المهم الصدق في تناول المادة الأدبية، وتهذيبها وفق أسس النظام والتناسق والجمال والتأثير، بحيث تأتي الصورة الفنية ممتعة مُرضية ومفيدة، ونشعر بعد الإطلاع عليها، بأننا إزاء تجربة حية نابضة، تجرنا إلى علاقات جديدة من الفهم والسمو الروحي، واليقين المريح.. الخلاَّق.. الدافع لفعل شيء ما، يرتقي بنا إلى الأفضل، وإلى التغيير المستمر نحو الغاية العظمى..
وكل أديب له (ذاته المتميزة)، وأسلوبه الخاص، الذي يجعله مختلفاً عن أقرانه من الأدباء، فالفن ـ في أوجه ـ ابتكار وابتداع لصيغ جمالية مؤثرة، ولكل أديب مسلم طريقته المتفردة في الأداء، وإن اتَّحد الأدباء الإسلاميون أو اتفقوا حول المضمون الإسلامي، وهو تنوُّع مطلوب، وثراء محبوب، إذ ليس من الطوب أن يكون الأدباء الإسلاميون نسخاً متكررة، كما أنه على الأديب المسلم الجد والبحث عن أشكال جديدة مؤثرة، تزيد من قوة التأثير، وتواكب العصور، وتستخدم كل الإمكانات والطاقات المستحدثة، كي يعبر أروع تعبير عن رسالته الخالدة.. ليس بدعاً إذن أن يتخذ الأديب المسلم موقفاً..
فكل المذاهب الأدبية فعلت ذلك..
وإنما الغريب والشاذ والباطل، أن نطلب من الأديب المسلم أن يكون متشبثاً بمبدأ (الفن للفن)، أو نطلب منه ـ باسم حرية الأدب والفكر ـ أن يتجاهل عقيدته، حتى لا يكون متعصباً رجعياً..
أليست هذه خديعة كبرى يحاول أعداء الإسلام إيقاع حملة الأقلام الإسلاميين فيها؟؟
الأديب المسلم يجب أن يعتز بإنتمائه عن قناعة تامة، وإيمان عميق..
ذلك الإنتماء مسئولية وإلتزام كما قلنا
* * *
وبعد…
لقد حاولنا تبسيط مفهوم الأدب بمعناه العام في السطور السابقة، وكان لا بد أن نفعل ذلك كي نصل إلى تحديد مفهوم أدب الأطفال الإسلامي..
وبإيجاز شديد يمكننا القول أن أدب الأطفال لا يختلف في مفهومه عن الأدب العام (الإسلامي) إلا في كونه موجهاً إلى (فئة خاصة) هي الأطفال. وهذه الفئة تتميز بمستوى عقلي معين.
وبإمكانات وقدرات نفسية ووجدانية تختلف عنا نحن الكبار فتجارب الطفولة وخبراتها محدودة، وآفاقها التخيلية واسعة رحبة لا تحدها حدود، ولا تحاصرها ضوابط كضوابطنا نحن الكبار..
ووسائلهم في البحث والتفكير والتحليل والإستيعاب ليست كوسائلنا الناضجة، التي إكتسبناها بالمران والتجربة الطويلة، والثقافات المتنوعة.
ولديهم رغبة جامحة في ارتياد المجهول، والإنطلاق عبر الآفاق، وتشكيل عالم خاص يختلف كثيراً عن عالمنا..
هذا وغيره أمور طبيعية بالنسبة للأطفال..
وما أشبه مراحل التطور البشري بمراحل تطور الطفولة.
ونظرة إلى تدرج الرسالات السماوية منذ آدم ثم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، نلاحظ كيف وصلت الرسالات إلى الكمال في رسالة محمد(ص).. رسالة النضج والتمام، بعد أن بلغت البشرية سن الرشد (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتمت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً).
ولقد تدرج منهج النبوة المحمدية في تربية وتعليم المجتمع المسلم طوال بعثته(ص) وهي ثلاثة وعشرون عاماً.. أي منذ نزل عليه جبريل عليه السلام (باقرأ) حتى آخر كلمة جاءت في كتاب الله..
ذلك هو منهج الله بالنسبة لتربية البشرية منذ طفولتها حتى رشدها.. كذلك كان نفس المنهج بالنسبة لمجتمع الرسالة المحمدية في مكة والمدينة..
* * *
أدب الأطفال الإسلامي هو التعبير الأدبي الجميل، المؤثر الصادق في إيحاءاته ودلالالته، والذي يستلهم قيم الإسلام ومبادئه وعقيدته، ويجعل منها أساساً لبناء كيان الطفل عقلياً ونفسياً ووجدانياً وسلوكياً وبدنياً، ويساهم في تنمية مداركه، وإطلاق مواهبه الفطرية، وقدراته المختلفة، وفق الأصول التربوية الإسلامية، وبذلك ينمو ويتدرج الطفل بصورة صحيحة تؤهله لأداء الرسالة المنوطة به في الأرض، فيسعد في حياته ويسعد به ومعه مجتمعه، على أن يراعي ذلك الأدب وضوح الرؤية، وقوة الإقناع والمنطق.. ذلك هو المفهوم العام لأدب الأطفال حسبما يعتقد.
