أسرار الصلاة – الجليل الشيخ الجوادي الآملي 20
25 يونيو,2020
صوتي ومرئي متنوع, طرائف الحكم
643 زيارة
والحاصل : أنّ القيام إنّما هو تمثّل للحالة الَّتي بها يقدر العبد على المسارعة ، ثمّ الاستباق ، ثمّ الإمامة بأتمّ وجه ، فمن قام واستقام للَّه تتنزّل عليه الملائكة وتبشّره بالولاية الطاردة للخوف والحزن ، كما قال تعالى * ( « إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا ا للهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » ) * « 3 » .
فمن استمرّ على الاستقامة يمكن أن يشاهد المبشّرات من الملائكة ويراهم ، كما أنّه يسمع كلامهم ، إذ الذي يختصّ بالرسول هو ما يرجع إلى خصوص التشريع ، وأمّا ما يرجع إلى التسديد ونحوه فلا .
فكما أنّ قيام اللَّه بالقسط منزّه عن الحالة الخاصّة البدنيّة كذلك سرّ القيام الملحوظ في سرّ الصلاة منزّه عنها ، وإن كان القيام المعتبر في صورة الصلاة وظاهرها هو عبارة عن تلك الحالة البدنيّة فالمصلَّي المناجي ربّه المتمثّل بين يدي معبوده القائم بالقسط لا بدّ له من التمثّل بالقيام ، إذ القلب القائم يظهر أثر قيامه في القالب والجوارح ، كما أنّ خشوع القلب يتجلَّى فيها ، أي : في الجوارح ، لما روي عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام : أنّ رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – أبصر رجلا يعبث بلحيته في صلاته ، فقال : « إنّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه » « 1 » ، ولا ينافيه ما ورد عن رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – أنّه كان يمسّ لحيته أحيانا في الصلاة ، فقيل له يا رسول اللَّه ، نراك تمسّ لحيتك في الصلاة ؟ فقال صلَّى اللَّه عليه وآله :
« إذا كثرت همومي » « 2 » ، لأنّ المسّ هو غير العبث فلا ينافي الخشوع القلبيّ أوّلا ، وأنّه نحو ابتهال وتضرّع لدى اللَّه عند ازدحام الهموم ثانيا ، وكان اهتمامه – صلَّى اللَّه عليه وآله – واحدا ، وهو خروج القرآن عن الهجران ، حيث اتّخذه قومه مهجورا ، وإيمان قومه ؛ لأنّهم كفروا باللَّه ورسوله ، وكان – صلَّى اللَّه عليه وآله – باخعا نفسه على آثارهم ، لأنّهم لم يأمنوا بما جاء به أسفا عليهم ، ولم تكن همومه للدنيا الَّتي طلَّقها وصيّه ثلاث تطليقات ، فضلا عنه – صلَّى اللَّه عليه وآله – نفسه . هذا بعض ما يرجع إلى سرّ القيام في الصلاة .
وأمّا الركوع وكذا السجود : فتأويله هو : أنّ المصلَّي المناجي ربّه وإن أقام صلبه وقام لامتثال أمره تعالى واستقام واعتدل ولكنّ ذلك كلَّه بالقياس إلى ما يعدّ عدوا
للَّه ولأمره ونهيه من الشيطان الغويّ ، والنفس الأمّارة بالسوء ، والدنيا الغرور . وأمّا بالقياس إلى اللَّه تعالى فكلّ قيام عنده قعود ، وكلّ اعتدال عنده انحناء ، وكلّ إقامة صلب عنده انكسار ونحو ذلك ؛ لأنّ كلّ حيّ بالقياس إليه تعالى ميّت ، وكلّ عليم بالقياس إليه جاهل ، وكلّ قادر بالنسبة إليه عاجز ، حيث إنّ كلّ شيء بالقياس إلى وجهه الباقي هالك ، ولذلك قال أمير الموحّدين عليّ عليه السلام : « كلّ قويّ غيره ضعيف ، وكلّ مالك غيره مملوك ، وكلّ عالم غيره متعلَّم ، وكلّ قادر غيره يقدر ويعجز ، وكلّ سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات ، ويصمّه كبيرها ، ويذهب عنه ما بعد منها ، وكلّ بصير غيره يعمى عن خفيّ الألوان ولطيف الأجسام ، وكلّ ظاهر غيره باطن ، وكلّ باطن غيره غير ظاهر . » « 1 » .
فالمصلَّي المناجي ربّه لا بدّ وأن ينحني ، ويركع أو يسجد ليتمثّل ما هو السرّ في مرحلة التنزّل ، كما أنّ انحناء ظهره ومدّ عنقه للضرب ونحوه وإن كان ركوعا أو سجودا للَّه تعالى ولكنّه بالقياس إلى أعداء دين اللَّه تعالى قيام واعتدال ، كما أنّ القيام نفسه وإن كان للذبّ عن الدين قياما ولكنّه بالقياس إلى القيّوم المحض انخفاض وانحطاط ، حسبما يستفاد من قول مولى الموحّدين عليه السلام : « . غنى كلّ فقير ، وعزّ كلّ ذليل ، وقوّة كلّ ضعيف ، إذ كلّ شيء له داخر وساجد ، ولا يملك شيء لشيء نفعا ولا ضرّا » « 2 » .
