الرئيسية / من / قصص وعبر / المسيح في ليلة القدر 21

المسيح في ليلة القدر 21

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة – رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منازل الشهداء: هراند هاكوبيان، هراند آفانسيان، فيكن كارابتيان بتاريخ 05/01/1993م.

الشهيد فيكن كارابتيان 
مكان الاستشهاد: دهلزان – ايلام
تاريخ الاستشهاد: 26/03/1987م
الشهيد هراند آفانسيان
مكان الاستشهاد: كرمانشاه
تاريخ الاستشهاد: 12/07/1987م
الشهيد هراند هاكوبيان
مكان الاستشهاد: فكة – خوزستان
تاريخ الشهادة: شتاء 1987م
 
 
 
 
264

219

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 في العادة يذهب سماحة السيّد القائد للقاء عوائل الشهداء ليلة الجمعة، أمّا هذه المرّة فالبرنامج مختلف كلّياً، ليلة الثلاثاء في الخامس من شهر كانون الثاني، لا ذكر لأيّ مناسبة من المناسبات في التقويم لهذه اللّيلة ولا لليوم الّذي يليه، لا التاريخ الشمسيّ ولا القمريّ ولا الميلاديّ.

ولكن أراد سماحته أن يضع برنامجاً لهذه الليلة، برنامج لزيارة عوائل شهداء الأرمن، وذلك لمعرفته بعادات وتقاليد مواطنينا الأرمن. فهو يعلم جيّداً أنّ الخامس والعشرين من كانون الأول، أي قبل خمسة أيام من نهاية السنة يُعرف بعيد الميلاد، ويتناقل ذلك في وسائل الإعلام، ولكن ليس عند الأرمن، إذ إنّ معظمهم من البروتستانت، وهم يحتفلون بعيد الميلاد في السادس من شهر كانون الثاني، أي بعد عشرة أيام من عيد الميلاد المعروف. ولكن المسيحيّين الآشوريّين في إيران، وحيث إنّ معظمهم من الكاثوليك، فهم يحتفلون بعيد الميلاد بحسب المعتاد، ميلاد السيّد المسيح عليه السلام نبي المحبّة والأمل، وهو مبارك عند المسلمين كذلك.
اللّيلة هي ليلة السادسة من الشهر الأول لسنة 1993 ميلاديّة، أي ليلة عيد الأرمن، ويريد سماحة السيّد القائد أن يزور ثلاثًا من عائلات شهداء الأرمن، الذين يعيشون في أحياء خاصّة في طهران، وقد نظّم البرنامج ليشمل ثلاث زيارات في منطقة معيّنة.
توجّهت سيّارتان أو ثلاث من مكتب سماحته من دون أيّ ضوضاء أو مرافقة كبيرة باتجاه شارع دماوند في طهران، فلم يغلق أيّ شارع، والأجواء كانت عاديّة.
كانت السيّارة التي تُقلّ السيّد القائد تشقّ طريقها بين مئات السيّارات كأيّ سيارة أخرى، تقف عند الإشارات الحمراء لتصل إلى المكان المقصود.
كان المنزل الأول بيت الشهيد “فيكن كارابتيان”، هناك توقّفت السيّارة ملاصقةً لبيته لينزل منها آية الله السيّد علي الخامنئي دام ظله، ويدخل البيت من دون أن يُلفت الأنظار.
* * *
بدايةً، قدمت أنا وأخي ونحن الأكبر سنّاً في العائلة إلى طهران، وبقيَ والداي وأختي
 
 
 
 
265

220

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 وأخي الأصغر “فيكن” في القرية، ليُكمل “فيكن” دراسته الثانويّة، بعده قدم الجميع إلى طهران، ولم 

يكونوا يرغبون في ذلك، وهم على حقّ في عدم رغبتهم بالمجيء، فقد كانت أيام القرية حقّاً من أفضل مراحل حياتنا.
وهناك قصّة مطوّلة في كيفيّة ذهابنا الى قرية “خاكباد” بعد الحرب العالمية الثّانية، حيث كُنّا العائلة الأرمنية هناك، وكان أبي رحمه الله قد حكاها لي لكنّي نسيت تفاصيلها.
قرية “خاكباد” قرية عامرة تقريباً، تقع قرب خمين والايكودرز، وكان أبي مورد احترام الأهالي، وحتى الآن كلّما زرنا القرية يأتي معظم أهلها لزيارتنا، ويبدأ الجميع بمدح أبي “السيّد آغيك”.
كان أبي مختار القرية، والمجبّر الوحيد في المنطقة، يقصده كلّ من جُرح أو كُسرت يده أو رجله من أبناء المناطق المجاورة، فيقوم بمعالجتهم، وهو ماهر في عمله بحيث ذاع صيته في المدن والمناطق البعيدة عن قريتنا، فكان إذا أُصيب شخص بضربة قوية، وخصوصاً إذا كانت في الجمجمة، يقولون له: علاجه لا يكون إلا في “خاكباد” عند السيّد آغيك.
كلّ مريض يدخل بيتنا فهو ضيف، تقوم أمّي بتقديم الضيافة له ولعائلته، وكان البعض منهم عندما يعرف بأنّنا مسيحيّون لا يأكلون من طعامنا شيئاً، ولم تكن أمّي تنزعج من ذلك، بل كانت تذهب لتستعير إبريق وأكواب الشاي والسكّر من بيوت الجيران لتقديم الضيافة لهم، لقد كانت أمّي حقّاً إنسانة عجيبة.
ومع أنّنا العائلة المسيحيّة الوحيدة في القرية المسلمة، إلا أنّ ذلك لم يُشكّل لنا أيّ عائقٍ في الحياة والعيش، وكانت تسود بيننا المودّة والعلاقة الحَسَنة، يُحبّ بعضنا الآخر، والفرق الوحيد 
أنّ رجال القرية يُنادَوْن بالحاج أو الكربلائيّ أو المشهديّ، أمّا أبي فقد كان يُنادى بـ “السيّد آغيك”.
كان أبي رجلاً بارزاً، يذهب إلى القرى المجاورة وصولاً إلى خمين، وكانت عائلة الإمام الخميني قدس سره في تلك المنطقة معروفة جدّاً، وكان أبي على علمٍ بقصّة شهادة السيّد مصطفى الخميني والد الإمام. ففي إحدى زياراته لخمين بعد سنوات عدّة من شهادته، التقى والدة الإمام، وكان يمتدح شجاعته أمامنا نحن الأطفال، كان ذلك قبل انتصار الثورة الإسلاميّة بعدّة سنوات. 
هناك الكثير لنتحدّث عنه وعن الحياة في قرية “خاكباد”، ولكن في النهاية، قدمنا إلى طهران في منتصف الحرب، وكان “فيكن” قد بلغ سنّ الخدمة العسكريّة الإلزاميّة، وكان مزاج أمّي يتعكّر
 
 
 
266

221

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 إذا وصل الكلام للحديث عن الجبهة والتجنيد، وتُصيبها حالة من الانزعاج كأنّها سمعت بخبرٍ سيّئ.

فقد كان “فيكن” عزيزاً على قلب أمّي، وهو في الوقت نفسه شجاع لا يعرف الخوف، وكان دائماً يقول وهو على مقاعد الدراسة: “أُحبّ أن أُصبح جنديّاً وأُقاتل هؤلاء الجبناء”.
وعندما قدمنا إلى طهران، حان وقت التحاقه بالخدمة، ولم يستطع أحد أن يمنعه عن ذلك، قامت أختي الكبرى بإخفاء بطاقته الشخصيّة خوفاً عليه من الذهاب، ولكنّه بحث عنها في كلّ المنزل وقلبه رأساً على عقب، وراح يرجو هذا وذاك لنُعطيَه إيّاها. في النهاية، تمكّن من الالتحاق من خلال نسخة مصوّرة عن البطاقة ليُصبح بعد ذلك مجنّداً.
كانت دورته العسكريّة في لويزان في طهران، وبعدها في شتاء العام 1986م، أرسل إلى منطقة شرهاني في إيلام. في تلك الأيام توفّي أبي، وبكثير من المشقّة وصل خبر وفاته إلى ” فيكن” الّذي أخذ إجازة وجاء لتشييع الجنازة، والّتي شارك فيها كلّ أهالي “خاكباد” تقريباً، وبعد مراسم التشييع قالت أمّي لـ”فيكن”: ابق هنا، يكفيني تحمّل فراق أبيك.
لكنّه لم يقبل وقال لها: يجب أن أذهب، فهم بحاجة إليّ هناك، ليعود أواخر شتاء العام 1985م موعد الإجازة التالية.
كان “فيكي” عندما يأتي نتحلّق حوله ليُحدّثنا عن الجبهة، وهو المرِح المليء بالنشاط،
 
 
 
 
267

222

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 لذلك كان يُحدّثنا عن الجبهة بطريقة تجعلنا نضحك. إلّا حينما يُحدّثنا عن شهادة رفاقه في الجبهة كان يختنق بعبرته ويبدأ بالبكاء. وحينها لم يبقَ لآخر العطلة، فقُلنا له: إنّه العيد الأول بعد وفاة والدك، وعلينا أن نذهب الى “خاكباد”، فقال: لا أستطيع.

