الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / 19 جدال في شهر العسل – السيد حسين الحيدري

19 جدال في شهر العسل – السيد حسين الحيدري

 الفصل الثامن عشر

يقومان للصلاة ويؤديانها بخشوع وخضوع، ثم ينشغلون بعدها بتحضير طعام الغداء، ويستلقيان قليلاً فلا ينامان، بسبب كثرة تفكيرهما بما طرح مِنْ مواضيع متنوعة، فتهيأ الشاي وتصبّه في كوبين، ثم تجلبه بالقرب مِنْ علي، يبتسم علي لإدراكه أنّ مرادها استمرار الحوار، وأنّ الشاي حُجّة تتوسل بها كي لا ينام، لذا قال لها مباشرة: تفضلي واسألي يا عزيزتي.

هدى: هناك موضوعٌ حساسٌ جداً كنتُ أخشى في السابق مِنْ طرحه عليك وبحثه معك، أما الآن فأجدُ نفسي أمامَ جبلٍ لا تهزّهُ العواصف ولا تزلزلهُ القواصف، لذا لا بأس من تفجير قنبلة نووية كي أرى موقفك مِنْ تفجيرها.

علي: يا ساتر يا الله، ما هذه المقدمّة المهولة التي قدّمتيها قبل طرحك للموضوع، فما هو هذا الموضوع الذي يستحقّ كلّ هذه المقدمة؟

هدى: القرآن الكريم.

علي: وماذا تريدين بحثه فيه؟

هدى: سمعتُ كثيراً مِنَ الشبهات عن اعتقادكم حول القرآن، وإنما سميتـُها اليوم شبهات، بعدَ أنْ كانت في تصوّري سابقاً أنها حقائق ثابتة عندكم، لأنه بعد حواراتي معك، تغيّرتْ كثيرٌ مِنَ الثوابت بل انقلبتْ جميعُ الموازين.

علي: اذكري الشبهة.

هدى: بل هي شبهات عديدة.

علي: ابدئي بواحدةٍ منها، فإذا انتهينا من البحث فيها اطرحي الأخرى.

هدى: حسناً، سمعتُ حديثاً يُروى عنكم وهو أنّ الإمام علياً اعتكف في داره حتى جمع القرآن، ثم عرضه على الصحابة بعد وفاة رسول الله ص فرفضه القوم، فأخفاه الإمام علي وهو عند أئمتكم يتوارثونه، والآن هو موجودٌ عند إمامكم المهدي.

علي: لو فرضنا أنّ هذا الحديث صحيح، فماذا تريدين أنْ تَصِلِي إليه؟

هدى: يترتَّبُ على هذا الكلام، أنكم لا تؤمنون بالقرآن الموجود بأيدي المسلمين.

علي: فلو أخبرتكِ بأنّ القرآنَ الموجود في أيدي المسلمين، هو علويٌّ أي تنتهي روايته إلى علي بن أبي طالب ع، وبرواية شيعيّة فماذا سوف تقولين؟

هدى: أتريدُني أنْ أخبرَكَ بما في نفسي بكلِّ صراحة؟

علي: نعم يا عزيزتي، أخبريني بصراحةٍ تامّة.

هدى: سأقول عنه بأنه هُراء، وهو أشبه بالنكتة التي تطرح لِغرض الضحك عليها.

علي: إذن لنبدأ البحث على بركة الله، ونبحث عن الحقيقة أين هي؟

هدى: توكل على الله.

علي: هل تعلمين بأنّ القرآن الموجود في أيدي المسلمين، هو برواية حفص بن سليمان عن عاصم بن أبي النجود عن أبي عبد الرحمن السلمي؟

هدى: ومن قال ذلك؟

علي: يتناول المصحف الموجود في الدار، ويريها آخره ويطلب منها قراءته.

هدى: إنه مطبوعٌ في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف بالمدينة المنورة.

علي: الآن ارجعي عدة صفحات واستخرجي عنوان (تعريف بهذا المصحف) واقرئي ما فيه.

هدى: (تقرأ) (كتب هذا المصحف وضُبط على ما يوافق رواية حفص بن سليمان بن المغيرة الأسدي الكوفي، لقراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي التابعي، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي، عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب و زيد بن ثابت واُبَيْ بن كعب عن النبي ص).

علي: فما هو رأيكِ الآن؟

هدى: صَدَقتَ فهو كما قلتَ، ولكنكَ أضفتَ قائلاً بأنها عن علي بن أبي طالب، بينما هنا: عن عثمان وعلي وزيد واُبَيْ؟

علي: سنأتي تدريجاً لهذا الموضوع فلا تتعجَّلي الأمر، والآن اقرئي بداية الصفحة الثانية التي بعدها.

هدى: يقول: (واتبعتُ في عَدِّ آياتِهِ طريقة الكوفيين عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي عن علي بن أبي طالب رض، على ما ورد في كتاب ” ناظمة الزهر ” للإمام الشاطبي، وغيرها من الكتب المدونة في علم الفواصل).

علي: لقد تبيّن هنا في هذا المصحف، أنه قد اُخِذ عَدّ الآيات والفواصل عن السلمي عن علي بن أبي طالب ع فقط دون غيره.  

هدى: صحيح، بينما في البداية ذكرَ أنّ هذا المصحف عن عثمان وعلي وو.

علي: والآن لِنسأل العلماء ونقول لهم: هل سمعَ السلميّ مِنْ عثمان؟ والجواب هو:  (قال حجاج قال شعبة: ولم يَسمع أبو عبد الرحمن مِنْ عثمان رض ولا من عبد الله بن مسعود، ولكن قد سمع من علي رض)، فعلى هذا يجب أنْ يُسمّى بالقرآن العلوي وليس القرآن العثماني.

هدى: ولكن مَنْ ذكرَ هذا الجواب؟

علي: ذكره أحمد بن حنبل في مسنده ج1 ص58 طبع دار صادر بيروت، وكذلك ذكره ابن حجر العسقلاني في مقدمة فتح الباري ص372 طبع دار إحياء التراث العربي، فهل تكفي شهادتيهما عندك؟

هدى: شيءٌ غريبٌ، كيف قال طابعوه أنه عن السلمي عن عثمان وعلي وزيد واُبَيْ؟

علي: أنتِ تعلمين بأنّ طبيعة الوهابيين وتبعاً لشيخهم ابن تيمية، أنهم لا يطيقون ذكرَ فضائل علي ع، فكيف يخصّونه بمنقبةٍ ما بعدها منقبة، ألا وهي أنّ القرآنَ الكريم الذي بأيدي المسلمين قد أخذوه عن علي ع؟

هدى: وهل لديك دليلٌ آخر على كون السلمي أخذه عن علي؟

علي: قال في معجم البلدان ج10 ص215: (قال حفص: قال لي عاصم: القراءة التي أقرأتك بها، فهي التي قرأتها عَرْضاً على أبي عبد الرحمن السلمي عن عليٍّ).

وقال صاحب طبقات القرّاء ج1 في ترجمة حفص: (قرأ على عاصم مراراً، وكان الأولون يعدّونه في الحفظ فوق أبي بكر بن عياش، ويصفونه بضبط الحروف التي قرأها على عاصم، وأقرأ الناس دهراً وكانتْ القراءة التي أخذها عن عاصم ترتفع إلى علي رض).

وقال الذهبي في تاريخ الإسلام ج5 ص139 عن عاصم: (قرأ القرآن على أبي عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش، وروى عنهما… قال أبو بكر قال لي عاصم: ما أقرأني أحدٌ حرفاً إلا أبو عبد الرحمن السلمي كان قد قرأ على علي رض).

