حق الله
قوله عليه السلام : ( فأما حق الله الأكبر عليك ، فأن تعبده لا تشرك
به شيئا ، فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل الله لك على نفسه
أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة ، ويحفظ لك ما تحب
منهما ) .
* * *
مبحث طالما أشفقت أن أتحدث عنه ، إن حسي ليفعم بمشاعر ومعاني
لا أجد لها كفاء من العبارات ، ولكن لا بد من تقريب المشاعر والمعاني
بالعبارات .
هذه الظاهرة الخالدة التي رسمها الإمام عليه السلام ووضع خطوطها ، ظاهرة
نجد فيها لمسات وجدانية متتابعة ، تنتهي كلها إلى هدف واحد : إشعار النفس
البشرية بتوحيد الله وصدق الرسول ، ويقين اليوم الآخر والقسط في الجزاء .
لمسات تأخذ النفس من أقطارها ، وتأخذ بها إلى أقطار الكون في جولة
واسعة شاملة ، جولة من الأرض إلى السماء ، ومن آفاق الكون إلى آفاق
النفس ، ومن ماضي القرون إلى حاضر البشر ، ومن الدنيا إلى الآخرة . .
إنها حملة من اللمسات العميقة الصادقة ، لا تملك نفس سليمة التلقي ،
صحيحة الاستجابة ، إلا تستجيب لها ، وإلا تتذاوب الحواجز والموانع فيها
تحمل هذه اللمسات من المؤثرات النفسية والعقلية ما لا يحمله أسطول
من مدمرات الشرك والانحراف والفسوق !
وقد استهل الإمام ( روحي فداه ) رسالته بحق الله تعالى إذ هو أعظم
الحقوق وأجلها ، فلذلك يجب أن يؤدى كاملا ، بأن يعبد وحده دون سواه .
يعبد وحده بلا شريك ، لأنه وحده المستحق أن يعبد دون غيره .
ومثل هذه العبادة تهيمن على الشعور والسلوك ، فهي منهج كامل للحياة
يشمل تصور الإنسان لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، ولحقيقة الصلة بين الخلق
والخالق ، ولحقيقة القوى والقيم في الكون وفي حياة الناس . . ومن ثم
ينبثق نظام للحياة البشرية قائم على ذلك التصور ، فيقوم منهج للحياة خاص .
منهج رباني مرجعه إلى حقيقة الصلة بين العبودية والألوهية ، وإلى القيم التي
يقررها الله للأحياء والأشياء .
وفي هذا الخط العريض نرى الإمام عليه السلام يدعو إلى العبادة التي تتخلص
فيها الديانة السماوية على الإطلاق . يدعو إلى العبادة بإخلاص ، فقد تكون
العبادة ولا يكون معها الإخلاص ، وهذا اللون من العبادة غير نافع ، إنما
الإخلاص والعزم والجسد والمثابرة – هذا كله – هو المدار في كل الأعمال
والعبادات وغيرها من الأمور .
ودعوة الإمام هذه إلى العبادة هي نفسها محض الإخلاص ، تبتغي وجه الله
وترجو فضله . وهي في الواقع مستمدة من المنبع المعين الذي لا يغيض ،
مستمدة من القرآن الكريم . فالقرآن تكاد تغلب عليه صبغة الدعوة المخلصة
إلى الله تعالى وعبادته ، والإيمان به وحده دون من عداه .
القرآن يدعو الناس ويلح في دعوته إلى أن يعملوا من أجل التوصل إلى
العبادة بإخلاص . وأن يضربوا في الأرض إن كان التوصل إلى العبادة متوقفا
على هذا الضرب في الأرض .
القرآن يكثر التأكيد على أن الذين يترددون في إيمانهم فهم غير رابحين
وإن الذين يشركون مع الله إلها آخرا فليسوا مفلحين . بينما يؤكد في نفس
الوقت على أن الذين آمنوا لله ودخل الإيمان قلوبهم وأسلموا وأنابوا فأولئك
يغفر الله لهم ويتجاوز عنهم ويبدل سيئآتهم حسنات ، ويجعل لهم عنده مقاما
محمودا ومنزلة عليا تجاه ما أتوه من عمل ، وما قدموه بين أيديهم من معروف .
* * *
إن حقيقة العبادة تتمثل في أمرين رئيسيين :
الأول : هو استقرار معنى العبودية لله في النفس ، أي استقرار الشعور
على أن هناك عبدا ، وربا . عبدا يعبد . وربا يعبد . وأن ليس وراء ذلك
شئ ، وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار . ليس في هذا الوجود إلا
عابد ومعبود ، وإلا رب واحد والكل له عبيد .
والثاني : هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير ، وكل حركة في
الجوارح ، وكل حركة في الحياة . التوجه بها إلى الله خالصة ، والتجرد من
كل شعور آخر ، ومن كل معنى غير معنى التعبد لله .
والعبادة ليست طاعة القهر والسخط ، ولكنها طاعة الرضا والحب .
وليست طاعة الجهل والغفلة ، ولكنها طاعة المعرفة والحصافة !
قد تصدر الحكومة أمرا بتسعير البضائع ، فيقبل التجار كارهين . أو
أمرا بخفض الرواتب ، فيقبل الموظفون ساخطين .
وقد تشير إلى البهيمة العجماء فتنقاد إليك لا تدري إلى مرتعها أم إلى
مصرعها . تلك أنواع من الطاعات بعيدة عن معنى العبادة التي شرع الله للناس
فالعبادة التي أجراها الله على الألسنة في الآية الكريمة ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ،
والتي جعلها حكمة الوجود وغاية الأحياء في قوله : ( ما خلقت الجن والإنس
إلا ليعبدون ) تعني الخضوع المقرون بالمعرفة والمحبة . أي الناشئ عن
الاعجاب بالعظمة والعرفان للجميل . . .
إن العبادة شعور مكتمل العناصر ، يبدأ بالمعرفة العقلية ، ثم بالانفعال
الوجداني ، ثم بالنزوع السلوكي .
فالصورة الأخيرة ثمرة ما قبلها .
وهذا هو الوضع الصحيح لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وإحسان الخلق
وقول الحق . وسائر العبادات الأخرى .
إن العبادة الأولى في الإسلام ، هي معرفة الله معرفة صحيحة ، والعقل
المستنير بهذه المعرفة ، هو القائد الواعي لكل سلوك صحيح ، والأساس المكين
لكل معاملة متقبلة .
ويوم تتلاشى هذه المعرفة من لب الإنسان ، فلن يصح له دين ، ولن
تقوم له فضيلة .
المعرفة الصحيحة لله تهون من قيمة الأخطاء التي يتورط فيها المرء ،
أخطاء عارضة ، أو خدوش سخطية .
أما الجهل بالله ، فهو الخطيئة التي لا تغتفر ، ولا يصلح معها عمل . ومن
ثم يقول الله تعالى في كتابه : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون
ذلك لمن يشاء ، ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ) . ذلك أن الشرك دلالة
جهل غليظ بالله عز وجل .
وقد أطردت آيات القرآن تبني سلوك الناس على المعرفة بالله ، وتريهم
صحائف مشرقة من خلقه البديع وفضله الجزيل . تمزق ما نسجته الغفلة على
الأعين من جهالة وجحود .