16 جدال في شهر العسل – السيد حسين الحيدري
19 نوفمبر,2019
صوتي ومرئي متنوع, قصص وعبر
859 زيارة
الفصل الخامس عشر
يصليان الظهرين بخشوع ولكن دون إطالة، ويتناولان غداءهما بسرعة فائقة، ويشربان الشاي على عجلة مِنْ أمرهم.
هدى: والآن أخبرني عن الشورى التي ذكرها القرآن والسنة وسار عليها الصحابة، ما هو دورها في انتخاب الخليفة؟
علي: سوف أطرح عليكِ سؤالاً يُساعدُنا على فهم الشورى المذكورة في القرآن.
هدى: لا بأس، فأسئلتك مفيدة دائماً في هذا المجال.
علي: ما رأيك فيما لو اجتمع أهلُ الشورى، وأسقطوا الصلاة أو الصيام عن الناس؟
هدى: كلا، ليس هذا مُمكناً ولا صحيحاً.
علي: ولماذا؟
هدى: (تطيل التفكير) أتصوّر بأنّ هذه الأمور قد وردتْ النصوص القرآنية والأحاديث النبوية لتعيّـنها وتوجبها وتحدّد حدودها.
علي: أحسنتِ كثيراً، فكلُّ ما وردَ فيه نصٌّ قرآني أو نبويٌ يعيِّنه ويحدِّده بحدودٍ خاصة، فليس بإمكان الناس تغييره.
هدى: صحيح، لأنّ ما هو مَنصوصٌ عليه شرعاً، يُعتبر مِنَ الثوابتِ التي لا يُمكن أنْ يشملها التشاور، وإلا لما بقي مِنَ الدين شيءٌ ثابتٌ.
علي: أحسنتِ، وهكذا بالنسبة للخلافة والإمامة بعد النبي ص.
هدى: وكيف ذلك؟
علي: لأنه وردتْ النصوص النبوية التي تعيِّن الأئمة وعددهم مِنْ بعد النبي ص، وكذلك وردَ النصُّ على مَنْ هو الخليفة والإمام وولي الأمر بعد النبي ص مباشرةً، وذكرتْ اسمه بل أخذ النبي ص بيد علي ع ورفعها يوم الغدير.
هدى: صحيح، فقد تذكرتُ الآن حديثَ الغدير وحديثَ الدار في أوّل الدعوة عند نزول آية (وأنذر عشيرتك الأقربين)، ولكنْ كيف عيَّنَتْ الأحاديث عددهم بعد النبي؟
علي: أنسيتِ أحاديثَ النبي ص القائلة: (الخلفاءُ بعدي اثنا عشر)؟
هدى: نعم صدقتَ، فقد رويتَها عن صحيحي البخاري ومسلم، لقد أصبحتُ كثيرة النسيان وأنا في أول شبابي.
علي: هذا شيءٌ طبيعيٌّ، فلا يُمكن حفظ المعلومات الكثيرة إذا اُلقيتْ على الإنسان لأول مرة، بل لابدّ من تكرارها لكي تحفظ، ونعود لخلافة الإمام علي ع، فلا مجالَ لِلشورى في الخلافة بعدَ أنْ وردَ النصُّ عليها مِنْ قِبل النبي ص.
هدى: كلامُك متينٌ ومُحكمٌ، ولكنْ بماذا تجيب علماءنا الذين يصرّونَ على أنّ الشورى جاء بها النبي ص، وسارَ عليها الصحابة في تعيين الخلفاء الراشدين.
علي: اُذكري لي حديثاً نبويّاً واحداً، يشرح فيه الشورى وكيفيتها ومَنْ هو الذي يجب أنْ يُشاوَر، هل هم جميع المسلمين؟ أم أهل المدينة فقط، أو أهل الحلّ والعقد، وما هي صفاتهم؟ وما هو عددهم؟ وكيف العمل فيما إذا اختلفوا بينهم؟
هدى: (تفكر في أسئلة عليّ لفترة مديدة) لم يَطـْرُقْ ذِهني حتى لِمرّةٍ واحدةٍ مثلُ هذه الأسئلة، ولم أسمعْ حديثاً واحداً يجيبُ عن كلِّ هذه التساؤلات.
علي: ولنْ تعثري على حديثٍ واحدٍ في ذلك أبداً.
هدى: إذن كيف ترسّختْ هذه الفكرة في أذهاننا، حتى تصورنا بأنّ أحاديث كثيرة قد شرحتْ وفصّلتْ هذه الأمور؟
علي: لا أعلم يا عزيزتي، لأنها لم تتسرب إلى ذهني مثل هذه الفكرة، ويجبُ على مَنْ ترَسّخَتْ في ذهنهِ أنْ يُجيب.
هدى: صدقتَ يا عزيزي، ولكنه أمرٌ في غاية الغرابة.
علي: ستتعجبين أكثر لو علمتِ بأنّ الصحابة لم تكنْ فِكرةُ الشورى مطروحة لديهم.
هدى: (متعجبة) وكيف ذلك؟
علي: أتعلمين بأنّ أبا بكر قد عيّن عُمَراً مِنْ بَعدهِ خليفة، ولم يَدَعْ الأمرَ شورى بين المسلمين يختارون لأنفسهم.
هدى: هذا صحيح.
علي: وهل تعلمين بأنّ عمراً قال: (لو كان سالمٌ حياً لوليتهُ وما جعلتها شورى)؟
هدى: وهل يُعقل وجود مثل هذا الكلام منسوباً للخليفة الثاني؟
علي: رواه الباقلاني في التمهيد ص204، وتاريخ الطبري ج5 ص34، وطرح التثريب ج1 ص49.