فالقويّ بالقياس إليه تعالى ضعيف أوّلا ، وبالقياس إلى أحياء أمره والدفاع عن دينه وإن كان قويّا ولكن لا بالذات وبالأصالة ، بل بالعرض والتبع ثانيا ؛ لأنّ قوّته كانت باللَّه الذي هو قوّة كلّ ضعف ، فلا يلتبس الأمر على أحد بأن يرى نفسه مقتدرا ، بل على الإنسان أن يعقل أوّلا ، ويقتديه جميع شؤون إدراكه وتحريكه الَّتي هي شيعة العقل وأمّته ثانيا ، بأنّه – بحول اللَّه تعالى وقوّته – يقوم ويقعد ، ويعتدل ، وينحني ، ويذبّ ويصول ، وما إلى ذلك من الأوصاف الَّتي يكون بعضها بالقياس
إلى اللَّه تعالى ، وبعضها بالنسبة إلى الذبّ عن حرم دينه .
وحيث إنّ الركوع وكذا السجود للَّه سبحانه من الأجزاء الهامّة للصلاة وتمثّل للتذلَّل في فنائه فلذا قد يؤمر العبد بالصلاة نفسها كما في غير واحدة من الآيات الآمرة بها ، وبإقامتها ، وقد يؤمر بالركوع والسجود كما في قوله تعالى * ( « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » ) * « 1 » .
ولمّا كان كلّ واحد من الركوع والسجود تخضّعا فعليّا – قد قرّر في كلّ واحد منهما ما هو التخضّع القوليّ – فلذا شرع فيهما التسبيح حسبما في العلل في جعل التسبيح فيهما من التعليل بأن يكون العبد مع خضوعه وخشوعه وتعبّده وتورّعه واستكانته وتذلَّله وتواضعه وتقرّبه إلى ربّه مقدّسا ممجّدا شاكرا لخالقه ورازقه . « 2 » .
وقد ورد في تعدّد السجود وذكره الخاصّ ما يشهد لما مرّ ، حيث إنّه سئل أمير المؤمنين – عليه السّلام – عن معنى السجود ؟ فقال عليه السّلام : « اللهمّ منها خلقتني ، يعني : من التراب ، ورفع رأسك من السجود معناه : منها أخرجتني ، والسجدة الثانية : وإليها تعيدني ، ورفع رأسك من السجدة الثانية : ومنها تخرجني تارة أخرى ، ومعنى قوله : سبحان ربّي الأعلى وبحمده : فسبحان : أنفة للَّه ، وربّي : خالقي ، والأعلى : أي علا وارتفع في سماواته حتّى صار العباد كلَّهم دونه ، وقهرهم بعزّته ، ومن عنده التدبير ، وإليه تعرج المعارج » ، وقالوا عليهم السّلام أيضا في علَّة السجود مرّتين : « إنّ رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – لمّا أسري به إلى السماء ورأى عظمة ربّه سجد ، فلمّا رفع رأسه رأى من عظمته ما رأى ، فسجد أيضا فصار سجدتين » « 3 » .
فالمصلَّي العارف بالسرّ يجعل ما ذكر أو يذكر في توجيه أحكام الصلاة وأقوالها
وأفعالها ذريعة إلى شهود ما هو المخزون عند اللَّه ، المذخور لخواصّ أوليائه ، من الأسماء الحسنى والصفات العليا ، ثمّ يصير إليها بعد أن سار إليها ، إذ السير مقدّمة للصيرورة الَّتي هي السرّ الواقعيّ للصلاة ، وما دون ذلك فكلّ ما قيل أو يقال لها فهي حكم وآداب وسنن لا مساس لها ذاتا بما هو سرّ الصلاة الذي هو الأمر العينيّ التكوينيّ ، وأين هو من المفاهيم الذهنيّة ، أو الأحكام الاعتبارية الَّتي لا أثر لها في الخارج عن نشأة الاعتبار ؟
وحيث إنّ المصلَّي يطوف حول كعبة العزّة بذلَّته ، وعرش الملكوت بالهوان ، وكرسيّ الجبروت بالمهان ، ولدى اللَّه السبحان بالصغار فلذا لا يزين أحواله في الصلاة ، فهو عبد داخر في الحالات كلَّها ، وبذلك يندرج تحت قوله تعالى : « * ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ ا للهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ) * . » « 1 » .
كما أنّ الذي يقدر على القيام ولا يعجز عنه وكذا الذي يقدر على القعود ويعجز عن القيام ، وهكذا القادر على الاضطجاع أو الاستلقاء العاجز عن القعود مندرج تحته ، حسبما روي عن مولانا أبي جعفر – عليه السّلام – أنّه قال : « الصحيح يصلَّي قائماً وقعودا ، المريض يصلَّي جالسا ، وعلى جنوبهم : الذي يكون أضعف من المريض الذي يصلَّي جالسا » « 2 » . وعن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله : « المريض يصلَّى قائماً ، فإن لم يستطع صلَّى جالسا ، فإن لم يستطع صلَّى على جنبه الأيمن ، فإن لم يستطع صلَّى على جنبه الأيسر ، فإن لم يستطع استلقى وأومأ إيماء وجعل وجهه نحو القبلة ، وجعل سجوده أخفض من ركوعه » « 3 » . وبذلك يظهر : أنّ الخضوع الذي هو روح الصلاة متجلّ في جميع أحوالها ، وهكذا في جميع أفرادها . نعم ، للركوع والسجود خصيصة تختصّ بهما ، حيث ورد : « أنّ العبادة العظمى هي الركوع والسجود » « 4 » ،
2020-06-25