الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / الطريق إلى مذهب أهل البيت

الطريق إلى مذهب أهل البيت

شبكة الشيعة العالمية

 

كتاب : الطريق إلى مذهب أهل البيت

المستبصر : الدكتور أحمد راسم النفيس 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

_______________________ 5 ______________________

 

أول الطريق نشأتي الأولى ولدت عام ( 1372 ه‍ / 1952 م ) .

 

كان أبي ( رحمه الله ) من رجال التعليم ، أما جدي فكان عالما من علماء الأزهر الشريف يقوم بالخطابة في مسجد القرية ، وكان له ( منتدى ) يجتمع فيه المثقفون من أبناء هذه القرية ، يتعلمون على يديه العلوم الدينية والفقهية والأدبية .

 

تفتحت عيناي على أسماء الكتب والمؤلفات الحديثة لطه حسين والعقاد ، وكم دارت مساجلات في بيتنا حول الشعر والأدب بين أبي ( رحمه الله عليه ) وبين أصدقائه من الشعراء والأدباء الذين حفلت بهم آنئذ مدينة المنصورة ، تلك المدينة الجميلة ( سابقا ) التي تقع على شاطئ النيل .

 

تعلمت من أبي وجدي ( رحمه الله عليهما ) حب القراءة والاطلاع ، قرأت كل ما وقع تحت يدي من كتب أثناء طفولتي إلا كتاب واحد عجزت عن مواصلة القراءة فيه ، وهو ( أبناء الرسول في

_______________________ 7 ______________________

كربلاء ) للكاتب المصري خالد محمد خالد ، كنت أجهش بالبكاء في اللحظة التي أمسك فيها الكتاب وأعجز عن مواصلة قراءته .

 

مضت أيام العمر الأولى ، كان أبي هادئا لا يرتبط بأي اتجاه سياسي أو ديني من تلك الاتجاهات التي حفلت بها مصر خلال هذه الحقبة ، أما أنا فكنت مختلفا بعض الشئ عن باقي أفراد الأسرة .

 

الجمعية الشرعية في العام ( 1388 ه‍ / 1968 م ) افتتح بالقرب من منزلنا مسجد ( الجمعية الشرعية ) ، كانت تلك الجمعية تطرح على الناس حديثا عن الإسلام والمسلمين منددة بالبدع

 

التي دخلت على الدين ، وكانت ترفع شعارا مضمونه : أن لا خلاص للمسلمين مما هم فيه إلا بتنقية الإسلام مما علق به من البدع والخرافات ، وأهمها بكل تأكيد ما يفعله الناس من قول

 

سيدنا ( محمد ) ( ص ) بدلا من قولهم ( محمد ) فقط مجردا من جميع الألقاب ، والمصيبة الكبرى عندهم هي الصلاة على النبي وآله عقب الأذان ، أما الشرك الأعظم – كما يرون –

فهو بكل تأكيد زيارة قبور الصالحين من آل البيت أو غيرهم ، هذا هو الإسلام الصحيح من وجهة نظرهم .

 

اجتذبتنا هذه الدعوة ( التصحيحية ) آونة من الوقت ، وما لبث المسجد أن تحول إلى مجرد مكان للصلاة ، ثم لا شئ .

 

 

_______________________ 8 ______________________

في الجامعة حصلت على الثانوية العامة عام ( 1390 ه‍ / 1970 م ) بمجموع مرتفع أهلني لدخول كلية الطب بمدينة المنصورة في جمهورية مصر العربية التي سبقني إليها أخي الأكبر المولع بالنشاط الفني ، وهو ما أهله لدخول اتحاد الطلبة .

 

وكان هذا حافزا لي على خوض التجربة نفسها ، ولكن في مجال الثقافة .

 

وكان هذا المجال النافذة التي فتحت لي باب الاطلاع على الصراعات الفكرية والسياسية التي امتلأت بها الساحة المصرية في أوائل السبعينيات ، حيث كان التيار الشيوعي لا يزال نشطا من خلال المواقع التي احتلها في الحقبة الناصرية .

 

والواقع أن الحجم الإعلامي لهذا التيار تجاوز بكثير حجمه الحقيقي ، وكان التيار الديني يتحرك بصورة خجولة محاولا اكتساب بعض المواقع ، وكان من الطبيعي أن يحدث الصدام بين التيارين المتناقضين ، وخاصة أن التيار اليساري كان يتحرك بصورة مستفزة للجميع .

 

في العام ( 1395 ه‍ / 1975 م ) ، وبعد سلسلة من الاستفزازات اليسارية ، خضنا الانتخابات الطالبية تحت راية التيار الإسلامي في مواجهة التيار اليساري ، وانتهت المعركة بهزيمة ساحقة لليسار وانتصار باهر للتيار الإسلامي ، وتسلمت رئاسة اتحاد الطلاب بكلية طب المنصورة لعامين متتاليين

 

 

 

 

 

 

_______________________ 9 ______________________

 

وقامت الثورة الإسلامية الإيرانية بهرني ذلك الرجل ( روح الله الخميني ) ( رضوان الله عليه ) منذ اللحظة الأولى ، وبهرني ذلك الشعب العظيم الذي يتلقى

 

الرصاص بصدره ، ويستعذب الشهادة ، وضايقني أن يكون ذلك الشعب ( منحرف العقيدة ) كما وصفه بعضهم من غير المنصفين ، أو أن تكون هذه الثورة العظيمة

 

مجرد مؤامرة أمريكية كما يصورها آخرون من دون وازع من دين أو خوف من الله .

 

وعندما حاولنا طباعة كتيب لمناصرة الثورة الإسلامية في إيران ، رفض ذلك بعض رفاقنا في العمل الثقافي ، ولم يكن بوسعي يومها إلا السكوت ، فليست هناك مصادر للمعرفة حول هذا الأمر .

 

ثم قتل السادات كان رأيي في محمد أنور السادات ، ولا يزال ، هو أن هذا الرجل يحاول ممارسة السياسة ولكن على طريقة لاعبي السيرك ، فكان أن وجئت عنقه في إحدى الألعاب الخطرة التي مارسها ، وأنه ارتكب كل موبقات السياسة .

 

 

أعطى الصهاينة ما لم يحلموا به طوال عمرهم ، وأعطى الأمريكان عام ( 1400 ه‍ / 1979 م ) القاعدة الجوية في مصر ليهاجموا إيران من أجل إطلاق رجال المخابرات الأمريكية

 

 

 

 

_______________________ 10 ______________________

 

المحتجزين في ما كان يطلق عليه السفارة الأمريكية في طهران ، واستقبل شاه إيران محمد رضا بهلوي على أرض مصر مستفزا مشاعر ( شعبين مسلمين ) : الشعب الإيراني والشعب المصري .

 

ثم لم يمت حتى وقف في صف نظام صدام حسين في عدوانه على الجمهورية الإسلامية ( 1408 ه‍ / 1980 – 1988 م ) قائلا : ( نعم العراق هو المعتدي ولكننا نساعده ) .

 

هذه هي الأجواء التي سبقت مقتله بيد أحد رجاله في يوم زينته ، وهو المقتل الذي فتح على أبناء الشعب المصري الكثير والكثير من المصاعب إلى يومنا هذا .

 

لم يكن قد مضى على زواجي سوى ثلاثة أيام حين أصدر السادات آخر قراراته البهلوانية ، وهو قرار التحفظ على ( 1500 ) شخص من معارضيه من كافة التيارات السياسية في مصر ( سبتمبر / أيلول 1981 م ) ، لم يمض شهر حتى قتل السادات يوم السادس من أكتوبر / تشرين أول 1981 م .

 

ولم يمض شهر آخر حتى جاء زوار الفجر يطرقون الباب ، طلبوا مني الحضور لمدة خمس دقائق ، وهي خمس دقائق طالت مدة سنة كاملة .

 

في هذا الوقت كنت على وشك الانتهاء من رسالة ( الماجستير ) .

 

بعد يومين كنت في ( سجن الاستقبال ) الذي كان مقرا للتحقيقات في قضية تنظيم الجهاد ، وفي اللحظة التي دخلت فيها تلقيت الصفعة الأولى التي أطاحت بنظارتي الطبية وكسرتها ،

 

_______________________ 11 ______________________

حاولت لملمة النظارة فلم أفلح ، إذ انهالت الضربات علي من كل جانب ، ثم أمرنا بالوقوف في مواجهة الحائط والأيدي مرفوعة إلى أعلى ، وانهالت السياط على ظهورنا ، هذه يسمونها ( حفلة الاستقبال ) .

 

ثم حلقوا لنا رؤوسنا بصورة مشوهة ، ثم قادونا إلى الزنادين بالسياط والركلات ، كان هذا في بداية فصل الشتاء ، وقد ألقي بنا في الزنازين على البلاظ معصوبي الأعين بعدما أخذوا ملابسنا .

 

وكانت التعليمات تقتضي ببقاء العصابة على العيون حتى في داخل الزنزانة ، والوقوف انتباها لحظة دخول الجنود ، في مواجهة الحائط ، وتلقي السياط أو الركلات وفقا لما تيسر .

 

كان هذا السجن أحد المواقع الأساسية للتحقيقات مع تنظيم الجهاد ، وكان التحقيق يبدأ يوميا بعد الساعة العاشرة مساء ولا ينتهي إلا مع طلوع الفجر ، حيث كنا في كل ليلة نسمع صراخ المحققين يطلبون من المعتقلين الاعتراف ، وصراخ المعتقلين تحت التعذيب .

 

أما عن أسلوب التعامل معنا في المعتقل فالعنوان الأبرز هو انعدام الإنسانية . الحيرة . . وهكذا مضى عام كامل علي في ذلك المعتقل غير الإنساني ، الذي كانت فيه أبسط حقوقنا الإنسانية مسلوبة .

 

بيد أن الله تبارك وتعالى أنزل علينا صبرا ، ووفقني لحفظ القرآن الكريم .

 

 

 

_______________________ 12 ______________________

وبقيت تجربة السجن مع هذه التيارات المختلفة في الرأي ، والمتنازعة في الأهواء ، ماثلة أمامي ، وما لفتني هو اجتماع كل أولئك في ضيافة النظام الحاكم .

 

لقد كانت هذه التجربة فرصة رائعة للتأمل في الكثير من الأفكار ، وفي فكر المجموعات من حولي ، واستخلاص العبر من معايشتها ومعاينتها ، عسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا .

 

وفي مثل هذا الجو الذي يخيم عليه الجهل ، لم تكن قضية مذهب آل البيت ( ع ) مطروحة لأسباب عديدة قد يكون من أهمها انعدام أدوات المعرفة .

 

إنتهت رحلة المعتقل يوم 31 / 10 / 1982 م . ( 1402 ه‍ ) ، حيث عدت إلى مكاني في مستشفى المنصور الجامعي ، وإلى بيتي الصغير ، وإلى أسرتي . وسارت الأمور هادئة . وكان الغيث ينزل من السماء رويدا رويدا .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

_______________________ 13 ______________________

 

كيف نزل الغيث ؟

 

حوار حول المهدي المنتظر التقيت ذات يوم من أيام الأعوام ( 1404 – 1406 ه‍ / 1983 م – 1985 م ) بأحد الأصدقاء المصريين العائدين من بعثة علمية في

 

بريطانيا ، وأخبرني أنه التقى ببعض الإيرانيين أثناء دراسته ، ودار بينه وبينهم حوار حول الثورة الإسلامية في إيران ، وأخبروه أن هناك حديثا اسمه ( حديث

 

الرايات السود ) ( 1 ) التي تأتي من قبل المشرق تمهد للمهدي ، قلت له : لا علم لي بمثل هذه الرواية ، فسكت .

 

 

والتقيت بأحد الأصدقاء ( الأزاهرة ) ( نسبة للأزهر الشريف ) فسألته عن حقيقة الأمر فلم يعطني إجابة نافعة كعادتهم ، فكل شئ عندهم فيه قولان وأحيانا ثلاثة وربما أربعة ، فلم أقتنع بكلامه وقلت

 

 

 

 

* ( هامش ) *

( 1 ) جاء في موسوعة ( بحار الأنوار ) ، 51 / 82 : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إذا رأيتم الرايات قد أقبلت من خراسان فائتوها ولو حبوا على الثلج فإن فيها خليفة الله المهدي ) بحار الأنوار للشيخ محمد باقر المجلسي ، 51 / 82 ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ط ( 3 ) ، 1403 ه‍ – 1983 م . ( * )

 

_______________________ 15 ______________________

أبحث بنفسي ، فوجدت الرواية في كتاب ( الملاحم والفتن ) لابن كثير عن رسول الله ( ص ) : ( إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة ، وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء شديدا وتطريدا حتى يأتي قوم من قبل المشرق يحملون الرايات السود يسألون

 

الخير فلا يعطونه فيقاتلون فينصرون ، فمن أدركهم منهم فليأتهم ولو حبوا على الثلج فإن فيهم خليفة الله المهدي ) ، وغيرها من الروايات المشابهة .

 

 

واصلت البحث فوجدت روايات أخرى تمدح ( الشيعة ) ، وهي روايات لا تقبل التأويل أو التدجيل ، مثل قوله ( ص ) في تفسير قوله تعالى في سورة الجمعة :

 

( وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ) ( الجمعة / 3 ) . قال : ( هذا وقومه وأشار إلى سلمان الفارسي ) وهي رواية موجودة في تفسير ابن كثير وتفسير الطبري وغيرهما .

 

الكتب الصفراء في هذه الآونة ( 1982 – 1985 ) كانت الحرب العراقية الإيرانية على أشدها ، فجأة تحول جزء من النفط عن مساره المعهود في تمويل آلة الحرب العراقية ، أو تسخين الليالي الحمراء ، وتحويلها إلى ليال ملتهبة .

 

فتحولت بعض المنابر إلى ( منابر حمراء ) هي الأخرى .

 

 

 

 

_______________________ 16 ______________________

 

في هذه الآونة أمطرت الساحة المصرية بوابل من الكتب الصفراء التي تتهجم على المسلمين الشيعة ، وانطلق التيار السلفي ليقوم بالدور المرسوم له في مهاجمة المسلمين الشيعة وبيان بطلان عقائدهم .

