أسرار الصلاة – الجليل الشيخ الجوادي الآملي 05
10 نوفمبر,2019
صوتي ومرئي متنوع, طرائف الحكم
925 زيارة
الفاتحة في أسرار مقدّمات الصلاة
لعلَّك كنت مقروع السمع بالميز بين السرّ والحكمة والأدب ، حيث إنّ سرّ العبادة – كالصلاة – يرجع إلى ملكوتها وما فوقها ، وما يؤول إلى باطنها .
وأمّا حكمتها : فهي الغاية المترتّبة عليها من العروج ، والنجاة عن الهلع و .
وأمّا أدب العبادة – كالصلاة – فيرجع إلى وصف المصلَّي ، بأن يكون حاضر القلب ، خاشع القالب ، مستديم الذكر ، صائنا عن الالتفات إلى غير المعبود ، مع ماله من الأوصاف الظاهريّة المعهودة ، فأين ذلك من السرّ ؟ فبينهما فرقان .
نعم ، لا ينال سرّ الصلاة إلَّا بحفظ الأدب ، فالآداب علل معدّة ، وأسباب ممدّة لنيل نبذ من إسرارها ، إذ النيل إلى الباطن لا يمكن إلَّا لمن طهر ضميره ، وصفا باطنه ، وسلم قلبه ، فكما أنّ ظاهر القرآن لا يمسّه إلَّا المتطهّر من الحدث ، وباطن القرآن لا يمسّه إلَّا المتطهّر من دنس الذنب كذلك ظاهر الصلاة لا يأتيه إلَّا المتوضّئ أو المغتسل ، وباطنها لا يأتيه إلَّا المتطهّر عن لوث النظر إلى غير المعبود الذي يصلَّى له ، للزوم التناسب بين الشاهد والمشهود ؛ لأنّ المحجوب والمضمور في نشأة لا يشاهد ما فوقها ، ولذا لا يشهد الحسّ ما يشاهده الخيال ، كما لا يشهد الخيال ما يشاهده العقل .
وحيث امتاز سرّ الصلاة عن أدبها كامتياز سرّها عن حكمتها يلزم البحث عن خصوص إسرارها دون آدابها وإن تجشّم الغزاليّ ، ووافقه غير واحد من الأعلام نحو
زين الدين بن عليّ المشهور بالشهيد الثاني رحمه الله ( 911 – 965 ه ق ) ، والمولى محسن القاسانيّ الملقّب بالفيض ، وغيرهما من المتأخّرين في البحث عن حضور القلب والإخلاص والنيّة ، وما إلى ذلك ممّا يرجع إلى آداب الصلاة ، أو أوصاف المصلَّي ، وأين ذلك من البحث عن أسرار الصلاة ولابتيها ؟ لأنّ سرّ الصراط السويّ إلى الصلاة هو غير سرّ السالك إلى المصلَّي وأن لا يسير على سرّ الصلاة وباطنها إلَّا سرّ المصلَّي وباطنه ؛ للزوم التناسب بين السالك والمسلك في العمل كلزوم التناسب بين العالم والمعلوم في النظر .
ثمّ إنّه وإن تقدّم في المدخل أنّ للعقل مدخلا في إثبات الأسرار كالنقل والكشف إلَّا أنّ ذلك فيما يرجع إلى الأمر العامّ والكلَّيّ والمطلق والصرف ، وأمّا الخاصّ والجزئيّ والمقيّد والمشوب فلا دخالة للعقل في شيء من ذلك ؛ لعدم جريان البرهان العقليّ المأخوذ من المقدّمات الكلَّيّة في الأمر الجزئيّ الخاصّ .
نعم ، للعقل أن يبيّن الخطوط الرئيسة ، حتّى لا يناقضها الجزئيّ المنقول أو المشهود . وإنّما المهمّ في إثبات سرّ خاصّ لعبادة مخصوصة هو : النقل المعتبر ، أو الكشف الخالص عن شوب التمثّل الشيطانيّ أو النفسانيّ ، وله ميزان يوزن به عند أهله ، كما أنّ للنقل قسطاسا مستقيما يوزن به عند أهله .