هدى: ومَنْ هو سالم حتى يكونَ خليفة، أليس في المسلمين صحابة كبار غيره، وعلى رأسهم أهل بيت النبي ص وبنو هاشم.
علي: والأدهى مِنْ ذلك، أنّ سالماً هو مولى لأبي حذيفة، وليس قرشيّاً!!
هدى: وما هو البأسُ في ذلك؟
علي: ألم يُخبرْ النبيُّ ص في أحاديث كثيرة، بأنّ الخلافة بعده في قريش؟
هدى: ولكن مَنْ الذي قال بأنّ سالماً كان مولى ولم يَكنْ قرشياً؟
علي: لقد صرّح عمر نفسه قربَ وفاته وبعدما طـُعِـنَ قائلاً: (لو أدركني أحد رجلين فجعلتُ هذا الأمر إليه لوثقتُ به، سالم مولى أبي حذيفة وأبي عبيدة الجراح)، فهو يذكر هنا بأنّ سالماً مولى أبي حذيفة.
هدى: لا أتصوّر وجود مِثل هذا الكلام في مصادر معتمدة.
علي: بل رواها ابن سعد في الطبقات الكبرى ج3 ص248 طبع ليدن.
هدى: لعلّ جُملة (وما جعلتها شورى) زائدة مِنْ قِبَل الرواة.
علي: ولكنّ نفسَ هذه الجملة تكررتْ في كلام عمر في حقِّ أبي عبيدة.
هدى: وماذا قال في حقّ أبي عبيدة الجراح؟
علي: قال: (لو أدركتُ أبا عبيدة لاستخلفتهُ وما شاروتُ) ذكر ذلك ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق ج7 ص160.
هدى: وماذا عن بقية الصحابة، ألم تكن لديهم ثقافة الشورى؟
علي: أمّا بنو أمية وبنو العباس فلم يعملوا بالشورى في تعيين الخليفة.
هدى: أعلمُ ذلك، ولكني سألتـُكَ عن الصحابة في زمن النبي ص.
علي: استمعي إلى عائشة وهي توصي عمر بعدما ضُربَ، فقد روى ابن سعد في الطبقات الكبرى ج3 ص284، أنها قالتْ لعبد الله بن عمر: (يا بُني، أبلغْ عمر سلامي وقلْ له: لا تدعْ أمّة محمد بلا راعٍ، استخلفْ عليهم ولا تـَدَعْهُمْ بعدَك هَمَلاً، فإني أخشى عليهم الفتنة).
هدى: ولكنْ هل أنّ النبي ص حين تركَ الأمّة دونَ أنْ يَستخلفَ – حسب رأي علمائِنا – قد تركها هملاً وأوقعها في الفتنة؟ هذا كلامٌ غريبٌ وعجيب!!!
علي: وهل غابتْ هذه الحقيقة التي أدركتها عائشة، عن تفكير سيد الحكماء والعقلاء سيدنا محمد ص؟ ثمّ لو فرضنا أنها غابتْ عن ذِهن النبي ص، فلماذا لم يُوحِي الله لنبيه بأنْ يَستخلفَ كي لا يُوقِعَ الأمّة في الفتنة؟
هدى: ولكن رغم صحّة كلّ ما تفضلتَ به، فإنّه في النتيجة قام الخليفة الثاني بجعلها شورى مِنْ بَعدهِ، فهل لديكَ شكٌ في ذلك؟
علي: أتقصدين بأنّ عمر تركَ الأمرَ شورى بين المسلمين؟
هدى: نعم، هذا ما قصدتـُهُ.
علي: فمَنْ الذي عيّن هؤلاء الستة دونَ غيرهم؟
هدى: عيّنهم عمر قبلَ مَوتهِ.
علي: فليس للمسلمين دَخَـلٌ في هذه الشورى، لأنهم لم يختاروا أصحابها، وإنما هي بتعيينٍ مِنْ عمر.
هدى: وهذا صحيحٌ أيضاً، ولكنهم تشاوروا بينهم فاختاروا رجلاً مِنهم.
علي: لم يكنْ عندهم اختيار، لأنّ عمر قال لهم: إذا انقسموا نصفين، فالترجيحُ يكون للثلاثةِ الذين فيهم عبدُ الرحمن بن عوف.
هدى: إلى هذا الحدّ، لا أعتقدُ وجودَ مثل هذا الشرط، وإلا لما كانتْ شورى.
علي: ذكر ذلك الطبري في تاريخه ج5 ص33، وابن الأثير في الكامل ج3 ص34، وابن سعد في الطبقات ج3 ص338.
هدى: وما هو الدليلُ الشرعِيُّ على وضع عمر لِمِثل هذا الشرط؟
علي: ليس عليه دليلٌ شرعيٌ، ولكنّ ابنَ عوف كان من الحِزبِ القرشي ضدَّ علي ع، لذلك رشّحَ عثمان ولم يُرشح علياً.
هدى: وماذا عن انتخاب أبي بكر، أليس هو بالشورى قطعاً؟
علي: كلا، لم تكن شورى حقيقية في انتخابه.
هدى: كيف ذلك؟
علي: ألا تعتقدين بأنّ أهمّ جماعةٍ يجبُ أنْ يُستشاروا في أمر الخلافة هم بنو هاشم، لاسيما علي بن أبي طالب ع والعباس والزبير.
هدى: صدقتَ، فهم عشيرته وأهل بيته ص.
علي: ولكنْ أتعلمين بأنّ جميع بني هاشم كانوا غائبين عنها؟
هدى: هل يُعقل غياب أمثالهم عن أهمِّ أمرٍ يتعلقُ بمصير الأمة الإسلامية؟
علي: أنا أتحدّى جميعَ علمائِكم أنْ يُثبتوا لنا بالأدلة التاريخية، حضورَ واحدٍ مِنْ عشيرة النبي ص أو واحد مِنْ أهل بيته.