 

ومن الواضح تماما أن هؤلاء كانوا ينفذون خطا مرسوما ومدعوما بل ويحاولون الإيحاء بأن وراء التشيع في الجمهورية الإسلامية خطا عنصريا فارسيا في مواجهة الإسلام العربي وهذه مقولة تكشف بوضوح الرؤية البعثية العراقية التي امتطت ظهر السلفية .

 

والغريب أن أحد الصحفيين الذين ما زالوا على عهد الولاء بمقاومة الشيعة وأهل البيت حتى آخر أكذوبة في جعبته النتنة ، قد طلع علينا بمقولة أن التشيع الإيراني إنما هو من إيحاء ( أوروبا ) التي أرادت أن تجعل من تشيع إيران وسيلة لضرب الدولة العثمانية .

 

لا بأس من الكذب ، والقوم شعارهم ( أيها الكذابون لا تخجلوا )

 

لماذا اخترت مذهب أهل البيت ؟ كنت في سفرة عائلية في أحد أيام صيف عام ( 1405 ه‍ / 1984 م ) .

 

وعثرت في إحدى المكتبات على كتاب عنوانه : ( لماذا اخترت مذهب أهل البيت ) ؟ استأذنت في أخذه . لم يكن أحد يعبأ

 

 

 

 

_______________________ 17 ______________________

به أو يعرف محتواه . أخذت الكتاب ، وقرأته .

 

تعجبت ، ثم تعجبت كيف يمكن لعالم أزهري هو الشيخ الأنطاكي ( 1 ) مؤلف الكتاب أن يتحول إلى مذهب أهل البيت ( ع ) ، أرقتني هذه الفكرة آونة وقلت في نفسي : هذا الرجل له وجهة نظر ينبغي احترامها ، لم أقرر شيئا ، آنئذ ، واحتفظت بالكتاب .

 

خلفاء الرسول الاثنا عشر

 

بعد عام وفي التوقيت نفسه ، وفي المكان نفسه ، عثرت على الكتاب الثاني : ( خلفاء الرسول الاثنا عشر ) قرأته وفهمته ولم أقرر شيئا ، لم يأت آنئذ ، أوان اتخاذ القرار ، لكنه صار قاب قوسين أو أدنى .

 

التحول – الاستفزاز – الزنداني – حزب الله – حركة التوحيد الإسلامي – طرابلس – الشيخ سعيد شعبان – سبتمبر / أيلول 1985 – الإعجاز العلمي في القرآن الكريم . التقت جميع هذه العناوين فجأة في سبتمبر / أيلول 1985 .

 

 

 

* ( هامش ) *

( 1 ) الشيخ الأنطاكي : هو محمد مرعي الأمين الأنطاكي ، ولد سنة ( 1314 ه‍ – 1896 م ) في قرية تدعى ( عنصو ) في تركيا ، تتلمذ في الأزهر الشريف للشيخ مصطفى المراغي ، والشيخ محمد أبو طه المهني . تولى إمامة الجماعة والجمعة والتدريس والإفتاء في حلب بسوريا نحو خمسة عشر عاما . ( * )

 

_______________________ 18 ______________________

كنت على وشك إنهاء رسالة الدكتوراه ، كانت وما زالت تسليتي الوحيدة في أثناء العمل هي جهاز الراديو نعرف أخبار العالم ومآسي المسلمين منه ، فجأة التهبت المعارك في طرابلس – لبنان بين حركة التوحيد الإسلامية بقيادة الشيخ سعيد شعبان ( حزب سني ) وبين الأحزاب اليسارية ، وكانت معارك ساخنة : قصف ، وحصار ، وقتلى .

 

في هذه الأثناء كان هناك مؤتمر ( الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ) الذي أشرفت عليه – وقتها – نقابة الأطباء في مصر ، كنت أحضر هذا المؤتمر .

 

وبعد انتهائه التقيت بأحد الزملاء الذين يتحركون في معية الشيخ عبد المجيد الزنداني اليمني اللاجئ للعربية السعودية آنئذ ، اقترح علي هذا الزميل لقاء الشيخ ودعوته لإلقاء محاضرة في أحد مساجد المنصورة عن الإعجاز العلمي في القرآن

 

الكريم ، وهي مسألة كان وما زال لي فيها رأي مختلف ، لا بأس قلنا نذهب لدعوة الشيخ ، صعدنا إليه في غرفته الفاخرة في أحد فنادق القاهرة ، قمت بتوجيه الدعوة إليه ، كان الركل حريصا على إبراز جواز السفر الدبلوماسي السعودي الذي كان يحمله رغم كونه يمنيا .

 

 

قبل أن أذهب إلى المحاضرة كنت قد استمعت إلى آخر الأخبار عن طرابلس وحركة التوحيد المحاصرة من جميع

 

 

_______________________ 19 ______________________

 

الجهات . التي كادت الأحزاب اليسارية في لبنان تفتك بها ، وعن تدخل الجمهورية الإسلامية الإيرانية لإنهاء الحصار وإنقاذ الشيخ سعيد شعبان ( السني ) وحزبه من الدمار ، وذهاب وفد من حزب الله إلى طرابلس لضمان أمن الشيخ .

 

 

موقف هزني من الأعماق ، وأسعدني أن يكون هذا موقف الجمهورية الإسلامية ورئيسها آنئذ السيد علي الخامنئي الذي هاتف الرئيس السوري حافظ الأسد مدة ساعة لإنهاء الأزمة .

 

ذهبت إلى المحاضرة ، وجاء الشيخ وقال ما لديه عن الأجنة والفلك وأن الإسلام حلو وجميل .

 

جاء دور العشاء ، وعلى المائدة جاء دور الأسئلة الخاصة ، فسأله سائل عن إيران والخميني والشيعة ؟ ويبدو أن الرجل لم يكن يتوقع أي معارضة فاتخذ موقفا شتاما منذ البداية : هؤلاء الشيعة أوغاد – يحاربون الجهاد الأفغاني – كذبوا على الله وادعوا اثني عشر إماما فأبى الله إلا أن يخزيهم فغيب إمامهم الثاني عشر وهم ينتظرونه عند السرداب .

 

قلت : سبحان الله يا مولانا ، المعركة الآن هي بين الإسلام والعلمانية المدعومة من قوى الكفر العالمي ، ولا ينبغي إطلاقا أن نسمح بمعركة بين الإسلام السني والإسلام الشيعي .

 

ثم سألته : أين كانت الدول الإسلامية السنية وحركة التوحيد الإسلامية السنية تذبح في طرابلس ؟

 

_______________________ 20 ______________________

ولماذا لم يتدخل أحد إلا إيران الإسلام الشيعية ؟

 

أليس هذا دليل على صحة ما أقول ؟ قال : نعم ، ولكن هؤلاء رافضة ينبغي ألا نتعاون معهم ، ثم استدرك وقال : ينبغي أن يكون التعامل معهم من خلال هيئة أمم إسلامية . سكت . . . وسكت الشيخ وتكلم الصمت .

 

عدت إلى بيتي ، وأنا في قمة الاستفزاز والانفعال . قلت لنفسي : إن كان حقا ما يقولون إن المسلمين الشيعة بكل هذه الدناءة فلعنة الله عليهم ، وإن كانت كل هذه أكاذيب موجهة إليهم فتلك النازلة الكبرى التي ما بعدها نازلة .

 

مضت أيام . كان هناك معرض للكتاب في كلية الطب بالمنصورة . مررت به فوجدت كتابا بعنوان ( الإمام جعفر الصادق ) تأليف المستشار عبد الحليم الجندي ، طبعة مجمع البحوث الإسلامية 1977 م ،

 

وقلت : هذا الكتاب عن الإمام جعفر الصاق من تأليف كاتب مصري سني ، وصادر من قبل مؤسسة رسمية قبل قيام الثورة الإسلامية في إيران ، فأخذته وقرأته وتزلزل كياني لما فيه من معلومات عن أهل البيت ( ع ) طمستها الأنظمة

 

الجائرة وكتمها علماء السوء ، فإن القوم – كما روي على لسان الزهري رواية بني أمية – لا يطيقون أن يذكر آل محمد بخير . عدت إلى الكتابين السابقين ، وأخرجت ما فيهما من

 

 

 

 

_______________________ 21 ______________________

المعلومات ، ووجدتها جميعها من مصادر سنية قلت : لعل المسلمين الشيعة كذبوا فأوردوا على الناس ما لم يقولوه فلنعد إلى هذه المصادر بنفسنا ، قمت بعملية جرد

 

دقيقة لجميع هذه الكتب ، سواء منها ما كان في مكتبتي الخاصة ، أم ما كان في مكتبة جمعية الشبان المسلمين ، وتحققت فعلا من صحة هذه المعلومات ، وعرفت

 

مدى المصداقية التي يتمتع بها الزنداني وأبو إسماعيل وإحسان إلهي ظهير . . . . وهنا نقطة هامة ، وهي : إن كتب الحديث عند أهل السنة كالبخاري ومسلم

 

وغيرهما ، تكاد تكون مقدسة عند القوم لأن صحة خلافة الخلفاء الثلاثة الأول مستمدة . . أولا من الأمر الواقع ، وثانيا من الروايات التي وردت في هذه الكتب

 

، فإذا كان القوم يسلمون بصحة الروايات الواردة في فضائل الثلاثة الأول وجب عليهم التسليم بكل ما عداها ومنها فضائل أهل البيت ( ع ) وإمامتهم ( 1 ) .

 

 

أما إذا قالوا : بل ننظر في صحة الروايات والرواة ، فقد فتحوا باب النقد في مسلماتهم وصار من حقنا النقاش في صحة أسانيدهم وترجيح الدليل الأقوى ، وهو عين ما يتوخاه كل باحث عن الحق

 

* ( هامش ) *

( 1 ) أنظر في ذلك باب مناقب علي بن أبي طالب ، وباب مناقب قرابة رسول الله ( ص ) في الجزء الرابع من ( صحيح البخاري ) ص 248 وما بعدها . طباعة دار الفكر – بيروت ، 1414 ه‍ 1994 م . ( * )

 

_______________________ 22 ______________________

وعندئذ ستكتسب الروايات الواردة في إمامة أهل البيت ( ع ) قوة مضاعفة ، أولا من قوة أسانيدها وثانيا من اعتراف مخالفيها بصحتها ، والفضل ما شهدت به الأعداء والخصوم .

 

لم تمض إلا أسابيع قليلة إلا وكانت المسألة محسومة تماما من الناحية العقيدية ، ثم التقيت بواحد من الأصدقاء القدامى وجدته على هذا الأمر ، وبدأنا في تدارس بعض الأحكام الفقهية اللازمة لتصحيح العبادات .

 

وكنت مشغولا في هذا الوقت في إنهاء رسالة ، الدكتوراه حتى أنني أقفلت عيادتي للتفرغ للعمل بهذه الرسالة ، وقبلت في نيسان / إبريل عام 1986 وبدأت أتأهب لدخول امتحانات الدكتوراه في تخصص ( الباطنة العامة ) .

 

كنت منكبا على القراءة العلمية وكانت راحتي ومتعتي الوحيدة إذا أصابني الملل من القراءة في الطب هي اللجوء إلى كتب أهل البيت ( ع ) ، وبدأ النبأ يتسرب إلى الذين تعاهدوا فيما بينهم وقرروا مقاطعة العبد الفقير لا كلام ولا سلام ولا معاملة ، وبدأت حلقات الضيق تتكاثر حول شخصي المتهم بالانحراف الفكري والخلل العقلي . . لماذا ؟ . .

 

كنت أتساءل بيني وبين نفسي عن سر هذا العداء والشراسة في مواجهة كل من ينتمي إلى خط آل بيت النبوة ، وما هي الجريمة التي ارتكبها أولئك المنتهون ؟

 

تارة يقولون ( إنه انحراف عقائدي . . أي عقائدي هذا ؟ هل صار الإيمان بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان جزءا متمما لكلمة لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، أم ماذا ؟ )

 

_______________________ 23 ______________________

هل يقصدون ضرورة إثبات اليد والرجل والأصابع والصعود والهبوط للذات الإلهية ؟ وهو ما يؤمن به السلفيون ومن يدينون بمذهبهم ، تعالى الله عما يقولون الواصفون والجاحدون علوا كبيرا .

 

لم يحاول أحد منهم أن يقنعني بركائز هذه العقيدة ومعالم الانحراف العقيدي التي حلت بالعبد الفقير ، ولم أكن في حاجة إلى من يعرفني ، فكتبهم موجودة في الساحة توزع من دون مقابل ، وهي موجودة لدي أيضا .

 

إعتقال عام 1408 ه‍ / 1987 م ) في أيار / مايو 1987 ، انطلقت عدة رصاصات على وزير الداخلية المصري السابق حسن أبو باشا ، وعلى الفور بدأت حملة اعتقالات على طريقة ( عناقيد الغضب الإسرائيلية ) فتوجست من هذه الحادثة .

 

وبعد ثلاثة أسابيع من بدء ( حملة عناقيد الغضب ) جاء زوار الفجر وأخذوني مرة أخرى إلى سجن الاستقبال ومنه مباشرة إلى ساحات الاستجواب والتعذيب ، جرى تعصيبي وتقييدي من الخلف ويبدو أنها تكنولوجيا أمريكية جديدة لم أرها في المرة السابقة ، ألقوا بي في العراء على هذه الطريقة لمدة يومين وكعادتهم اللاآدمية أخذوا ملابسي .

 

ثم أعادوني إلى السجن ، ورموني في زنزانة في الطابق الرابع ، بلا ماء ولا شبابيك ولا فراش ، ولم يؤنس

 

 

 

 

_______________________ 24 ______________________

وحدتي إلا أسراب البعوض ، ثم أعادوني إلى ساحة التعذيب والاستجواب فيها مجرد غطاء لممارسة التعذيب بالكهرباء وتوجيه صدمات كهربائية للمخ وباقي الأماكن الحساسة ثم أطلقوا سراحي بعد يومين آخرين .