هدى: حقاً إنّ ما تنقله مِنْ مواضيع ليثير الدهشة والانبهار في النفس، فقد أثبتَّ بشكلٍ واضح أنّ القرآن الذي بأيدي المسلمين ينتهي سنده للإمام علي، وأنّ الإمام هو الذي علَّمه للسلمي والسلمي لعاصم وعاصم لحفص، فيحقُّ لكم أنْ تفخروا وتقولوا عنه بأنه قرآنٌ علويٌ، وسوف تسقط جميع تلك الروايات التي قالت بأن عثمان هو الذي جمعه، فلو صحّ أن عثمان قد جمعه فأين نسخه؟ وأتصور بأنّ كل تلك الروايات هي من صُنع بني أمية، لكي يصطنعوا فضيلة لهم، ويزيلوا هذه الفضيلة عن علي بن أبي طالب، ولكنك قلتَ بأنه برواية شيعية فكيف تُثبت ذلك؟

علي: لكي نعرف عقيدةَ الشخص، لابدّ أنْ نرجع لعلماء الرجال فنرى ماذا يقولون عنه، ولكنْ قد توجد أسبابٌ تمنعهم أحيانا من ذكر عقيدتِهِ كما نحن فيه، فلابدّ مِنْ معرفة عقيدتهِ بقرائن مختلفة.

هدى: وماذا تقصد بقولك: كما نحن فيه؟

علي: إذا علم الناس بأنّ رواية القرآن هو برواية شيعية عن علي ع، فسوف يدحض ذلك كثيراً من التهم الموجَّهة ضدّ الشيعة حول القرآن.

هدى: صحيح والله، فالمشهور عندنا أنّ الشيعة لا يهتمون بالقرآن بل يعتقدون بتحريفه، فكيف لو علِم المسلمون بأنّ القرآن الموجود بأيديهم هو برواية شيعية وتنتهي إلى علي؟ فستسقط كلّ هذه التهم مِنْ أساسها، ولكنْ ما هي القرائن الدالة على كونهم شيعة؟

علي: إذا راجعنا علماء الرجال الشيعة، نجدهم يصرّحون بتشيع هؤلاء.

هدى: ومَنْ صرّح منهم بذلك؟

علي: أما السلمي فهو من التابعين المعروفين بتشيعهم وصحبتهم للإمام علي ع، ومن علمائنا الرجاليين الذين نصّوا على أنه من خواص أصحاب الإمام علي ع، التفرشي في نقد الرجال ج3 ص96، والسيد محسن الأمين في أعيان الشيعة ج2 ص373 وغيرهما كثير.

هدى: وماذا يقول علماؤنا في السلمي؟

علي: أما علماء أهل السنة فقد نصَّ على صحبته للإمام علي ع، ابن قتيبة في المعارف ص528 طبع دار المعارف بالقاهرة، حيث قال: (كان من أصحاب علي، وكان مُقرئاً ويحمل عنه الفقه)، وذكر الطبري في تاريخه ج4 ص28، وغيره من المؤرخين أنه (كان مع الإمام علي ع في حرب صفين)، ونقل ابن الأثير في أسد الغابة ج4 ص46 طبع دار الكتاب العربي بيروت، عن السلمي قوله: (شهدنا صفين مع علي، فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحيةٍ ولا وادٍ مِنْ أودية صفين إلا رأيتُ أصحاب النبي ص يتبعونه كأنه علمٌ لهم).

هدى: وماذا عن حفص وعاصم؟

علي: أول قرينة هي أنهما كوفيان، والكوفيون كما تعلمين معروفون بالتشيع.

هدى: وما هي القرينة الثانية؟

علي: لو سألكِ سائل: لماذا أخذ المسلمون برواية حفص عن عاصم؟

هدى: لابدّ أنْ يكونا أمينين في روايتهما للقرآن، ومضبوطين في قراءته.

علي: أحسنتِ، وهل يُعقل أنْ يكون حفص مثلاً أميناً وصدوقاً في نقله للقرآن، ولكنه كذوباً وغير أمينٍ في نقله للحديث والسنة؟

هدى: كلا، فهذا كلامٌ غير معقول ولا منطقي مطلقاً، فكيف يكونُ المرء مؤتمناً على القرآن ومتَّهماً في الحديث؟ هذا أشبه بالجمع بين النقيضين.

علي: ماذا تقولين لو أخبرتـُكِ بأنّ علماءَكم وصفوه بهذين الوصفين المتناقضين؟

هدى: لا، ليس منطقياً أبداً، ولكن أعتذر منك هذه المرة، فإني لا يُمكن أنْ أصدِّق بأنْ يقعَ علماؤنا بمثلِ هذا التناقض الشديد والفضيع والعجيب.

علي: إذن سأنقل لكِ بعضَ ما يقولونه في حفص بن سليمان الكوفي: قال ابن الجوزي في الضعفاء والمتروكين ج1 ص221: (حفص بن سليمان بن المغيرة الأسدي القارئ البزَّاز، وهو صاحب عاصم ويقال له الغاضري….. قال يحيى: ضعيف، وقال مرّة: ليس بثقة، وقال مرّة: كذَّاب، وقال أحمد ومسلم والنسائي: متروك الحديث، وقال البخاري: تركوه، وقال السعدي: قد فُرِغَ منه منذ دهر، وقال عبد الرحمن بن يوسف بن خراش: كذَّاب متروك يَضَعُ الحديث، وقال ابن حبان: كان يَقْلِبُ الأسانيد ويرفعُ المراسيل، وقال أبو زرعة والدارقطني: ضعيف).

هدى: لعله لم يكنْ مضبوطاً في نقله عموماً.

علي: لو لم يكن مضبوطاً في نقله، فكيف أخذوا بروايته للقرآن دونَ غيره؟

هدى: صحيح، ولكن أخبرني هل صرّح علماؤنا بأنه كان مضبوطاً في قراءته للقرآن؟ وأريد منك شهادات كثيرة في ذلك لِيَطمئِنّ قلبي.

علي: أولاً: يكفي في ذلك اعتمادهم على روايته للقرآن، وثانياً: استمعي لتصريح كلّ علمائكم بضبطه وإتقانه للقرآن:

1 – في (الإكمال في أسماء الرجال) للخطيب التبريزي ص181 قال: (هو حفص بن سليمان يُكنى أبا عمرو الأسدي مولاهم… ثـَبْتٌ في القراءة لا في الحديث).

2 – فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي ج4 ص353 قال: (حفص بن سليمان ابن امرأة عاصم، ثـَبْتٌ في القراءة لا في الحديث).

3 – نقل ابن عدي في كتابه الكامل ج2 ص380، عن الساجي عن أحمد بن محمد البغدادي، قال: (سمعتُ يحيى بن معين يقول: كان حفص بن سليمان وأبو بكر بن عياش من أعلم الناس بقراءة عاصم، وكان حفص أقرأ من أبي بكر، وكان أبو بكر صدوقاً، وكان حفص كذَّاباً).

4 – وفي معجم حفاظ القرآن ج1 ص210 وصفه مؤلفه بأنه: (الإمام الحجّة الثقة الثبت، صاحب الرواية المشهورة في الآفاق، ويقرأ بـها إلى الآن معظم المسلمين في شتى أنحاء العالم …. وقد أخذ القراءة عرضًا وتلقيناً على عاصم بن أبي النجود الإمام الخامس من الأئمة العشرة).

هدى: سبحان الله، هذه أربعة شهادات لعلمائِنا تؤكد ضبطه وإتقانه للقرآن، ولكنْ لكي يطمئنّ قلبي أكثر، فهل هناك شهادات لِغيرهم تؤكد ذلك؟

علي: نعم، راجعي أيضاً تهذيب الكمال للمزي ج7 ص15، وابن حجر في تهذيب التهذيب ج2 ص345، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج8 ص196 رقم 4312، وصاحب تحرير تقريب التهذيب، وشذرات الذهب ج2 ص357، قالوا (بأنّ حفصاً كان إماماً في القراءة متروكاً في الحديث).

هدى: المنطق العقلي يقول: إذا كان الإنسان يخافُ الله، فهو لا يكذب سواء كان ذلك في نقله للقرآن أو نقله للحديث، وإذا كان لا يخاف الله فهو يكذب في القرآن والسنة معاً، فلا أدري كيف وصفوه بكونه صادقاً وكاذباً في نفس الوقت؟؟!!

علي: كلامُك صحيحٌ ودقيقٌ، كيف يكون أميناً في نقل القرآن، كذوباً في نقل السنة؟

هدى: ولكن ما الذي دعاهم لهذا التناقض الغريب في وصف حفص؟

علي: لو قبلوا وثاقته مطلقاً لاضطروا لقبول روايات حفص في فضل الإمام علي ع، ولو لم يقبلوا وثاقته مطلقاً، لرفضوا روايته للقرآن، ولمّا كانوا مضطرّين لِقبول روايته للقرآن، وعدم قبولها في الحديث، اضطرّوا للوقوع في هذا التناقض.