هدى: فأينَ كانوا إذن؟
علي: كانوا مشغولين بتغسيل النبي ص وتكفينه والصلاة عليه ودفنه بعد حفر قبره.
هدى: وماذا عن باقي المسلمين، ألم يحضروا هذه المراسم؟
علي: التاريخُ يذكرُ بأنّ بني هاشم وعلى رأسهم علي ع، هو الذي قام بتلك المراسم.
هدى: لِنؤجِّل هذا البحث لوقتٍ آخر، ولكنْ أخبرني ألم يجتمع المسلمون على بيعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة؟
علي: كلا، لم يُجْمِعوا على بيعتهِ، فقد قال عمر لسيد الأنصار سعد بن عبادة لما رَفضَ البيعة لأبي بكر: (اقتلوا سعداً، قتل الله سعداً).
هدى: أتمزح يا علي؟
علي: كلا، فهذا ما رواه أصحّ كتابٍ عندكم، وهو صحيح البخاري ج8 ص28 طبع دار الفكر بيروت.
هدى: (مُندهشة مما تسمعه) وهل تكون الشورى بالإجبار والتهديد بالقتل؟
علي: والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل كان عمر في ذلك الوقت نبياً أو وكيلاً من قبل النبي ص، حتى يأمر بقتل صحابيٍّ كبيرٍ مثل سعد بن عبادة؟ أم إنّ عمر كان يومئذٍ كواحدٍ مِنَ المسلمين؟
هدى: كان يومئذٍ كواحدٍ مِنَ المسلمين، وهل حَدَثَ تهديدٌ لِغير سعد؟
علي: نعم، قال عمر للحباب حين رفض بيعة أبي بكر: (إذن يقتلك الله) بعد أنْ ضربَ يده وحطـَّم أنفه.
هدى: سبحان الله، وهل هذه شورى؟
علي: ولمّا خرجوا مِنَ الاجتماع، سَلّ الزبيرُ سيفه وقال: لا أغمده حتى يُبايَع علياً، فقال عمر: عليكم الكلب – يعني الزبير – فأخذوا السيف مِنْ يدِهِ وضربوا به الحجر وكسروه، راجعي ذلك في تاريخ الطبري ج3 ص199، والإمامة والسياسة ج1 ص11، والرياض النضرة في فضائل العشرة ج1 ص167.
هدى: عقلي لا يتحمّل أنّ كلّ ذلك جرى في بيعة أبي بكر، فهل حقاً ما تنقل؟
علي: مع الأسف لأني سوف أجيبكِ بنعم يا عزيزتي.
هدى: فكيف قالوا: حدثَ إجماعٌ على بيعةِ أبي بكر؟
علي: لا أدري، ولقد وصفَ عمر بيعة أبي بكر بوصفٍ عجيبٍ.
هدى: وبماذا وصفها؟
علي: قال: (بيعة أبي بكر فلتة وتمّتْ، ألا وإنها قد كانتْ كذلك، ولكنْ وقى الله شرَّها …. ومَنْ عادَ لِمِثلِها فاقتلوه).
هدى: وما معنى فلتة؟
علي: يُقالُ لكلِّ أمرٍ يُصنعُ بعجلةٍ مِنْ غير تدبير مُحْكم ولا تفكير صحيح: فلتة.
هدى: الخليفة الثاني عمر يحكم بنفسه على بيعة أبي بكر بأنها فلته، ثم يأمرُ بقتل مَنْ يفعل مثلها، شيءٌ لا يكاد يصدِّقه عقلي الصغير مُطلقاً، أو لعلّ راويه مِنَ النكِرات.
علي: بل رواه البخاري في صحيحه ج8 ص26 طبع دار الفكر بيروت.
هدى: البخاري يرويه أيضاً؟! وهل بايعَ أهلُ البيتِ سيّما علي بن أبي طالب أبا بكر؟
علي: كلا فقد روى البخاري في صحيحه ج5 ص83 طبع دار الفكر بيروت، أنّ علياً لم يُبايعْ أبا بكر إلا بعدَ مرور ستة أشهر مِنَ البيعة لأبي بكر؟
هدى: ولماذا بعد ستة أشهر؟
علي: بعد وفاة فاطمة ع.
هدى: ولماذا بعد وفاة فاطمة؟
علي: لأنّ فاطمة كانتْ غاضبة على أبي بكر، ولم تبايعه في حياتها.
هدى: قلْ لي: هل أنّ ذلك قد رواه البخاري أيضاً، كي يُجَنَّ عقلي؟
علي: نعم، وهذا مِمّا رواه البخاري أيضاً في ج4 ص42 طبع دار الفكر بيروت حيث قال: (فغضبتْ فاطمة بنت رسول الله ص، فهجرتْ أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيتْ، وعاشتْ بعدَ رسول الله ص ستة أشهر).
هدى: يكاد دماغي ينفجر لسماع هذه الأمور العجيبة التي لم تطرق سمعي قبل اليوم.
علي: إذن لنتوقف يا عزيزتي عن البحث في هذا الموضوع كي لا يؤذيكِ.
هدى: لنترك بحث الشورى لوقتٍ آخر، وأجبني عما سمعته مِنْ بعض أساتذتي، حيث يقولون بأنّ النبي ص كان يُمَهِّـدُ الأمرَ لِيكون أبو بكر هو الخليفة بعده.