 

كان الهدف واضحا من حفلة التعذيب هذه حيث لا تهمة ولا حتى معلومات يريدون الحصول عليها ومنذ اللحظة الأولى قال لي المحقق السفاح ( سندفعك إلى الجنون ) ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) ( الأنفال / 30 ) .

 

خرجت من المعتقل مريضا بالفعل ، ومضت علي عدة شهور حتى استطعت استعادة قدرتي على التركيز إلى سابق عهدها ، ولكن التآمر أخذ شكلا آخر كان

 

الهدف منه إخراجي من عملي بالجامعة بكل ما لديهم من وسائل ، وهكذا تم تأخير حصولي على الدكتوراه من عام 1408 ه‍ / 1987 م حتى 1413 ه‍ / 1992 م

 

ست سنوات كاملة من الضغوط الوظيفية والمعاشية كي يجبروني على تغيير ( عقيدتي الفاسدة ) حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون .

 

 

التنظيم الإسلامي الشيعي 1998 م من الواضح أن النفوذ البعثي العراقي قد امتد إلى كافة أنحاء المنطقة وخاصة مع نهاية الحرب العراقية الإيرانية التي نصب فيها صدام حسين نفسه زعيما للأمة العربية وحامي البوابة الشرقية ، إلى

 

 

 

 

_______________________ 25 ______________________

آخر هذه الألقاب التي منحها له الإعلام المأجور والحاقد في نفسه .

 

وكان الهجوم على المسلمين الشيعة في كل مكان أحد ملامح هذا التمدد الذي لم تكشف تفاصيله بعد ، والدليل على هذا تقلص هذا العداء بتقلص دور المغرور سياسيا صدام حسين .

 

لم تكن الأصابع البعثية بعيدة عن تمويل الحملة الإعلامية التي انطلقت لمهاجمة المسلمين الشيعة وتشويه معتقداتهم ، ولا كانت بعيدة عن تلفيق القضايا للشيعة في الأعوام 1987 ، 1988 ، 1989 م ومنها هي القضية التي زج باسمي فيها .

 

والغريب في هذه الأمور أن قضية ( مفبركة ) من هذا النوع تحتوي قرابة الثلاثين شخصا تم جمعهم من الشرق والغرب تحظى بتغطية إعلامية في الصحف والمجلات القومية وقد تم إعداد المتهمين من اللحظة الأولى لتصويرهم تماما كأفلام السينما ، لها منتج يتحمل التكاليف ويجني المكاسب ، ومخرج ، ومجموعة من الممثلين كانت هذه هي الطريقة التي يتم التصرف بها في مصائر المسلمين على مذابح الزعامات الزائفة والانتصارات الموهومة .

 

وانفض الجمع كما بدأ ، بل وكانت النتائج عكسية تماما حيث وجدنا من أحرار الأمة من يدافع عنا سواء من رجال الجامعة أم من رجال الصحافة .

 

وفشلت الحملة السوداء التي كانت تتصور أنه بمجرد اتهامنا بكلمة ( الشيعة والتشيع ) سيقف المجتمع ضدنا وقفة رجل واحد ، لم يحدث هذا ولن يحدث إن شاء الله في ( مصر

 

_______________________ 26 ______________________

 

الأزهر الشريف ) الذي بناه المسلمون الفاطميون الشيعة ، مصر التسامح المذهبي التي وسعت بين أرجائها المسلمون والمسيحيين بل وحتى اليهود ، فكيف يتخيل بعضهم أن هذا الشعب العظيم يمكن أن يتحقق لهؤلاء أغراضهم ؟ لم تتوقف المضايقات ولكن حدتها قد خفت كثيرا في الوقت الراهن .

 

حوارات مع السلفيين لم يكن أحد من هم المسلمون الشيعة ولا التشيع قبل الثورة الإسلامية الإيرانية ، وربما كان من الممكن التماس العذر لكل من وقفوا من

 

الشيعة موقفا سلبيا ، فالحقيقة غائبة ولا سبيل إليها إلا بمصادفة كالتي تعرضت لها ، فالشيعة مسلمون يؤمنون بالله خالقا تجب عبادته وإطاعته أوامره وحده لا شريك

 

له ، والانتهاء عن معاصيه ، ويؤمنون بمحمد ( ص ) نبيا مرسلا هاديا ، ويؤمنون بيوم المعاد ( القيامة ) ، ويؤمنون بالقرآن الموجود بين أيدينا اليوم كتابا

 

منزلا على الرسول ( ص ) ، وأن الله سبحانه وتعالى قد حفظ هذا الكتاب من أي تحريف أو نقص أو زيادة ، والمنصف هو من يعود إلى كتبهم العقيدية ليطلع على

 

أفكارهم وعقائدهم ، لا أن يقرأ كتب خصومهم ، التي تحتوي على الافتراءات والأكاذيب بما لا يرتضيه دين ، ولا يقربه عاقل منصف .

 

لو قرأ أولئك الناس كتب التراث الإسلامي لتغيرت نظرتهم

 

 

 

 

_______________________ 27 ______________________

وصارت أكثر عمقا ، ولكن هيهات . . لماذا يقرؤون وقد صاروا زعماء سياسيين ودينيين لمجرد أنهم قرؤوا الصحف والمجلات وبعض قصاصات ، ولو ساروا في الأرض كما أمرهم الله عز وجل لوجدوا المسلمين الشيعة في طول الأرض وعرضها يحملون المصحف نفسه يقرؤونه ويتعبدون به لله الواحد الأحد ، ولكن الهوى لا دواء له .

 

 

إسلام واحد أم إسلامان ؟ لم ولن أغير موقعي المدافع عن الإسلام في مواجهة أعدائه ، ولن يصبح هذا الموقع يوما ما موقع المدافع عن طائفة ضد أخرى أو

 

مذهب ضد مذهب آخر ، وما زال الصراع الحقيقي هو بين الإسلام والكفر وليس بين السنة والشيعة أو حتى بين الإسلام والمسيحية أو بين الإسلام واليهودية ،

 

سيبقى الصراع بين الحق والباطل ، بين العدل والبغي ، بين المستضعفين والمستكبرين ، ولكن شيئا من هذا لا ينافي قراءة الإسلام في العمق ، ولا معرفة حقائق التاريخ .

 

كيف يمكن لأمة أن تحكم بإقامة دولة إسلامية ، وهي لا تمتلك مشروعا فقهيا أو فقهاء مجتهدين ؟ الجميع يعلمون أن المسلمين الشيعة وحدهم هم الذين يمتلكون هذا البناء الفقهي وهذه المدرسة المتكاملة التي أقاموها على مدى التاريخ عبر العذابات

 

 

 

 

_______________________ 28 ______________________

 

والجراحات ، وهي مدرسة تستند إلى فهم آل البيت المعصومين للكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة ، ودائما كان دليلهم الأقوى وكانت فتاواهم هي الأصوب .

 

مثلا : أجمع فقهاء أهل البيت على أن ( حج التمتع ) ( 1 ) أفضل وأنه فرض للبعيد عن المسجد الحرام أخذا بقوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله فإن

 

أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم

 

فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب ) ( البقرة / 196 ) .

 

أهل البيت يرون ذلك فرضا ، أما الشيخ سيد سابق ، فيرى

 

 

 

* ( هامش ) *

( 1 ) يتألف حج التمتع من العمرة والحج معا ، وفيه إحرامان ، وسعيان ، وثلاثة أطوفة : الأول للعمرة ، والثاني للحج ، والثالث للنساء ، وهو للبعيد عن مكة . قال الإمام جعفر الصادق ( ع ) : ( من حج فليتمتع ، إنا لا نعدل بكتاب الله وسنة نبيه . وقال : ما نعلم حجا لله غير المتعة ، إنا إذا لقينا ربنا قلنا : عملنا بكتابك وسنة نبيك ، وقال القوم : عملنا برأينا ، فليجعلنا الله وإياهم ) أنظر : محمد جواد مغنية : فقه الإمام جعفر الصادق ( ع ) . دار التيار الجديد – بيروت ط . السادس 1413 ه‍ / 1992 م . ( * )

 

_______________________ 29 ______________________

 

ذلك ( مجرد مذهب ) لابن عباس وأبي حنيفة ( 1 ) استدل عليه بآية في كتاب الله ، وهو بهذا يجعل الدليل القرآني مساويا لآراء الصحابة والتابعين ، هل هذا دين ؟

 

ثم يقولون لنا إن المسائل الفقهية محسومة وأن لا اجتهاد مع النص ، أليس هذا استهزاء بالنص القرآني ؟ منذ عدة سنوات ، اقترح الكاتب الصحفي أحمد بهاء

 

الدين تعديل قوانين الميراث والأخذ بالمذهب الجعفري الذي ينص على أن الأنثى تحجب كالذكر ، وقال إن الأخذ بهذه المادة القانونية يحل الكثير والكثير من

 

المصائب والمشاكل الاجتماعية ، فقامت الدنيا ولم تقعد ، وانهال الهجوم على الرجل والكل يتحدث بمنطق العصبية البغيض ( مذهبنا ومذهبهم ) ورحمة الله

 

على رجل من نوعية الشيخ محمد أبو زهرة والشيخ محمد شلتوت الذين حاولوا تحريك هذه البرك الراكدة ، فلم يفلحوا .

 

يروون عن أئمة المذاهب الأربعة أنهم قالوا : ( إذا صح الدليل فهو مذهبي ) فهل استثنى هؤلاء وقالوا : ( إلا ما جاء من ناحية أهل البيت وشيعتهم فلا تأخذوا به فهو باطل وإن صح ) ؟ أين هي حرية الفكر وحرية العقل ؟

 

 

 

* ( هامش ) *

( 1 ) أنظر : السيد سابق : فقه السنة ، المجلد الأول ، ص 580 الطبعة الثامنة ، دار الكتاب اللبناني ( 1407 ه‍ / 1987 م ) بيروت – لبنان . ( * )

 

_______________________ 30 ______________________

لماذا ضاعت هذه الشعارات وسط بريق النفط الأسود ؟ وهل للنفط بريق إلا لمن عميت بصائرهم وماتت ضمائرهم فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور . في النهاية ، أسجل رؤيتي لقضية الإمامة : أولا ، رؤية نقدية لمرويات أهل السنة في هذا الموضوع ، ثانيا قراءة عقلية للنص القرآني والأحاديث الواردة في مسألة الإمامة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

_______________________ 32 ______________________

على طريق الإمامة في الصميم لم تكن قضية الإمامة تحظى بقدر كبير من الاهتمام في صفوف الحركات الإسلامية المعاصرة في العالم الإسلامي ، بيد أن

 

قيام الثورة الإسلامية في إيران ، بقيادة آية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني ( رحمه الله ) ، قد ألقى عدة أحجار في البحيرة الراكدة ، وفرض على

 

الكثير من العلماء والمفكرين وأصحاب القلم إعادة التفكير والنظر في مسلمات الأمس القريب ، في حين اختار بعضهم موقف المعاداة لكل ما جهلوا ، وصدق الله العلي العظيم ، حيث يقول : ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ) ( يونس / 39 ) .

 

 

 

وهناك من قام بإعمال فكره وعقله في النصوص وفي الواقع ، بهدف الحصول على الحقيقة بغض النظر عن الاستنتاج النهائي ، وبغض النظر عن قوى الواقع

 

التي تمارس بشكل عملي الأسلوب الذي تتحدث عنه الآية القرآنية المباركة وتذمه ( بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ) ( الزخرف / 22 ) . تمارس تلك القوى ذلك من دون أن تعلنه باللسان .

 

 

 

 

 

 

_______________________ 33 ______________________

 

على أن قضية ( الإمامة ) ، وإن تعددت الدراسات حولها وكثرت إلا أن غالبية ما كتب لم يكن ليكتب في إطار عقلي ، بل إن السائد أن كل طرف يأتي بما يؤيد

 

وجهة نظره من الروايات ، ويتحدث عن أسانيدها ورواتها ووثاقتهم ، الأمر الذي دفعني لاستخدام المنطق العقلي في هذه الدراسة لأن ما يتناقض مع العقل هو

 

المستحيل بعينه وهو المرفوض دراية ومن ثم رواية ، من دون ما حاجة لسرد أسماء الرواة والمحدثين ، وما يتفق مع العقل ينبغي قوله والتسليم به ، لأن أحكام

 

الدين وشرائعه تتكامل ولا تتناقض ، وما نعنيه بالعقل هنا هو عرض أدلة المسائل الفردية على الأدلة الكلية ، الجامعة .

 

 

فإذا كان الله تبارك وتعالى : ( إن الله يأمر بالعدل ) ( النحل / 90 ) ، فلا يعقل أن يأمر بطاعة ( فاقد العقل ) ، وإلا لأمر سبحانه بالشئ وضده ( العدل – الجور ) . وهذا محال على الله سبحانه وتعالى .

 

وإلى جانب إيماننا بذلك ، فإننا نؤمن بالتكامل في الشريعة الإسلامية الغراء ، بمعنى أن قواعد الإسلام العظيم مرتبة بعضها على بعض ، فالقرآن الكريم تحدث عدة مرات عن قاعدة ( الإصطفاء ) ، وأنها محصورة في الذرية والآل ( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم على العالمين ) ( آل عمران / 33 ) .

 

ثم نص سبحانه وتعالى على تحميل هؤلاء المصطفين الأبرار مسؤولية

 

 

_______________________ 34 ______________________

هداية البشر ، وتعريفها بالحق ( والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير * ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) ( فاطر / 31 – 32 ) .

 

وهذه قاعدة عامة لم تشذ عنها أمة من الأمم ، فلماذا تشذ الأمة الإسلامية ؟ ( قل ما كنت بدعا من الرسل ) ( الأحقاف / 9 ) .