هدى: تريدُ أنْ تقولَ بأنه مِنْ هنا نفهم بأنّ حفصاً شيعيٌّ؟

علي: نعم، هو كذلك.

هدى: لا إله إلا الله، مَنْ كان يُصدِّق قبلَ اليوم بأنّ القرآن الذي عند جميع المسلمين، هو علويٌ وبرواية شيعية؟

علي: ثم إضافة لذلك الفضل، فإنّ علياً ع كان يعلمُ بكلِّ القرآن.

هدى: وهذا ادِّعاءٌ كبير، فنحن نعلم بأنّ النبي ص هو الذي كان يعلم بكلّ القرآن، أما الصحابة فكان كلٌّ منهم يعلم ببعض القرآن ويجهل الباقي.

علي: أخرج الطبري في تفسيره ج21 ص480 طبع دار عالم الكتب بالرياض، أول سورة الذاريات، بسند صحيح على شرط الشيخين: (….عن القاسم بن أبي بَزَّة، قال: سمعتُ أبا الطفيل قال: سمعتُ عليّاً رض يقول: لا تسألوني عن كتابٍ ناطقٍ ولا سُنَّةٍ ماضيةٍ إلا حدَّثتُكم، فسأله ابنُ الكواء عن “والذاريات”، فقال: هي الريح).

هدى: الأعجب أنه ذكر في هذا الحديث أنه يعلم بكلِّ السنة أيضاً!!

علي: وأخرج ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ج1 ص383 ح 726 طبع دار ابن الجوزي بالسعودية: (….عن أبي الطفيل قال: شَهِدتُ علياً رض وهو يخطب ويقول: سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيءٍ يكون إلى يوم القيامة إلاَّ حدَّثتكم به، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما منه آية إلا وأنا أعلم بليلٍ نزلتْ أم بنهار أم بسهلٍ نزلتْ أم بجبل…). قال محقق الكتاب: إسناده صحيح.

هدى: وهذا أعجبُ مِنْ سابقه وأكثرُ غرابة، فهو يقسم بالله أنه لا تسألوني عن شيءٍ يكونُ إلى يوم القيامة إلاَّ حدّثتكم به!! وليس فقط القرآن والسنة.  

علي: صحيح، لأنه باب مدينة علم النبي ص، كما ورد ذلك عنه ص: (أنا مدينة العلم وعلي بابها).

هدى: ما شاء الله، النبي ص مدينة العلوم وعليٌّ بابها، ما أجمله مِنْ وصف، وما أكثر جهلي بأقواله ص في الإمام علي، والآن أكمل بحثك عن علم علي بالقرآن.

علي: قال ابن كثير في تفسيره ج7 ص26 طبعة دار ابن الجوزي: (وثبت أيضاً من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رض أنه صعد منبر الكوفة فقال: لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى، ولا عن سنة عن رسول الله ص إلا أنبأتكم بذلك….).

هدى: سبحان الله، وهنا يذكر أيضاً علمه بالقرآن والسنة معاً، ولكنْ يحزُّ في نفسي عدم سماعي لهذه الأحاديث قبلَ اليوم، ولا أدري لماذا لم يَذكرْ أساتذتـُنا الوهابيون هذه الأحاديث التي يرويها أمثال ابن كثير والطبري؟

علي: أتصور بأنّ السببَ واضحٌ يا عزيزتي، فالوهابيون وتبعاً لشيخهم ابن تيمية، لا يطيقون سماع فضائل الإمام علي ع، وإذا كان أعلم بالقرآن والسنة، فهو أولى من غيره بالخلافة، لأنه قادر على تطبيقهما لِعلمه بهما.

هدى: صدقتَ والله، لقد ثبتَ لدينا لحدِّ الآن بما لا يدع مجالا للشك أنّ الإمام علي كان يعلم بمتن القرآن حروفه وكلماته وآياته وسوره، لذلك انتهى سند القرآن إليه، ولكن ماذا عن علم عليٍّ بتفسير القرآن؟

علي: مرّ علينا سابقاً حديث النبي ص: (علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يفترقا حتى يردا علَيَّ الحوض) وتصحيحه مِنْ قِبَل العلماء.

هدى: نعم أتذكره جيداً.

علي: كيف يكون شخصٌ مع القرآن ولا يفارقه، ثم هو لا يعلم تفسيره؟

هدى: كلامك صحيح، ولكن أريد منك تصريحاً واضحاً بذلك.

علي: حسناً، عن أيّ صحابيٍّ أخذ الناسُ تفسيرَ القرآن؟

هدى: هذا سؤالٌ صعبٌ على أمثالي، ولكنْ يخطر ببالي الآن اسم أو اسمان.

علي: ومَنْ هُما؟

هدى: ابن عباس وووو ابن مسعود على ما أتذكر.

علي: ومِمَّنْ أخذا تفسيريهما؟

هدى: لابدّ أنهما أخذاه مِنْ رسول الله ص.

علي: فلو أخبراكِ بأننا أخذنا تفسيرنا مِنْ علي بن أبي طاب ع، ماذا تقولين حينئذٍ؟

هدى: سوف أسلـِّم لك حينها بأنّ الإمام علي يعلم بتفسير القرآن أيضاً.

علي: يقول ابن عباس: (كلما تكلمتُ به في التفسير، فإنما أخذته عن علي بن أبي طالب).

هدى: الله أكبر، ما أوضحه وأصرحه، ومَنْ روى هذا الكلام عن ابن عباس؟

علي: رواه الحلبي في السيرة الحلبية ج2 ص474 طبع دار المعرفة بيروت، والسيرة النبوية لزيني دحلان المطبوع بهامش السيرة الحلبية ج2 ص11 طبع القاهرة، والجامع المحرر الصحيح الوجيز لابن عطية عبد الحق الغرناطي ص263 طبع القاهرة، وفيض القدير في شرح الجامع الصغير للمناوي ج4 ص470 طبع دار الكتب العلمية.

هدى: ولكن ما مدى علم الإمام علي بالتفسير؟ لأنّ معنى التفسير هو معرفة ظاهر القرآن، أي معرفته مثلاً بمعاني كلماته الغامضة.

علي: يكفينا ما قاله نفس ابن عباس حول علم علي بتفسير القرآن.

هدى: وماذا قال ابن عباس؟

علي: قال ابن عباس: (حدثني أمير المؤمنين في باء البسملة [ أو كلمة الحمد ] من أول الليل إلى الفجر ولم يُتِمّ)، وروى ذلك عنه الحلبي في السيرة الحلبية ج2 ص207، والسيرة النبوية لزيني دحلان ج2 ص11، والشرف المؤبد للنبهاني ص58 طبع مصر، وأرجح المطالب  للامرتسري ص113 طبع لاهور، والف باء لأبي الحجاج المشتهر بابن الشيخ ج1 ص222 طبع عالم الكتب بيروت.

هدى: هذا مُدهشٌ حقاً، فماذا في الباء أو الحمد حتى يبقى للفجر يُفَسِّرُها؟

علي: وهناك كلمة للإمام علي ع أعجب منها.

هدى: وما هي؟

علي: قال علي: (لو شئتُ لأوقرتُ سبعينَ بعيراً مِنْ تفسير فاتحة الكتاب).

هدى: حقاً إنها أعجب وأعجب وأعجب حتى ينقطع النفس، ومَن رواها؟

علي: رواها الشعراني في لطائف المنن ج1 ص171 طبع مصر، والمناوي في فيض القدير ج1 ص69 طبع دار الكتب العلمية بيروت، وإعانة الطالبين للبكري الدمياطي ج1 ص3 طبع دار الفكر بيروت، وإحياء علوم الدين للغزالي ج1 ص423، والفتوحات الإسلامية لزيني دحلان ج2 ص510 طبع مصر، والإتقان للسيوطي ج2 ص490 حديث 6367 طبع دار الفكر بيروت، ومرقاة المفاتيح للقاري ج5 ص15 طبع دار الكتب العلمية، والإصابة ج2 ص509 ترجمة الإمام علي، وتهذيب التهذيب ج2 ص338، والاستيعاب ترجمة الإمام علي، والطبقات لابن سعد ج2 ص338، والتفسير الكبير للرازي ج1 ص106 وفيه: (لأوقرتُ بعيراً من تفسير البسملة)، وفتح الباري للعسقلاني ج4 ص442.