وهو المفهوم الذي يشمل الإحتياجات الأساسية للطفل حسبما أسفرت عنها دراسات العلماء المخلصين في الدين والتربية وعلم النفس والمجتمع والطب وعلم الجمال أيضاً..
وفي تراث البشرية الهائل، ترى أمراً عجيباً، يلفت النظر. لقد حرص أتباع جميع الديانات، الوثنية منها والسماوية، والمحرَّفة منها والصحيحة، على أن تقدم للطفل لوناً ما من ألوان الأدب، يعبر عن (الدين) والعقيدة
حدث ذلك في العصور السحيقة..
وحدث في الإسلام والنصرانية واليهودية..
بل إن بداية عهد (أدب الأطفال الحديث) ـ كما سنرى ـ إفتتح صفحاته بقصص الأنبياء، والقصص التي وردت في الكتب المقدسة، ونحن إنما نسجل تلك الحقيقة لكي نرد على أولئك الذين يزعمون أن الطفل في حداثته لا يستطيع تقبل أو فهم ما يُروى له عن العقيدة والمعنويات والألفاظ المجرَّدة، وحتى لو كان ذلك صحيحاً، فإن أدب الأطفال لن يعدم الوسيلة الصحيحة الناجحة لإيصال هذه (المعلومات) أو المعنويات والمجردات إلى عقل الطفل، ومعلوم أن العقيدة هي الأساس: لبناء الكيان الروحي والفكري للطفل، ومن ثم لا بد وأن تبدأ في وقت مبكر، ولو على سبيل التلقين والتبسيط أو التعبير بالصور المعبرة التي ترمز إلى شيء غير مرئي..
وأدب الطفل يشمل القصة والمسرحية والتمثيل والقصيدة أو النشيد أو الأغنية، كما يشمل الآداب العامة كالتحية التي يستقبل بها الناس، وما يقال عند الطعام أو النوم، وبعض الأمور الهامة كالشهادتين والصلاة على النبي وقصار السور والأحاديث، وبعض السلوكيات الإجتماعية والأسرية خاصة، كل ذلك في أسلوب مناسب مفهوم، منذ الصغر.. وعندما نتمعن في كتب السيرة والتراث، شعراً ونثراً نجد تطبيقاً دقيقاً لما أشرنا، ففي أحاديث الرسول(ص) نصوص كثيرة تتعلق بالطفولة، والعناية بالأطفال وتربيتهم وتعليمهم والعطف عليهم، وتدريبهم على الصلاة والصوم وفعل الخير.
(يا غلام.. احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك واعلم أن الناس لو إجتمعوا على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك..) ألخ الحديث.
وكانت النسوة يهدهدن أطفالهن بالأغاني العذبة، ويبثثن في هذه الأغاني ما يدين من قيم وأفكار.
وعمرت المساجد منذ العصر الأموي برواة القصص والأخبار، التي كان يستمع إليها الكبار والصغار على حد سواء وقد برز في هذا المجال نخبة من أعلام القصاصين، وخاصة في مجال الوعظ والإرشاد.
ثم جاء ابن المقفع ليقدم (كليلة ودمنة)، وقصصه الغريب عن عالم الحيوان والطير، ويدس فيه الكثير من الأفكار الفلسفية العميقة، ويخطئ من يظن أن هذا الكتاب كان قاصراً على الكبار وحدهم، فقد كان هناك من يبسط هذه القصص ويعيد صياغتها دون تعقيد أو غموض، ويقدم للأطفال منها ما يسد النقص في أدبهم وثقافتهم، وقد فعل ذلك الغربيون بعد قرون حينما ترجم إليهم هذا الأثر الفذ، نذكر منهم (لامرتين) الفرنسي، كما فعل الشرقيون نفس الشيء نذكر منهم أمير الشعراء أحمد شوقي، وكامل كيلاني وسعيد العريان وغيرهم.
وكانت قصص (ألف ليلة وليلة) برغم ما فيها أحياناً من فحش في القول، وإغراق في الجنس، وتماد في الخرافة والسحر، كانت زاداً ثرياً لمن استلهموها ونقلوا عنها، ممن اهتموا بأدب الطفل وكتبوا فيه..
وفي تراث الجاحظ، وكتاب الأغاني، وقصص الصالحين والحرب والعلم والجن وغيرها الكثير من الموضوعات التي يمكن الاستفادة منها في الكتابة لأدب الطفل.
ناهبك بقصص القرآن وقصص الأنبياء، وما تزخر به من حكم ومواعظ، وما ينجلي عنها من مؤثرات عميقة تتعلق بعقيدة الطفل وسلوكه وإيمانه بالله..