كان عيد ميلاده في الثالث من فروردين1، وكان قد بلغ العشرين، ولكنّه لم يُدرك منها إلا أربعة أيام فقط، يومها أخبروني بأنّه أُصيب بشظايا وهو على برج المراقبة، وعليك أن تأتي لتتعرّف إليه. لم أُخبر أحداً بذلك لأنّي لم أُصدّق ذلك، وكنتُ مطمئناً أنَّ هناك خطأ ما، ولكنّه كان هو في البرّاد عندما رأيته، لم يكن يشبه الموتى، لقد كان يرقد بهدوء، عبثاً ناديته .. فيكن.. 
فيكن..! ولكنّه لم يُجب. 
بعد عدّة أشهر من وفاة أبّي، أقعدتْ شهادة “فيكن” أمّي، عندما وصل الخبر إلى “خاكباد” لم يُصدّق النّاس هناك، ولبست القرية لباس العزاء، فقد فقدوا أخاهم! لقد كانت أيّامًا صعبة جدّاً.
عندما تذهب الآن إلى “خاكباد” ستجد صورة كبيرة للشهيد “فيكن كارابتيان” وضعها النّاس من أموالهم الخاصّة عند مدخل القرية.
والدة وأخو الشهيد “فيكن كارابتيان” عند مدخل قرية “خاكباد”.
 

1- الشهر الأول من السنة الهجرية الشمسية، موافق لشهري آذار – نيسان.
 
 
 
268

223

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 مرّ حتى الآن خمس سنوات على شهادة “فيكن”، أمّا أمّي فما زالت تُعاني من لوعة الفراق، وكلّما رأت مجنّداً في الشارع يحترق قلبها، وتقول: “اللّهم احفظه لأمّه”، وتنهمر الدّموع من عينَيْها.

إنّها ليلة الميلاد والكلّ مجتمع في بيت أمّي، قدم خالي كذلك، فقد تقرّر أن تجتمع كلّ العائلة لتناول عشاء عيد الميلاد في بيتنا. وفي زحمة التجهيزات، رنّ الهاتف ليُخبرونا أنّ علينا أن نبقى في البيت مساءً، لأنّ أحد المسؤولين يُريد زيارة منزلنا. وعبثاً حاولنا الاعتذار بوجود ضيوف عندنا وتأجيلها لليلة أخرى، إلّا أنّهم قالوا لنا: إنّه لن يمكث أكثر من عدّة دقائق.
أوّل اللّيل، أتى عدّة أشخاص، وبعد استفسارات عدّة قالوا لنا : دقائق ويصل سماحة السيّد القائد.
قُلنا: نعم ؟ قُلتم من سيأتي؟ 
– سماحة قائد الثورة السيّد علي الخامنئي.
– هنا؟ إلى منزلنا؟
– نعم. 
– حسناً. لكن لماذا لم تُخبرونا من قبل؟ لنُجهّز أنفسنا ونُخبر الآخرين؟
– لقد أمر سماحته بعدم إخباركم كي لا نُسبّب لكم الإزعاج. ولا حاجة لفعل أيّ شيء فهو سيصل خلال دقائق.
ذهبتُ مع خالي عند الباب للاستقبال، فدخل “السيّد” برفقة شخص أو شخصَيْن، وقبل أن نستيقظ من هول الدهشة، ألقى علينا التحيّة: “السلام عليكم”. ومن حسن الحظ أنّ خالي موجود 
ليُخفّف من شدّة رهبة المفاجأة، فقد كان خالي أستاذاً مثقّفاً، ولبق الكلام.
جلس “السيّد” في غرفة الضيوف، إلى طاولة الطعام، وجلسنا حوله، أنا وأمّي وأخي وأختي وزوجها.
سأل “السيّد” أوّلاً عن صحّة أمّي، كُنّا في القرية نتكلّم اللّغة الفارسيّة، لذلك لم يكن لدينا لهجة أرمنية، بل لهجة أهل المنطقة التي سكنّا فيها. لذلك أجابته: سلّمك الله، سلّمك الله.
كانت صورة “فيكن” على الطاولة مقابله، فرفعها ونظر إليها بدقّة.
 
 
 
269

224

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 – حسناً هذا هو شهيدكم؟

فقُلنا: نعم.
– من والده؟
– توفّي والدنا.
– هذه السيّدة أمّه؟
– نعم.
– جيّد، أين استشهد ومتى؟
كان سمع أمّي ثقيلاً فلم تسمع شيئاً، بل كانت تدعو له :”أعزّكم الله”، لذا أوضحت له عن “فيكن” متى التحق بالخدمة العسكريّة وكيف استشهد في “دهلران”1.
– عظّم الله أجركم، وأسأل الله تعالى أن يكون عيدكم مباركاً.
فتقول أمّي: سلّمك الله، أسعد الله أيامكم. ونحن نشكرك لأنّك تفضّلت علينا وتلطّفت علينا بهذه الزيارة، لقد أقررت أعيننا.
– وفّقنا الله جميعاً لنتمكّن من القيام بواجباتنا. 
وأثناء حديث “السيّد” همس أحد مرافقيه الّذي كان يُصوّر اللقاء في أذني: هل فعلاً أمَّكَ أرمنية؟ فنحن منذ عدّة سنوات نذهب إلى بيوت الأرمن، وكثير منهم لا يتكلّم الفارسية، ولكن أمّكَ 
لديها لهجة فارسية قروية! فهمست في أذنه قائلاً: “لذلك حكاية، وهل هذا سيّئ؟! فهزّ برأسه وقال: لا أبداً، بل رائع جدّاً”. 
وبالفعل، فإنّ بساطة أمّي وتواضع “السيّد” وعدم تكلّفه، جعلا المجلس حميماً. 
عندما علمت أنّ أعلى منصب في الدولة سيأتي إلى منزلنا، خفت كثيراً، وانخفض ضغطي، ولكن عندما أتى تصرّف بطريقة لم يُشعرنا أنّ مقاماً عالي، أعلى مقام في الدولة، وأحد أهمّ المناصب الدينيّة والسياسيّة في العالم، ضيف في بيتنا. والآن، لم يَعُدْ عندي أدنى رهبة، تلك الرهبة الّتي تنتابني عادةً عندما أُقابل الكاهن أو الأسقف.
– ابنكم الشاب هذا الّذي دافع عن بيته ووطنه، وهو في غمرة الشباب وقُتل في هذا السبيل، هو فخركم وفخر كلّ من ينتسب إليه، بل هو فخر كلّ أبناء الوطن. هؤلاء الشباب
 

1- من مدن محافظة إيلام الحدودية، وكانت هدفاً دائماً للهجمات الجويّة لنظام البعث العراقي لغناها بالنفط والغاز.
 
 
 
 
270

225

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 هم فخر لوطننا، وعلينا حقّاً أن نفتخر بهم.