هدى: سبحان الله وما شاء الله، ولكنك لم تذكر شهادة ابن مسعود.

علي: ويقول عبد الله بن مسعود: (إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرفٌ ألا وله ظهرٌ وبطن، وإنّ عليَّ بن أبي طالب عنده منه علمُ الظاهر والباطن).

هدى: الله أكبر، علم ظاهر القرآن وباطنه عند علي، هذا تصريحٌ خطيرٌ حول علم علي، فالظاهر هو التفسير والباطن هو التأويل، ولكنْ أين يوجدُ كلام ابن مسعود؟

علي: يوجد في حلية الأولياء ج1 ص65 طبع السعادة بمصر، وتاريخ دمشق لابن عساكر ج42 ص400 طبع دار الفكر بيروت، والأربعين حديث لملا علي القاري ص50، وفتح الملك العلي للمغربي ص35 طبع مصر، والإتقان للسيوطي ج2 ص493 حديث 6370 طبع دار الفكر بيروت، والمصنف لابن أبي شيبة ج6 ص370 حديث 32075، وكنز العمال ج13 ص176 حديث 36524.

هدى: ما شاء الله، ولكن ألا ترى بأنّ كلام ابن مسعود يخالفُ صريحَ القرآن، فقد قال تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله)؟

علي: أكملي الآية يا عزيزتي.

هدى: وما هي تتمتها؟

علي: قال تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) آل عمران آية 7.

هدى: عجيب، ولكني سمعتُ أساتذتي يقرأونها إلى قوله تعالى: (إلا الله) ويستدلون بها على أنّ الله وحده يعلم بتأويل القرآن، وعلى عدم علم أهل البيت بتأويل القرآن ردّاً على الشيعة، فما بالهم يبترونها عند استدلالهم بها؟

علي: هذه طريقة الوهابية في التزوير والتحريف، وهم أساتذة وبارعين فيه.

هدى: نعم، هذا ما ثبتَ عندي أيضاً، ولكنْ كيف عَلِمنا بأنّ الإمام علي مِنَ الراسخين الذين يعلمون تأويل القرآن أيضاً؟

علي: لأنّ النبي ص أخبرنا بذلك.

هدى: النبي ص أخبر به!!! وأين أخبركم النبي ص بذلك؟

علي: أخرج أحمد في مسنده ج17 ص390 حديث 11289: (عن أبي سعيد قال: قال رسولُ الله ص: إنّ منكم من يُقَاتلُ على تَأويله كما قاتلتُ على تنزيلهِ، قال: فقام أبو بكر وعمر، فقال: لا، ولكنه خاصِفُ النَّعل، وعليٌّ يَخصِفُ نعله).

هدى: رغم أنّ ابن حنبل قد رواها، ولكن مثل هذه الأحاديث لابدّ أنْ تخضعَ للتحقيق، فهل هي صحيحة أم لا.

علي: قال عنه الأرنؤوط محقق المسند: حديث صحيح، وهذا إسناد حسن، وأخرج أحمد في مسنده ج18 ص295- 296 حديث 11773: (عن إسماعيل بن رجاء الزُّبيدي عن أبيه قال: سَمِعْتُ أبا سعيد الخُدْرِي يقول: كُنَّا جلوساً ننتظر رسولَ الله ص، فخرج علينا من بعض بيوتِ نسائهِ، قال: فَقـُمنا معه، فانقطعتْ نعله، فتخلف عليها عليٌّ يخصفها، فمضى رسول الله ص ومضينا معه، ثم قام ينتظره وقمنا معه فقال: إنّ منكم من يُقاتلُ على تَأويل هذا القرآن، كما قاتلتُ على تنزيلهِ، فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر، فقال: لا، ولكِنَّهُ خاصفُ النعلِ، قال: فجئنا نُبشِّرهُ قال: وكأنه قَد سمعه)، وقال شعيب الأرنؤوط عنه: حديث صحيح، وهذا إسناد حسن.

هدى: شيءٌ غريب جداً، فالأرنؤوط من علماء الوهابية، وهم يؤكدون على عدم علم أهل البيت بتأويل القرآن، فكيف يصحّحه؟ وهل عندك أحاديث عن غير المسند؟

علي: أخرج ابن أبي شيبة في المصنف ج17 ص105 حديث 32745: (عن أبي سعيد الخدري قال: كنا جلوساً في المسجد فخرج رسول الله ص فجلس إلينا، ولكأنّ على رؤوسنا الطير لا يتكلم أحدٌ منا، فقال: إنّ منكم رجلاً يقاتلُ الناسَ على تأويل القرآن كما قوتلتِم على تنزيله، فقام أبو بكر فقال: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، فقام عمر فقال: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه خاصف النعل في الحُجْرة، قال: فخرج علينا عليّ ومعه نعلُ رسول الله ص يُصلح منها)، وقال محمد عوَّامة محققه: إسناده صحيح.

وأخرج مثله أبو يعلى في مسنده ج2 ص341- 342 حديث 1086، وقال عنه محققه حسين سليم أسد: إسناده صحيح، وابن حبان في صحيحه ج15 ص385 حديث 6937، وقال عنه شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم، والذهبي في تاريخ الإسلام ج2 ص366 بتحقيق بشار عواد، وقال عنه: إسناده صحيح، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ج5 ص639 حديث 2487.  

 هدى: عجيب، أحقاً أنّ كلَّ هؤلاء العلماء قد رووه وصححوه؟ ولكنّ في هذه الأحاديث أموراً كثيرة وغريبة جداً.

علي: وما الغرابة فيها؟

هدى: أولاً: هي لا تصرّح بعلم علي بتأويل القرآن فقط، بل تقول: بإنّ تأويله صحيحٌ وتأويل غيره خطأ، كما أنّ لِعليٍّ الحق بأنْ يقاتل مَنْ يُخالفه في تأويله، كما قاتل النبي ص المشركين على تنزيله.

وثانياً: إنّ النبي ص قال لأبي بكر وعمر، إنكما لا تقاتلان على تأويل القرآن، بل عليٌّ هو الذي يقاتل على تأويله فقط، والسؤال المهم: فماذا عن مقاتلة أبي بكر للمرتدّين، ولماذا لم يكنْ قتاله لهم على تأويل القرآن أيضاً كقتال النبي ص للمشركين؟ وأسئلة كثيرة تثار في النفس.

علي: وأنتِ ماذا تفهمين من مجموع هذه الأحاديث؟

هدى: أفهم منها كأنّ النبي ص يريد أنْ يقولَ، بأنّ علياً هو الذي له حقّ التصرّف في الأمور بعدي لا غيره، لأنه أعلم بالقرآن وبتفسيره وتأويله مِنْ غيره مِنَ الصحابة.

علي: أحسنتِ، وهو نفس ما أوضحه النبي ص في حديث الغدير، مَنْ كنتُ مولاه فهذا علي مولاه، بعد أنْ قدّم السؤال: ألستُ أولى بالمؤمنين مِنْ أنفسهم، إشارة لقوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم).

هدى: ولكن ألم يقاتل أبو بكر المرتدّين؟

علي: أولاً: من أعطاه الحق في قِتالهم؟ خصوصاً بعد أنْ بيّن له النبي ص بأنه ليس هو الشخص الذي سيقاتل على تأويله، بل إنّ علياً هو الذي يحقّ له أنْ يقاتل على تأويل القرآن، وثانياً: مَن الذي قال بأنّهم ارتدوا عن الإسلام؟

هدى: وأمّا هذا فهو مِنْ أوضح الواضحات وأشهر المشهورات.

علي: ولكننا نريدُ أدلة قاطعة، ولا نريد أنْ نتبعَ ما قيل دون دليل.

هدى: حروبُ الردّة ذكرها الطبري وابن الأثير وابن كثير وغيرهم.

علي: صحيح، فأوّل مَنْ ذكرها هو الطبري، وكلّ مَنْ رواها بعده أخذها عنه ورواها عن كتابه، حتى ابن الأثير وابن كثير وابن خلدون رووها عنه.