علي: أولاً: إنّ علماءكم يقولون بأنّ الخلافة تتعيّن بالشورى لا بالنصّ، فكيف يُهيأ الأمرَ لأبي بكر، هذا نقضٌ لمبدأ الشورى الذي يؤمنون به، ثمّ إنّ حوادثَ التاريخ تذكرُ عكسَ ذلك تماماً.
هدى: وكيف ذكرتْ عكسَ ذلك؟
علي: التاريخ يروي بأنّ النبي ص أرادَ إبعادَ كبار الصحابة عن المدينة عند وفاته، ومنهم أبو بكر وعمر، ليخلو الجو لعليٍّ ع كي يستلمَ الخلافة دون مزاحم.
هدى: ماذا تقول؟ يُبعدُهم عن المدينة عندَ وفاته، هذا مما لم نسمع به أبداً.
علي: هل سمعتِ بجيش أسامة، الذي بعثه النبي ص عند مرضه للشام؟
هدى: نعم، سمعتُ بذلك الجيش.
علي: وهلْ علمتِ بأنه كان في ضِمن ذلك الجيش الذي بعثه النبي ص بقيادة الشاب الصغير أسامة، أبو بكر وعمر وغيرهم مِنْ كِبار الصحابة؟
هدى: وهل كان عليُّ بن أبي طالب في ضِمن هذا الجيش؟
علي: كلا.
هدى: ومَنْ قال بأنّ أبا بكر وعمر كانا في جيش أسامة؟ ثم مَنْ قال بأنّ هذا الجيش كان قرب وفاة النبي ص؟ ومَنْ قال أنّ أسامة كان شاباً صغيراً؟
علي: قال ابن سعد في الطبقات الكبرى ج2 ص190 طبعة دار صادر، [سرية أسامة]: (فلما كان يوم الأربعاء بدى برسول الله ص فحُمَّ وصدع، فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواءاً بيده ثم قال: اُغْـزُ بسم الله وفي سبيل الله فقاتِلْ مَنْ كفر بالله، فخرج بلوائه وعقوداً، فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي وعسكر بالجرف، فلم يبقَ أحدٌ من وجوه المهاجرين والأنصار إلا انتدب في تلك الغزوة، فيهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص، فتكلمَ قومٌ وقالوا: يَستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين؟ فغضبَ رسولُ الله ص غضباً شديداً، فخرج وقد عصبَ على رأسه عصابة، فصعدَ المنبرَ فحمدَ الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس، فما مقالةٍ بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، لقد طعنتم في إمارتي أباه مِنْ قبله …. وثقل برسول الله ص فجعل يقول: أنفذوا بعث أسامة).
هدى: يطعنون بتأمير النبي ص لأسامة عليهم وهم صحابة كبار، لا يُمكن تصديقَ هذه الرواية اليتيمة.
علي: فهاكِ شهادة أخرى لمؤرِّخٍ كبير هو ابن الأثير في الكامل ج2 ص317 طبع دار صادر في باب ذكر مرض رسول الله ص، حيث يقول: (إنْ تطعنونَ في إمارتهِ فقد طعنتم في إمارة أبيه مِنْ قبل، وإنه لخليقٌ بالإمارة، وكان أبوه خليقٌ لها، وأوعبَ مع أسامة المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر وعمر، فبينما النّاس على ذلك، ابتدىء برسول الله ص مرضه).
هدى: أشعرُ بأنّ زلزالاً يهزُّ روحي، ويحطـِّمُ كلَّ ما بنيتـُهُ فيما مضى مِنْ أفكار وعقائد، ولكنْ ليس مِنَ السهل الاعتماد على روايتين في مِثل هذه القضايا المهمة والمصيريّة، ثم إنك لم تذكرْ لِحَدِّ الآن بأنه كان ذلك قربَ وفاةِ النبي ص.
علي: بل مرّ عليكِ الإشارة إليه فيما نقلته لكِ، وإليك المزيد من الشهادات، استمعي إلى الذهبي في سير أعلام النبلاء ج2 ص496، حيث يقول في ترجمة زيد والد أسامة: (استعمله [ أي أسامة ] النبي ص على جيش لِغزو الشام، وفي الجيش عمر والكبار، فلم يَسِرْ حتى توفي رسول الله ص).
هدى: سبحان الله، وهل ذكر غير الذهبي هذه الحادثة عند وفاته ص؟
علي: نعم، كابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب ج1 ص182 باب 391 قائلاً: (استعمله رسولُ الله ص على جيشٍ فيه أبو بكر وعمر، فلم ينفذ حتى توفي النبي ص)، وقال ابنُ حجر أيضاً في فتح الباري ج9 ص622 طبع دار طيبة: (كان تجهيزُ أسامة يومَ السبت، قبلَ موتِ النبي ص بيومين).
هدى: وهل أطبقتْ كلمة المؤرخين على أنّ أبا بكر وعمر كانا في ضمن هذا الجيش، الذي أراد بعثه إلى الشام بقيادة الشاب أسامة؟
علي: نعم، كالسيوطي في الإسعاف ص14، وابن عساكر في تاريخ دمشق ج8 ص60، وابن الجوزي في كشف المشكل من حديث الصحيحين ج2 ص560، والمقريزي في الامتاع ج14 ص517، والبلاذري في الأنساب ج2 ص115، والمزّي في تهذيب الكمال في أسماء الرجال ج2 ص340 طبع الرسالة، والصَّفدي في الوافي بالوفيات ج8 ص242 وغيرهم.
هدى: وهل هناك تصريح بكون أسامة كان شاباً صغيراً؟
علي: ذكرتُ لك سابقاً اعتراضهم عليه لكونه غلام، وقال السَّخاوي في التحفة اللطيفة ج1 ص166: (وأمّره ص وهو ابن ثمان عشرة سنة، على جيشٍ فيه أبو بكر وعمر رض، ومات النبي ص قبل أنْ يتوجه).
