكتاب التام أو الناقص إذا انتزعت منه بعض أجزائه، أمّا الكمال عبارة عن طيّ الشيء لجميع المراحل التي هيّأتها له الطبيعة. يراجع: مطهري، مرتضى، أصول الفلسفة والمذهب الواقعي، ج2، ص66-67.
[22] معجم مقاييس اللغة، ج5، ص139. ويراجع: كتاب العين، ج5، ص378. والصحاح، ج5، ص1813.
[23] كتاب العين، ج8، ص111.
[24] تاج العروس، ج16، ص76.
[25] مفردات ألفاظ القرآن، ص441.
[26] الشيرازي، محمد المعروف بصدر المتألهين-، المبدأ والمعاد، ص338. والإشارات والتنبيهات، ج3، ص340. وابن الفناري، محمد بن حمزة، مصباح الأنس بين المعقول والمشهود، ص225. ويراجع: عجمي، سامر توفيق، الإنسان الكامل في الرؤية العرفانية الإسلامية، مجلة الحياة الطيبة، تصدر عن جامعة المصطفى العالمية- فرع لبنان، السنة التاسعة عشرة، العدد الثاني والثلاثون، خريف 2015م-1436هـ.
[27] الطوسي، نصير الدين، والحلي، الحسن بن يوسف، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، الفصل الثالث، المسألة التاسعة، ص123.
[28] يراجع حول هذا الموضوع: الطباطبائي، محمد حسين، رسالة الاعتباريات، المقالة الثانية، الفصل الثالث. والطباطبائي ومطهري، أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، المقالة الثامنة، ج2، ص198. والطباطبائي، نهاية الحكمة، المرحلة8، الفصل7، والفصل 12. ص123. واللاهيجي، شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام، ص 242. وابن سينا، الشفاء إلهيات الشفاء-، المقالة السادسة، الفصل الخامس، ص284. وصدر المتألهين، شرح وتعليقة الشفاء، ج2، ص1119. والحكمة المتعالية، ج2، ص251. والسبزواري، هادي، شرح المنظومة، المقصد الأول، الفريدة السابعة، غرر في دفع شكوك عن الغاية، ج2، ص422.
[29] يراجع: الخميني، روح الله، جنود العقل والجهل، ص133-231-277. والنراقي، محمد مهدي بن أبي ذكر، جامع السعادات، ص46.
[30] يراجع: نهاية الحكمة، ص232.
[31] نشواتي، عبد المجيد، علم النفس التربوي، ص106-195-196.
[32] يراجع: كشف المراد، ص415.
[33] نهاية الحكمة، ص236-237.
[34] سورة الذاريات، الآية 56.
[35] تُحدّده المصادر الدينية التي ترسم الهدف من وجود الإنسان.
[36] القرب من الله تعالى مقولة مشكّكة تختلف مراتبها باختلاف علاقة كل فرد بالله تعالى.
[37] لا نقصد بالاعتقادية المعنى الأخص، أي القضايا التي يبحث عنها في علم الكلام والعقيدة، بل نعني بالعقائد كل ما يعتقد به الطفل في الحياة حول أي موضوع من الموضوعات، وباختصار المقصود بالعقائد هنا هو كيفية نظرة الطفل إلى الأشياء المحيطة به.
[38] وهذه الساحات التربوية هي ما سيتم تسليط الضوء عليه ومعالجته في مباحث هذا الكتاب بجزأيه الأول والثاني.
2022-01-05