لقد أثّر كلامه فينا، حتّى إنّني أحسست أنّ ملامح “فيكن” قد تغيّرت في ذهني.
يسأل “السيّد” عن درجة قرابتنا نحن الإخوة والخال مع الشهيد، عندما عرّفنا عن خالي، بدأ يتكلّم مع “السيّد” براحة.
– لا أعرف حقّاً بأيّ لسان أشكر زيارتكم لنا، لقد أدخلتم السرور على قلوبنا اللّيلة يا سماحة السيّد الخامنئي.
– هذا تكليفنا، تكليفنا أن نُبدي محبّتنا وإخلاصنا لهذه العائلات العزيزة الّتي قدّمت أبناءها في سبيل الوطن، فأنا دائماً أستفيد من فرصة السنة الميلاديّة الجديدة لأتفقّد أبناء وطننا المسيحيّين، ولأُبارك وأُعزّي بشهدائهم، أُبارك لهم العيد وأُبارك لهم الشهادة، وأُعزّيكم بفقد الابن.
تشكر أمّي على طريقتها، أمّا أنا فقد انعقد لساني!
بدأ الكلام عن عيد الميلاد، يقول خالي: نعم، اللّيلة ليلة العيد عندنا، وبالمصادفة عندنا ضيوف، وأردت أن أخرج لتحضير الضيافة وما يلزم للعشاء، ولكنّ الإخوة طلبوا منّا البقاء، ونحن بقينا احتراماً لطلبهم، ولكنّنا لم نكن نعلم، أقصد هم لم يقولوا لنا إنّك سوف تُشرّفنا، ومن دواعي سرورنا أن نكون في مجلسك.
– حسناً، فمن العادات أنّنا عندما نقوم بزيارة الأصدقاء لا نبقى إلا لعدّة دقائق، لإبداء المحبّة، إذ لا يسعنا أن نُطيل المكوث، لنتمكّن من الذهاب إلى أماكن أخرى.
انزعجتُ من كلام خالي، صحيح أنّه لم يكن يقصد، أمّا في الواقع فإنّنا نرغب أن تستمر هذه الجلسة لساعات وأن لا تنتهي. ولا يهمّ إن كان عندنا ضيوف في ليلة العيد أم لا.
لقد حاولتُ أنا وأمّي أن نوصل هذه الفكرة من خلال الشكر وإظهار السعادة.
– بارك الله لكم في هذا العيد، وأسأل الله أن يحلّه عليكم بالسعادة والخير، وأن يدخل السرور إلى قلوبكم، فالأهم هو فرحة القلوب.
فتُجيبه أمّي: أسأل الله أن يوفّق الجميع وأن يُسدّد خطاهم. شكراً جزيلاً.
لقد تلطّفت علينا يا “سيّد”.
ثمّ تنهّدت وقالت بلهجتها القروية: حسناً ماذا تصنع الأم العاجزة عن الفرح.
 
 
 
 
271

226

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 – نعم، صحيح، أسأل الله أن يتفضّل عليكم وأن يُجزيَكم خيراً، فإنّ مصائب الدنيا يُقابلها الأجر الإلهيّ.

– شكراً، حفظك الله وأدامك فقد كان من نصيبنا رؤيتك، أطال الله في عمرك.
– نعم، فليحفظ الله شبابكم. فإنّ في هذا البلد كثيرًا من العائلات قدّمت ابنها فداءً، ومنهم من قدّم الاثنين، والثلاثة، والبعض قدّم أربعة.
– أجل، هكذا جارنا السيّد حسيني قدّم اثنين من أبنائه فداءً للوطن، محسن حسيني وقاسم حسيني.
وأمّي صديقة حميمة لأمّ الشهيدَيْن وترافقها دائماً، نشكر الله أنّها ترافقها، فقد حسّنت هذه الرفقة من روحيّتها.
كعادتها، أحضرت أمّي الشاي بالقرفة، جلب أخي الشاي، ودعا الجميع لتناوله، وبعدها أتى بالحلوى، فقال “السيّد” من دون أيّ مجاملة: أنا لا آكل الحلوى، وآخذ مكعّبات السكّر لشرب 
الشاي.
سأل “السيّد” عن أشغالنا، فقال له خالي إنّه أستاذ، ونحن الثلاثة قُلنا إنّنا نعمل معاً في معمل صغير للخراطة وصناعة القوالب الحديديّة، أي أنا وأخي وصهري.
في أثناء الحديث، عندما احتسى السيّد الخامنئي قليلاً من الشاي، سأل: هل تُحضّرون الشاي بالقرفة؟
 
 
 
 
 
272

227

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 اعتقدت أنّ الأمر قد ساء جدّاً، فحتماً لم يُعجب “السيّد”، سألت: ألا يُحبّه؟ فقال: من الممكن أن لا يكون مناسباً له، وإلا فإنّه لا يكره طعمه. فقرّرت في نفسي أنّه في المرّة القادمة. فإنّني 

سأُحضّر له شاياً خالصاً من دون نكهة. ثمّ ضحكت في سرّي لهذه الأفكار.
عندما سألنا سماحته إنْ كُنّا نُعاني من مشكلةٍ ما ليساعدنا في حلّها. قُلنا له: لا مشاكل لدينا، وما نرغب به هو أن يُطيل الله في عمره.
قبل الوداع طرح علينا السؤال عن مشاكلنا مرّة أخرى. فذكرت له بخجل وحياء مشكلة الوكالة. فقد كنتُ أنا وأخي نملك وكالة لسيارات الأجرة وأوقفت بسبب بعض المشاكل …! فيطلب سماحته من أحد مرافقيه بأن يُتابع هذه المشكلة ويسعى إلى حلّها.
وبعدها أعطى سماحته أمّي هدية كتذكار لليلة العيد الخاصّة هذه، ثمّ ودّعنا وغادر.
بقينا وذكرى عذبة، ظلّت وحتى بعد ساعة صعبة التصديق، لولا التذكار الذي قدّمه “السيّد” لأمّي، لما صدّق الضيوف أيضاً، أنّه قبل ساعة كان قائد البلاد ضيفاً في بيتنا.
* * *
غادر “السيّد” منزل الشهيد كارابيتيان، وركب السيارة، وهنا في هذا الحيّ الذي يعرف الكلّ بعضهم، حتّى السيارات، لذا أحسّ عدد من الأشخاص الموجودين في الزقاق أنّ هؤلاء الغرباء الخارجين من منزل السيّد “كارابتيان” ما هم سوى ضيوف عاديين.
المحطة الثانية كانت قريبة، على مسافة عدّة أزقّة، داخل السيارة، يتحدّث واحد أو اثنان من مرافقي السيّد عن أمّ الشهيد كارابتيان، ولهجتها العذبة، وأنّه لولا الصور والرموز المسيحيّة في المنزل لاعتقدوا أنّهم قد ضلّوا العنوان.
يفصلنا عن مقصدنا عدّة دقائق فحسب، يُعطي مرافقو السيّد القائد بعض المعلومات عن شهيد العائلة التالية، عائلة الشهيد “هراند آفاسيان”.
* * *
ربّيت أولادي، من خلال عملي على دواسة البنزين ومنظّم السرعة، في شوارع طهران. كأكثر الأرمن، نشأت منذ حداثة سنّي في أجواء العمل الميكانيكي، لكنّ ولعي للجلوس وراء المقود، غيّر مسار حياتي، فقد كُنت ألتذّ بالقيادة، لدرجة أنّي أصبحت سائق تاكسي، شيء مضحك، ولكن ليس كثيراً. قيادة التاكسي في طهران الّتي يسكنها ما بين عشرة
 
 
 
273

228

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 ملايين إلى اثنَيْ عشر مليون نسمة سنة 1992ميلادية، تختلف كثيراً عنها في العام 1953. ففي ذلك الوقت لم يكن للناس سيارات، وكانت العربات التي تجرّها الخيول ما زالت تجول في طرقات المدينة، فلم يكن هناك معنى لازدحام السير، وكنت ألتذّ بالقيادة وحتى بالتاكسي، أمّا الآن، عندما أعود إلى البيت عند الغروب، أشعر بتعب الروح والجسد.

اليوم لم أذهب للعمل على التاكسي، ففضّلت البقاء في البيت، ومساعدة زوجتي لوسيك في تحضيرات ليلة العيد.
لم يعد لديّ القدرة على العمل كما في السابق، كما لا أُتقن عمل المنزل جيّداً. كثيراً من الأحيان تقول لي لوسيك بين الجدّ والمزاح: غريغور اذهب للعمل على التاكسي، فبقاؤك في البيت، يزيد من عملي!
اسمي غريغور، وهو اسم القدّيس المسيحي الّذي بجهوده أعلن البلاط أرمينيا عام 301 ميلاديًا المسيحيّة الدين الرسمي للبلاد.
نعم، بقيت في البيت للمساعدة، وحسناً فعلت. ففي الصباح اتصل أحدهم، وقال بالفارسية: “هل أنتم اللّيلة في البيت؟ نُريد أن نزوركم لدقائق”.
تكلّم بأدب لافت، لذلك ومن دون أن أسأله من أنت، قلتُ: نعم، هي ليلة عيد الميلاد عندنا، ونحن في البيت، ولكن لماذا تُريدون المجيء؟ فقال: “لأجل شهيدكم هراند آفانسيان، ألستم أباه؟” مع سماع اسم هراند، خفق قلبي.
 
