أفي القوة الكهربائية شك مع مشاهدة الأعمال التي يحصرها العلم
بتأثير القوة الغير المنظورة .
أفي النفس شك مع مشاهدة أعمال الحيوان التي يحصرها العلم بتأثير
النفس .
أفي الله شك فاطر السماوات والأرض مع مشاهدة الأعمال الكبيرة في
النظام الباهر ، والحكمة الفائقة في عالم الكون .
هذه الأعمال التي لا يمكن للعلم المستقيم إلا أن يحصر تعليل صدورها
بواجب الوجود العليم الحكيم ، وهو الله جلت عظمته .
إذا شهدت بوجود الموجود آثاره وأعماله المحسوسة بكثرة مدهشة ، فلا
يصح لنا جحوده أو التوقف عن الاعتراف به ، لمحض قصورنا عن تصور حقيقته
ولماذا لا نلتفت بذلك إلى قصور أفكارنا عن معرفة جملة من الحقائق ، وإلى متى
وحتى متى نكون معجبين بأفكارنا ، فنقابل الحقائق بالجحود الأعمى والتوقف
السخيف ، عادة جرينا عليها ولم يرد عناعنها ظهور خطأنا وجهلنا ، وكثرة
الحقائق التي نعترف بها ولا نهتدي إلى معرفة كنهها سبيلا .
سمع الناس على بعد باختراع التلغراف فضجوا بالجحود والتشكيك
اغترارا بأوهامهم في الطبيعيات ، حتى إذا شاهدوا أعماله خمد صوتهم وصاروا
يعللونه بالقوة الكهربائية التي لم يعرف كنه حقيقتها حتى الآن .
وسمع الناس بالفونغراف ( صندوق الأصوات ) فتسرعوا حتى بعض الخواص
الممارسين للطبيعيات وجاهروا . بجحوده والتشكيك في أمره اغترارا بأوهامهم
في طبيعة الصوت .
ذكر التلغراف اللاسلكي فلج السامعون بجحوده والتشكيك فيه حتى مع
ألفتهم للتلغراف السلكي .
ذكر النور الغير المرئي ( نور رونتكين ) فعده السامعون من الخرافات
اغترارا بأوهامهم في طبيعيات النور والشفافية والكثافة ، وإلى الآن لم يعرف
كنه الحقائق المؤثرة في هذه الأعمال .
يرون الناس أعمالها ويقفون في معرفة كنهها موقف المبهوت .
نرى أعمال النفس في الحياة والشعور ولا يمكننا درك كنهها .
نعم تسرع بعض الناس في البحث عن ماهيتها فصار هذا يقول : رأيي
هكذا ، وهذا يقول : رأيي هكذا . آراء مجردة ، وفتاوى كلها مقدسة ،
لكن ذات النفس تشمئز من أوهامهم وتضجر .
ما هي القوة وما هو كنهها ؟ ما هي ماهية النفس والشعور ؟ ما هو
الوجود . هذه الأمور كلها غير مادية فكيف اعترفتم بوجودها ، أليس ذلك
لأجل مشاهدة أعمالها .
إذن فماذا يمنعكم عن الاعتراف بوجود واجب الوجود ، مع مشاهدة
أعماله في هذا الكون الذي لا بد من تعليله به .
يا من يفترضون الأثير افتراضا مزعوما ، ويربطون به التعليلات الطبيعية
قولوا إنه في غاية اللطافة والبساطة ، ولكن ما هي حقيقته ، هل هو مادي ،
ألستم تزعمون أن المادة من نتائج زوابعه أو تكاثفه .
قد أذعنتم لكثير من الحقائق أن لا تكون مادية ، ولا يظهر لعالم
الماديات والحواس إلا أعمالها ، فماذا يصدكم عن الإذعان بذلك لواجب الوجود
أم تريدون أن نتقهقر في التعليل إلى ما لا يمكن أن يكون واجب الوجود .
أليس من شرف الإنسانية أن لا تتلون في أفكارها .
أليس من شرف العلم أن يجري في نهج مستقيم عادل . ألا تنظرون إلى
غفلات الأهواء ، هذه الغفلات والطفرات التي يسمونها شجاعة أدبية ، انظروا
إليها كيف فعلت أفاعيلها .
كل ناظر إلى هذا الكون يراه في جميع عوالمه وأنواعه وأطواره وأدواره
ومواليده ، منتظما على نظام فائق متناسب ، وحكمة باهرة وغايات كبيرة شريفة ، و
كل جزء منه صغيرا كان أو كبيرا ، يراه مسخرا للغايات الجليلة ، معدا للفوائد الكبيرة
مستعملا في الآثار الباهرة ، جاريا على حكمة فائقة .
وكلما أمعن النظر وأحسن الجد تجلت له حسب استعداده من الغايات
والحكم ما لم يكن يخطر على باله ، وها هو العلم قد صار يكشف كل يوم عن
أسرار وغايات لم تكن في الخيال . أسرار وغايات يرتاح لها الشعور ويعظمها
العلم ويستزيد منها العالم المجد الحر .
ألا وإن الوجدان يحكم بأوليات حكومته ، وبديهيات قضائه ، أن
الموجد لا مثال هذه الأمور التي تهتف بغاياتها ، لا بد من أن يكون عالما بتلك
الغايات ، قد أوجد موجوداته لأعمال غاياتها ونتائج فوائدها التي تعرف منها
ما لا يحصى ، ويكشف العلم في كل حين عما يبهر العقول بحكمته وعظيم فوائده
يا أصحابنا هذه القطع الصوانية التي وجدها الحفريون في جوف الأرض ،
على هيئة فاس ومنشار وسنان ، كيف حكم الوجدان من أهل العلم وسائر
الناس ، بأنها صنعها البشر قبل ألوف من السنين لأجل غاياتها وفوائدها التي
كانوا يتصورونها . وهذه موجودات العالم بأجمعها في أدوارها مرتبة على نظام
الغايات ، مستعملة فيها على أتقن الحكمة ، كيف لا يحكم الوجدان بأنها
صنع صانع ، أنشأها لأعمال غاياتها المعلومة لديه .
يا أصحابنا فهذا العالم المنتظم وموجوداته التي تبهر العلم والعقل بغاياتها
الكبيرة المستعملة فيها ، كيف يقال إنه بتأثير الطبيعة البكماء والصدفة العمياء بلا
شعور بغاية ولا حكمة .