وقال ابن الجوزي في كشف المشكل من حديث الصحيحين ج2 ص560: (فانتدبَ معه وجوه المهاجرين والأنصار، وفيهم أبو بكر وعمر وسعد وسعيد وأبو عُبيدة، فتكلّم حينئذٍ أقوامٌ فقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوّلين).
وقال الصَّفدي في الوافي بالوفيات ج8 ص242: (وبعث رسول الله ص أُسامة في جيش فيهم أبو بكر وعمر رض، فطعن الناس فيه لأنّه كان ابن مولى ولم يبلغ العشرين سنة).
هدى: أتصوّر بأن هذا يكفي، ولكن ماذا يقول الوهابيون عن هذه الحوادث؟
علي: كعادة شيخ إسلامهم ابن تيمية، فقد أنكر أنْ يكونَ أبو بكر وعمر في جيش أسامة، وادّعى اتفاق أهل العلم على ذلك.
هدى: وماذا قال بالضبط؟
علي: قال في منهاج السنة ج5 ص486: (إنّ هذا مِنَ الكذب المتفق على أنه كذب عند كلّ مَنْ يعرف السيرة، ولم ينقل أحدٌ مِنْ أهل العلم أنّ النبي ص أرسل أبا بكر أو عثمان في جيش أسامة).
هدى: الحمد لله الذي جعلني لا أثقُ بكلام ابن تيمية بعد الآن، ونرجع إلى خلافة علي ع، فإني سمعتُ مِنَ الوهابيين يقولون بأنّ علياً كان شجاعاً، فلماذا سكتَ ولم يقفْ في وجه غاصبي خلافته؟
علي: لقد أوضحَ الإمامُ علي ع السبب في ذلك.
هدى: وما هو السببُ الذي ذكره الإمام.
علي: روى المتقي في كنز العمال ج5 ص727 حديث 14243 عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، قال: (كنتُ على الباب يومَ الشورى، فارتفعتْ الأصواتُ بينهم، فسمعتُ علياً يقول: بايعَ الناسَ لأبي بكر وأنا والله أولى بالأمر منه وأحقُّ به منه، وسمعتُ وأطعتُ مخافة أنْ يَرْجَعَ الناسُ كفاراً يضربُ بعضُهم رقابَ بعضٍ بالسيف، ثم بايعَ الناسُ عمر، وأنا والله أولى بالأمر منه وأحقُّ به منه، فسمعتُ وأطعتُ مخافة أنْ يَرْجَعَ الناسُ كفاراً يضرب بعضُهم رقابَ بعض بالسيف، ثمّ أنتم تريدون أنْ تبايعوا عثمان، إذنْ أسمعُ وأطيع، إنّ عمر جعلني في خمسة نفر أنا سادسهم، لا يعرف لي فضلاً عليهم في الصلاح، ولا يعرفونه لي كلنا فيه شرعٌ سواء)، ثم يبدأ الإمام علي ع بتعداد فضائله ومناقبه وهم لا ينكرونها ولم أنقلها لطولها، وتستطيعين مراجعتها لأنها جميلة جداً.
هدى: وهل روى هذا الحديث غير المتقي؟
علي: نعم، رواه ابن مردويه في المناقب ص129، والخوارزمي في مناقبه ص231، وابن المغازلي في المناقب ص112 حديث 155، وابن عساكر في ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق ج3 ص113 حديث 140.
هدى: أتصور بأنّه في مثل هذا الأمر المهم، لابدّ أنْ تصدرَ مِنْ عليٍّ بياناتٍ أكثر توضِّح ذلك.
علي: صحيح، لذا ورد عنه ع أنه قال: (قُبضَ رسولُ الله ص وأنا أرى أني أحقُّ الناسِ بهذا الأمر، فاجتمع الناس على أبي بكر، فسمعتُ وأطعتُ، ثم إنّ أبا بكر حضر [أي احتضر] فكنتُ أرى أنْ لا يعدلها عني، فولى عمر فسمعتُ وأطعتُ، ثم إنّ عمر أصيبَ فظننتُ أنه لا يعدلها عني، فجعلها في ستة أنا أحدهم، فولاها عثمان فسمعتُ وأطعتُ، ثم إنّ عثمان قـُتِلَ فجاءوني فبايعوني طائعين غير مُكرَهين، فوالله ما وجدتُ إلا السيف [أي مع أهل الشام] أو الكفر بما أنزل على محمد ص).
هدى: ومن روى هذا الحديث؟
علي: رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق ج3 ص130 رقم 1152، وأنساب الأشراف للبلاذري ج2 ص177 رقم 202، وأسد الغابة ج4 ص31.
هدى: في الحديث الأول المنقول عن أبي الطفيل، ذكر الإمام سبب سكوته، أما في الحديث الثاني ففيه أنه أحق بالخلافة، وأنه رغم ذلك سكتَ وأطاع.
علي: بل في كِلا الحديثين أشار الإمام ع إلى كونه أحقّ بالخلافة، واستمعي أيضاً لما أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب المطبوع بهامش الإصابة ج1 ص502 ترجمة رفاعة بن رافع بن مالك عن عمر بن شبة، بسنده قال: (قال علي ع: لما قُبِضَ رسولُ الله ص، قلنا: نحن أهله وأولياؤه، لا ينازعنا سلطانه أحد، فأبى علينا قومنا فوَلَّوا غيرَنا، وايمُ الله لولا مخافة الفرقة وأنْ يعودَ الكفرُ ويبورَ الدين لغيّرنا، فصبرنا على بعض الألم).