هدى: أفهمُ مِنْ كلامِكَ بأنّ حروبَ الردّة لم تـُذكر في كتابٍ قبل تاريخ الطبري.

علي: صحيح، لم يَرْوها أحدٌ قبله، ولابدّ أنْ نبحث عن صحَّتِها أولاً.

هدى: ولكنّ الطبري معتمَدٌ عندنا.

علي: هو معتمدٌ عندكم، ولكنّ راوي حروب الردّة الوحيد، هو غير ثقة ولا معتمدٌ عند جميع علمائِكم.

هدى: ماذا قلتَ؟ عند جميع علمائِنا، فمَنْ هو راويها؟

علي: هو سيف بن عمر.

هدى: وماذا يقولُ عنه علماءُ الرجال؟

علي: قال يحيى بن معين: ضعيف الحديث فِلسٌ خيرٌ منه [ميزان الاعتدال 2: 255، وتهذيب الكمال 12: 326، والجرح والتعديل 4: 278]، وقال أبو داود: ليس بشيء كذاب [تهذيب التهذيب 4: 259، وميزان الاعتدال 2: 255]، وقال النسائي: ضعيفٌ متروكُ الحديث ليس بثقة ولا مأمون [الضعفاء والمتروكين: 187، وتاج العروس 6: 149]، وقال ابن أبي حاتم: متروك الحديث [الجرح والتعديل 4: 278، وتهذيب الكمال 12: 326]، وقال ابن السكن: ضعيف [الإصابة 5: 343]، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات اتهم بالزندقة، وقال: قالوا كان يضع الحديث [كتاب المجروحين 1: 345، وتهذيب الكمال 12: 327]، وقال ابن عدي: ضعيف، بعض أحاديثه مشهورة وعامتها منكرة لم يتابع عليها [الكامل في ضعفاء الرجال 3: 436]، وقال الحاكم: متروك اتهم بالزندقة [تهذيب التهذيب 4: 259]، ووهّاهُ الخطيب البغدادي [كما في ترجمة خزيمة غير ذي الشهادتين من الإصابة].

هدى: لا حول ولا قوة إلا بالله، على هذا فسوف يحدث انقلابٌ في الحقائق التاريخية، لإنه يجبُ مراجعة تاريخنا مِنْ جديد، لِمعرفةِ الصحيح مِنْ غيره.

علي: لو اتـَّبَعْنا هذه الطريقة في التحقيق، لسقط كثيرٌ من القصص المشهورة، كما ستسقط كثيرٌ من الشخصيات التي لا أساس لها في الواقع.

هدى: وهل لديك أمثلة على الشخصيات التي لا أصل لها؟

علي: هناك أكثر من 150 اسم لصحابي وهمي اختلقه سيف بن عمر، مثل عبد الله بن سبأ حسب رأي بعض المحققين، فهم يقولون بأنها شخصية وهمية لا وجود لها في التاريخ، والروايات التي تذكر عبد الله بن سبأ مرويّة عن طريق سيف بن عمر.

هدى: إذن سوف يحدث انقلاب كبير في حقائق التاريخ الإسلامي كلها، ولكن هل اتفق الجميع على كونه شخصيّة وهميّة لا وجود لها.

علي: اختلفتْ الآراء في ابن سبأ اختلافاً كبيراً، فبعضهم يقول بأنه من أساطير سيف بن عمر، وبعضهم يراه شخصية عادية ليس لها أيّ تأثير في الأحداث الإسلامية، أما الوهابيون فينسبون إليه كلّ الاضطرابات التي حدثت في الدولة الإسلامية زمن عثمان، وينسبون إليه أيضاً صناعة التشيع وعقائده، وبعض العلماء يعتقد بأنّ صفاته المذكورة في كتب التاريخ تنطبق على الصحابي الجليل عمار بن ياسر.

هدى: لابد أنّ علماء الشيعة يعتقدون بأنه شخصية وهمية.

علي: هناك مِنْ علمائنا من يعتقد ذلك، كالشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد مرتضى العسكري والشيخ محمد جواد مغنية، وهناك من أهل السنة مِنْ يراه وهميّاً.

هدى: أحقاً يوجد من أهل السنة مَنْ يرى أنه وهمي؟

علي: مثل طه حسين حيث يقول في كتابه (الفتنة الكبرى) فصل ابن سبأ ص98: (إنّ ابن سبأ شخصٌ ادّخره خصومُ الشيعة للشيعة، ولا وجود له في الخارج).

ويقول محمد كرد علي في كتابه خطط الشام ج6 ص246: (أما ما ذهب إليه بعضُ الكتّاب مِنْ أنّ مذهب التشيع مِنْ بدعة عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، فهو وهمٌ وقلة علمٍ بتحقيق مذهبهم)،

ويقول أحمد محمود صبحي في كتابه (نظرية الإِمامة) ص37، مستبعداً أنْ يكون لابن سبأ هذا التأثير العميق في المسلمين: (وليس ما يمنع أنْ يستغلَّ يهوديٌّ الأحداث التي جرتْ في عهد عثمان، ليُحدث فتنة وليزيدها اشتعالاً وليؤلب الناس على عثمان، بل أنْ يُنادي بأفكار غريبة، ولكنّ السابق لأوانه أنْ يكون لابن سبأ هذا الأثر الفكري العميق، فيُحدث هذا الإِنشقاق العقائدي بين طائفة كبيرة من المسلمين).

هدى: وهل هناك غير هؤلاء من اعتقد بكونه وهمي؟

علي: نعم، فقد اعتقد بعض المستشرقين بأنه شخص وهمي، كالدكتور برناد لويس وفلهوزن وفريدليندر وكايتاني.  

هدى: ولكنك قلتَ أيضاً بأنّ هناك مَنْ يعتقد بأنه عمار بن ياسر؟

علي: نعم، كالدكتورين علي الوردي وكامل الشيبي حيث ذهبا في كتابيهما (وعاظ السلاطين) ص279، والصلة بين التصوف والتشيع ص84 إلى: (إنّ المقصود بابن السوداء عمار بن ياسر، وقد رَمَزَتْ له قريش بابن السوداء ولم تصرِّحْ باسمه، لأنّ له ثِقلاً ومركزاً بين الصحابة، وكان على رأس الثائرين على عثمان، فلم تردْ قريش أنْ تضعه مقابلَ عثمان وبجانب عليٍّ، لأنّه يُرجِّح كفة عليٍّ ويهبط بكفة عثمان، فرمزوا له وسموه بابن السوداء لأنّ اُمّه أمَةٌ سوداء، ولا وجود لابن سوداء غيره).

هدى: ولكنهما من المؤلفين المعاصرين.

علي: صحيح، ولكنهما توصّلا لهذه النتيجة بعد دراستهما وتحقيقهما، ثم إنّه يوجد مِنَ القدماء مَنْ ذهب إلى نفس رأييهما.

هدى: ومن هم؟

علي: كابن طاهر البغدادي في كتابه (الفـَرْقُ بين الفِرَق)، والأسفرايني في كتابه (التبصرة في الدين).

هدى: لا أدري كيف سيتحمَّل قلبي الصغير مثل هذه القضايا والأحداث المؤلمة، التي لم أكن أتصور وجودها حتى في عالم الخيال.

علي: التاريخ مليء بالأحداث المؤلمة، التي يتفطـَّر لها قلب المؤمن، وتتصدِّع مِنْ هولها الجبال الراسية.

هدى: صدقتَ يا علي، فأنا رقيقة القلب بحيث أنّ التفكير بهذه الأحداث يؤرِّقني ليالي عديدة، ولكنْ قل لي مِنْ فضلك: بماذا تجيب عن اتهام الوهابيين لكم بأنكم أخذتم دينكم عن ابن سبأ اليهودي، على فرض أنّ له وجودٌ حقيقيٌّ؟

علي: لو كان هذا الكلام صحيحاً، فلماذا لا يوجد حديثٌ واحدٌ في كتبنا ينتهي سنده إلى ابن سبأ، في العقائد أو الأحكام أو الأخلاق أو التفسير؟

هدى: أتقصد بأنه لا توجد رواية تذكر ابن سبأ عندكم؟

علي: توجد في مصادرنا روايات تقول بأنّ أمير المؤمنين علي ع قد أحرقه بالنار، لأنه ادّعى بأنّ علياً ع هو الله، وتبعاً لأمير المؤمنين علي ع فإنّ شيعته لعنوا ابن سبأ وتبرؤوا منه، ولكن لا توجد أحاديث في سندها ابن سبأ لا في العقائد ولا في غيرها من الفقه أو الأخلاق أو التفسير مطلقاً.