 
 
 
274

229

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 قلتُ: نعم، أنا أبوه، تفضّلوا فنحن موجودون.

شكرت الله أنّي بقيت في البيت، فلوسيك لا تتكلّم الفارسية جيّداً. ويُمكن أن لا تتدبّر الأمر. فمن خلال عملي في التاكسي تكلّمت مع الناس إلى درجة أنّي في بعض الأحيان أتكلّم الفارسيّة 
أفضل من الأرمنيّة. 
انشغل فكري بمن سيأتي إلى منزلنا ليلة العيد من أجل هراند؟ تكهّنت في أنّهم سيأتون من قِبَل التلفزيون، لإجراء مقابلة وأشياء من هذا القبيل، ولكن لماذا هذه اللّيلة، ولماذا في اللّيل؟ لم أصل إلى إجابة عن هذه التساؤلات. 
شغلت نفسي بتنظيف اللّوحات والصور، وقمت بوضع صورة هراند وصورة عائلتنا مع الأسقف مانوكيان في الأمام، لتكون أمام مرأى العين، لأجل ضيوف اللّيلة.
قُبَيْل الغروب، جاء أخي إلى البيت. ولم يصل ضيوفنا بعد، عمّ الظلام وكدتُ أفقد الأمل. ولم أدرِ إنْ كانت “لوسيك” أعدّت طعام العشاء أم لا. خفت أن نبدأ بالعشاء ويصل الضيوف! 
والأسوأ من ذلك أنّي لا أعلم من الّذي سيأتي. ولا يُمكن التصرّف مع أيٍّ كان بنفس الأسلوب، الآن وبما أنّهم لم يأتوا، قرّرت أن أصرفهم إن كانوا من قِبَل التلفزيون، وأن أطلب منهم المجيء بعد أيّام عدّة.
ما زلت في هذا التفكير وإذ بالباب يُقرع، لقد جاؤوا أخيراً. أحدهم من تكلّم معي هذا الصباح. وبكامل الأدب والاحترام سألوني عدّة أسئلة، التي كانت بالنسبة إليّ عجيبة. غضبت بعدها قليلاً. وقلتُ لهم: جئتم إلى بيتنا لتتكلّموا بهذه الأمور؟
هدّؤوني بالقول إنّ الضيف الأساسي لم يأتِ بعد، وإنّه في طريقه إلينا. فأُصبت بالدوار. حسناً، لماذا لم تأتوا معاً؟ ولماذا كلّ هذه الأفعال؟
أخذ أحدهم يديّ وقال لي بمحبّة: إنّ ضيفكم هو سماحة السيّد القائد الخامنئي.
– من؟
– السيّد الخامنئي.
– سيأتي شخص من قِبَله؟
– لا، سيصل بنفسه بعد عدّة دقائق إلى منزلكم.
 
 
 
275

230

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 – بالله عليك. هل تقول الحقيقة؟

لا أستطيع أن أُصدّق، وأسأل الشخص الثاني. فيقول: أجل يا والدي الحبيب، ويخرج جهازه اللاسلكي من تحت سترته، ويتّجه نحو الباب وهو يتكلّم به. فيقول صديقه أظن أنّهم أصبحوا قريبين، إذا أردتم أبلغوا زوجتكم.
احترتُ ماذا أقول، فأنا لم أُصدّق بعد. وهل الأمر بهذه البساطة أن يأتي قائد الدولة الإسلاميّة في ليلة عيد الميلاد إلى بيت سائق تاكسي أرمني؟!
قلقت “لوسيك” من علائم الدهشة على وجهي، وحتى لا تعتريها الأفكار السيّئة قُلتُ لها ما قاله هذان الرجلان.
فقالت: هل يستهزئان بنا؟
– لا، فإنّ هيأتهما لا توحي بذلك، فهما مؤدّبان جدّاً، وأحدهما يحمل جهازاً لاسلكيّاً.
– إذاً هما يقولان الصدق. ولكن لماذا بُهِتَ لونك؟ فإنّ مجيئه قرّة لعيوننا، فليأتِ فلا داعي للاضطراب.
كانت “لوسيك” في منتهى الهدوء. فهي هادئة إلى حدّ أنّ هدوءها يؤذيني في بعض الأحيان! أخذت بيدي وقالت: تعرف أنّي لا أتكلّم الفارسية. فلا تذهب بماء وجهي. اشرح وتكلّم بهدوء، وقل كم كان هراند شابّاً رائعاً… .
تتعالى الأصوات أمام الباب، فانقطع حديثنا. وأذهب أنا وأخي للترحيب. الآن أنا مجبر على التصديق، فهذا “السيّد” الخامنئي جاء إلى منزلنا وهو يُسلّم علينا.
– السلام عليكم.
– وعليكم السلام “سيّد” ، أهلاً وسهلاً بكم.
– كيف حالكم؟
– أشكركم، تفضّلوا.
ومن السلام عليكم هذا، ذاب اضطرابي، ولا أدري لمَ ذهب؟ أذَهَبَ من بسمته الجميلة أو من حنانه أو بساطته في التعاطي؟ مهما يكن فإنّ الخوف والارتباك قد خرجا من قلبي وحلّ مكانهما الحبّ والطمأنينة.
 
 
 
 
276

231

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 دخل “السيّد” مع مرافقيه إلى غرفة الضيوف، وجلس إلى طاولة الطعام، فذهبت سريعاً وأحضرت صورة هراند ووضعتها على الطاولة، وبدأت من دون مقدّمة بالحديث عن الصورة، إنّها للشهيد في لباس الجندية. كان قلقي أن تنتهي الجلسة بسرعة، فيرمقني أخي بنظرة يعني بها أن “اصبر حتى يجلس”.

حقّاً ما يقول، فكأنّي استيقظت، فأتراجع خطوة إلى الوراء، فأنا لم أقل بعد للسيّد من أنا؟ وبادرني قائلاً : هل أنتم والد الشهيد؟
– نعم.
فيجول في بصره حول الطاولة، وكأنّه يبحث عن شخصٍ ما، ويسأل: أين أمّ الشهيد؟
لم ألتفت أصلاً إلى “لوسيك”، بالتأكيد ذهبت إلى المطبخ فأقول: أمّ الشهيد ستكون في خدمتكم.
– قولوا لها فلتأتِ، فلتأتِ أمّ الشهيد.
ما زلت واقفاً على قدميّ والصورة بيدي، فينظر سماحته إلى الصورة ويطلب منّي الجلوس.
ما يزال السيّد الخامنئي ينتظر أمّ الشهيد حتى تأتي، فكأنّه لن يبدأ الجلسة حتّى تأتي. تأتي “لوسيك”، فأُعرّفها إليه.
– كيف حالكم أيّتها السيّدة؟
– شكراً، سلّمك الله.
– أفرح الله قلبكم، وآجركم باستشهاد ابنكم، كم كان عمره؟
كنتُ قد هيّأت بطاقة هويّته، فوضعتها بجانب سماحة السيّد وقُلتُ: كان عمره اثنتَيْن وعشرين سنة.
فيسحب سماحته الصورة إلى جانبه وينظر إليها بدقّة!
كان مجنّداً، أليس كذلك؟
– نعم.
– عجبًا!
 
 
 
 
277

232

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 كان ينظر إلى صورة “هراند” بحسرة، وكأنّ الشهيد أحد أبنائه، فأُعلّق بقولي: كان بطلاً ومدرِّباً لرياضة الجنباز، عندما كان يأتي للإجازة كان يُحدّثنا أنّه كان يقوم بحركات رياضية في الجبهة للترويح عن رفاقه، فينشر الفرح والضحك بينهم.

يسأل “السيّد”: “هل أنتم من عائلة آفانسيان؟” فأؤيّد ذلك، يبدو وكأنّه يسأل عن هذه العائلة لمعرفته بها.
– هذه العائلة عند الأرمن كبيرة ومنتشرة؟
لم أعلم كيف سمع بهذه العائلة من قبل، فأكّدت له أنّها عائلة معروفة وكبيرة، ثم يُجيب عن السؤال الذي كان يُراودني.
– الآن كنتُ أتحدّث مع الإخوة، لقد كان عندي صديق معنا في السجن عام 1963 في “قزل قلعة” كان أرمنياً من عائلة آفانسيان.
فكّرت كثيراً لكنّني لا أعرف شخصاً بهذه المواصفات، من الممكن أنّه اعتقد أنّنا على قرابة مع صديقه الذي كان معه في السجن، لكنّنا لسنا كذلك.
– حسناً، ماذا تعني آفانسيان؟
ليس عندي جواب، فأنا لم أُفكّر حتى الآن بجذور الأسماء الأرمنية.
– حسناً، قُلتم في أيّ سنة استشهد؟
 
 
 
 
 
278

233

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 ما عدت أذكر التاريخ بدقّة، فنظرت إلى لوسيك، فرفعت كتفها إلى الأعلى وقالت بالأرمنيّة: في بداية عمليات القصف الأخيرة، فترجمت هذه الجملة. 

