19- 2ـ اليتيم وحقوقه المالية : لا ملازمة لعنوان اليتيم مع الفقر فكثير من الأيتام لهم من الاموال ما ليس للكبار منها شيء .
ومشكلة اليتامى الاثرياء ليست بأقل من مشكلة اليتامى الفقراء لان المشكلة تكمن في الرواسب الخلفية ، والتي تفسح المجال
____________
(1) ـ الايات الكريمة المذكورة من سورة المؤمنون : من آية ( 99 ـ 109).
للاقوياء في التسلط على الضعفاء . واليتيم في أغلب الموارد ضعيف فقد من يكفله ، وبقي تحت رحمة الاولياء والاوصياء . لذلك نجد الشريعة المقدسة تولي الإهتمام بهذه الجهة لتحافظ على الرصيد المالي لهذه الفئة الضعيفة كما أولتهم العناية بتوجيه النفوس إليهم في بقية المراحل الحياتية المعاشية ، والتربوية.
وقد بدى ذلك واضحاً من الآيات العديدة التي راعت هذه الجهة فأكدت على إحترام مال اليتيم ، وعدم التصرف فيه إلا بما فيه مصلحة تعود إليه .
لذلك نرى هذه المجموعة من الآيات ، والتي خصصت لمعالجة مشكلة اليتامى الأثرياء تتمشى مع اليتيم في ثلاثة مراحل :
المرحلة الأولى : في المحافظة على ما يترك لليتيم من مالٍ ميراثاً كان ذلك المال ، أو هبة تعود إليه ، وعدم التجاوز على حقوق هؤلاء الضعفاء.
المرحلة الثانية : وتتكفل ببيان الخطوط التي تنهي دور اليتم ، وترفع عنه هذا العنوان ، وبذلك تنتهي مهمة الاولياء ، والاوصياء عندما يشب الطفل ، ويترعرع فيصبح قابلاً لتسلم ماله من الاموال وقادراً على إدارتها بنفسه شأنه في ذلك شان بقية الكبار.
المرحلة الثالثة : وهي في الحقيقة مرتبطة بالمرحلة الثانية حيث يؤكد فيها على تثبت ارجاع المال ، والتأكد من إستلامه بما يرفع النزاع في المستقبل من دعوى عدم التسليم أو دعوى نقصان المال المسلم ، ولذلك يطلق على هذه المرحلة إسم «الاشهاد على التسليم ».
ومع هذه المراحل بنحو من ا لتفصيل :
1 ـ المحافظة على أموال اليتامى :
وبهذا الصدد يقول تعالى :
« وأتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم انه كان حوباً كبيراً »(1).
أيتاء اليتامى أمولهم يكون بالصرف عليهم من ذلك المال في حالة الصغر ، وأما في حال البلوغ وإستئناس الرشد منهم فيتحقق ذلك بتسليمه اليهم كما تتكفل بيانه المرحلة الثانية.
وأول شيء تعرضت له الآية الكريمة هو ترك عملية تبديل أموال اليتامى حيث كان ذلك سائداً عندهم فقد نقل أئمة التفسير أن بعض الاوصياء كانوا يأخذون الجيد من مال اليتيم ، والغالي منه ، ويبدلونه بالرديء لذلك جاءت الآية الكريمة لتنهي عن هذه التجاوزات غير المشروعة بتبديل أموال هذه المجموعات من الصغار الضعفاء .
وتستمر الآيات الكريمة لتعالج جميع الحالات التي كان التجاوز فيها حاصلاً فيما بينهم على أموال الضعفاء من الايتام فتشمل ما هو أعظم من التبديل ، ذلك هو التجاوز على أصل المال حيث كان الفرد إذا أمن العقوبة يضم مال اليتيم إلى ماله فيتصرف بالجميع ، ويترك هذا المسكين يقاسي متاعب هذه الحياة الكالحة ، وقد جمع بهذا التجاوز على اليتيم إضافة إلى مشكلة يتمه ، مشكلة الفقر .