 

وأخيرا : هناك قضية حجية السنة ( 1 ) ؟ فالمعارضون لمدرسة أهل البيت ( ع ) ، حينما تضيق بهم السبل يلجأون إلى حجة في غاية الغرابة ، وهي الدفع بعدم

 

ورود إمامة أهل البيت ( ع ) وخلافتهم للنبي ( ص ) في القرآن الكريم ، وهو ما لا سبيل إلى القبول بمناقشته ونحن نعلم أن حجية السنة المتواترة تماما كحجية

 

الكتاب ، فصاحب السنة هو ملتقي الوحي من رب السماوات والأرض ولعنة الله على من كذب على رسول الله ( ص ) ، وليموه على الناس دينهم ، وهذا الكذب

 

هو الذي أدى إلى إلقاء بعض الظلال على حجية السنة المطهرة ، وهي أوامر الله ونواهيه التي جاء بها النبي المعصوم محمد ( ص ) ، والتشكيك في حجية السنة لا يختلف في شئ عن التشكيك في حجية القرآن .

 

* ( هامش ) *

( 1 ) يعرف علماء أصول الفقه الحجة بأنها : ( كل شئ يكشف عن شئ آخر ، ويحكي عنه على وجه يكون مثبتا له ) . أما السنة فهي ( قول المعصوم أو فعله أو تقريره ) . للتوسع أنظر : أحمد البهادلي : مفتاح الوصول إلى علم الأصول ، 2 / 31 . ( * )

 

_______________________ 35 ______________________

نقول أيضا : إن انتقال النبي محمد ( ص ) إلى الرفيق الأعلى عام ( 11 ه‍ / 632 م ) كان من المفترض أن يصاحبه انتقال السلطة والنظرية إلى يد أمينة قادرة على التعبير عن الأمرين وجعل السلطة والقوة في خدمة النظرية وليس

 

العكس أن تكون النظرية في خدمة السلطة فتتشكل النظرية وفقا لقدرات أصحاب السلطة الذهنية والعقلية ولمدى أمانتهم في التطبيق ،

 

ومن هنا كان عهد النبي الأكرم لعلي سلام الله علية يوم غدير خم بقوله : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) ( 1 ) ،

 

وقوله يوم سار النبي ( ص ) إلى غزوة تبوك وكانت يومها الدولة قائمة : ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) ( 2 )

 

* ( هامش ) *

( 1 ) هذا الحديث يعرف بحديث الغدير ، وقد روي في صحاح أهل السنة بألفاظ متقاربة ، ومعنى واحد ، أنظر : سنن الترمذي 2 / 298 . مطبعة بولاق – مصر 1292 ه‍ .
سنن ابن ماجة ص 12 . مطبعة الفاروقي – دهلي ( غير مؤرخ ) .
مستدرك الصحيحين 3 / 1098 و 533 . مطبعة حيدر آباد – الدكن 1324 ه‍ .
مسند أحمد بن حنبل 1 / 48 ، المطبعة الميمنية – مصر 1313 ه‍
الخصائص للنسائي ص 22 و 40 مطبعة التقدم العلمية – مصر 1348 ه‍
الإمامة والسياسة لابن قتيبة ، ص 93 . طباعة الفتوح الأدبية 1331 ه‍ .

( 2 ) روي هذا الحديث في : – صحيح البخاري ( كتاب بدء الخلق ، باب غزوة تبوك ) 3 / 1359 ، حديث = ( * )

 

_______________________ 36 ______________________

 

ولكن الذي حدث كان غير ذلك ، فالخلافة النبوية انتقلت إلى من انتقلت إليه برأي بعض المسلمين وليس بالنص ، وأولئك الخلفاء تفاوتت قدراتهم في استيعاب

 

النصوص ومعرفتها ومن ثم تعبيرهم عن النظرية ، وإن أمسكوا بالسلطة في أيديهم ، وكانت ثمرة الخلفاء الثلاثة الأول أن انتقال السلطة إلى الإمام علي ( ع )

 

لم يكن انتقالا هادئا ولا مستقرا إلى ( إمام منصوب من الله عز وجل ) ما أسهم في تفلت خيوط القوة من بين يديه ووصولها غنيمة باردة إلى بني أمية بقيادة ابن ( آكلة الأكباد ) ( 1 ) ، وهو انتقال رسخ الوضع الآتي :

 

1 – سلطة لم تستمد قوتها من شرعية إلهية ، وإنما من الغضب والعدوان ، وهو ما عبر عنه معاوية في خطاب تسلم السلطة ( إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ، ولا لتصوموا ، ولا لتحجوا ،

 

* ( هامش ) *

= 3503 ، المطبعة الخيرية . مصر 1320 ه‍ . – صحيح مسلم ( كتاب فضائل الصحابة ) 5 / 23 حديث 2404 . طباعة بولاق 1290 ه‍ –
مسند ابن حنبل 1 / 722 حديث 1466 . المطبعة الميمنية / مصر 1413 ه‍ .

 

( 1 ) آكلة الأكباد هي هند بنت عتبة ، أم معاوية بنت أبي سفيان سميت بآكلة الأكباد لأنها بقرت بطن ( حمزة ) عم النبي وأخرجت كبده ولاكته ، وذلك في معركة ( أحد ) التي دارت بين المسلمين ومشركي قريش بقيادة أبي سفيان ، فجرح الرسول فيها ، وقتل عمه حمزة ، وذلك سنة 3 ه‍ / 625 م . ( * )

 

_______________________ 37 ______________________

 

 ولا لتزكوا ، إنكم تفعلون ذلك ، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون ) ( 1 ) .

 

 

2 – نظرية يفترض أنها ( الإسلام ) ، ولكنه من الناحية الواقعية ( الإسلام الأسير ) في أيدي أقوام جعلوا إحدى شعائر صلاة الجمعة لعن أمير المؤمنين علي ( ع ) على المنابر ، وهذه مسألة متواترة ناهيك عن باقي موبقاتهم وجرائمهم .

 

في ظل هذا الواقع السلطوي ، والنظرية الإسلامية التي تتلقى الطعنات صباح مساء من أصحاب السلطة ، صيغت نظريات السلطة ، ووردت الروايات ودونت

 

الكتب ، فكتب الصحاح التي يتحدثون عنها كتبت بعد قرنين من رحيل النبي الأكرم ( ص ) ، ولذا جاءت مدونات هذه الكتب خليطا من النصوص المبتورة

 

عن مواضعها على الرغم من صحتها ، وتلك النصوص المكذوبة على رسول الله ( ص ) ، وتلك النصوص المنتقاة لبعض الأشخاص أصحاب المواقف المتمشية مع أهواء كل النظم الحاكمة إلى يومنا هذا .

 

والأهم من هذا وذاك تلك المساحات البيضاء التي تركت

 

* ( هامش ) *

( 1 ) أبو الفرج الأصفهاني : مقاتل الطالبين ص 77 : ط . الأعلمي ، بيروت – لبنان ( 1408 ه‍ / 1987 م ) . وابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 4 / 16 ، ط . دار الهدى الوطنية ، بيروت – لبنان ( غير مؤرخ ) ( * )

 

_______________________ 38 ______________________

فارغة ولم يدرون شئ بشأنها في كتب ( الأحاديث ) واقتصر تدوينها على كتب التاريخ ، ولذا فإننا سنقوم بتجميع بعض هذه النصوص والتعليق عليها ، سعيا لإيضاح الحقيقة ، والانتصار للحق .

 

حدود الإمامة يقول الإمام علي ( ع ) : ( لا بد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في أمرته المؤمن ) ( 1 ) .

 

يقول ابن أبي الحديد في شرح النهج : ( فأما طريق وجوب الإمامة ما هي ، فإن مشايخنا البصريين رحمهم الله يقولون طريق وجوبها الشرع ، وقال البغداديون وأبو عثمان الجاحظ من البصريين : إن العقل يدل على وجوب الرئاسة ، وهو قول الإمامية .

 

إلا أن الوجه الذي منه يوجب أصحابنا الرئاسة غير الوجه الذي توجب منه الإمامية الرئاسة ، وذاك أن أصحابنا يوجبون الرئاسة على المكلفين من حيث أن

 

في الرئاسة مصالح دنيوية ودفع مضار دنيوية ، والإمامية يوجبون الرئاسة من حيث كان في الرئاسة لطف منه وبعد للمكلفين عن مواقعة القبائح العقلية ) .

 

وأيا كان طريق وجوب الإمامة أو الإمرة فالحقيقة أنها واجبة

 

 

* ( هامش ) *

( 1 ) كاظم محمدي / محمد دشتي : المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة ، خطبة ( 40 ) ص 24 . دار الأضواء – بيروت ( 1406 ه‍ / 1986 م ) . ( * )

 

_______________________ 39 ______________________

ولكن هناك تباين حول الوجه الذي يوجب الإمامة ، هل هو قاصر أو مرتكز على حفظ المصالح الدنيوية ، أم أن المسألة أعمق وأشمل من وأنها كما يرى المسلمون الإمامية لطف من الله وبعد للمكلفين عن ممارسة القبائح العقلية ( 1 )

 

 

وفي اعتقادنا أن طبيعة الرئاسة أو الإمرة وهل هي معنية أساسا بحفظ المصالح الدنيوية أم أنها ينبغي أن تكون أكثر اعتناء بحفظ المصالح الدينية ، هذه الطبيعة تفاوتت بتفاوت الأمة موضع الرئاسة وطبيعة الرسالة التي تحملها هذه الأمة ، وبالتالي فإن مهام الرئاسة في الأمة الإسلامية لا يمكن أن تتشابه مع مهام الرئاسة في الأمة الأمريكية مثلا ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) ( ص / 28 ) .

 

 

ومن هنا فإننا نرى أن طبيعة رئاسة الأمة الإسلامية تكتسي وتعنون بالعناوين المدونة في كتاب الله وفي سنة رسول الله ( ص ) نفسها ، وأن المواصفات المطلوبة في إمامة الأمة الإسلامية هي القدوة على حمل هذه الأعباء ، وأن أي خلل في قدرات القيادة المسلمة على أداء هذه المهام الجسام تطرح العديد من التساؤلات حول أهلية هذه القيادة وأحقيتها لهذا الدور ، ودونكم بعض الأمثلة من كتاب الله :

 

 

 

* ( هامش ) *

( 1 ) ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ، 4 / 16 . م . س . ( * )

 

_______________________ 40 ______________________

 

 ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) ( النحل / 90 ) .

 

( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) ( ص / 26 ) .

 

( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) ( التوبة / 29 ) .

 

( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( الحجر / 9 ) .

 

إن إقامة العدل ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنهي عن الفواحش ، وتطهير الأرض من الشرك ، والظلم ، والبغي ومقاتلة دول البغي والشرك ، وحفظ حرمات المسلمين وقبل هذا كله حفظ كيان الدين نصا وروحا ، هي مهام

 

من صميم الواجبات الإسلامية الدينية ، بل وهي ، ومن دون أدنى شك ، امتداد لمهام النبوة التي لا تزيد عن هذا إلا بالتبليغ ، وتلقي الوحي من رب السماوات . . . ونضيف إلى هذه الواجبات الشرعية واجبا في غاية الأهمية ، وهو الحفاظ على

 

وحدة المسلمين من التفكك أيا كان المسوغ ، أو المسمى ، ذلك قوله تعالى : ( شرع لكم من الدين ما

 

_______________________ 41 ______________________

وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ) ( الشورى / 13 ) .

 

( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) ( الأنعام / 135 ) ،

 

( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) ( آل عمران / 103 ) .

 

فكيف إذا يقال أن اختلافهم رحمة ؟ ،

أو أنه لا يوجد مذهب صحيح أو غير متفق عليه ؟

أو أن كل المذاهب الفقهية على تناقضها وتباينها هي مذاهب صحيحة واجبة الاتباع ؟

 

إننا إذا تأملنا في كلمات الإمام علي ( ع ) وهو يذم اختلاف العلماء في الفتيا فيقول : ( ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه . ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله .

 

ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد أفأمرهم الله – سبحانه – بالاختلاف فأطاعوه أم نهاهم عنه فعصوه ، أم أنزل الله سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه ، أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا ، وعليه أن يرضى ؟ أم أنزل الله دينا تاما فقصر الرسول ( ص ) عن تبليغه وأدائه ، والله سبحانه يقول : ( ما فرطنا في الكتاب من شئ ) ( الأنعام / 38 ) . وفيه تبيان لكل شئ وذكر أن الكتاب

 

_______________________ 42 ______________________

يصدق بعضه بعضا ، وأنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) ( النساء / 82 ) وإن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ، ولا تكشف الظلمات إلا به ( 1 )

 

إن كلمات أمير أمير المؤمنين علي ( ع ) تحصر أسباب تعدد اجتهادات العلماء في المدارس الفقهية في عدة افتراضات ليس من بينها أن اختلافهم وتشتتهم رحمة ، كما يروي بعض الرواة عن رسول الله ( ص ) ، فهذه الأسباب الافتراضية لا تخرج عن عدة احتمالات :

 

أولها . . أن الله تبارك وتعالى أمر الناس بالاتفاق فعصوا . وهذا أصح الاحتمالات .

 

 

 

 

* ( هامش ) *

( 1 ) توضيح قول المسلمين الشيعة بأن الإمامة لطف من الله إن الإنسان مخلوق غريب الأطوار ، وقد اجتمعت فيه نوازع الفساد من جهة ، وبواعث الخير من جهة أخرى ، ولقد خلق الله تعالى فيه عقلا هاديا يرشد إلى الصلاح ومواطن الخير ، ولصعوبة أن يهتدي الإنسان بنفسه لجميع طرق الخير والصلاح كان من لطف الله إرسال الأنبياء ( ع ) لهداية البشر ، ولأن محمدا ( ص ) هو خاتم الأنبياء كان لا بد من استمرار هذا الخط بإمامة علي وذريته ( عليهم السلام ) .

 

أنظر : عقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفر ، ص 72 وما بعدها . ط دار الإرشاد الإسلامي – بيروت 1409 ه‍ / 1988 م . ( * )

 

_______________________ 43 ______________________

ثانيها . . أن الله سبحانه أمرهم بالاختلاف فأطاعوه . وهذا فرض مستحيل .

 

ثالثها أن الدين جاء من عند الله ناقصا ، وأن الناس أكملوه بآرائهم . وهذا أيضا فرض مستحيل .