إنّ النظام العينيّ من الواجب والممكن منضود بالنضد العلَّيّ الذي لا يتخطَّاه شيء في أصل وجوده ، ولا في كمال وجوده ، ومن المبيّن في موطنه أنّ الداني لا يؤثّر في العالي ، كما أنّ الظاهر لا يصير علَّة للباطن وإن أمكن أن يكون ذلك كلَّه علامة أو علَّة إعداديّة ، بل المؤثّر في العالي هو الأعلى منه ، كما أنّ العلَّة للباطن ما هو الأبطن منه ، الفائق عليه . ومن هنا يظهر سرّ ما ورد في الطهارة الَّتي هي من مقدّمات الصلاة حسبما رواه أبو جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ ( المتوفّى 274 أو 280 ه ق ) في المحاسن بإسناده عن أبي عبد الله – عليه السّلام – قال : بينما أمير المؤمنين – عليه السّلام – قاعد ومعه ابنه محمّد إذ قال : يا محمّد ، ائتني بإناء فيه ماء أتوضّأ منه للصلاة ، فأتاه محمّد بالماء ، فأكفأ – عليه السّلام – بيده اليسرى على اليمنى ،
ثمّ قال عليه السّلام : بسم الله الذي جعل الماء طهورا ولم يجعله نجسا ، ثمّ استنجى ، فقال : اللَّهمّ حصّن فرجي وأعفّه ، واستر عورتي ، وحرّمني على النار ، ثمّ تمضمض فقال : اللَّهمّ لقّنّي حجّتي يوم ألقاك ، وأنطق لساني ، ثمّ استنشق وقال : اللهمّ لا تحرمني ريح الجنّة ، واجعلني ممّن يشمّ ريحها وطيبها ، ثمّ غسل وجهه وقال : اللهمّ بيّض وجهي يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه ، ولا تسوّد وجهي يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه ، ثمّ غسل يده اليمنى فقال : اللهمّ أعطني كتابي بيميني ، والخلد في الجنان بيساري ، ثمّ غسل يده اليسرى فقال : اللهمّ لا تعطني كتابي بيساري ، ولا تجعلها مغلولة إلى عنقي ، وأعوذ بك من مقطعات النيران ، ثمّ مسح على رأسه فقال : اللهمّ غشّني برحمتك وبركاتك وعفوك ، ثمّ مسح على قدميه فقال : اللهمّ ثبّتني على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام ، واجعل سعيي فيما يرضيك عنّي ، ثمّ رفع رأسه إلى محمّد فقال : يا محمّد ، من توضّأ مثل وضوئي وقال مثل قولي خلق الله له من كلّ قطرة ملكا يقدّسه ويسبّحه ويكبّره ، فيكتب الله له ثواب ذلك إلى يوم القيامة « 1 » .
فقه الحديث : هو أنّ الله سبحانه يخلق بوضوء من أراد الصلاة ملائكة كثيرة تقدّسه وتسبّحه وتكبّره ، وذلك إذا كان الوضوء مثل وضوء عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ، والدعاء حال الوضوء هو مثل دعائه عليه السّلام ، بأن تكون الأدعية هي الأدعية الَّتي دعاها عليّ – عليه السّلام – بحاله وحضوره ، لا أيّ وضوء ، ولا أيّ قول ودعاء ، بل إذا كان ذلك الفعل وهذا القول فعلا علويّا وقولا علويّا ، يوجب أن يرتّب الله سبحانه ذلك الأثر الهامّ عليه ، أو يتمثّل ذلك الفعل وهذا القول بصورة الملك بناء على تمثّل الأعمال .
ولا يستفاد من هذا الحديث أنّ صرف غسل الوجه واليدين ومجرّد مسح الرأس والرجلين على المنهج المعهود لدى أهل البيت عليهم السّلام ، وصرف التكلَّم بتلك الكلمات المأثورة حين الغسل والمسح يصير سببا لأن يخلق الله تعالى بكلّ قطرة ملكا
مقدّسا ومسبّحا ومكبّرا ، وليس ذلك إلَّا لأنّ للوضوء بما أنّه سبب للطهارة سرّا عينيّا وباطنا خارجيّا يناله من أخلص وجهه للَّه ، ويصل اليه من أسلم قلبه للَّه ، بحيث يصير طاهرا عن كلّ رجس ودنس ، ويكون جوهر طهارته تقديسا وتسبيحا وتكبيرا ، هنالك يصلح لأن يخلق الله من كلّ قطرة من وضوئه ملكا له تلك الآثار الملكوتيّة ، أو يمثّله بذلك المثال .
وممّا يرشد إلى أنّ للوضوء – بما أنّه طهارة عن الرجس – سرّا خارجيّا هو ما روي عن عليّ – عليه السّلام – أنّه قال : « ما من مسلم يتوضّأ فيقول عند وضوئه : سبحانك اللهمّ وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلَّا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، اللهمّ اجعلني من التوّابين ، واجعلني من المتطهّرين إلَّا كتب في رقّ وختم عليها ثمّ وضعت تحت العرش حتّى تدفع إليه بخاتمها يوم القيامة » « 1 » .
إذ المستفاد من هذا الحديث هو : أنّ للوضوء صورة ملكوتيّة خارجيّة ، عدا ماله من العنوان الاعتباريّ المؤلَّف اعتبارا من عدّة حركات مع النيّة ، وتلك الصورة الصاعدة إلى تحت العرش هي سرّ الوضوء المعهود لدى الناس ، ومثل هذا الوضوء الذي له سرّ تكوينيّ هو الذي يكون نصف الإيمان كما ورد النقل به « 2 » .
2019-11-10