هدى: إنه يُصرّح هنا أيضاً بأنه إنما صبر مخافة أنْ يعود الكفر.
علي: وهذا ما أكـّده الإمام علي ع أيضاً في مناسبات كثيرة، منها قوله: (فأمسكتُ يدي حتى رأيتُ راجعة الناس قد رجعتْ عن الإسلام، يدعون إلى مَحْق دين محمّد ص، فخشيتُ إنْ لم أنصر الإسلامَ وأهله، أنْ أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظمَ مِنْ فوتِ ولايتِكم، التي إنّما هي متاعُ أيّامٍ قلائل، يزولُ منها ما كان كما يزول السراب…) نهج البلاغة ج3 ص119 شرح الشيخ محمّد عبده.
هدى: سبحان الله، لم أكنْ أعلم بكلِّ هذه الأحداث المؤلمة، فتاريخ صدر الإسلام مليء بأحداثٍ مأساوية، ثمّ هل يُعقل بأنّ عمر لم يكن يعرف منزلة الإمام علي ع، وكونه مؤهَّـلاً لِلخلافة؟
علي: بل كان عمر يعلم يقيناً بأنّ علياً أهلٌ للخلافة، وأنّ هؤلاء الخمسة الذين جعلهم معه في الشورى غير مؤهَّلين لها قطعاً.
هدى: هذا حكمٌ على النوايا، وكنتُ أظنّ بكَ أنْ تُحْسِنَ الظنَّ بالخليفة الثاني.
علي: ولكني لا أحكم على النوايا يا عزيزتي، لأنّ عمر قد صرّح هو بذلك.
هدى: عمر قد صرّح بذلك !!! وماذا قال بالضبط؟
علي: روى البلاذري في أنساب الأشراف ج5 ص17، عن الواقدي بسنده قال: (ذكر عمر مَنْ يَستخلف، فقيل: أين أنت عن عثمان؟ قال: لو فعلتُ لحملَ بني أبي معيط على رقاب الناس، قيل: الزبير؟ قال: مؤمنُ الرضا كافرُ الغضب، قيلَ طلحة؟ قال: أنفهُ في السماء وأستهُ في الماء، قيل: سعد؟ قال: صاحبُ مقنب، قريةٌ عليه كثير، قيلَ: عبد الرحمن؟ قال: حسبُه أنْ يَجريَ على أهل بيته).
هدى: وهل هذه الرواية وحدَها تكفي في إسقاطِهم؟
علي: أولاً: لستُ أنا الذي أسقطتـُهم، بل هو كلام عمر في حقِّهم، ثانياً: هناك كلماتٌ أخرى مثلها تـُنقلُ عن الخليفة الثاني عمر.
هدى: أذكرها لو سمحتَ.
علي: لقد روى الباقلاني في التمهيد ص510، (أنه قال [عمر] لِطلحة: لقد ماتَ رسولُ الله وهو عليك غضبان، وقال للزبير: مؤمنُ الرضا كافرُ الغضب، يومٌ شيطانٌ ويومٌ إنسانٌ، وقال لِعثمان: لتحملنّ قومَك على رقاب الناس يأكلون مال الله، ولتسيرنّ العرب إليك ولتقتلنـّك).
هدى: شيءٌ لا يكاد فكري يتصوره ولم أسمع به مِنْ قبْلُ قط، فهو يَذمُّ أهلَ الشورى بمثل هذا الذمّ ورغمَ ذلك يجعلهم في الشورى، لكنك ذكرتَ بأنه مدحَ الإمامَ علي وقال عنه بأنه أهلٌ للخلافة، بينما لم نجدْ شيئاً مِنْ ذلك فيما نقلته لي لحدِّ الآن.
علي: أحسنتِ، ففي نفس الحديث السابق الذي رواه الباقلاني في التمهيد، قال عمر لعلي: (لئِنْ وليتهم لتحملنّهم على المحجّة البيضاء والطريق المستقيم).
هدى: عجيبٌ والله، أشعرُ بأنّ عقلي قد تعطـَّلَ عمله، وتوقف عن التفكير الصحيح، فإذا كان قد ذمَّ كلَّ أولئك، ومدحَ الإمامَ علي بمثل ذاك المدح العجيب، فلماذا لمْ يستخلفهُ كما أراد استخلاف سالم مولى أبي حذيفة أو أبي عبيدة لو كانوا أحياء؟
علي: وأزيدُكِ عِلماً بأنّ ابن شبة قد نقلَ في تاريخ المدينة ج3 ص883، أنّ المغيرة بن شعبة ذهبَ إلى عمر، واستفسرَ مِنهُ عن هؤلاء الخمسة أهل الشورى، فذمّهم إلا علي حيث قال عمر: (وإنّ أخلقَهُم أنْ يَحْمِلـَهم على المحجّةِ البيضاء الأصلع، يعني علياً رض)، وكذلك روى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ج1 ص43، أنّ عمر ذمّهم إلا علياً حيث قال له: (وإنك أحرى القوم إنْ وليتها، أنْ تـُقيمَ على الحقِّ المبين والصراط المستقيم).
هدى: أتعلم يا عزيزي بأنّ هذا الموضوع قد زلزلَ وجداني وهزَّ ضميري هزّاً عنيفاً، فكيف تركَ عمر علياً دونَ أنْ يستخلفه، بعد كلّ هذا الإقرار له بأنه أحراهم وأخلقهم بأنْ يُقيمهم على المحجّةِ البيضاء؟ والآن دعنا مِنْ هذا الموضوع قبل أنْ يَجُنَّ عقلي، وأجبني عن سؤالٍ خَطـَرَ في ذِهني توّاً، وهو هل أخبر رسولُ الله ص علياً ع بما سيجري عليه مِنْ بعد رحيله؟
علي: نعم، لقد أخبره بكلّ ما سيجري عليه.