 

أما الفرض الرابع والأخير . . أن الرسول الأكرم ( ص ) قد قصر في إبلاغ ما أوحي إليه من ربه . وهذا أيضا فرض مستحيل ، فلا يبقى أمامنا إلا الفرض الأول وهو الصحيح ، فالله تبارك وتعالى أمر المسلمين بالاتفاق ، فعصي أمر الله

 

وشذ بعض الناس عن طاعة ربهم ومولاهم ، ولا بأس أن نقرر بداية أن المخالفة لأمر الله بدأت من قضية الإمامة وهي الأصل ، وامتدت لتشمل فروع الدين ، حتى وصلت الأمة إلى هذه الحالة المزرية التي نعيشها الآن .

 

 

 

الإمامة ضرورة قرآنية جاء الحديث عن الإمامة ، في القرآن الكريم ، في غير موضع ، ومنها : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) ( البقرة / 124 ) .

 

( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ) ( الفرقان / 74 ) .

 

 

 

 

_______________________ 44 ______________________

 ( يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ) ( الإسراء / 71 ) .

 

( فقالوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ) ( التوبة / 12 ) .

 

( وجعلناهم أئمة يهتدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ) ( الأنبياء / 73 ) .

 

( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) ( القصص / 5 ) .

 

( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) ( السجدة / 24 ) .

 

إن الآيات السابقة تدلنا على عدة مفاهيم قرآنية :

أولا . . وجود نوعين من الإمامة ، إمامة الحق وإمامة الضلالة .

ثانيا . . أن أئمة الحق مختارون من عند الله ( وجعلنا منهم أئمة ) ، ( قال إني جاعلك للناس إماما ) .

ثالثا . . أن أئمة الحق يهدون ويحكون بأمر الله ، لا بأهوائهم ولا باجتهادهم ولا بفهم يصيب ويخطئ ( يهدون بأمرنا ) .

 

 

 

 

 

_______________________ 45 ______________________

رابعا . . أن الناس يحشرون يوم القيامة تبعا لأئمتهم إما إلى الجنة ، أو إلى النار ( يوم ندعو كل أناس بإمامهم ) .

 

قاعدة الاصطفاء الإلهي لقد خضعت الرسالات السماوية لعدة قوانين ربانية ، سواء في ما يتعلق بشخصية الرسل ( ع ) أو في ما يتعلق بمسار الدعوة وقبول الأمم لها أو رفضها ، أو التاريخ الطبيعي للأمة بعد الاستجابة لرسل الله وصدق الله العظيم ( قل ما كنت بدعا من الرسل ) ( الأحقاف / 9 ) ،

 

( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ) ( الأسير / 77 ) ،

 

وقوله ( ص ) : ( لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ) وإحدى أهم هذه القواعد هي قاعدة الاصطفاء أو الاجتباء – إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم آل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ) ( آل عمران / 33 – 34 ) ،

 

( وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ) ( ص / 47 ) ،

 

( ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ) ( الأنعام / 87 ) ،

 

( سلام على إل ياسين ) ( الصافات / 130 ) ،

 

( رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ) ( هود / 73 ) إن هذه القاعدة تعني أن شخصيات الرسل أو الأئمة ، كما أسلفنا ، إنما هي شخصيات معدة ومنتقاة سلفا والناس في عالم الذر ، وأن

_______________________ 46 ______________________

هذه النطف الطاهر قد انتقلت من رحم مؤمنة طاهرة إلى رحم مؤمنة طاهرة ، من دون أن تمر على أرحام المشركين أو أصلابهم ، ولم يحدث أن اصطفى رب العزة واحدا من عامة الناس للقيام بهذه المهمة .

 

أو أنها قد انتقلت من يد نبي إلى أحد من صحابته ، وإنما هي تجري في إطار الذرية والآل ، ( ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ) ( الحديد / 26 ) ،

 

( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ) ( النساء / 54 ) .

 

إننا لسنا في حاجة إلى أن نؤكد عمومية القواعد السابقة وانطباقها على محمد وآل محمد .

 

وحسبنا صيغة الصلاة الإبراهيمية التي نقولها في كل صلاة : ( اللهم صل على محمد وآل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ) .

 

إننا نؤكد على ثبات حقيقتين تنطلقان من قاعدة الاصطفاء . .

 

الحقيقة الأولى : أن اختيار الرسل والأئمة عليهم الصلاة والسلام محصور في ذرية الرسل والأنبياء ( ذرية بعضها من بعض ) ( آل عمران / 34 ) ، وأن مخالفة هذه القاعدة بالادعاء بأن هذا الاختيار يمتد إلى عموم أصحاب أي نبي ، أو إلى عامة أمته ، هو تعسف لا يقوم علية أي دليل .

 

_______________________ 47 ______________________

الحقيقة الثانية : أن هذا الاصطفاء قد انتقل إلى النبي محمد وأل بيته عليهم الصلاة وأتم السلام تطابقا مع قوله تعالى : ( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ) ( الإسراء / 77 ) ، فالنبي محمد وآله في الدرجة الرفيعة من آل إبراهيم ، وقد خصهم ربنا عز وجل بالمدح في غير موضع من القرآن الكريم ، ولنضرب بعض الأمثلة على هذا . .

 

1 – آية التطهير قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ( الأحزاب / 33 ) .

 

أورد ابن كثير في تفسيره برواية الإمام أحمد عن أم سلمة ذكرت : ( أن النبي ( ص ) كان في بيتها فأتته فاطمة رضي الله عنها ببرمة ( 1 ) فيها خزيرة ( 2 ) فدخلت عليه بها . فقال ( ص ) لها : ادعي زوجك وابنيك . فقالت : فجاء علي وحسن وحسين رضي الله عنهم فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من الخزيرة ، وهو على منامة له وكان تحته ( ص ) كساء خيبري ، قالت : وأنا في الحجرة أصلي فأنزل الله عز وجل هذه الآية : ( إنما

 

 

 

 

* ( هامش ) *

( 1 ) البرمة : القدر من الحجر .

( 2 ) يقول ابن منظور في شرح معنى الخزيرة مادة ( خزر ) : ( اللحم الغاب يؤخذ فيقطع صغارا في القدر ، ثم يطبخ بالماء الكثير والملح ، فإذا أميت طبخا ذر عليه الدقيق فعصد به ، ثم أدم بأي أدام شئ ) ( * )

 

_______________________ 48 ______________________

يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ، قالت رضي الله عنها : فأخذ ( ص ) فضل الكساء فغطاهم به ثم أخرج يده فأوى بها إلى السماء ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا . قالت : فأدخلت رأسي البيت فقلت : وأنا معكم يا رسول الله ؟ فقال ( ص ) ( إنك إلى خير إنك إلى خير ) ( 1 )

 

وقد أورد بن كثير ، في كتابه ( تفسير القرآن العظيم ) ست عشرة رواية بهذا المعنى أو نحوه في تفسير هذه الآية بما يقطع بصحة هذا التأويل ، ونزول الآية في آل بيت النبوة ( ع ) خاصة من دون غيرهم ، وهذا يقطع بصحة ما نعتقده من أن منزلة آل محمد كمنزلة آل إبراهيم سواء في فضلهم أم في دورهم ( فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ) ( النساء / 54 ) .

 

 

2 – آية المودة في القربى قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) ( الشورى / 23 ) ،

 

أخرج ابن كثير في تفسيره عن البخاري وغيرة عن سعيد بن جبير ما معناه أنه قال : ( معنى ذلك أن تودوني

 

 

 

* ( هامش ) *

( 1 ) الإمام أبي الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي : تفسير الدمشقي : تفسير القرآن العظيم ، 3 / 5 85 دار الفكر – بيروت 1414 ه‍ / 1994 م . ( * )

 

_______________________ 49 ______________________

في قرابتي أي تحسنوا إليهم وتبروهم ) ( 1 )

 

وقال السدي عن أبي الديلم قال : ( لما جئ بعلي بن الحسين رضي الله عنه أسيرا على درج دمشق ، قام رجل منم أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة . فقال له علي بن الحسين رضي الله عنه : أقرأت القرآن ؟ . قال : نعم . قال : أقرأت ال‍ ( حم ) ؟ . قال قرأت القرآن ولم أقرأ أل حم ) ؟ قال : وإنكم لأنتم هم ؟ قال : نعم ) ( 2 ) .

 

إننا ، وعند هذه النقطة من البحث بحاجة إلى أن نتوقف لمراجعة التصور الإجمالي لقضية الإمامة قبل أن ننتقل إلى مرحلة التحديد والقطع باستنتاجات محدودة . .

 

أولا . . إن قضية الإمامة ، على خطورتها القصوى ، لم تعالج بصورة متجردة ، وإنما عولجت في إطار محاولة إخضاع النصوص للواقع السياسي المفروض على الأمة المسلمة ، وخاصة وأن هذه القضية تمس شرعية النظم السياسية التي حكمت المسلمين في الصميم ، وإن أي محاولة لاستنطاق النص بصورة واضحة كانت تمثل جريمة ( محاولة قلب نظام الحكم ) ، وهو ما كان يسمى آنئذ

 

 

 

 

* ( هامش ) *

( 1 ) الإمام أبي الفداء ابن كثير الدمشقي تفسير القرآن العظيم 4 / 136 .

( 2 ) ابن كثير ، تفسير القرآن الكريم ، 4 / 137 . م س . ( * )

 

_______________________ 50 ______________________

شق عصا الطاعة ومفارقة الجماعة ، خاصة وأن حكم الأمس كانوا أحرص ما يكونون على إلقاء غلالة رقيقة من الانتساب إلى الإسلام

 

ثانيا . . ( الاسقاط العمدي ) لبعض النصوص كهذه التي وردت عن الإمام الحسين ( ع ) أثناء مواجهة جبابرة بني أمية ، أو تلك الواردة عن الإمام الحسن

 

( ع ) تفتح باب التساؤل عن المصلحة الكامنة وراء هذا ، فلا يمكن أن يتعلل أصحاب السنن بعلة ضعف الأسانيد مثلا ، فلا يعقل أن حادثا جليلا بهذا الشكل مر

 

على الأمة مرور الكرام من دون أن تسجل فيه خطبة من خطب الإمام الحسين أو استناد منه إلى كتاب الله وسنة رسوله في هذه المواقف المصرية الفارقة بين الحق والباطل .

 

 

ثالثا . . الإثبات المنحاز لبعض النصوص ، فعلى فرض صحتها فإنها لا ترقى إلى مستوى النص الشرعي الملزم لجمهور المسلمين ، وخير شاهد إثبات بيعة عبد الله بن عمر لعبد الملك بن مروان أو إنكاره لخروج أهل المدينة من صحابة رسول الله ( ص ) من المهاجرين والأنصار على يزيد السكير ، ووصفه لهم بالغدر والخيانة .

 

 

رابعا . . إفتقار النصوص المطروحة للتناسق والوضوح ، يقطع بأن هناك حلقة مفقودة لا بد من البحث عنها وإثباتها .

 

_______________________ 51 ______________________

 

خامسا . . إنقطاع العلاقة بين بعض النصوص المطروحة وبين التصور القرآني لدور الأمة الإسلامية ، وخاصة ذلك التناقض الغريب بين محاولة إسباغ الشرعية

 

على سلاطين الجور الغاصبين للخلافة وبين طبيعة الرسالة الإسلامية وحرصها على إقامة العدل ومحاربة الاستكبار ونصرة المستضعفين ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) ( القصص / 5 ) .

 

سادسا . . افتقاد الترابط بين بعض النصوص المطروحة في كتب السنة وقانون الاصطفاء الإلهي كما ذكرنا في الصفحات السابقة من هذا الكتيب .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

_______________________ 52 ______________________

قضية الإمامة في كتب السنة

 

قلنا ، من قبل ، إننا سنقدم ما نعتقد أنه الصورة الحقيقية لقضية الإمامة . ولكي نتمكن من تقديم هذا التصور ، كان علينا ألا نقيد أنفسنا بما أورده أصحاب السنن في فصل الإمامة ، وألا نتقيد بمصدر واحد ، وإنما علينا أن نفتش في مصادر السنة المختلفة المتاحة لدينا .

 

 

وقلنا أيضا إننا سنلتزم بالقواعد القرآنية المحكمة التي لا يأتيها الباطل ، وخاصة قاعدة الاصطفاء الإلهي وأن حمل أمانة الدين والدنيا محصور في ذرية الأنبياء والهم لا غيرهم ، إلا إذا قام لدينا دليل قاطع يقول غير هذا الكلام ، ولا نظن أن رواية مكذوبة منسوبة إلى الرسول الأكرم تصلح لأن ترد صريح القرآن .

 

 

وهناك أيضا ملاحظة هامة ، وهي أننا لن نتعرض لأسانيد الأحاديث ، ورجالها ، ورواتها ، فمعظم الأحاديث التي سنوردها قد فرغ فيها القول وحققت وأصبحت أسانيدها مقطوع بصحتها .

 

 

كما لن نحرص على استقصاء كميع الروايات المتعلقة بالمسألة فإن هذا الأمر يطول ، وإنما سنركز على هدد قليل من الروايات التي ذكرتها

 

 

 

 

_______________________ 53 ______________________

كتب أهل السنة وصحاحهم ، تقودنا إلى ما نريد .

 

1 – حديث الغدير . أخرج أصحاب السنن ، واللفظة لابن المغازلي عن زيد بن أرقم قال : ( أقبل نبي الله من مكة في حجة الوداع حتى نزل بغدير الجحفة بين

 

مكة والمدينة ، فأمر بالدوحات فقم ما تحتهن من شوك ، ثم نادى الصلاة جامعة ، فخرجنا إلى رسول الله ( ص ) في يوم شديد الحر وإن منا لمن يضع رداء ه على

 

رأسه وبعضه على قدميه من شدة الرمضاء حتى انتهينا إلى رسول الله ( ص ) ، فصلى بنا الظهر ثم انصرف إلينا فقال : الحمد لله نحمده ونستعينه ونؤمن به

 

ونتوكل عليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، الذي لا هادي لمن أضل ولا مضل لمن هدى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله .

 

أما بعد ، أيها الناس فإنه لم يكن لنبي من العمر إلا نصف عمر من قبله وإن عيسى بن مريم لبث في قومه أربعين سنة وإني قد أسرعت في العشرين ، ألا

 

وإني أوشك أن أفارقكم ، ألا وإني مسؤول وأنتم مسؤولون فهل بلغتكم فماذا أنتم قائلون ؟ فقام من كل ناحية من القوم مجيب يقولون : نشهد أنك عبد الله ورسوله

 

قد بلغت رسالته وجاهدت في سبيله وصدعت بأمره وعبدته حتى أتاك اليقين ، جزاك الله عنا خير ما جازى نبيا عن أمته . فقال : ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله لا شريك له وأن محمدا عبده

 

 

_______________________ 54 ______________________

ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وتؤمنون بالكتاب كله ؟ قالوا : بلى . قال : فإني أشهد أن صدقتكم وصدقتموني ألا وإني فرطكم وأنكم تبعي توشكون أن تردوا

 

علي الحوض فأسألكم حتى تلقوني عن ثقلي كيف خلفتموني فيهما . فأعيل علينا ما ندري ما الثقلان حتى قام رجل من المهاجرين قال : بأبي أنت وأمي يا نبي الله ما

 

الثقلان ؟ فقال ( ص ) : الأكبر منهما كتاب الله تعالى سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديكم فتمسكوا به ولا تضلوا ، والأصغر منهما عترتي من استقبل قبلتي وأجاب

 

دعوتي فلا تقتلوهم ولا تقهروهم ولا تقصروا عنهم فإني قد سألت لهم اللطيف الخبير فأعطاني ناصرهما لي ناصر ، وخاذلهما لي خاذل ، ووليهما لي ولي

 

وعدوهما لي عدو ، ألا وإنها لم تهلك أمة قبلكم حتى تتدين بأهوائها تتظاهر على نبوتها وتقتل من قام بالقسط . ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فرفعها ثم قال : من

 

كنت مولاه فهذا مولاه ومن كنت وليه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه . قالها ثلاثا ) ( 1 )

 

* ( هامش ) *

( 1 ) للتوسع في مصادر حديث الغدير ، أنظر : – سنن الترمذي : 2 / 298 دار إحياء التراث العربي – بيروت ( غير مؤرخ ) . – سنن ابن ماجة : 1 / 43 حديث رقم 116 . تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي دار الفكر – بيروت . – المستدرك على الصحيحين 3 / 109 ، 533 دار الكتب العلمية – بيروت 1411 ه‍ . – مسند أحمد بن حنبل : 4 / 270 دار الفكر – بيروت . ( * )

 

_______________________ 55 ______________________

 

2 – خطبة حجة الوداع روى الترمذي ، في الباب ( 32 ) ، تحت عنوان ( مناقب أهل بيت النبي ( ص ) ، حديث رقم ( 3786 ) ، بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري : ( رأيت رسول الله ( ص ) في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : أيها الناس إني تركت فيكم ما أن أخذتم به لن تظلوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ) ( 1 ) .

 

وفي حديث رقم ( 3788 ) للترمذي أيضا عن زيد بن أرقم قال : ( قال رسول الله ( ص ) : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض . وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلوني فيهما ) ( 2 ) .

 

 

3 – حديث المنزلة روى البخاري وغيره من أصحاب السنن عن رسول الله ( ص ) ، أنه قال لعلي بن أبي طالب : ( أنت مني بمنزلة هارون

 

 

 

 

 

 

* ( هامش ) *

( 1 ) أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي : الجامع الصحيح ، 5 / 621 . دار الكتب العلمية – بيروت 1408 ه‍ / 1987 م .

( 2 ) المصدر نفسه ، 5 / 622 . ( * )

 

_______________________ 56 ______________________

من موسى غبر أنه لا نبي بعدي ( 1 ) .

 

4 – حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها روى ابن المغازلي الشافعي عن جابر بن عبد الله قال : ( أخذ النبي ( ص ) بعض علي فقال : هذا أمير البررة وقاتل الكفرة منصور من نصره ، مخذول من خذله . ثم مد بها صوته فقال : أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب ) .

 

وأخرجه الحاكم بهذا السند في مستدرك على الصحيحين : ( أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب ) .

 

كما روى ابن المغازلي الشافعي عن جرير عن علي قال : ( قال رسول الله ( ص ) : أنا مدينة العلم وعلي بابها ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها ) ( 2 )

 

 

 

 

 

* ( هامش ) *

( 1 ) روي هذا الحديث بهذا المعنى ، وبألفاظ مختلفة في المصادر التالية : – تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ، 7 / 453 ط . دار الكتب العلمية – بيروت – كنز العمال للمتقي الهندي ، 6 / 395 . – مسند أحمد بن حنبل ، 1 / 170 و / 369 دار الفكر – بيروت – صحيح مسلم ، باب فضائل علي بن أبي طالب ، 5 / 23 حديث رقم 2404 . – صحيح البخاري كتاب بدء الخلق ، باب غزوة تبوك ، حديث رقم 3503 .

( 2 ) أنظر : الجامع الصحيح للترمذي ، 5 / 596 حديث رقم 3723 . دار الكتب = ( * )

 

_______________________ 57 ______________________

5 – حديث براءة روى ابن كثير ، في تفسيره : ( تفسير القرآن العظيم ) ، عن الإمام أحمد عن أنس بن مالك : ( أن رسول الله ( ص ) بعثه ببراءة مع أبي بكر فلما بلغ ذا الحليفة قال : لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي فبعثها مع علي بن أبي طالب ) ( 1 ) .

 

 

ورواه الترمذي في التفسير ، وقال عبد الله بن حنبل عن علي : ( لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي ( ص ) ، دعا أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال : أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليهم . فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبكر إلى النبي ( ص ) فقال : يا رسول الله نزل في شئ ؟ فقال : لا ، ولكن جبريل جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل من منك ) .

 

 

وروى عبد الله أيضا عن علي : ( أن رسول الله ( ص ) قال لي : لا بد أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت . فقال : فإن كان ولا بد فسأذهب بها أنا . قال : إنطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك . قال : ثم وضع يده على فيه ) . وروى ابن كثير أيضا عن إسرائيل عن زيد بن يثيغ : ( لما رجع أبو بكر قال : نزل في

 

 

* ( هامش ) *

= العلمية – بيروت 1408 ه‍ / 1987 م . – المستدرك على الصحيحين النيسابوري 3 / 137 حديث رقم 4637 و 4637 و 4638 – دار الكتب العلمية – بيروت 1411 ه‍ .

 

( 1 ) ابن كثير الدمشقي : تفسير القرآن العظيم ، 2 / 496 م . س ( * )

 

_______________________ 58 ______________________

شئ ؟ . قال ولكن أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي ) وروى أيضا : ( لما نزلت براءة قال رسول الله ( ص ) : لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي ) ( 1 ) .

( إن الله تعالى عهد إلي عهدا في علي فقلت يا رب بينه لي ، فقال : إسمع ، فقلت : سمعت ، فقال : إن عليا راية الهدى ، وإمام أوليائي ، ونور من أطاعني ، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين ، من أحبه أحبني ، ومنم أبغضه أبغضني . فبشره

 

بذلك . فجاء علي فبشرته . فقال : يا رسول الله أنا عبد الله ، وفي قبضته فإن يعذبني فبذنبي ، وإن يتم لي الذي بشرتني به فالله أولى بي . قال : قلت : اللهم أجل قلبه واجعل ربيعه الإيمان ، فقال الله : قد فعلت به ذلك ، ثم إنه رفع إلي أنه

 

سيخصه من البلاء بشئ لم يخص به أحدا من أصحابي . فقلت : يا رب أخي وصاحبي . فقال : إن هذا شئ قد سبق أنه مبتلى به ) ( 2 )

 

 

6 – أحاديث أخرى حديث . . ( من سره أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويتمسك بالقضيبة من الياقوتة التي خلقها الله تعالى بيده ، ثم قال لها : كوني

 

 

 

 

* ( هامش ) *

( 1 ) ابن كثير : م . س . طباعة دار الكتب العلمية بيروت ( غير مؤرخ ) .

( 2 ) أبو نعيم الأصفهاني في حلبة الأولياء 1 / 86 . ( * )

 

_______________________ 59 ______________________

فكانت ، فليتمسك بولاء علي بن أبي طالب ) . رواه الحافظ أبو نعيم الأصفهاني ( 1 )

 

ورواه أحمد بن حنبل في المسند . حديث . . ( والذي نفسي بيده ، لولا أن تقول طوائف من أمتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم لقلت مقالا لا تمر بملأ من المسلمين إلا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة )

 

رواه أحمد في المسند . حديث . . قال رسول الله ( ص ) : ( يا أنس اسكب لي وضوءا ، ثم قام فصلى ركعتين وثم قال : يا أنس أول من يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين ، وسيد المسلمين ، وقائد الغر المحجلين ، وخاتم الوصيين .

 

قال أنس : قلت : اللهم اجعله رجلا من الأنصار وكتمته ، إذ جاء علي فقال ( ص ) : من هذا يا أنس ؟ فقلت : علي . فقام مستبشرا فاعتنقه ثم جعل يمسح عرق وجهه بوجهه ويمسح عرق علي بوجهه . قال علي : يا رسول الله لقد رأيتك

 

تصنع شيئا ما صنعت بي من قبل ؟ قال : وما يمنعني وأنت تؤدي عني ، وتسمعهم صوتي وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي )

 

حديث . . ( من سوره أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويسكن جنه عدن التي غرسها ربي فليوال عليا من بعدي ، وليوال وليه

 

* ( هامش ) *

( 1 ) أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني : حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 1 / 66 . ط . دار الكتب العلمية – بيروت ( غير مؤرخ ) . ( * )

 

_______________________ 60 ______________________

وليقتد بالأئمة من بعدي فإنهم عترتي خلقوا من طينتي ورزقوا فهما وعلما ، فويل للمكذبين من أمتي القاطعين فيهم صلتي لا أنالهم الله شفاعتي ) .

 

مناقشة الأحاديث السابقة

 

حديث الغدير . . أشهر من أن يعرف ، رواه معظم أصحاب السنن إن لم نقل كلهم وصححوه ، ولقد ذكرنا في الصفحات السابقة موارد ذكر هذا الحديث في صحاح أهل السنة .

 

وواقعة ( غدير خم ) معروفة الزمان والمكان ، حديث أثناء عودة المسلمين من حج بيت الله الحرام فيما عرف بحجة الوداع قبيل موت رسول الله ( ص ) بقليل ، أي في العام العاشر للهجرة الموافق 631 ميلادي .

 

فإذا كانت الحجة عرفت بأنها حجة الوداع فكلمات رسول الله ( ص ) كانت وصية الوداع من رسول وصفة القرآن : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) ( التوبة / 128 ) ، إنها كلمات

 

تحمل أقصى درجة من الأهمية والخطورة بالنسبة لمصير الأمة ومستقبلها ، هذه الوصية كانت بأمر الله سبحانه وتعالى وقد جاء في أسباب النزول للنيسابوري وغيره من المفسرين أن قوله تعالى : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك

 

وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) ( المائدة / 67 ) ، أنها نزلت يوم غدير خم ، وأن

 

 

_______________________ 61 ______________________

هذا التبليغ كان أمرا حيويا متمما ومكملا للرسالة الإسلامية ككل وإلا لما قال القرآن ( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) . ما هذا الجزء الذي يكمل الكل فيجعله تاما ؟ .

 

توضيح كلمات الخطبة هذه المعاني فتقول ( ألا . إني أوشك أن أفارقكم وإني مسؤول ) . إذن فالرسالة في غاية الأهمية ، إنها المسؤولية أمام الله عن الثقلين كيف خلفتموني فيهما ؟ أول الثقلين أو الثقل الأكبر هو كتاب الله ، إذن القضية

 

قضية منهج وليست قضية عاطفة ، إنه نبي يوشك أن يفارق أمته فيوصيهم لا بالأولاد كما يفعل عوام الناس ، ولا بتنمية ناله ، ولكن يوصيهم بالحفاظ على المنهج ، بل ويحدد لهم وسيلة الحفاظ على هذا المنهج ، إن هذا لا يكون إلا

 

بمتابعة الثقلين : الكتاب والعترة ، اتباع منهج ، وقيادة ، لا على سبيل العاطفة أو المودة فحسب .

 

فناصر الكتاب وأهل البيت ناصر الرسول ، وخاذل الكتاب والعترة خاذل للرسول ، إنها وصية مركزة ومحدودة تحدد المنهج ، وهو الكتاب أو النص وتحدد القيادة وهي قيادة أهل البيت الأقدر على فهم النص وتطبيقه ، ومطابقة السلوك مع المنهج

 

، فكيف إذن يمر الناس على هذا الحديث المتواتر مرور الكرام ؟ وإذا اضطروا لإثبات الفهم لجؤوا إلى تمييع الأفهام فيقولون : ( ولا ننكر الوصاة بهم ) وهل كان رسول الله ( ص ) في حاجة إلى أن يجمع المسلمين

 

 

_______________________ 62 ______________________

 

في هذا الموضع ليوصيهم بذريته وحسب ؟ ، لا نظن هذا . ثم يلجأ الرسول الأكرم ( ص ) إلى مزيد من التحديد حينما يطرح ولاية أمير المؤمنين ( ع ) بصورة واضحة ومحدودة فيقول : ( من كنت وليه فهذا وليه ) ( 1 ) .

 

يقول بعض الباحثين : إن هذا الكلام لا يعني ولاية الأمر أو قيادة الأمة وإنما يعني النصرة والمحبة ، وهذا كلام عجيب ، فماذا كانت تعني ولاية رسول الله للأمة ؟ .

 

ألم تكن ولاية التشريع والقيادة ( من كنت مولاة فهذا مولاه ( 2 ) ، إنها ولاية من ولاية ، إنها من نفس الجنس والنوع والمعنى ، وليس هناك أي دليل أو قرينة لغوية تفصل بين الولايتين ، بل على العكس إنها قضية الامتداد تطرح في وقتها الملائم ( إني أوشك أن أفارقكم – من كنت مولاه فعلي مولاه ) .