يُقدّم لها سماحته كلمات المواساة فتشكره، وأنا أقول: أخجلتنا بقدومك إلينا .
يُبارك سماحته لنا عيد الميلاد، ويجلب أخي الشاي، ويدعو الجميع لتناوله.
اغتنمت الفرصة لأُحدّث “السيّد” عن بعض مميّزات هراند الأخلاقية الفريدة.
– يا سيّد! بعد شهادة هراند عرفنا أنّه قبل أشهر عدّة من شهادته كان جريحاً، ولكنّه لم يُخبرني ولم يُخبر أمّه بشيء حتى لا نمنعه من الذهاب إلى الجبهة ثانيةً، كان قد أُصيب برصاصة وشظايا في يده اليمنى، ولكنّنا لم نكن نعلم بذلك، حتى إنّهم أعطوه إجازة للعلاج، ولكنّه لم يأخذ الإجازة حتى لا ننتبه لإصابته، وقد علمنا بذلك خلال مراسم تشييعه. 
كان أخوه ميكانيكياً ماهراً، هو خارج البلاد في الوقت الراهن، في كلّ مرّة كان هراند يأتي فيها للإجازة كان يجلب معه قطع غيار خربة، فيتعاون مع أخيه على إصلاحها ومن ثم يُعيدها إلى الجبهة.
أذكر مرّة عندما جاء للإجازة، وكان أخوه الأكبر على مائدة العشاء فقال له: في هذه المرّة عندما تعود إلى الجبهة، حاول أن تتجنّب الخطر! انزعج كثيراً من كلام أخيه وقال: ماذا يعني؟ 
إذ ما الفرق بيني وبين الآخرين. الدفاع عن هذه الأرض واجب على الجميع. 
كان السيّد ينصت إلى كلامي بدقّة وهو يهزّ برأسه ويقول “مدهش”، مثنياً على روحيّة هراند. 
بعد إنهاء كلامي، تكلّم “السيّد” عن الشباب الذين استشهدوا مثل هراند، كلام أفرح قلبي وقلب لوسيك من العمق:
– هؤلاء الشباب الّذين يستشهدون من أجل استقلال الوطن والدفاع عنه، هؤلاء قدرهم عظيم، وعائلاتهم كذلك. إذا لم يذهب هؤلاء الشباب إلى ميادين القتال، ولم يُقدّموا هذه التضحيات فليس معلوماً كيف كان حال الوطن، هؤلاء الشباب هم الذين صنعوا هذه القيم ورفعوا رأس الوطن عالياً وجعلوه عزيزاً، وكلّ واحد منهم له نصيب في استقلال هذا الوطن والدفاع عنه، كلٌّ على قدر جهده ومساهمته، وأنتم بحمد الله، بشهادة أبنائكم لكم سهم ملحوظ.
 
 
 
279

234

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 هل عندكم أبناء آخرون؟

– نعم، أربعة آخرين.
– ذكور أو إناث؟
– اثنان من الذكور، واثنتان من الإناث.
– يعيشون معكم؟
– لا، تزوّجوا.
– ما هو عملكم؟
– سائق تاكسي، يا سيّد.
– جيّد جدّاً، كيف حال قيادة التاكسي في طهران؟
– ازدحام! كما تعلمون، ولكن ماذا نفعل فهو عملنا، إنّها خدمة عامة للمجتمع.
– كما تقولون بالفعل، إنّ القيادة في مثل هذه الشوارع صعبة جدّاً، ازدحام مستمر، ولكن كما يُقال، نعم، إنّها خدمة للعموم، يعني يُمكنك أن تُخلّص شخصاً في مثل هذه الشوارع لهذه المدينة المزدحمة والمكتظّة عندما يركب معك وتوصله إلى مكانه المقصود، هذا مهمّ جدّاً، فإنّه لا معنى للمشي في هذه المدينة الكبيرة. 
– من ثلاث وثلاثين إلى الآن، وأنا أؤدّي الواجب في قيادة التكسي.
– ثلاث وثلاثين سنة؟
– لا، من سنة ثلاث وثلاثين1 إلى الآن.
– عجيب، إنّها لفترة كبيرة، قرابة أربعين سنة، ما يُقارب سبعًا وثلاثين، ثماني وثلاثين سنة، ماذا عن أخيكم؟
– إنّه يعمل في المخرطة.
– فنّي، نعم، الأرمن أكثرهم فنّيون وصناعيون، ومتخصّصون في تصليح المحرّكات.
تقوم زوجتي لتأتيَ بالحلوى، فيلتفت السيّد الخامنئي.
– تفضّلي بالجلوس سيّدتي، لا ضرورة لذلك، لا تُزعجي نفسك.
 

1- سنة 1333 هجريّة شمسيّة تصادف 1954 ميلاديّة .
 
 
 
 
280

235

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 تقول زوجتي: لا إزعاج على الإطلاق! وصوتها ملؤه الحزن والاحترام، الاحترام لشهامة هذا الضيف، والحزن للوقوف على ذكريات “هراند”.

يتحدّث معنا “السيّد” الخامنئي فيما يخصّ كنائس طهران والحيّ والكهنة، ويطرح بهذا الشأن عدّة أسئلة، وينسحب الكلام للحديث عن أسقف الأرمن في طهران “السيّد مانوكيان” ويُطلعنا “السيّد” على لقائه مع حضرته في بدايات الثورة.
أقف وأتناول صورة من على المكتبة، وأقول موضحاً بأنّ هذه الصورة مع ذلك الأسقف في عهد النظام السابق، كانت الصورة محطّ إعجاب “السيّد”، وسألني عن كلّ الموجودين فيها.
ثمّ بدأ الحديث معي ومع أخي عن عدد الأرمن في المدن الإيرانيّة المختلفة. خلال حديث أخي، بدأت بالتفكير بيني وبين نفسي وكأنّني أنظر من الخارج إلى المجلس، وأقول في نفسي لو 
أنّني لست موجوداً هنا، فما كُنتُ سأُصدّق! ففي الغد إذا حدّثت زملائي سائقي خطّ تجريش – منعطف شميران، فهل سيُصدّقون؟ طبعاً في الوهلة الأولى سيقولون إنّك تكذب.
– كانت نيّتنا أن نُبارك لكم وللسيّدة زوجتكم حلول العيد، ونُبارك لكم شهادة ابنكم، وأن
 
 
 
 
281

236

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 نطمئنّ إلى صحّتكم، وأن نُبدي لكم إخلاصنا ومحبّتنا.

أدعو الله من أعماق قلبي أن يُسلّمكم ويحفظكم.
– أنتم شركاء في استقلال الوطن والدفاع عنه، ونحن عندنا واجب اتجاهكم، وهذه نيّتنا لهذه اللّيلة.
– لقد تلطّفتم بنا، حفظ الله شباب الوطن ليتمكّنوا من حفظ الحدود وخدمة الوطن، فيصبح الوطن وردة وروضة بإرادة هؤلاء الأبناء، هؤلاء الشباب، هؤلاء المضحّين، هذه الأرواح التي يُقدّمونها، هذه التضحيات، فالأمل معقود على هذا، لتُبنى إيران ويكون لها هذا العزّ وهذه الكرامة.
– إن شاء الله، إن شاء الله، سيحصل كما تقولون.
يقوم “السيّد” ليذهب، فيُعطي هدية لزوجتي ويقول هذه تذكار اللّيلة لكم، وهي كما هو معلوم لا تعرف اللغة للتحدّث، فيعقد لسانها وتكتفي بالنظر، فأتكلّم بدلاً عنها: أخجلتنا يا سيّد، تلطّفت بنا، أتعبت نفسك، فأسمع الجواب: لا، هذا واجبنا.
لم أعد أعرف ماذا أفعل، أرغب في أن أُعانق السيّد، لكن خجلت من ذلك، ولم أستطع إلا أن أشكره مرّة أخرى.
– شكراً جزيلاً، تلطّفت علينا كثيراً بمجيئك إلينا، روحي فداك ….
* * *
البيت التّالي قريب جدّاً، هو بيت الشهيد هراند هاكوبيان في الزقاق نفسه، مقابل بيت الشهيد آفانسيان، فيذهب سماحة السيّد إلى البيت التّالي مشياً على الأقدام، من دون أن يلتفت أهل الحيّ إلى وجوده! حزنُ هذا البيت، ما زال حيّاً، وسيبقى كذلك.
* * *
توفّي والدي في سنة 1982 ميلاديّة، كان سائق شاحنة نقل بضائع كبيرة، وتعرّض لحادث سير على طريق مدينة “خرم آباد”. توفّي وله من العمر خمس وخمسون سنة، مخلِّفاً وراءه ستة أولاد، أربع بنات أخريات، وصبيَيْن. كان هراند الولد الأصغر للعائلة، في سنة 1986 ميلاديّة التحق بالجندية وذهب إلى الجبهة، وبين كلّ إجازة وأخرى كانت أمّي تعيش حالة اضطراب وقلق شديد وتقول: “بعد رحيل أبيكم لا طاقة لي على تحمّل
 