هدى: سبحان الله، وماذا قال له؟
علي: روى الحاكم في المستدرك ج3 ص150 حديث 4676، والذهبي في تلخيصه: بسندهما عن علي ع قال: (إنّ مما عهد إليّ النبي ص أنّ الأمة ستغدر بي بعده)، ثم قال الحاكم عنه: حديث صحيح الإسناد، وقال الذهبي عنه أيضاً: صحيح.
هدى: الله أكبر، النبي يُخبرُ الإمامَ علياً بغدر الأمة به، شيءٌ غريبٌ حقاً، وهل لديك المزيد مِنْ أمثال هذا الحديث؟
علي: روى الهيثمي في مجمع الزوائد ج9 ص189 حديث 14783، والعقيلي في الضعفاء ج4 ص8 رقم 189، ومسند البزار ج3 ص91 حديث 869، والدولابي في الكنى والأسماء، في ذكر مَنْ كنيته أيوب رقم 441، والخطيب في تاريخ بغداد ج11 ص216 رقم 5928، والحاكم في المستدرك ج3 ص153 حديث 4686 والذهبي في التلخيص: (عن حيان الأسدي، سمعتُ علياً يقول: قال لي رسول الله ص: إنّ الأمة ستغدر بك بعدي، وأنت تعيش على ملتي وتقتل على سنتي، مَنْ أحبّك أحبّني ومَنْ أبغضك أبغضني، وإنّ هذه سَـتـُخضب مِنْ هذا، يعني لحيته مِنْ رأسه).
هدى: ولكن هل هناك مَنْ صحّح هذا الحديث؟
علي: نعم، صحّحه الحاكم في مستدركه، وكذلك الذهبي قال عنه: صحيح.
هدى: ولقد قال علماء الرجال بأنّ الحديثَ الذي يصحّحهُ الحاكم ويتعقبه الذهبيُّ بالتصحيح، يُعتبرُ مِنْ أصَحِّ الأحاديث، ولكنْ قل لي رجاءً: لماذا غَدَرَتْ الأمّة بعلي بن أبي طالب؟
علي: لأنها تحْقِدُ عليه، وتحملُ في نفوسها الضغينة عليه.
هدى: ولكن ما سببُ هذه الضغينة والحقد على الإمام علي بالخصوص؟
علي: لأنّ سيفَ الإمام علي ع حَصَـدَ رؤوسَ كثير مِنَ المشركين مِنْ أقاربهم في حروب النبي ص، في بدر وأحد والأحزاب وغيرها.
هدى: وهل يُعقل أنْ تبقى هذه الضغائن في صدورهم حتى بعد إسلامهم؟
علي: أنا لا أعلمُ الغيبَ يا عزيزتي، ولكنّ الذي يَعلمُ الغيبَ هو الذي أخبر النبي ص وأطلعه بما في نفوسهم مِنْ ضغائن.
هدى: وماذا قال النبي ص حولَ هذه الضغائن؟
علي: روى أبو يعلى في مسنده ج1 ص426 حديث 565 وهو طويل وفيه: (أنّ النبي ص أخذ بيد علي ومشى في سكك المدينة، وشاهدوا سبع حدائق، ويقول عليٌّ في كلِّ مرة: ما أحسنها، ويقول النبي ص: ولك في الجنة أحسن منها، إلى أنْ خلا الطريق بهما، يقول الإمام علي ع: فاعتنقني النبي ص وأجهش باكياً، قال: قلتُ: يا رسول الله، ما يُبكيك؟ قال: (ضغائنُ في صدور أقوامٍ لا يُبدونها لك إلا مِنْ بعدي)، قال: قلتُ: يا رسول الله، في سلامةٍ مِنْ ديني؟ قال: (في سلامة مِنْ دينك).
هدى: وهل انفردَ أبو يعلى برواية هذا الحديث؟
علي: بل رواه كثيرون، كالطبراني في المعجم الكبير ج11 ص73 حديث 11084، والبزار في مسنده ج2 ص293 حديث 716، والهيثمي في مجمع الزوائد ج9 ص156 حديث 14690، وابن عساكر في تاريخه ج42 ص322 – 324.
هدى: سبحان الله، وهل أوصى النبي ص علياً بفعلِ شيءٍ حينَ يواجه ذلك؟
علي: في الرواية التي وردتْ في تاريخ دمشق لابن عساكر، جاء في آخرها: (فقال علي ع: فما أصنعُ يا رسولَ الله؟ قال ص: تصبر).
هدى: إذن حَسَب هذا الحديث، نفهمُ بأنّ سكوتَ الإمام علي وصبره، كان نتيجة وصية النبي ص هذه، وليس فقط خوفه من ارتداد الناس كفاراً؟
علي: نعم هو كذلك، ولذا كان النبي ص يُخبر بني هاشم بما سيجري عليهم بَعده.
هدى: وما الذي أخبرهم؟
علي: أخبرهم قائلاً: (أنتم المستضعفون بعدي)، رواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج9 ص34، وابن حنبل في مسنده ج6 ص339، والطبراني في المعجم الكبير ج25 ص23، والديلمي في فردوس الأخبار ج1 ص394.
هدى: مُستضعفون بعده؟! يعني ما الذي سيحصل لهم بعده؟
علي: هناك حديث آخر ورد عنه ص يوضّح ما سيحصل لهم، فقد روي أنّ النبي ص رأى فتية مِنْ بني هاشم فسالتْ دموعه، فقيل له: ما يبكيك؟ فأجابهم: (إنّ أهلَ بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريداً وتطريداً …..)، رواه ابن ماجة في سننه ج2 ص1366 طبع دار الفكر بيروت، والحاكم في المستدرك ج4 ص464، وابن أبي شيبة في المصنف ج8 ص697 طبع دار الفكر بيروت، وابن أبي عاصم في السنة ص619 حديث 1499 طبع المكتب الإسلامي، والطبراني في المعجم الأوسط ج6 ص29 طبع دار الحرمين.
