أسرار الصلاة – الجليل الشيخ الجوادي الآملي 19
10 يونيو,2020
صوتي ومرئي متنوع, طرائف الحكم
689 زيارة
الصلة الرابعة في سرّ القيام والركوع والسجود و .
كما أنّ للصلاة ذكرا وقولا كذلك لها حال وفعل ، ولكلّ من ذلك سرّ ، إذ الصلاة بأسرها ذات سرّ ، وقد تقدّم أنّ الطريق الوحيد لبيان سرّها هو : الكشف الصحيح ، أو النقل المعتبر ، إذ لا سبيل للعقل الطائف حوم كعبة الكلَّيّات أن يسعى بين مصاديقها الجزئيّة ، وأن يلزم أن لا يكون الجزئيّ المنكشف أو المنقول مناقضا للكلَّيّ المعقول المبرهن .
وأنّ الذي يوجّه به حال المصلَّي من القيام ونحوه لا خصيصة له بالصلاة ؛ لجريان غير واحد من ذلك في غيرها : كالوقوف في عرفات ، والمشعر ، وكذا الطواف والسعي ، حيث إنّ بعض ما يوجّه به أفعال الصلاة وأحوالها يجري في مناسك الحجّ والعمرة ونحوهما .
وحيث إنّ المهمّ هو النصّ الوارد في بيان أسرار الصلاة في المعراج ونحوه ، فلنأت بنبذ منه ، ثمّ نشير إلى ما يمكن توجيهه .
روي في العلل عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام : كيف صارت الصلاة ركعة وسجدتين ؟ ( أي : في كلّ ركعة ركوع وسجدتان ) ، وكيف إذا صارت سجدتين لم تكن ركعتين ؟ فقال عليه السّلام : « إذا سألت عن شيء ففرّغ قلبك لتفهم ، إنّ أوّل صلاة صلَّاها رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – إنّما صلَّاها في السماء
بين يدي اللَّه تعالى قدّام عرشه تعالى . إلى آخره » « 1 » .
والمستفاد منه : أنّ « صاد » الذي أمر رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – أن يغتسل ويتوضّأ منه هو عين تنفجر من ركن العرش كما تقدّم ، ويقال له : ماء الحياة ، وهو ما قال اللَّه عزّ وجلّ * ( « ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ » ) * ، وأنّ أحوال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله : من القيام والركوع والسجود ، والجلوس والانتصاب من ذلك كانت بالوحي الإلهيّ ، ولكلّ حال ذكر وقول ، كما عن دعوات الراونديّ عن النبيّ – صلَّى اللَّه عليه وآله – أنّه قال : « أمرني جبرئيل أن أقرأ القرآن قائماً ، وأن أحمده راكعا ، وأن أسبّحه ساجدا ، وان أدعوه جالسا » « 2 » . كما أنّه روي : « للانتصاب ذكر خاصّ » .
ولمّا كان الإنسان كونا جامعا بين الحضرات كلَّها فهو واجد لكلّ حال يجده الملك ، ولا عكس ، إذ قد ورد في الملائكة : « أنّ منهم : سجودا لا يركعون ، وركوعا لا ينتصبون ، وصافّون لا يتزايلون . » « 3 » ، ولكنّ الإنسان ينتصب تارة ، ويركع أخرى ، ويسجد ثالثة ، ويجلس رابعة ، ويتزايل إلى القيام خامسة ، كما فعله رسول اللَّه – صلَّى اللَّه عليه وآله – في المعراج .
وحيث إنّ ما ورد في سرّ الركوع أنّ تأويله : « آمنت بوحدانيّتك ولو ضربت عنقي » « 4 » مثال لسائر أحوال الصلاة من القيام ونحوه ، فيمكن أن يقال : إنّ سرّ القيام وتأويله هو الإعلام بالإعداد لمحاربة العدوّ من قوّة ترهبه ، والمقاومة تجاه أيّ بلاء مبين ، إذ الصلاة ممّا يستعان بها للحوادث والكوارث حسبما قال تعالى :
* ( « وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ » ) * « 5 » . وهكذا الإعلام بامتثال قوله تعالى * ( « قُومُوا لِلَّه ِ قانِتِينَ » ) * « 6 » . وبإطاعة قوله تعالى :
* ( « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّه ِ ) * . » « 1 » ، و « . * ( كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّه ِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ) * » « 2 » ، ولا خفاء في أنّ المراقب على القيام للَّه وحده يصير قائماً بالقسط ، ثمّ يصير قوّاما به ، ثمّ يصير مظهرا للقيّوم الذي تعنو له الوجوه بالعرض والتبع ، كما أنّها عنت للحيّ القيّوم بالذات وبالأصالة .