هدى: هذا شيءٌ غريبٌ جداً، فكيف زعموا بأنّ عقائد الشيعة مأخوذة عنه؟ ثم إنّ الوهابيين يقولون أيضاً بأنّ هذا اليهودي قد أثـَّر على صحابة كبار كعمار وأبي ذر، فحرّكهم للثورة ضدّ عثمان.

علي: أولاً: إنّ النبي ص قال في حقِّ عمار: (عمار مُلئ إيماناً إلى مشاشه)، كما في صحيح ابن حبان ج15 ص553 طبع مؤسسة الرسالة، فكيف يتأثر مثلُ هذا المؤمن بيهودي؟ وقال ص في حقِّ أبي ذر: (ما أظلتْ الخضراء ولا أقلتْ الغبراء على ذي لهجةٍ أصدق مِنْ أبي ذر)، فلو كان كلام أبي ذر قد تأثر بابن سبأ، لكان كلامه الذي ينقله عن ابن سبأ كِذباً محضاً، بينما نجد أنّ النبي ص في هذا الحديث قد جعل كلامَ أبي ذر أصدقَ كلامٍ تحتَ السماء وفوقَ الأرض.

هدى: حقاً إنه كلامٌ دقيقٌ، ولكن مَنْ روى هذا الحديث في حقِّ أبي ذر؟

علي: رواه كثيرون كابن أبي شيبة في المصنف ج7 ص526 طبع دار الفكر بيروت، وابن حنبل في المسند ج2 ص223 طبع دار صادر.

وثانياً: لو كان يمكن أنْ يتأثـَّرَ أبو ذر بيهودي أسلم في زمن عثمان، لكان قد تأثر بكلام اليهودي كعب الأحبار، والذي أسلم قبل ابن سبأ بسنين كثيرة.

هدى: وكيف علمتَ أنه لم يتأثر بكعب الأحبار؟

علي: لقد ضربَ أبو ذر كعبَ الأحبار بعصاه لمّا تكلم كعبٌ في أمور الدين، قائلاً له: يا ابن اليهودية ما أنت وهذا، أتعلـِّمُنا ديننا؟!

هدى: وما هي قضية أبي ذر مع كعب الأحبار؟

علي: روى البلاذري في أنساب الأشراف ج6 ص166: (أنّ أبا ذر قال ذاتَ يوم لِعثمان بعد رجوعه من الشام إلى المدينة: لا ينبغي لِمَن أدّى زكاة ماله أنْ يكتفيَ بذلك، حتى يُعطي السائلَ ويُطعم الجائعَ ويُنفق في سبيل الله، وكان كعب الأحبار حاضراً هذا الحديث، فقال: مَنْ أدّى الفريضة فحسبُهُ …. فغضب أبو ذر وقال لكعب: يا ابن اليهودية! ما أنت وهذا؟! أتعلـِّمنا ديننا؟! ثم وَجَأهُ بمحجنه).

ورواها المتقي في كنز العمال ج6 ص571 طبع مؤسسة الرسالة، وابن عساكر في تاريخ دمشق ج66 ص197 طبع دار الفكر، بتفصيل أكثر مما ذكرناه هنا.

هدى: صدقتَ، فلو كان أبو ذر مِمَّن يتأثر بكلامِ يهوديٍّ أسلم تواً، لتأثر بكلام كعب الأحبار الذي أسلم منذ سنين طويلة قبله.

علي: وثالثاً: لماذا يَسكتْ عثمان عن ابن سبأ ولا يعاقبه أو ينفيه، بينما وجدناه يُعاقب كبارَ الصحابة الذين صدرتْ منهم فقط آراء تخالف رأيه، كعمار الذي ضربوه حتى فتقت بطنه، وكأبي ذر الذي نفوه إلى صحراء الربذة حتى مات فيها، وكابن مسعود الذي أوجعوه ضرباً.

هدى: أصدقاً ما تقوله يا علي؟ هل فعلوا بهؤلاء الصحابة الكرام كلّ ذلك؟

علي: نعم يا عزيزتي، ولو شئتي نقلتُ لكِ عن مصادركم هذه الأحداث.

هدى: دعها الآن فقد ضاق صدري مِنْ سماع ذلك، وأكمل باقي حديثك.

علي: ورابعاً: إنّ عائشة كانت مِنْ أهمّ الذين حرّضوا الناس على الثورة ضدّ عثمان، حيث كانتْ تقول: (إنّ عثمان أبطل الحدود وتوعّد الشهود)، كما في أنساب الأشراف ج5 ص34، وقالتْ أيضاً وقد رفعتْ نعلَ رسول الله ص: (تركتَ سنة رسول الله ص صاحب هذا النعل)، كما في تاريخ أبي الفداء ج1 ص172، وقالت: (اقتلوا نعثلاً فقد كفر)، كما في الفتوح لابن أعثم ج1 ص64، وتاريخ الطبري ج4 ص477 طبع القاهرة، وتاريخ ابن الأثير ج3 ص87، حيث شبّهتْ عثمانَ بيهوديٍّ اسمه نعثل، فهل تأثـَّرتْ السيدة عائشة بهذا اليهوديّ أيضاً؟

هدى: هذا غير معقول، ولِنعدْ لبحثنا عن القرآن وعلي بن أبي طالب، فقد سألتك في بداية البحث عن القرآن الذي جمعه الإمام علي، وعرضه على الصحابة فرفضوه وأخفاه الإمام عنهم، فهل هذه الحادثة صحيحة؟ وكيف تقول القصة بأنه أخفاه، بينما شاهدنا أنه ثبتَ بأنّ القرآن الذي عند المسلمين ينتهي سنده إلى الإمام علي ع؟

علي: رويتُ لكِ سابقاً بأنّ علياً ع كان عالماً بتأويل القرآن، ومِنْ جُملةِ التأويل معرفة الإمام علي ع بمَنْ نزلتْ فيهم الآيات القرآنية.

هدى: ثمّ ماذا؟

علي: لو نزلتْ آية تذمُّ شخصاً، وجاء الإمام علي ع بقرآنٍ فيه مثل هذا التأويل، فهل تظنين بأنّ هذا الشخص سيرضى أنْ ينتشر ذلك بين الناس.

هدى: (تبتسم) كلا ثم كلا، ولكن هل كان عليٌّ يعلم فيمن نزلتْ كلُّ آية؟

علي: نعم، فصريحُ رواياتِ علمهِ بالتأويل تدلُّ على ذلك.

هدى: صحيح، ولكني أحبُّ معرفة هذا الأمر بالخصوص.

علي: إذنْ استمعي لما كان يقوله علي ع عن نفسه، قال علي ع: (ما نزلتْ آية إلا وعلمتُ فيم أنزلتْ وأين أنزلتْ، إنّ ربي وهبَ لي قلباً عقولا ولساناً سؤولا).

هدى: الله أكبر، ومن روى هذا القول عنه؟

علي: ابن سعد في الطبقات الكبرى ج2 ص338 طبع دار صادر بيروت، وأبو نعيم في حلية الأولياء ج1 ص67- 68 طبع دار الكتاب العربي بيروت، وابن حجر في الصواعق المحرقة ج2 ص375 طبع  مؤسسة الرسالة بيروت، ومناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني ج2 ص13 طبع دار الفكر بيروت، وكنز العمال للمتقي ج13 ص56 حديث 36404 طبع دار الكتب العلمية بيروت، والإتقان للسيوطي ج2 ص493 حديث 6370 و6371 طبع دار الفكر بيروت، وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص637 طبع دار الكتاب العربي بيروت.

هدى: (يدهشها سعة علم زوجها) كيف اطلعتَ على قضايا الدين مِنَ الحديث والتاريخ والتفسير، رغم أنّ تخصّصكَ في الكلية ليس في الدين؟

علي: قلتُ لكِ سابقاً بأنّ الإنترنت سهَّـلَ علينا كثيراً مِنَ الأمور.