 

بقي أن نقول إن هناك معنى عظيما في هذا الحديث ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : ( وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ) ، هذا المعنى هو أن هذه القيادة وإن غيبت ، فإنها لا تغيب بل وستبقى حاصرة في دين المسلمين ، إنها حاضرة حضور الكتاب في دنيا الناس حتى آخر الدنيا ، ثم إن هذه القيادة تحتفظ بصوابية

 

 

 

 

* ( هامش ) *

( 1 ) المصدر السابق ، 1 / 63 – 64 .

( 2 ) أنظر مصادر هذه الأحاديث من كتب وصحاح أهل السنة في الصفحات السابقة . ( * )

 

_______________________ 63 ______________________

الكتاب الكريم نفسها ، إذ العترة عدل الكتاب ورفيقته في الطريق الحق ، وحاشا لكليهما من الزيغ والضلال .

 

ومن عجيب أن رواية الترمذي عن خطبة رسول الله ( ص ) في حجة الوداع ، وهي رواية تفرد بها تحمل المعنى نفسه بل النص والوصية نفسيهما ( تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) ، لقد كان رسول الله ( ص ) حريصا على أن يكرر الوصية نفسها في مسافة زمنية متقاربة .

 

وفي وسط أكبر عدد من جموع المسلمين اجتمعت في حجة الوداع ، ثم كان حديثه في ( غدير الجحفة ) تفصيلا وتأكيدا لوصيته يوم عرفة ، ثم إنها فوق كل هذا وصية مودع وصية ( رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) ( التوبة / 128 ) .

 

 

أما ( حديث المنزلة ) وقد قاله رسول الله ( ص ) ، قبيل مغادرته المدينة إلى غزوة تبوك في رجب من العام التاسع للهجرة ، 630 ميلادي ، وتبوك موضع في شمالي جزيرة العرب ، ولما انطلق النبي ( ص ) إلى الغزو ، استخلف عليا

 

( ع ) على المدينة فكانت هذه الكلمات : ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ) ، فماذا كانت منزلة هارون من موسى ؟ فلنقرأ القرآن : ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا

 

 

 

_______________________ 64 ______________________

تتبع سبيل المفسدين ) ( الأعراف / 142 ) . إذا لقد كانت منزلة هارون من موسى هي منزلة الخلافة على الأمة ( اخلفني في قومي ) .

 

ثم نص القرآن على واجبات الخلافة ( وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ) .

 

وهل كان اختيار رسول الله ( ص ) للإمام علي ( ع ) لحمل آيات البراءة مجرد مصادفة خاصة ، وأنه ( ص ) كان قد أرسل غيره حاملا للرسالة ثم نزعها منه وأعطاها للإمام ؟ ،

 

لقد كانت رسالة البراءة كما يلي : ( أيها الناس ، إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله ( ص ) فهو إلى مدته ) .

 

إن هذه المهمة التي أرسل فيها أمير المؤمنين علي ( ع ) هي من مهمات ( القيادة العليا ) بالتعبير السياسي الحديث مهمة إبرام المعاهدات أو نقضها ، مهمة وضع

 

سيادة الدولة الإسلامية في إطارها النهائي ، ومن ثم كان اختيار الإمام علي لهذه المهمة متلائما مع دوره المقبل في قيادة الأمة الإسلامية في المرحلة المقبلة ، وإنه

 

في هذه اللحظة كان يمثل ما تعارف عليه الناس بمصطلح ( النائب الأول ) ، وهذا المعنى واضح في كلمات الرسول ( ص ) : ( لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل من أهل بيتي ) أما حديث السفينة فهو يحمل المعنى نفسه الوارد في حديث

 

 

 

_______________________ 65 ______________________

الثقلين ، إنه يرتبط بين النجاة وبين التمسك بمنهج أهل البيت ( ع ) وولايتهم : ( مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك ) ، وهل كان ركوب سفينة نوح متاحا للمؤمنين والكفار أم أنه كان متاحا للمؤمنين من الصابرين دون غيرهم من المعاندين ؟ .

 

 

إنها كانت هدية الله لمن آمنوا وصدقوا ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل * وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم )

 

( هود / 40 – 41 ) ، إنها سفينة النجاة تسير بأمر الله مجراها ومرساها لا بأهواء الناس ولا بضحالة علمهم ( وهي تجري بهم في موج كالجبال ) ( هود / 42 ) ، ثم هي بعد ذلك الوسيلة الوحيدة للنجاة من مهالك الدنيا والآخرة .

 

 

ويبقى ، بعد هذا ، حديث مدينة العلم ، هذا الحديث الذي شبه فيه الرسول ( ص ) علمه بالمدينة التي لا تؤتى إلا من بابها ، وبابها هو أمير المؤمنين علي ( ع ) ، ولطالما استعصى علي فهم قوله تعالى : ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها ) ( البقرة / 189 ) ،

 

هل نزلت هذه الآية لتعالج مشكلة تسلق أسوار البيوت فحسب ؟ ، ربما ، ولكني لا أظن أن مثل هذه الظاهرة تكفي وحدها لتعطينا مدلولا قاطعا مانعا يمنع انطباق مدلول هذه الآية على أية قضية أخرى . إن المدلول

 

 

_______________________ 66 ______________________

الأخطر والأهم هو تنظيم الهيئة الاجتماعية ، ووضع القيادة العلمية للأمة في موضعها الصحيح ، وهو موضع الباب ، وعلى كل من يريد الدخول أن يمر عبر

 

الطريق الطبيعي وهو الباب ، فإذا لم يكن للمدرسة أسوار وأصبح الدخول مفتوحا لكل من هب ودب ، فإن هذا عين الفوضى الاجتماعية والعلمية والأخلاقية ، ثم

 

وجدت ضالتي في كلمات الإمام علي ( ع ) : ( نحن الشعار والأصحاب ، والخزنة والأبواب ، ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقا ) ( 1 ) .

 

الإمامة في قريش

 

1 – روى البخاري ومسلم : ( الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم ) ، ( الناس تبع لقريش في الخير والشر ) ، ( لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان ) .

 

وروى البخاري عن معاوية بن أبي سفيان ، عندما بلغة أن عبد الله بن عمرو يحدث أنه سيكون ملك من قحطان فقال : ( بلغني أن رجالا منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله ، فإني سمعت رسول الله ( ص ) يقول : إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين ) .

 

* ( هامش ) *

( 1 ) أنظر ص ( 57 ) من هذا البحث . ( * )

 

_______________________ 67 ______________________

2 – الأئمة اثنا عشر كلهم من قريش . . روى البخاري ومسلم : ( إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ) ، ( لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش ) .

 

 

3 – هلاك الأمة على يدي أئمة قريشيين . . روى البخاري في باب الفتن عن عمرو بن سعيد قال : ( أخبرني جدي قال : كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبي ( ص ) بالمدينة ومعنا مروان بن الحكم ، قال أبو هريرة : سمعت الصادق الصدوق يقول : هلكت أمتي على يدي غلمة من قريش . فقال مروان : لعنة الله عليهم من غلمة . فقال أبو هريرة : لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت . فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا الشام فإذا رآهم غلمانا أحداثا قال لنا : عسى هؤلاء أن يكونوا منهم . قلنا : أنت أعلم ) .

 

هذا الروايات وردت في أهم كتب الحديث المعتمدة لدى أهل السنة ، بعد كتاب الله ، ويستفاد منها عدة معان :

 

أ – إن الإمامة محصورة في قريش . . إمامة الأبرار للأبرار وإمامة الفجار للفجار .

 

ب – إن الأئمة الأبرار اثنا عشر قرشيا .

 

ج – إن الإمامة الحق ليست مباحة لكل قريش ، بل هي محرمة

 

 

 

_______________________ 68 ______________________

على الظالمين منهم ، لأنه لا يعقل أن تعطى الإمامة لمن يهلكون الأمة ، والرواية الثالثة تحذر منهم .

 

إن هذه الروايات تحتاج إلى دراسة هادئة واعية ، فليس من المعقول أن تكون معرفة هؤلاء الأئمة الأبرار متروكة للتجربة ، واحتمال الصواب والخطأ مع ما يترتب على ترك هذا الأمر غامضا من آثار مدمرة وضاره جدا بمجموع المسلمين ، فلو كان الناس على يقين من ضلال بعضهم لوجب عليهم عدم توليهم من الأصل .

 

الأمر الأخير المثير للريبة هو صمت أبي هريرة ( 1 ) عن تسمية أئمة الضلال فيقول : ( لو شئت لفعلت ) ويعلق السندي شارح البخاري على هذه العبارة بقوله : ( كان يعرف أسماءهم ، وكان ذلك من الجراب الذي لم يبثه ) .

 

 

ومعلوم أن القوم يقولون : أن أبا هريرة حفظ عن رسول الله ( ص ) جرابين من العلم ، بعث أحدهما وكتم الآخر وقال : ( لو بحت به لقطع هذا البلعوم ) ، وهذا اعتراف صريح بأن أبا هريرة قد كتم لمصلحة يراها ، وهذه المصلحة معروفة على أي حال ، إنها مصلحة بني أمية الذين استخدموه وأعطوه من وظائفهم ، ومن أموال المسلمين ما جعله يرى مصلحته هي مصلحة

 

 

* ( هامش ) *

( 1 ) للوقوف على ترجمة ( أبي هريرة ) يراجع : – أبو هريرة شيخ المضيرة ، للشيخ محمود أبو رية . – أبو هريرة ، للسيد / عبد الحسين شرف الدين . ( * )

 

_______________________ 69 ______________________

الناس جميعا .

 

والغريب أن المقريزي روى عن أبي هريرة في كتاب ( التنازع والتخاصم ) تسمية بني الحكم : ( رأيت في النوم بني الحكم وبني العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة فما رؤي رسول الله ( ص ) مستجمعا ضاحكا حتى توفي ) ،

 

كما روى المقريزي الرواية نفسها عن سعيد بن المسيب : ( رأى النبي ( ص ) بني أمية على منابرهم فساءه ذلك فأوحى إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرت عينه وهي تفسير قوله تعالى : ( وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ) ( الإسراء / 60 ) أي

 

بني أمية ، وقد روى أيضا أن : ( رجلا قام إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال : يا مسود وجه المؤمنين . فقال لا تؤنبني رحمك الله فإن رسول الله ( ص ) قد رأى بني أمية يخطبون على منبره رجلا رجلا فساءه ذلك فنزلت ( إنا أعطيناك الكوثر ) ( الكوثر / 1 ) ونزلت ( أنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر ) ( القدر / 1 – 3 ) .

 

يعني مدة ملك بني أمية فحسب ذلك فإذا هو لا يزيد ولا ينقص ) كما روى أيضا عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري : ( أن رسول الله ( ص ) قال : إذا بلغ بنو العاص أربعين رجلا اتخذوا دين الله دخلا وعباد الله خولا ومال الله دولا ) وعلى الرغم من هذه الروايات جميعها ، نجح بنو أمية في الاستيلاء على السلطة بعد ثلاثين عاما من وفاة رسول الله ( ص ) .

 

 

 

_______________________ 70 ______________________

وضربوا بجميع هذه التحذيرات عرض الحائط وطول .

 

 وفي الوقت الذي يجهد فيه بعض الكتاب والرواة في تلميع صورة بني أمية على الرغم من كل ذلك ، فإننا نلاحظ إغفالا متعمدا للكثير من سيرة آل البيت ( ع ) ، وهنا نود أن نتوقف أمام حديثين من أحاديث التاريخ الإسلامي المهمة وهما :

 

الأول . . صلح الإمام الحسن بن علي ( ع ) ، مع معاوية بن أبي سفيان .

 

الثاني . . حادثة استشهاد الإمام الحسين بن علي ( ع ) على يد جنود يزيد بن معاوية في كربلاء سنة ( 41 ه‍ . / 661 م ) .

 

أولا . . صلح الإمام الحسن بن علي ( ع ) مع معاوية روى ابن أبي الحديد في كتابة ( شرح نهك البلاغة ) عن أبي الفرج الأصفهاني عن سفيان بن أبي ليلى قال

 

: ( أتيت الحسن بن علي حين بايع معاوية ، فوجدته بفناء داره ، وعنده رهط ، فقلت : السلام عليك يا مذل المؤمنين وقال : عليك السلام يا سفيان . إنزل فنزلت

 

، فعقلت راحلتي ثم أتيته ، فجلست إليه ، فقال : كيف قلت يا سفيان ؟ قلت : السلام عليك يا مذل المؤمنين . فقال : ماجر هذا منك إلينا ؟ . فقلت : أنت والله –

 

بأبي أنت وأمي – أذللت رقابنا حين أعطيت هذا الطاغية البيعة ، وسلمت الأمر إلى اللعين ابن العين ابن

 

 

 

_______________________ 71 ______________________

آكلة الأكباد ، ومعك مائة ألف كلهم يموت دونك . وقد جمع الله عليك أمر الناس . فقال : يا سفيان ، إنا أهل بيت إذا علمنا الحق تمسكنا به وإني سمعت عليا يقول :

 

سمعت رسول الله ( ص ) يقول : لا تذهب الليالي والأيام حتى يجمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرم ( 1 ) ضخم البلعوم ، يأكل ولا يشبع لا ينظر الله

 

إليه ، ولا يموت حتى لا يكون له في السماء عاذر ، ولا في الأرض ناصر ، وإنه لمعاوية وإني عرفت أن الله بالغ أمره . ثم قال لي : ما جاءنا بك يا سفيان ؟ .

 

قلت : حبكم ، والذي بعث محمدا للهوى ودين الحق . قال : فابشر يا سفيان فإني سمعت عليا يقول : سمعت رسول الله ( ص ) يقول : يرد علي الحوض أهل بيتي

 

ومن أحبهم من أمتي كهاتين ، يعني السبابتين . ولو شئت لقلت هاتين يعني السبابة والوسطى ، إحداهما تفضل على الأخرى ، أبشر يا سفيان فإن الدنيا تسع البر .