والغرض : كما أنّ المحاورة قد استقرّت على التعبير عن الصبر والحلم والجهاد والاجتهاد بالقيام ؛ لأنّه أقوى حالة للإنسان بها يقدر على الذبّ أو الصول كذلك المشاهدة الملكوتيّة قد استمرّت على التمثّل بالقيام أو الانحناء أو السجود ، أو الجلوس ، لأحوال تعتري الإنسان تجاه ربّه من الحضور لديه ، والانقياد لأمره ، والتذلَّل في فنائه ، والتربّص لصدور أمره ، وحيث إنّ المهمّ في إقامة الصلاة هو كون المصلَّي قائماً للَّه لا يعجزه شيء ولا يقعده أمر من الأمور ورد في حقّ القيام والاهتمام به حال الصلاة : أنّه « لا صلاة لمن لم يقم صلبه » « 3 » ، وهذا وإن كان ظاهره الحكم الفقهيّ من لزوم الاستواء حال التكبير للإحرام ، وحال القراءة ، وقبل الركوع ونحو ذلك ممّا يجب فيه القيام ، ركنا أو جزء ولكنّ تأويله هو : أنّ المناجاة مع اللَّه تستلزم المقاومة مع الخواطر والهواجس ، فضلا عنها مع الكوارث والحوادث .
كما أنّ إحياء العدل ، وإجراء القسط ، وعون المظلوم ، وخصم الظالم تفتقر إلى القدرة المعبّرة عن ذلك بالقيام بالقسط ، حسبما ورد في حقّ اللَّه تعالى * ( شَهِدَ ا للهُ أَنَّه ُ لا إِله َ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ) * « 4 » . وحيث إنّ اللَّه سبحانه دائم في شهادته بالوحدانيّة فهو دائم القيام بالقسط ، وكذلك الملائكة الَّذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، ويخافون من فوقهم ، ولا يعصونه طرفة عين ، بل وهكذا أولو العلم ، إذ الدوام في الشهادة بالتوحيد مستلزم للدوام في القيام
بالقسط ، فهو قائم دائما ، ولعلّ من هذا القبيل : اتّصاف بقيّة اللَّه تعالى واتّسامه – عليه السّلام – بوصف القيام وسمته .
ولمّا كان القيام لإحياء كلمة اللَّه وإعلائها فمن أحياها وأعلاها فهو قائم واقعا وإن كان قاعدا ظاهرا . ومن لم يحيها ولم يعلها فهو قاعد واقعا وإن كان قائماً ظاهرا حسبما يذكر في تفسير القيام للجهاد ، والقعود عنه ، من أنّ المدار هو : إحياء الدين بالجهاد والاجتهاد ، وإعلاء كلمة الحقّ بالإيثار والنثار ، سواء كان المجيء قائماً أو قاعدا على ما بينهما من الميز المقوليّ ؛ لأنّ كلّ واحد منهما من مقولة الوضع ، ولا اعتداد بالقيام البدنيّ تجاه قيام القلب بإحياء الدين وصون تراثه عن الضياع ، ولعلّ من هذا القبيل : هو ما قاله أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام : « . وما جالس هذا القرآن أحد إلَّا قام عنه بزيادة أو نقصان ، زيادة في هدى ، أو نقصان من عمى » « 1 » . وما قاله – عليه السّلام – في وصف أولياء اللَّه « . بهم قام الكتاب وبه قاموا » ؛ لأنّ المراد من قيام القرآن بهم : هو ظهوره العلميّ في القلوب ، والأذهان ، وأثره العمليّ في الجوارح والأبدان بإرشادهم وتبليغهم ، كما أنّ المراد من قيام هؤلاء الأولياء بالقرآن : هو علمهم وعملهم به ، وتعليمهم الناس الكتاب والحكمة وتزكيتهم بما يبعدهم عن النار ، ويقرّبهم إلى الجنّة ، ويزلفهم إلى لقاء اللَّه سبحانه .
ومن هنا يظهر أيضا معنى قول عليّ – عليه السّلام – في طعن النفاق ، وقدح المنافق :
« . قد أعدّوا لكلّ حقّ باطلا ، ولكلّ قائم مائلا . » « 2 » .
2020-06-10