هدى: جوابك هذا لا يقنعني أبداً يا علي.

علي: الحقيقة يا عزيزتي بأنني ومنذ صغري، كنتُ مولعاً بمطالعة الكتب الدينية، ولا زلتُ حتى اليوم مولعاً بها، والإنترنت سهّل علينا الأمر كثيراً.

هدى: نعود لموضوعنا لو سمحتَ، فماذا عن القرآن الذي جاءهم به علي ورفضوه؟

علي: إنّ ذلك القرآن الذي رفضوه، كان مع تأويلِ آياتهِ.

هدى: لكني سمعتُ أنه جاءهم بقرآنٍ كما اُنزل، أي إنّ تسلسل السور فيه  حسب تاريخ نزولها.

علي: صحيحٌ أنه جاءهم بقرآن كما اُنزل، ولكنّ تفسير (كما اُنزل) ليس كما فهمتِ، ولا كما فهمه كثيرون غيرُكِ.

هدى: وما معنى كما اُنزل؟

علي: أي مع تأويله الذي نزل به الوحي مِنْ عند الله.

هدى: وماذا يعني ذلك؟

علي: أيْ إنّ جبرئيل كان يأتي بالآيات مِنْ عند الله، ويأتي بتأويلها أيضاً، بأنها نزلتْ في فلان، وكان الإمام علي ع يدوِّن ذلك التأويل في القرآن مع متن القرآن، لذلك رفضه القوم فأخفاه ع عنهم.

هدى: الآن فهمتُ الفرق بين القرآنين، وشكراً جزيلاً على التوضيح، ولكن قل لي مِنْ فضلك: إذا كان النبي ص يعلم بأنّ علياً هو الأعلم بأمور الدين مِنْ غيره، فلماذا لم يُخبر المسلمين بذلك ليرجعوا إليه؟

علي: لقد أخبرهم بهذه الحقيقة.

هدى: وماذا قال؟

علي:  قال ص مثلاً: (أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها)، ولقد ذكرتُ لكِ هذا الحديث سابقاً.

هدى: لا إله إلا الله، ولكنك لم تذكر لي مصادره، فمَنْ روى ذلك ومَنْ صحّحه؟

علي: روي في فتح الملك العلي للحافظ المغربي طبع الاعلامية بمصر، وأثبت صِحّة أسانيده، والحاكم في المستدرك ج3 ص126 و127 و129 و226 طبع حيدر آباد وصحّحه، والذهبي في تلخيص المستدرك واعترف بصحته أيضاً، وجامع الأصول لابن الأثير ج9 ص473 حديث 6489 طبع دار إحياء التراث العربي بيروت، واُسد الغابة له أيضاً ج4 ص22 طبع دار إحياء التراث العربي بيروت، والبداية والنهاية لابن كثير ج7 ص372.

ومثله قوله ص: (أنا مدينة الحكمة وعلي بابها) أو (أنا دار الحكمة وعلي بابها)، راجعيهما في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج11 ص204 رقم 5908 طبع السعادة بمصر، وحلية الأولياء لأبي نعيم ج1 ص64 طبع السعادة بمصر، وصحيح الترمذي ج13 ص170 طبع الصاوي بمصر، وتذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ص53، ومصابيح السنة للبغوي ج4 ص174 حديث 4772 طبع دار المعرفة.

هدى: ومِنَ المعلوم بأنّ الله سبحانه قد أمرنا بأنْ نأتي البيوتَ مِنْ أبوابها لقوله سبحانه: (وائتوا البيوت من أبوابها).

علي: بوركتِ يا عزيزتي، فلابدّ مِنْ إتيان الباب الذي دلـَّهم النبي ص عليه، كي يأخذوا العلمَ منه، وهو أمير المؤمنين علي ع.

هدى: وهل توجد أحاديثٌ أخرى صريحةٌ في إرجاع الناس للإمام علي؟

علي: نعم، مثل قوله ص: (علي مني وأنا من علي، ولا يبلغ عني إلا أنا أو علي)، وقد رواه أحمد بن حنبل في مسنده ج4 ص164 – 165 بخمسة طرق، والنسائي في الخصائص ص19 و20 بطريقين، والتاج الجامع للأصول لمنصور علي ناصيف ج3 ص335، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص169، وسنن البيهقي ج8 ص5، وصحيح الترمذي ج5 ص300 حديث 3803، ومجمع الزوائد للهيثمي ج9 ص127 و128 طبع القدسي بمصر، ومستدرك الحاكم ج3 ص110 طبع حيدرآباد، ومسند أبي داود الطياليسي ج3 ص111 طبع حيدرآباد.

هدى: سمعتُ منك سابقاً هذا الحديث، ولكنْ كانت له تتمة أخرى، أليس كذلك؟

علي: صدقتِ يا عزيزتي، لقد مرّ سابقاً الحديث هكذا: (إنّ علياً مني وأنا من علي، وهو وليُّ كلِّ مؤمنٍ بعدي).

هدى: أتصور بأنّ النتيجة واحدة في الحديثين، وهي أنّ علياً المرجع للناس بعد النبي ص، سواء كان في الحاكمية على الناس فهو وليُّ أمرهم، أو في تبليغ الأحكام الشرعية، فلا يبلغها غيرُه.

علي: أحسنتِ، فهذه مقارنة جميلة بين الحديثين.

هدى: ولكن لماذا هذا التأكيد منه ص على أنّ علياً من النبي والنبي منه؟

علي: لو عقدتِ مقارنة بين أحاديث النبي ص بعضها مع بعض، وبينها وبين الآيات القرآنية، لاستخرجتِ معاني لطيفة كثيرة.

هدى: ماذا تريد أنْ تقول أو تستنتج؟

علي: لمّا نزلتْ عشر آيات من سورة براءة على النبي ص، دعا أبا بكر ليقرأها على أهل مكة، ثم دعا علياً فقال له: أدركْ أبا بكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم، فلحقه بالجحفة فأخذ الكتاب منه، ورجع أبو بكر فقال: يا رسول الله! نزل فيّ شيءٌ؟ قال: لا، ولكنّ جبريل جاءني فقال: لن يؤدّي عنك إلا أنتَ أو رجلٌ منك.

هدى: ولكنها عشر آيات فقط، فلماذا ينزل جبرئيل فيقول للنبي ص: لا يبلغها إلا أنت أو رجل منك، فيذهب عليٌّ ويأخذها مِنْ أبي بكر ليبلغها هو؟

علي: إذا كان غير مؤهّل لتبليغ عشر آيات، فكيف بتبليغ الدين كله؟!

هدى: ولكن من روى قصة تبليغ آيات براءة؟

علي: رواها كثيرون جداً، ولكنّ النص الذي رويتـُه لكِ أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، والحافظ أبو الشيخ، وابن مردويه، وحكاه عنهم السيوطي في الدر المنثور ج3 ص209، وكنز العمال ج1 ص247، والشوكاني في تفسيره ج2 ص319، والرياض النضرة ج2 ص147، وذخائر العقبى ص69، وتاريخ ابن كثير ج5 ص38، وفي ج7 ص357، وفي تفسيره ج2 ص333، ومجمع الزوائد ج7 ص29، وشرح صحيح البخاري للعيني ج8 ص637، وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج3 ص91، وتفسير المنار ج10 ص157.

هدى: حقاً إنه غريبٌ جداً، ولكنك أردتَ المقارنة بين هذا الحديث والقرآن.

علي: نعم، لو رجعنا للقرآن وجدناه يقول في سورة إبراهيم آية 36: (فمن تبعني فإنه مني)، فنفهم من قوله ص بأنّ علياً مني، يعني إنه تابع للنبي ص مائة في المائة، لقوله تعالى: (فمن تبعني فإنه مني).

هدى: أتقصد أنّ أبا بكر لم يكن من النبي ص، لذلك أرجعه النبي ص؟

علي: الحديث النبوي هو الذي قال بأنّ الله أرسل جبرئيل وأمر النبي ص بأنْ لا يبلغها إلا أنت أو رجلٌ منك، لذلك أرجع أبا بكر وأرسل علياً.