 

والفاجر حتى يبعث الله إمام الحق من آل محمد ( ص ) ( 2 )

 

هذه هي رؤية الإمام الحسن سلام الله عليه لتطور الأوضاع

 

* ( هامش ) *

( 1 ) السرم لغة : طرف المعي المستقيم والدبر .

( 2 ) أبو الفرج الأصفهاني : مقاتل الطالبين ، ص 76 ط . الأعلمي – بيروت 1408 ه‍ / 1987 م . وابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ، 4 / 16 ط . دار الهدى الوطنية – بيروت – لبنان . غير مؤرخ . ( * )

 

_______________________ 72 ______________________

في الأمة الإسلامية ، وإنه سلام الله عليه لم يسلم الخلافة لمعاوية لأنه يعده قيادة شرعية واجبة السمع والطاعة ، وإنما في مواجهة ضرورة قاهرة أملتها ضغوطات

 

الواقع وتخاذل المتخاذلين كما أملتها معرفته بما ستؤول إلى إقرار بشرعية الغضب والعدوان ، وها هو يرد على لسان ابن آكلة الأكباد حين خطب خطبته

 

الفاجرة في افتتاح دولته قائلا : ( إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ، ولا لتحجوا ، ولا لتزكوا إنكم تفعلون ذلك وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم ، وقد أعطاني الله

 

ذلك وأنتم كارهون ) ( 1 ) . فيرد عليه الإمام الحسن ) ( ع ) : ( إن الخليفة من سار بكتاب الله وسنة نبية وليس الخليفة من سار بالجور ذاك ركل ملك ملكا تمتع

 

به قليلا ثم يتنخمه ، تنقطع الذمة وتبقى تتبعه وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ) .

 

 

لقد كانت الأمة في حاجة إلى هذا الخطاب الواعي من إمام الحق الذي يشخص الواقع لا أن يصبح جزءا منه ومن أدواته ، هذه هي مهمة العلماء ، فإذا قام الأئمة ( ع ) والعلماء من بعدهم بواجبهم بقيت التبعة على الذين خذلوا الحق ، وأيدوا الباطل .

 

 

* ( هامش ) *

( 1 ) المصدر نفسه . ( * )

 

_______________________ 73 ______________________

لماذا أغفل الشيخ البخاري هذه الحقائق ولم يرو شيئا عنها ؟ .

 

لماذا لم يرو هؤلاء القوم شروط صلح الإمام الحسن بن علي مع معاوية ، وهي شروط تنبه المسلمين أنه مهما كانت ضغوط الواقع ، وجبروت الفراعنة فإنه لا يمكن إسباغ الشرعية على حكومات الجور والعدوان .

 

ونقرأ هذه الشروط ، كما رواها الشيخ الصدوق ، قال : ( بايع الحسن بن علي ، صلوات الله عليه ، معاوية على أن لا يسميه أمير المؤمنين ، ولا يقيم عنده شهادة وعلى أن لا يتعقب على شيعة علي شيئا ، وعلى أن يفرق في أولاد من قتل مع أبيه يوم الجمل ويوم صفين ألف ألف درهم ) ( 1 ) .

 

إنه وضع للقتال وليس تسليما للرقاب

 

 

 

 

* ( هامش ) *

( 1 ) الشيخ الصدوق ، علل الشرائع ، 1 / 212 . وفي ما يلي نورد نص معاهدة الصلح بين الإمام الحسن ( ع ) ومعاوية :

1 – تسليم الأمر إلى معاوية ، على أن يعمل بكتاب الله ، وبسنة رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، وبسيرة الخلفاء الصالحين .

2 – أن يكون الأمر للحسن من بعده ، فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين ، وليس لمعاوية أن يعهد به إلى أحد .

3 – أن يترك سب أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة ، وأن لا يذكر عليا ألا بالخير .

4 – إستثناء ما في بيت مال الكوفة ، وهو خمسة آلاف ألف درهم ، = ( * )

 

_______________________ 74 ______________________

من غير قيد ولا شرط ، إنه رجل تملك ملكا تمتع به قليلا ثم ( يتنخمه ) تنقطع الذمة وتبقى التبعة .

 

 

 

 

 

* ( هامش ) *

= فلا يشمله تسليم الأمر . وعلى معاوية أن يحمل إلى الحسن ( ع ) كل عام ألفي ألف درهم ، وأن يفضل بني هاشم في العطاء والصلاة على بني عبد شمس ، وأن يفرق في أولاد من

 

قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل وأولاد من قتل معه بصفين ألف ألف درهم ، وأن يجعل ذلك من خوارج دار أبجرد و ( ودار أبجرد ولاية بفارس على حدود الأهواز )

 

5 – على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله ، في شامهم ، وعراقهم ، وحجازهم ، ويمنهم ، وأن يؤمن الأسود والأحمر وأن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم ، وأن لا يتبع أحدا بما مضى ، وأن لا يأخذ أهل العراق بأحنة ( أي بحقد ) .

 

وعلى أمان أصحاب علي حيث كانوا ، وأن لا ينال أحدا من شيعة علي بمكروه ، وإن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم ، وأن لا يتعقب عليهم

 

شيئا ، ولا يتعرض لأحد منهم بسوء ، ويوصل إلى كل ذي حق حقه ، وعلى ما أصاب أصحاب علي حيث كانوا للتفاصيل أنظر : تاريخ الخلفاء للسيوطي ، ص 194 .

 

مقاتل الطالبيين للأصفهاني ، ص 26 . الإمامة والسياسة لابن قتيبة ، ص 200 . تاريخ الأمم والملوك للطبري 4 / 126 . ( أحداث سنة إحدى وأربعين ) . ( * )

 

_______________________ 75 ______________________

لم يحدثنا التاريخ أن الحسن بن علي ( ع ) سعى في تثبيت ملك بني أمية ، وتوعد من خالفهم بالويل والثبور وعظائم الأمور ، وكيف يعقل أن ينتقل الحال بإمام عظيم هو الحسن ( ع ) من قيادة المواجهة ضد المد الأموي ليصبح ذيلا تابعا في نظام يتخذ من السلطة هدفا لا وسيلة لإقامة العدل ، إنني أوقن أن الحديث عن السمع والطاعة في مواجهة هذه الحكومات الجائرة هو خط مريب للأوراق ، وكان الأولى بهؤلاء الرواة أن يتنزهوا عنه .

 

 

ثانيا . . حادثة استشهاد الإمام الحسين بن علي واقعة أخرى هي خروج الإمام الحسين ( ع ) ، طالبا إصلاح أحوال الأمة المسلمة وآمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر ، وهو الأمر الذي انتهى بشهادته وأهل بيته في كربلاء في العاشر من شهر محرم الحرام عام ( 61 ه‍ / 680 م كما هو معروف في جميع كتب التاريخ .

 

خرج الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب ( ع ) مدافعا عن قيم الإسلام الحقيقي الذي حاول تيار الحقد الأموي أن يجرفه في طريقه ، لقد عمل الأمويون ما في وسعهم لسلب الأمة حقها في اختيار من يقودها فتصبح الخلافة ملكا وراثيا ، وأرادوا أن يسلبوا الأمة عزها وكرامتها وشرفها إلى الأبد ليقودها سكير ينادم القرود ويعطل السنن ، ويشرب الخمر .

 

 

 

 

 

 

_______________________ 76 ______________________

وقد تصدى الإمام الحسين ( ع ) لهذا العبء العظيم قائلا : ( مثلي لا يبايع مثله ) ( 1 ) ، وهذه كلمات ترسخ مبدأ عظيما من الناحية الشرعية والدستورية ، وهو

 

أنه لا ينبغي أن يحكم الأمة مثل هؤلاء الفساق ، ووالله إن الدول غير المسلمة إن تسامحت مع سلوكيات الأشخاص العاديين فإنها تتسامح إطلاقا مع سلوكيات قادتها

 

، ونحن أولى بالحق منهم . ( نحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان ) ، وهذه قاعدة

 

أخرى مكملة لما سبقها ومفادها أنه لا يجوز أن يستمر في حكم الأمة من عرف بالجور والعدوان . ثم هو يسند هذه المرة إلى رسول الله ( ص ) : ( أيها الناس

 

إن رسول الله ( ص ) قال : من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله ( ص ) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير

 

عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله أن يدخله مدخله ، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفئ وأحلوا حرام الله ،

 

 

 

 

* ( هامش ) *

( 1 ) بلاغات الحسين لأحمد صابر الهمداني . ( * )

 

_______________________ 77 ______________________

وحرموا حلاله وإنا أحق من غير ) ( 1 ) ،

 

لماذا لم يرو البخاري ومسلم هذا الحديث عن أبي عبد الله ( ع ) ؟ ،

 

هل يشكون في صدقه ؟ ،

 

أليس هذا الحديث أحق بالرواية من قصة بيعة ابن عمر لعبد الملك بن مروان ؟

 

أم أن رواية الحسين ( ع ) – وإن صدق – لا تتوافق مع مذهبه ورؤيته وليذهب الصدق إلى الجحيم .

 

كما روى ابن جرير الطبري أن الإمام الحسين بن علي ( ع ) خطب فقال : ( إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون ، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها واستمرت جدا فلم يبق منها إلا صبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون أن الحق لا يعمل به وأن الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا فإني لا أرى الموت إلا شهادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برما ) ( 2 ) .

 

أليست هذه الأموال والأعمال مواقف ودروس في السياسة والأخلاق كان الأولى بمصنفي الأحاديث أن يعتنوا بها ويرووها ، وألا يضعونها فوق الرفوف كأنهم لا يعلمون . يروي البخاري ويكثر

* ( هامش ) *

( 1 ) أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : تاريخ الأمم والملوك ، 4 / 304 ط . الأعلمي – بيروت ( غير مؤرخ ) . ( * )

( 2 ) المصدر نفسه 4 / 305 .

 

_______________________ 78 ______________________

الرواية عن ابن عمر وأبي هريرة ولا يروي شيئا عن آل بيت النبوة أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا . ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويظهركم تطهيرا ) ( الأحزاب / 33 ) .

 

 

وأنه لحري بالمسلم الواعي أن يكون دقيقا في ما يقرأ من أحداث التاريخ ، وأن يميز بوعي ، وبورع ، وتقوى بين أئمة الهدى ، وبين أئمة الضلال .

1 – أئمة الهدى لهم السمع والطاعة .

2 – أئمة الهدى لا يأمرون بمعصية .

3 – أئمة الهدى لا يكونون عبيدا لا لغيرهم ، ولا لشهواتهم .

4 – أئمة الهدى لا يأكلون أموال الناس بالباطل .

5 – أئمة الهدى لا يقتلون الذين يأمرون بالقسط والعدل من الناس أما أئمة الضلال فلا يتورعون عن ارتكاب الجرائم والمنكرات ، ولا حتى عن اختراع ما لم نسمع به من قبل .

 

 

هذه الفروق نحن في أمس الحاجة لتمييزها وتبين معالمها ، وإذا كان استعراض النصوص السابقة قد كشف لنا عن حالة التخبط التي عانى منها بعض كتاب التاريخ وأصحاب الفكر قديما وحديثا في رؤيتهم لقضية الإمامة والسياسة ، وهو ما كان عليهم تجنبه ، أو الخضوع فيه لأهواء الحاكمين من الطغاة في تشوية أحداث التاريخ وطمس حق آل بيتن الرسول في خلافة الرسول ( ص ) .

 

 

 

 

_______________________ 79 ______________________

خاتمة المطاف

 

إن نظرة واحدة إلى الساحة الإسلامية في حالتها الراهنة ، تكفي للتدليل على صحة ما نقول ، فقد أصبحت ساحة العلم بلا أسوار ، فهي الآن مستباحة لكل ناعق ،

 

فكل من أراد الدخول دخل وسمى نفسه عالما واتبعه شراذم من الناس : وكل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تمت له بذاكا إن نظرة إلى مجموعة الأحاديث السابقة

 

الواردة في علي وآل البيت ( ع ) وهي – ليست كل ما عندما فما زال في جعبتنا الكثير – تكشف عن صورة واضحة خاصة ، إذا أضيفت إليها أحاديث الأئمة

 

الاثني عشر وهي أن القيادة الطبيعية للأمة الإسلامية تتمثل في أئمة أهل البيت سفينة النجاة ، الثقل الأصغر الذي إن تمسكنا به نجانا الله من خزي الدنيا وعذاب

 

الآخرة ، وإن الذين ينكرون هذه الحقيقة لا يملكون تصورا محددا يمكن تقديمه للأمة الإسلامية ، بل كل ما يقدرون عليه هو الانكار والتشكيك ، تارة يقولون :

 

هذا الحديث ضعيف وتارة أخرى منكر ، وأعجب أشد العجب من إجماع أهل

 

 

 

 

 

 

 

_______________________ 81 ______________________

السنن جميعهم على رواية هذه الأحاديث ثم وقوفهم منها موقف اللاموقف ، وفهمهم فيها هو اللافهم .

 

حتى تلك الأحاديث الواضحة في دلالتها على حتمية اتباع العترة اتباعا منهجيا وقفوا منها أيضا اللاموقف فقد أثبتوها نصا ، ولكنهم لم يخرجوا منها بأي نتيجة ،

 

وأعجب من هؤلاء أولئك الذين يصرون إلى يومنا هذا على ترديد مقولة ( عبد الله بن سبأ ) فهل كان عبد الله بن سبأ راوي حديث الثقلين ؟

 

أم أنه روى حديث خلفاء الرسول الاثني عشر ؟ ،

 

أم أنه هو الذي روى حديث آية التطهير ؟

 

أم آية المودة في القربى ؟ ،

 

أي منطق هذا يريد أن يسيطر على عقول الناس بإرهابهم بأن أصل هذا الكلام هو عبد الله بن سبأ اليهودي ( ائتوني بكتاب الله من قبل هذا أو أثارة علم إن كنتم صادقين ) ( الأحقاف / 4 ) .

 

 

 

 

 

 

_______________________ 82 ______________________

 

https://t.me/wilayahinfo

https://chat.whatsapp.com/JG7F4QaZ1oBCy3y9yhSxpC

 

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...