 
 
282

237

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 الأحزان، كم رجوت من الله أن يأخذني سريعاً، لكن أودّ فقط أن احتفل بزواج هراند، ولكن لم يتحقّق ذلك، فذقنا لوعة فراقٍ لم نتوقّعه أبداً”.

﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾1
الشهيد هراند هاكوبيان ميلاكروي
اللّهم ارزقنا الشهادة
الولادة 1968م – الشهادة 1988م “خرمشهر”.
في أواخر ربيع العام 1988 ميلاديًا، مضت عدّة أسابيع على ذهاب هراند إلى الجبهة، كان يتّصل مرّة كلّ يومَيْن أو ثلاثة ويطمئننا عن حاله، مضى أسبوعان ولا خبر عنه!. كانت خدمته في منطقة فكه2، وكان مقرّراً أن يأتي أواخر شهر حزيران في إجازة، فيذهب أولاً
 

1- سورة آل عمران، الآية 169.
2- منطقة صحراويّة ورمليّة على الحدود بين إيران والعراق، على شمالها تقع محافظة إيلام، وعلى جنوبها محافظة خوزستان، (فكه) هي إحدى المناطق التي شهدت هجوم الجيش البعثي العراقي منذ بداية الحرب، وبقيت معه إلى نهايتها تقريباً، وشهدت (فكه) عدّة عمليات مثل عملية (والفجر – التمهيدية) و(الفجر –واحد)، واستشهد فيها عدد كبير من أبناء الوطن من جملتهم الشهيد حسن باقري والشهيد مجيد بقائي، وبسبب رملية الأرض وبقائها بيد الجيش البعثي إلى نهاية الحرب فقد بقيت أجساد الكثير من الشهداء في تلك المنطقة، وتمّ التعرّف إليها بعد سنوات من عمليات التنقيب والبحث، حتى إنّ عناصر من فريق التنقيب والبحث عن الشهداء، قد استشهدوا في (فكه) نتيجة إصابتهم بالألغام، والشهيد السيّد مصطفى آويني استشهد في (فكه) وهو يصور فيلماً وثائقيًا جرّاء انفجار لغمٍ أرضي به.
 
 
 
283

238

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 إلى بيت أختنا الكبرى في أصفهان، وبعدها يأتي إلى طهران ليعود مجدّداً إلى الخدمة. ولكن لم نتوصّل لأيّ خبر، فقلقنا عليه، واتصلنا بكلّ الأرقام الّتي بحوزتنا، ولكن لم نتوصّل لأيّ خبر. مضى أسبوع آخر، كادت أمّي أن تموت من القلق، حصلنا على عناوين من الجيش وذهبت إليها، فقالوا لها لقد جرت عمليات هنا ولا يوجد أيّ خبر عن هراند يُحتمل أنّه أُصيب ويرقد في مستشفى ما للعلاج. بدأت هذه العجوز المسكينة بالبحث فدارت على كلّ مستشفيات طهران، واحدًا، واحدًا، وكنّا في كلّ يوم يُرافقها أحد إخوتي أو أخواتي، ولكن لم نعثر على أيّ خبر، فأرادت أمّي أن تذهب إلى المدن والمحافظات الأخرى لتبحث هناك، ولكنّنا لم نسمح لها بذلك.
مضى ما يُقارب الأربعين يوماً ولا خبر عن هراند، حتّى علمنا بشهادة ابن جارنا الّذي كان صديقاً لـهراند ويحمل نفس اسمه هراند آفاسيان. بعد تشييع ودفن الشهيد آفاسيان، ذهب أخي 
الأكبر مع والد الشهيد آفاسيان إلى “فكه” للاستعلام عن أخينا، ليعودا بعد عدّة أيام والحزن يملأ وجه أخي، لم يستطع الكلام، وكلّما سألته أنا وأمّي لم نلقَ منه جواباً.
– هل رأيت هراند؟ هل هو حيّ؟ معافى؟ أين هو الآن؟ لماذا لا تتكلّم؟ قتلتنا بسكوتك.
خنقته العبرة وأجهش بالبكاء، ولم أره حتى الآن بهذه الحال من البكاء الشديد والعويل. لقد كانت علاقته بهراند أقرب للصداقة منها للأخوّة، عرفت من بكائه أنّ هناك خبراً سيّئاً، فبدأت أنا وأمّي بالبكاء.
وأثناء بكائي، سألته: هل استشهد؟
فهزّ رأسه مؤكّداً الخبر، فعلى صوتي بالصراخ. 
سألتُه مرّة أخرى: هل رأيت جثّته؟
فعلا صوته هذه المرّة وأشار إليّ أن لا!
انهمرت دموعي، وجرت بغزارة، ساءت حال أميّ، واكتفت بالبكاء، وكانت تبكي بحرقة وعويل يُدمي القلوب.
أخذت بيدي أخي ونظرت إليه حتى هدأ، فقلتُ له: ماذا تعني بـ “لا”؟ ولكن كيف عرفت أنّه استشهد؟
– قال عدد من رفاقه أنّه استشهد.
 
 
 
 
 
 
284

239

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 – ولكن لماذا لم يُسلّموك الجثّة؟

أحنى رأسه للأسفل، وكأنّه مذنب، فأحسست أنّ نظراتي تُثقل كاهله، فأحني رأسي للأسفل ليرتاح أكثر، وقلتُ بعطف: تكلّم يا أخي ماذا حدث؟
كتم عبرته وقال جملتَيْن بصعوبة بالغة: أثناء الانسحاب لم يستطيعوا سحب جثث الشهداء، فأصبحوا في عداد المفقودين.
لم أُرد أن أُصدّق، والآن ماذا سنُخبر أمّي!؟
كان ذلك اليوم من أصعب أيّام حياتي، وكذا كان كلّ يوم مرّ على أمّي بصعوبة ومشقّة، فهي لم تتقبّل في البداية أنّ هراند قد استشهد وكانت تنتظره ليعود. حتّى إنّه في إحدى المرّات في أواخر شتاء العام 1988م، قالوا إنّهم أحضروا فيلماً عن الأسرى الإيرانيّين في المعتقلات العراقيّة وتقرّر أن يُعرض في مدينة الأهواز، فأصرّت أمّي على الذهاب لترى الفيلم.
رافقتها في السفر ووصلنا بالقطار إلى مدينة الأهواز، كان الفيلم يُعرض على شاشة سينما، وكانت جودته متدنّية ولم تكن صور الوجوه واضحة، كما إنّها كانت متشابهة فالرؤوس حليقة، ويرتدون نفس الزيّ واللون، في وسط الفيلم رأت أمّي أحد الشباب فقالت: هذا هراند ابني، ولكن في الواقع لم يكن التشخيص ممكناً، أحيا هذا الفيلم الأمل في أمّي على أنّ هراند ما زال حيّاً.
في سنة تسعين، حين بدأ الأسرى العودة إلى الوطن الدفعة تلو الأخرى، كُنّا نذهب لاستقبالهم دائماً، لعلّ أحداً منهم يحمل خبراً عن هراند، أو أنّه رآه في المعتقل، ولكن لم يره أحد منهم، حتّى عندما سألنا عدداً من المقاتلين الأرمن الّذين أُسروا، قالوا: ليس عندنا أيّ خبر عنه.
بدأتْ أمّي تتقبّل رويداً رويداً أنّ ابنها لن يعود، وبعد ذلك، كانت تتمنّى أن يعثر على جسده ليكون له قبر يكتب عليه اسمه وتتمكّن من أن تضع رأسها عليه.
مضى حتى الآن خمس سنوات على فقدان هراند، ومن عادتنا أن نأتي إلى بيت أمّي ليلة عيد الميلاد، لنحتفل بهذه المناسبة ولمساعدتها أيضاً.
في الصباح، اتصلوا بـإدوارد وقالوا له: سيأتي إليكم ضيوف هذه الليلة، ليتكلّموا عن
 
 
 
 
285

240

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 شهيدكم. إدوارد ابن أختي يصغر هراند بسنتين، وكان صديقاً حميماً له، انتقل بعد شهادته من أصفهان إلى طهران ليؤنس أمّي في وحدتها، أضحى هذا الحفيد وهو في ريعان الشباب أمل أمّي في الحياة، وإذا لم تره أمّي ليومَيْن تسوء حالها.

