التوكل على الله :
أفلحت المدنية في تيسير العيش والترفيه عن الناس ، ولكنها فشلت في
بث السكينة في النفس ، فلا يزال القلق والخوف بشتى صوره ، والخوف على
مستقبلها الاقتصادي والاجتماعي والخوف من الفشل ، والخوف على الصحة
وغير ذلك تفعل فعلها السئ في النفس الإنسانية .
وقد أظهر علم الطب النفساني الجديد أن سلسلة طويلة من الأمراض من
البرد العادي إلى النقرس ، يمكن في كثير من الأحوال ردها إلى متاعب عقلية
لا بدنية ، وليس سوء الصحة الذي يعتري كثيرا من الناس إلا ستارا لمخاوف
عميقة القرار .
وإن في الإسلام عاملا نفسانيا للقضاء على الخوف ، وهو ما أمر به من
التوكل على الله وتفويض الأمر إليه ، وقرنه بالعبادة التي خلق الله الناس لأجلها
قال الله تعالى : ( إليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه ) .
والتوكل أثر من آثار الإيمان ، فالذي يؤمن بأن الله بيده تصاريف
الحياة ، وبيده النفع والضر ، يترك الأمر إليه ويرضى بمشيئة الله ، فلا يفزعه
المستقبل وما يخبئه له من مفاجآت ، ويستعيض عن الخوف بسكينة واطمئنان
إلى عدل الله ورحمته ، ولهذا يقرر الإسلام بأن الإيمان يجب أن يصاحبه التوكل
( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) . ( الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل
المؤمنون ) .
والإسلام يحمل البشرى للمتوكلين ، ويعدهم الفضل من الله ونيل بركاته
انظر إلى هذه الآية الكريمة التي تمسح ما في نفوس المؤمنين من الخوف ،
وتمدهم بقوة روحية يستطيعون بها التغلب على خوفهم وقلقهم ، ( فما أوتيتم
من شئ فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم
يتوكلون ) . وورد في القرآن أيضا آية أخرى تحمل الوعد الصادق بالمعونة
والتأييد من الله ، ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) . أي كافيه مما أهمه
ومما أحزنه .
وهناك فئات من الناس في حاجة إلى التوكل أكثر من حاجة غيرهم ،
وهم المصلحون الذين يجتازون دائما الطريق المملوء بالأشواك ، ويكونون
عرضة للأذى والتعب المضني ، هؤلاء يعلمهم الله أن يفوضوا أمرهم إليه حتى لا
يثبط الفشل همتهم ، ويأمرهم أن يقتدوا بنبيه شعيب الذي قال : ( إن أريد إلا
الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ) .
ولكن هناك شبهة يمكن أن تتبادر إلى الأذهان ، بأن التوكل يضعف
الهمة للعمل ويؤدي إلى الكسل . هذه الشبهة عالجها القرآن ودحضها في هذه
الآية ، ( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) .
هذه الآية تدل على أن التوكل على الله يجب أن يسبقه المشاورة من
أهل الرأي في الطريق الذي يجب سلوكه ، ثم العزم الصادق في السير على
الطريق الذي استقرت المشاورة عليه ، وبعد ذلك يأتي التوكل على الله لنيل
النجاح .
فالتوكل في الإسلام هو زاد روحي للتغلب على الخوف والقلق ، وهو
الذي يعطي المؤمن بسمة أمام أهلك الساعات التي تمر به ، ويهبه سكينة النفس
المحروم منها كثير من سكان هذه الأرض .
( قال رسول الله ( ص ) : ( من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة
ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها ) وقال ( ص ) :
( من سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما عند الله أوثق منه بما في يده )
وقال ( ص ) : ( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق
الطيور تغدوا خماصا وتروح بطانا ) . وعن علي بن الحسين عليه السلام قال : ( خرجت
حتى انتهيت إلى هذا الحائط فاتكأت عليه فإذا رجل عليه ثوبان أبيضان ينظر
في تجاه وجهي ، ثم قال : يا علي بن الحسين ما لي أراك كئيبا حزينا ، أعلى
الدنيا فرزق الله حاضر للبر والفاجر قلت : ما على هذا أحزن وإنه لكما تقول
قال : فعلى الآخرة فوعد صادق يحكم فيه ملك قاهر قادر . قلت : ما على هذا
أحزن وإنه لكما تقول . فقال : مم حزنك قلت : مما نتخوف من فتنة بن
الزبير وما فيه الناس . قال : فضحك ثم قال : يا علي بن الحسين هل رأيت
أحدا دعا الله فلم يجبه . قلت : لا . قال : فهل رأيت أحدا توكل على الله فلم
يكفه . قلت : لا . قال : فهل رأيت أحدا سأل الله فلم يعطه . قلت : لا .
ثم غاب عني ) ( ولعل الرجل كان هو الخضر عليه السلام . وقال الإمام الصادق عليه السلام
( أوحى الله إلى داود : ( ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي
عرفت ذلك من نيته ثم تكتده السماوات والأرض ومن فيهن ، إلا جعلت له
المخرج من بينهن ) وقال عليه السلام : ( من أعطي ثلاثا لم يمنع ثلاثا : من
أعطي الدعاء أعطي الإجابة ، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة ، ومن أعطي
التوكل أعطي الكفاية . ثم قال : أتلوت كتاب الله عز وجل : ( ومن يتوكل
على الله فهو حسبه ) وقال : ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) وقال : ( ادعوني
أستجب لكم ) ) ( 1 )