هدى: عجيب فالأمم تكرم أولاد عظمائِها مِنْ بعدِ رحلتهم عن الدنيا، تكريماً لجهودهم وخدماتهم، بينما أمة الإسلام تعامل ذرية النبي ص هكذا، ثم ألا تلاحظ معي بإنّ البلاء سوف يُصيب جميعَ أهل بيته، وليس فقط الإمام علي؟
علي: صحيح، هو كما تفضلتِ، ولكنّ النصيبَ الأوفر مِنْ هذا البلاء والظلم قد أصابَ الإمام علي ع، لذا ورد عنه قوله: (والله لقد ظلمتُ عددَ الحجر والمدر) كما في شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج10 ص286.
هدى: شيءٌ مُذهلٌ حقاً، ولا يتحمّلُ سماعَ مثلِهِ قلبُ أنثى مثلي، أهذا هو جزاء أتعاب النبي ص وجهوده الكبيرة في هدايتهم؟ ساعدَ الله قلبَ رسول الله ص وهو يعلم بما سيجري على أهل بيته من بعده مِنْ ظلم، لا أدري ما حاله ص وهو يخبرهم بذلك؟
علي: ورغم أنّ الله قال للنبي ص: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)، فلما سألوه عن قرباه أجابهم بأنهم علي وفاطمة وابناهما، ولقد أخبرتـُك سابقاً ببكاء النبي ص مراراً، وذلك حين أخبره جبرئيل بمقتل الحسين ع، ثم أراه التربة التي يُقتل عليها، وتقبيله إيّاها وشمّه لها.
هدى: صحيح والله، فكيفَ هي حاله ص وهو يعلم بأنّ أهلَ بيته سيلقون بعده التشريد والتطريد والبلاء؟ ولكن إذا كان النبي ص يعلم بما سيجري عليهم من ظلم، فلماذا لم يحذِّرْ أمته مِنْ ظلم أهل بيته؟
علي: ومَنْ قال لكِ بأنـّه ص لم يُحذِّرْهم؟
هدى: وكيف كان تحذيره ص لهم؟
علي: استخدم طرقاً كثيرة، منها التحذير من ظلمهم وأذيتهم: فقد ورد عنه ص قوله: (اشتدّ غضبُ الله على مَنْ آذاني في عترتي) رواه السيوطي في الجامع الصغير ج1 ص158 حديث 1045، والمتقي في كنز العمال ج12 ص93 حديث 34143.
ومثل قوله ص: (ستة لعنتهم ولعنهم الله وكلّ نبيٍّ مُجاب،… والمستحلّ مِنْ عترتي ما حرّم الله) روي في المستدرك ج2 ص572 حديث3940، والمعجم الكبير ج3 ص126 حديث2883، والمعجم الأوسط ج2 ص186 حديث1667.
هدى: وهل هناك طريقة أخرى في تحذيره ص إياهم؟
علي: نعم، بالتحذير مِنْ بُغضهم.
هدى: وما الفرق بين هذا الطريق والطريق الذي قبله؟
علي: التحذيرُ مِنْ ظلمهم وأذيتهم هو فِعلٌ يَصدُرُ ضدَّهم، أمّا هنا فحذر مِنْ بُغضهم قلباً، حتى لو لم يَصْـدُرْ مِنهُم عملٌ ضِـدَّهم، فإنه مُحرّمٌ عليهم أيضاً.
هدى: صدقتَ وأحسنتَ، فماذا قال في التحذير مِنْ بُغضهم؟
علي: الأحاديثُ كثيرةٌ في كلِّ باب، ولكنا نختار بعضها، فقد قال ص: (لما أسري بي إلى السماء، رأيتُ على باب الجنة مكتوباً بالذهب: لا إله إلا الله محمد حبيب الله علي ولي الله فاطمة أمَة الله الحسن والحسين صفوة الله، على مبغضيهم لعنة الله) رواه الخطيب في تاريخ بغداد ج1 ص259، وتهذيب تاريخ دمشق ج4 ص322، ومناقب الخوارزمي ص302.
هدى: هذا حديثٌ غريبٌ في بابه حقاً، وهل استعمل طريقاً آخر؟
علي: نعم، هناك روايات كثيرة توضِّح أنّ مَنْ يُحارب أهلَ البيت فقد حاربَ النبي ص، ومن يُسالمهم فقد سالم النبي ص، فقد ورد عنه ص قوله في حق أهل بيته: (أنا حربٌ لِمَنْ حاربكم وسِلمٌ لِمَنْ سالمكم)، كما رواه أحمد بن حنبل في مسنده ج3 ص446 حديث 9704، والحاكم في المستدرك ج3 ص161 حديث 4713، والبداية والنهاية ج8 ص36، والمعجم الكبير ج3 ص40 حديث 2621.
هدى: أتصوّر بأنّ هذا المقدار يكفي، فقد مرّ على أذان المغرب وقتٌ طويلٌ.
علي: شكراً على التنبيه، حقاً لقد مضى الوقتُ سريعاً ونحنُ لا نشعر، هيا بنا لنؤدِّي فريضتي المغرب والعشاء.
هدى: هيا بنا نحو لقاء المحبوب.
علي: صدقتِ يا عزيزتي، فالصلاة أعظم لقاء مع المحبوب الحقيقي.
2019-11-19