وحسبنا أن نعلم أن أخاه (الحسين) مضى شوطا بعيدا في معارضته حتى قال له (الحسن): (لقد هممت أن أحتجزك في دار موصدة الأبواب، ثم لا أدعك تخرج حتى أنتهي مما أريد)..!! * * * كان (معاوية) قد تحرك بجيشه من الشام قاصدا الكوفة. عندما علم باستشهاد الإمام واستخلاف الحسن.. وكان الحسن، قد خرج على رأس جيشه للقائه. وإذ هم في طريقهم إلى المدائن، نهض بين صفوف جيشه وقال: (إني قد أصبحت، لا أحمل لمسلم ضغينة: وإني ناظر إليكم، نظري إلى نفسي، وقد رأيت رأيا، فلا تردوا علي رأي: إن الذي تكرهون من الجماعة، أفضل مما تحبون من الفرقة)..!! وثار الجيش – كما ذكرنا من قبل – لكنه كان قد وطد عزمه على حقن الدماء. وكان معاوية من جانبه يتوق للسلام توق الغريق إلى زورق النجاة.. فأرسل مبعوثين إلى المدائن، للتفاوض مع (الحسن) وكانا: عبد الرحمن ابن سمرة.. وعبد الله بن عامر.. أبلغهما (الحسن) شروطه التي لم يكد معاوية يسمع فيها بعد، حتى تقبلها في غير تردد أو تساؤل.
(٥٢)
وتركزت شروط (الحسن) للصلح في هذه البنود الأربعة: أولا: أن ترجع الخلافة بعد معاوية إلى المسلمين حيث يختارون بمشيئتهم الحرة، من يرونه أصلح لقيادتهم وأجدر. ثانيا: ألا يؤخذ الذين ناصروه وناصروا أباه الإمام من قبل بما صنعوا ضد معاوية، وألا يحرم أحد منهم حقه وعطاءه.. ثالثا: أن يكف الأمويون عن حملة السباب واللعن التي يقترفونها ضد الإمام. ويشجعون عليها.. رابعا: أن يكون عطاؤه وعطاء أخيه (الحسين) وافرا وجزيلا. ولقد حدد بنفسه مقدار هذا العطاء.. وإذا كان هناك من بين هذه الشروط ما قد يلتبس علينا أمره، ويحتاج إلى مناقشة وتفسيره، فذلكم هو الشرط الرابع والأخير. لقد يبدو غريبا أن يفرط رجل مثل (الحسن) بن علي، وحفيد الرسول في طلب عطاء كثير له ولأخيه.. ولكن، كما يقال: إذا عرف السبب، بطل العجب.. وحسبنا أن نعرف فيم كان ينفق (الحسنان) أموالهما لندرك على الفور الحكمة في هذا الاشتراط. وقبل هذا، علينا أن نذكر أن ميزانية الدولة الإسلامية، كانت إيامئذ قد بلغت مدى هائلا من الكفاية والثراء. وبدء ذلك النمو المطرد منذ فتوح الإسلام في عهد (عمر). وفي عهد معاوية، كانت أموال غزيرة تنفق وتبعثر في سبيل دعم حكمه وتركيز الولاء له.
(٥٣)
بينما كان (الإمام علي) وهو خليفة مسؤول في العراق يعطي المسلمين حقوقهم من بيت المال بالسوية، رافضا أي تمييز أو سرف..!! حتى لقد أغضب بعض أنصاره، حين رفض أن يتألف الناس بالمال، ويختص بعض القبائل بأكثر من حقها، قائلا عبارته المأثورة: (أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور)؟! والآن، بعد أن يتصالح الحسن ومعاوية ويصبح أمر الخلافة كله له، فلن يكون هناك سوى بيت مال واحد هو هذا الذي يشرف عليه معاوية بحكم سلطته وسلطانه. و (معاوية) يعطي الأموال وفق مقاييسه الخاصة.. فماذا يكون الموقف إذا أخلف صلحه أو بعض صلحه غدا، فكف العطاء أو بخل عن بعض أولئك الذين كانوا من قبل يناصرون (الإمام) ويناصرون (الحسن)؟؟ لا بد للحسن إذن أن يتحوط لهذا الاحتمال.. وهنا يفضي بنا الحديث إلى حيث نعرف أين كان ينفق (الحسن والحسين) أموالهما.. لقد كانا يعودان بالكثير منها على نفر من الذين فقدوا ثرواتهم في سبيل القضية التي ناصروا فيها الإمام. وكانا يغدقان برهما ونداهما على أولي الأرحام، وعلى الفقراء والمساكين.. لقد انفرد (الحسن) بأنه الرجل الذي قاسم الله ماله ثلاث مرات.. وخرج عنه كله مرتين..!! ورجل هذه شيمته، لا يطلب المال ليترف به، إنما يطلبه ليؤدي به