هدى: أفهم منها أنه لو كان أبو بكر مِنَ النبي ص لما أرجعه، ولكن هل تفهم أيضاً بأنّ أبا بكر لم يكن تابعاً للنبي حسب آية (فمن تبعني فإنه مني)؟

علي: الله أعلم.

هدى: إذا كنتَ لا تحبّ الإجابة فاستمر في باقي استنتاجاتك.

علي: وقال تعالى: (إنْ كنتم تحبون الله فاتبعوني)، ونفهم منها بأنّ مَنْ كان تابعاً للنبي ص مائة في المائة، فإنه يحب الله وبالتبع فإنّ الله يحبّه.

هدى: رغم جمال هذا الاستنتاج ولطافته، إلا أنه يحتاج إلى إثبات.

علي: الذي استنتجناه من الحديث والآيتين، جاء في أحاديث صحيحة ومتواترة.

هدى: يا الله، صحيحة ومتواترة أيضاً، وأين جاءتْ هذه الأحاديث؟

علي: أخرج البخاري في صحيحه كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، حديث 4210: (إنَّ رسولَ الله ص قال يومَ خَيْبرَ: لأُعْطِيَنَّ هذه الرّايةَ غَداً رجلاً يَفتحُ الله على يَدَيه، يُحِبُّ الله ورسولَه ويُحِبُّه الله ورسولُه، قال: فباتَ النّاسُ يَدُوكونَ ليلتَهم أيُّهم يُعْطاها، فلمَّا أصبَحَ النّاسُ غَدَوْا على رسولِ الله ص كلُّهم يَرْجُو أنْ يُعْطاها، فقال: أينَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ؟ فقِيْلَ: هو يا رسولَ الله يَشْتكي عَينَيه، قال: فأرسِلوا إليه فأُتيَ به، فبَصَقَ رسولُ الله ص في عَينَيه، ودَعا فبَرَأَ، حتَّى لم يَكُنْ به وجَعٌ، فأعطاه الرّايةَ….)، وأخرجه في موضع آخر من صحيحه كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب، وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب ح 2406،  وأخرجه أحمد في مسنده ج37 ص477 حديث 22821 طبع الرسالة، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.

هدى: ما شاء الله، عليٌ يحبُّ الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله، إنها منزلة عظيمة، وهو نفس ما استنتجته من الآية الثانية.

علي: وأما اتباع الإمام علي ع التام والكامل للنبي ص والذي استنتجناه من الآية الأولى، فيمكن معرفته من نفس قصة خيبر، فقد روى مسلم في صحيحه ج7 ص121 طبع دار الفكر: (عن أبي هريرة أنّ رسول الله ص قال يوم خيبر: لأعطين هذه الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله يفتح الله على يديه، قال عمر بن الخطاب: ما أحببتُ الإمارة إلا يومئذ، قال: فتساورتُ لها رجاء أنْ اُدعى لها، قال: فدعا رسول الله ص علي بن أبي طالب فأعطاه إياها، وقال: امش ولا تلتفتْ حتى يفتح الله عليك، قال: فسار عليٌ شيئاً ثم وقف ولم يلتفتْ، فصرخ: يا رسول الله، على ماذا أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله ….).

هدى: وأين ذكر فيها اتباع علي الكامل للنبي ص؟

علي: نعرف اتباع عليٍّ لأوامر النبي ص، وذلك لما أراد أنْ يسأل النبي ص سؤالاً، فسأله دون أنْ يلتفت، لأنّ النبي ص قال له: (امش ولا تلتفتْ).

هدى: (تفكر) صدقتَ وأحسنتَ، لقد صرخ دون أنْ يلتفت، أتعلم يا علي بأني أشعر يوماً بعد آخر بحبي العميق وتعلقي الكبير بشخصية الإمام علي.

علي: بل كلما ازددتِ معرفةً به أكثر، ستزدادين حباً له بشكل أكبر.

هدى: وهل توجد فضائل أخرى للإمام علي، بعد كلّ الذي سمعناه من مناقبه؟

علي: إنّ فضائله لا يمكن أنْ يُحصيها العادّون.

هدى: لا تُحصى، دعنا من مبالغاتكم، انتهينا مِنْ أنّ الإمام علي هو أعلم الصحابة.

علي: بل هو في العلم أعظم مما تتصورين.

هدى: وكيف ذلك؟

علي: لعلك لم تسمعي ما قاله ابنه الإمام الحسن ع في حقِّ أبيه بعد استشهاده؟

هدى: وماذا قال؟

علي: أخرج أحمد في مسنده ج3 ص246-247 حديث 1719 و1720 طبع الرسالة، بسنده عن هُبَيْرَةَ قال: (خَطَبَنا الحَسَنُ بنُ عليٍّ رض فقال: لقد فارَقَكُم رَجُلٌ بالأمس لم يَسبِقْه الأوَّلونَ بعلمٍ، ولا يُدرِكُهُ الآخِرون، كان رسول الله ص يَبعَثُه بالرَّايةِ، جِبريلُ عن يمينه ومِيكائيلُ عن شِماله، لا ينصرفُ حتى يفتحَ له)، وقال شعيب الأرنؤوط عنه: حسن.

وأخرج أحمد بعده مباشرة مثله، مع تتمة هي: (وما تركَ مِنْ صفراءَ ولا بيضاءَ، إلا سبعَ مائةِ درهمٍ مِنْ عطائه كان يَرْصُدها لخادمٍ لأهلِه). وقال شعيب الأرنؤوط عنه أيضاً: حسن، وقال أحمد محمد شاكر عن الحديثين الأول والثاني: إسناده صحيح، راجعي المسند ج2 ص344 حديث 1719 و1720 طبع دار الحديث.

هدى: ماذا؟؟!! لم يسبقه الأوّلون بعلم، ولا يُدركه الآخرون، حقاً إنّ هذا مما لا يمكن تصوره، ولقد سمعتُ عنكم أنكم تبالغون في أئمتكم، لكن ليس إلى هذا الحدّ.

علي: وهل نقلتُ لكِ هذه الأحاديث عن الكافي للكليني أو عن التهذيب للطوسي؟

هدى: عفواً يا علي، أرجو أنْ تعذرني لتسرّعي في الحكم عليها، فقد غفلتُ عن كونكَ نقلته عن المسند لابن حنبل، ولكثرة ما سمعنا مِنْ اتهامكم بالغلو في أئمتكم، تصورتُ للحظات بأنك تنقل ذلك عن مصادركم.

علي: ما دُمتِ ذكرتِ اتهامنا بالغلو في أئمتنا، فسأنقل لكِ قول الإمام الحسن ع في حق الإمام علي ع عن غير ابن حنبل.

هدى: وهل نقله غيرُه مِنَ علمائنا؟

علي: نعم، فقد نقله ابن أبي شيبة في المصنف ج17 ص124 حديث 32773، تحقيق محمَّد عوَّامة طبع دار القبلة بالسعودية، بسنده عن عمرو بن حُبْشيّ قال: (خطبنا الحسن بن عليّ بعد وفاة عليّ فقال: لقد فارقكم رجلٌ بالأمس لم يسبقه الأولون بعلم، ولا يدركه الآخرون، كان رسول الله ص يعطيه الراية فلا ينصرف حتى يفتح الله عليه)، وقال محقق الكتاب محمد عوامة: إسناد المصنف حسن.

هدى: عجيب، فابن أبي شيبة أقدم من البخاري، وما كنتُ أتخيّل يوماً بأنّ مثلَ هذا الكلام يرويه أكابر علمائنا.

علي: وأورد ابن كثير هذا الخبر في البداية والنهاية ج11 ص28 تحقيق التركي طبع دار عالم الكتب بالرياض، نقلاً عن مسند أحمد، وقال الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي في الحاشية رقم 4 من الصفحة نفسها: إسناده صحيح.

هدى: ما أعظمها مِنْ شهادة، خصوصاً وهي صادرة مِنْ لسان سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسن، ثم لم يعترض عليها المسلمون ولا العلماء.

علي: أحسنتِ على هذه الملاحظة القيّمة والجميلة، فلا الذين سمعوها في وقتها، ولا الذين رووها من العلماء بعدها قد اعترضوا عليها، والآن هيا لأداء الصلاة.

هدى: أحسنت، فلقد أظلمت الدنيا، هيا نصلي العشاءين.


 

                                

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...