ليلة عيد الميلاد وقد تحلّقنا حول بعضنا البعض، نتجاذب أطراف الحديث، وقد نسيت أمر الضيوف من أصله، إلى أن سمعت جرس البيت يُقرع، أجاب إدوارد ولأنّه لا يعرف أصوات المتكلّمين، ذهب بنفسه إلى الباب، فهؤلاء لا بدّ أنّهم الضيوف!.
بعد لحظات، سمعت صوت إدوارد يُرحّب بالضيوف: تفضّلوا…تفضّلوا.
ويرتفع صوت شخصَيْن بالقول: “يا الله… يا الله”.
وحتى هذا الحين، لم يقل أحد في هذا البيت “يا الله”، فإنّه لا يدخل البيت إلا نحن والعائلة، حتّى لم يدخله أحدٌ من الأرمن فكيف بالمسلمين، ذهبنا إلى الغرفة وارتدينا اللّباس الشرعي ووضعنا الحجاب على رؤوسنا احتراماً لضيوفنا المسلمين الّذين أحببت أن أعرف من هم.
عندما دخلت غرفة الضيوف، سمعت الرجلَيْن يقولان لـإدوارد ضيوفكم على الطريق وبعد عدّة دقائق سيصلون. ويسألانه عدّة أسئلة بدت لي غريبة، وأثارت انزعاجي!
فقد سألوا: كم شخصًا أنتم في البيت؟ هل من المقرّر أن يأتي أحد إلى بيتكم؟ ما هي الصلة التي تربط الموجودين في البيت بالشهيد؟ كم جهاز تلفون عندكم في البيت؟ وأسئلة أخرى من هذا القبيل! ولم أعرف لِمَ كلّ هذه الإجراءات.
لم أُسلّم على الحضور، فانسحبت وذهبت مباشرةً إلى المطبخ، وجلست قرب أمّي أتحدّث إليها، دخل إدوارد بحماس إلى المطبخ، شيء لا يُصدّق، “السيّد” الخامنئي في طريقه إلينا. 
دخلت إلى غرفة الضيوف وسألت الرجلَيْن هناك: ماذا يقول ابن أختي؟
– سلام.
فأذوب من الخجل: سلام، عفواً لقد ذُهلت للخبر، يعني….حسناً….
– لا داعي للذهول يا سيّدة! فسماحة السيّد القائد في طريقه إلى بيتكم، وأعتقد أنّه الآن عند أول الزقاق.
 
 
 
 
286

241

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 يقول هذا ويذهب نحو الباب، فيلحق به إدوارد وقد تجمّدتُ أنا في مكاني مذهولة! فيأتي شخص ويجول ببصره ويذهب نحو الكنبة قرب التلفزيون، تحت إطار صورة والدي، فيقول: هنا مكان جيّد للجلوس، فأذهب وأُخبر أمّي.

لم يكن الوقت كافياً للتفكير ولا لمحاولة التصديق، جئنا أمام الباب للاستقبال، أجل لقد كان هو بعباءة بلون “البيج” (الرملي) وعصاه السوداء وابتسامته، ألقى علينا “السيّد” التحيّة: السلام عليكم، وجلس على الكنبة وطلب منّا أن نجلس نحن كذلك، وجلس إدوارد ملاصقاً له.
سأله “السيّد” في البداية عن فقدان أثر هراند وقرابة كلّ منّا له، فأُجيب أنا وإدوارد.
قلتُ: إنّ هراند كان في السابعة عشرة من عمره عندما ذهب إلى الخدمة العسكريّة، أي قبل الموعد المقرّر له بسنة، ومهما حاولنا إقناعه بالبقاء لم يُجدِ نفعاً، كان عددٌ من أصدقائه قد ذهبوا إلى الجبهة فاشتاق هو أيضاً للذهاب وذهب، كانت دورته التدريبية في “ثكنة 05 ” في مدينة كرمان، وبعدها خدم في مدينة “انديمشك وفكه”، عندما عاد من الدورة التدريبيّة كان يقول كُنّا خمسة وعشرين أرمنياً، وأطلقوا على مجموعتنا اسم “سريّة الأرمن”.
تحدّثت عن طريقة فقدان أثره، وعن إعالته للعائلة، وكيف أنّه بعد آخر اتصال له معنا لم نعد نعرف عنه أيّ خبرٍ، وقلتُ بما أنّ هراند يُعدّ معيلاً للعائلة كان يُمكنه أن لا يذهب للخدمة
 
 
 
 
 
287

242

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 العسكريّة، أو على الأقلّ كان يُمكنه أن يخدم في طهران، ولكنّه لم يقبل وذهب إلى الجبهة.

سأل سماحته عن تاريخ وفاة والدي، فأجبت بدل أمّي وقلتُ: العفو من سماحتكم فأنا سأتكلّم، لأنّ أمّي لا تعرف الفارسيّة جيّداً.
– وكيف لم تتعلّم الفارسيّة؟
– تعلّمت، وكانت تذهب إلى صفّ محو الأمّية، ولكنّها لشدّة حزنها وغصّتها بعد فقدان أثر أخي نسيت كلّ ما تعلّمته.
– عليها أن تتكلّم الفارسية كثيراً، لتُصبح سهلة عليها إن شاء اللّه.
ثمّ تكلّم سماحته عن قيمة وقدر الشهداء وعائلاتهم، وكنت أدعو الله أن تفهم أمّي كلّ ما يقوله.
– هذه العائلات الّتي ضحّت في سبيل استقلال الوطن وحفظ عزّته، ذهب أبناؤها إلى ساحات الوغى، قاتلوا وحاربوا وضحّوا، استشهد بعضهم، وفُقد أثر آخرين كابنكم، إضافة إلى الجرحى. قد ترون شابّاً كان قويّ البنية، جميلاً، حسن الشكل، ولكنّه الآن جريح مُقعد، وهذا مثل الشهادة، هؤلاء أجرهم عند الله عظيم، قيمتهم عند الناس كبيرة، وبرأيي أهمّيتهم بالنسبة إلى الوطن كبيرة كذلك.
نحن نعتبر أنّ لهذه العائلات قدرًا وقيمة، نحن لا نقول على ألسنتنا هنا وهناك لمجرّد الكلام فحسب، لا ليس كذلك، بل نحن نكنّ الاحترام في قلوبنا لمثل هذه الأمّ التي تحمّلت عذابات ذهاب ابنها إلى ساحة القتال، فيستشهد أو لا يعود فيُصبح مفقوداً،
 
 
 
 
288

243

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 فهذا بالنسبة إلينا ذو قيمةٍ وقدرٍ. لأجل ذلك، أردنا أن نُبارك لكم أيّام العيد وولادة السيّد المسيح عليه السلام، ونواسيكم من جهة أخرى بهذه الحادثة الأليمة.

آمل أن يكون عيدكم مباركًا إن شاء الله، أسعد الله قلوبكم، ببركة هذا العيد وببركة ابنكم الشهيد.
تحمّلوا الأحداث، ولا شكّ أنّ تحمّلها صعب ومرّ، ولكن لها أجر عند الله، إذا احتسبها الإنسان عند الله فلا شكّ أنّه سينال الأجر.
حتى هذا الوقت، كنتُ قد فكّرت كثيراً بذهاب هراند، وشعرت بالافتخار، لكن ليس إلى هذه الدرجة العالية، وكأنّ هذا الكلام غيّر نظرتي إلى أخي وذهابه.
عائلتنا جزء من أرمن “فَريدَن” وما زلنا نملك قطعة أرضٍ زراعية هناك، وموضوع أرمن فَريدَن موضوع جذّاب للسيّد الخامنئي، فقد سأل عن جذورهم وعن تاريخ وجودهم هناك. في تلك اللحظة ارتفع صوت طرق على الباب، ذهبت أمّي مع أحد المرافقين عند الباب لتعود مع السيّد داوود، وهو صاحب البيت وجار أمّي في الطابق العلوي، السيّد داوود رجل مثقّف ومتعلّم، ويتكلّم باللّغة الأدبيّة.
بعد وفاة أبي تعاطف معنا كثيراً، إلى حد أنّه في كثير من الأوقات لا يأخذ منّا أجرة البيت، أو إذا أخذ يأخذ أقلّ ممّا يجب بكثير، ويظهر أنّ السيّد داوود من خلال الذهاب والمجيء والأصوات التفت إلى أنّ هناك أمراً ما في البيت، وبعد السلام على السيّد الخامنئي يقول: من منطلق واجبي أُرحّب بكم، وشكراً جزيلاً لكم بتلطّفكم علينا، جعلتمونا نشعر بالفخر في هذه 
اللّيلة، ليلة عيد الميلاد.
– إن شاء الله يكون هذا العيد مباركًا عليكم جميعاً وعلى جميع الأرمن.
ثمّ يدور الحديث عن تاريخ وجود الأرمن في “فَريدَن” أصفهان، وبعد توضيحات السيّد داوود عن تاريخ أرمن إيران يقول سماحة السيّد:
– الأرمن أناس جيّدون، الأرمن في وطننا أناس مُجدّون، وقدّموا الكثير من الخدمات.
– إنّ هذا ليس بالأمر غير الاعتيادي، فأنا أعتقد أنّ على كلّ إيرانيّ أن يكون مجدياً لوطنه. 
– ليس الكلام عن الأمور غير الاعتياديّة، بل عمّا هو عادي ومتوقّع منكم، ولا نُطالب بما يفوق الحدّ الطبيعي المطلوب، فالأرمن هم مثل باقي المواطنين المتعاضدين الموحّدين
 
 
 
 
 
289

244

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 في حركة بناء الوطن.

– نحن في إيران وفي ظلّ الجمهوريّة الإسلاميّة نعيش بحرّية مطلقة، وبراحة وبشكل جيّد، وأوضح لسماحتكم أكثر، قبل عدّة سنوات كنتُ في بريطانيا، وكان هناك جلسة لأصدقاء من الأساتذة المتقاعدين من جامعة أكسفورد وهارفارد وغيرها، كانوا كبار السنّ من النساء والرجال ويتحدّثون عن الحضارة في الدول الغربيّة والشرقيّة، وبالمصادفة كان التركيز على الأقلّيات التي تعيش في الدول الإسلاميّة، كحالنا في إيران الّتي تعود إقامتنا فيها لسنوات وسنوات، عندما قلتُ لهم الواقع الّذي نعيشه، تعجّبوا، فقلتُ لهم: لا تتعجّبوا، فلم يكن لأغلبهم معرفة بذلك، لم يكونوا على علم بما يجري، وكم نعيش بحرّيةٍ في إيران، وكم أنّ العيش متاح لنا من الناحية الثقافيّة والدينيّة والاجتماعيّة.
وأقول بحقّ، نحن فيإيران نعيش براحة، بحيث لا نشعر أنّنا أقلّية. الكثير من الأمور التي نعيشها هنا أفضل لنا من أرمينيا بكثير.
السيّد داوود أحد صحافيّي طهران القدامى، وكان يُحدّث سماحة السيّد بشكل موجز عن عمله، كان كلامه جميلاً، وإذا لم يكن هناك مانع فإنّه سيستمرّ بحديثه لساعة أخرى، ولكن السيّد الخامنئي يُقبلُ على بنت أخي ويسألها عن الدرس والمدرسة، ما يوحي أنه يُولي اهتماماً بالدرس وبتعليم الأطفال.
كانت نهاية هذه الزيارة الّتي لا تُنسى، حيث أراد ضيفنا الجليل أن يودّعنا، لم أعلم كم دقيقة مضت على مجيئه، ولم أرغب في أن أنظر إلى الساعة، فهذه الدقائق عزيزة عليّ جدّاً.
– حسناً لا أُريد أن أُزعجكم أكثر من ذلك، كان قصدنا أن نُبدي إخلاصنا للسيّدة الوالدة، ونُبارك لكم العيد، ونواسيكم بابنكم الرشيد والشجاع.
ينظر السيّد داوود إلى أمّي ويقول: إنّها فخر لنا. 
– هو افتخار لها ولنا، فابنها ليس فخرًا لها فحسب، بل لكلّ العائلة وللوطن وللشعب – وكلّ جندي هو كذلك – هذا ما قصدناه اللّيلة، أدعو الله (عزّ وجلّ) أن يوفّقكم ويؤيّدكم.
يُعطي أمّي هدية، ويستأذنها للذهاب.
– تأذني لنا بالذهاب أيّتها السيّدة؟ تأذنوا لنا بالذهاب أيّها السادة؟ في أمان الله.
وأمّي المسكينة تكتفي بالنظر، نظرة مليئة بالشكر، فيُبادر السيّد داوود بالكلام قبلنا:
 
 
 
 
 
290

 


245

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 قلوبنا لا تُريد أن تذهب بهذه السرعة، قلوبنا تُريد أن نكون في خدمتكم أكثر.

– حسناً، ولكنّكم تأخّرتم بالمجيء، فقد جئنا قبلكم.
بهذه المزحة لوّن سماحة السيّد اللّحظات الأخيرة بالابتسامة، ذهبتُ أنا وأخي أمام باب البيت لوداعه ومشايعته، حيث انطبعت صورته الأخيرة في إطار باب البيت في ذهني على مدى 
السنوات.
تمرّ سيارة عاديّة كبقية السيارات من زقاق وشوارع حي “وحيديه” في طهران، من دون ضوضاء واستعراضات، وتمضي نحو مركز المدينة.
أكثر سكان هذا الحي هم من الأرمن واللّيلة هي ليلة عيد الميلاد، ومحلّات الحلوى مزدحمة، وجو هذه الليلة وهذا الحي مختلف عن الأحياء الأخرى لطهران، بالأخصّ أجواء البيوت الثلاثة الّتي زارها اللّيلة ضيف متميّز. فالليلة الكلّ مشغولون بالعيد والخبر الّذي يبدو أنّه لم ينتشر، ولكن في الغد في مراسم العيد في الكنيسة، سينتشر بشكل غريب، حتى إنّ هذه العائلات الثلاث الّتي لم تكن تعلم في ما بينها بالزيارات الأخرى للسيّد القائد سيظهر لهم الأمر في الكنيسة أنّ هذا الضيف العزيز قد ذهب إلى بيتَيْن آخرَيْن من بيوت الشهداء، تتعانق أمّ الشهيد آفانسيان مع أمّ الشهيد هاكوبيان، وتجري دموعهما بشكلٍ لا إرادي، كانت كلٌّ منهما تحمل بيدها تذكار اللّيلة السابقة، أخو الشهيد فيكن كارابتيان يُخبر رفاقه الشباب عن الزيارة.
عيد الميلاد تلك السنة كان مختلفاً لجميع الأرمن في الوحيدية، فقد كان عيد الميلاد بحضور وليّ أمر المسلمين.
إدوارد هاكوبيان ابن أخت الشهيد هراند هاكوبيان – تشرين الأول 2014م.
 
 
 
 
 
291

246

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 والدة وإخوة الشهدي فيكن كارابتيان – حزيران 2014 م

الأغراض الشخصية للشهيد هراند آفانسيان
متحف الشهداء طهران، شارع آية الله طالقاني.
 
 
 
 
 
292

247

الرواية السّادسة عشرة: السّفير

 الرواية السّادسة عشرة: السّفير- رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد “ألبرت الله داديان” و الشهيد “فاهيك باغداساريان”  بتاريخ 27/12/2005م.

 
الشهيد آلبرت الله داديان
استشهد في: منطقة سومار، كرمانشاه (غرب إيران) 
تاريخ الاستشهاد: 25/07/1987م
 
الشهيد فاهيك باغداساريان 
استشهد في: منطقة دارخوين
تاريخ الاستشهاد: 04/03/1984م
 
 
 
 
 

شاهد أيضاً

قاليباف من عين التينة: إيران ستبقى وتظل واقفة إلى جانب لبنان في هذه الظروف الصعبة

لبنان  12/10/2024 قاليباف من عين التينة: إيران ستبقى وتظل واقفة إلى جانب لبنان في هذه ...