لذلك وقف القرآن وهو يصرخ في وجوه هؤلاء الأولياء المتجاوزين ويحذرهم مغبة هذا التعدي الوقح فقال سبحانه :
____________
(1) ـ سورة النساء : آية (2).
« ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً » .
إثم عظيم يقترفه الانسان بضم مال اليتيم إلى ماله ليجحف به ويوصل الضرر إليه .
وتتوالى الصرخات التحذيرية من القرآن الكريم ناهية عن هذا النوع من التجاوز غير المشروع .
« إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً »(1).
تصوير مرعب تطالعنا به الآية المباركة حيث صورت الفرد منا والنار تستعر في جوفه فيعلم أهل الموقف أن ذلك جزاء من أكل مال اليتيم ومن وراء ذلك جهنم سيصلاه مخلداً فيها.
وقد روي عن الامام الباقر عليه السلام أنه قال :
قال رسول الله (ص) : يبعث اناس من قبورهم يوم القيامة تأجج أفواهم ناراً فقيل له من هؤلاء فقرأ هذه الآية .
وجاء في كتب التفسير أن هذه الآية لما نزلت وكذلك قوله تعالى : « ولا تأكلوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن »(2) بادر كل من عنده مال ليتيم فعزل طعامه وشرابه واجتنبوا أمورهم نظراً لما في هذا التحذير من عقاب صارم ينتظر آكل مال اليتيم .
وطبيعي أن يوجب هذا الوضع التشويش ، والاضطراب في قلوب المسلمين لأن ذلك مما يوجب تنفير هذه الفئة الضعيفة منهم
____________
(1) ـ سورة ا لنساء آية (10).
(2) ـ سورة الانعام : آية (152).
وليس ذلك في صلاح هؤلاء الاطفال لذلك قصدوا للسؤال من النبي (ص) عن أمر اليتامى ومخالطتهم وفيهم من لا يمكن تركه .
فجاءت الآية الكريمة لتخفف عنهم هذه الشدة ، وتصحح لهم المفهوم الخاطىء الذي تصوروه في ذلك فتسهل عليهم معاشرتهم .
« ويسألونك عن اليتامى قل اصلاح لهم خير وان تخالطوهم فاخوانكم »(1).
وكان الجواب صريحاً في الطريق الذي لا بد لهم من سلوكه مع الأيتام فلا داعي لهذا التجنب ولا داعي لهذه الهوة التي أحدثوها فيما بينهم فكلما فيه صلاح اليتيم لا بد من رعايته وإذا كانت هناك مصلحة في مخالطتهم والتعايش معهم فهم اخوانكم ، والمخالطة مع الاخوان مما يؤكد عرى المحبة .
والاصلاح في الآية مطلق لا يقتصر على جهة معينة بل يشمل كل صور الاصلاح لأموالهم باستثمارها ، وتنحيتها ، والعمل بها في ميادين التجارة والكسب لتوفر على اليتيم ربحاً وفيراً في ماله .
وفي الوقت نفسه تشمل اصلاح اليتيم مع بقية نواحيه ولو كانت غير مالية كالتربية ، والتهذيب إذ أن الآية الكريمة تريد أن يكون اليتيم في نظر الآخرين كالاخ الصغير حيث يختضنه الأخ الكبير ، ويحوطه بعنايته فهو يقوم برعايته من النواحي المالية ، والاخلاقية ، ويخالطه ، ويعاشره بنحو لا يكون في البين طمع من الكبير في أموال الصغير ، بل رعايته ، وتوجيهه بحسن نية ، واخلاص ممزوجين بعطف أخوي .
ولم تقتصر الآيات الكريمة في مقام التهديد على النهي عن
____________
(1) سورة البقرة : آية (220) .
التجاوز ، وأكل مال اليتيم ، والتوعيد بالعذاب الاخروي بل سلكت طريقاً آخر مستوحى من الواقع الحياتي الذي يعيشه الفرد في كل يوم .
إن هذه الطريقة الجديدة تتمثل في تنبيه المتجاوزين بإنهم لو ظلموا اليتامى ، وتجاوزوا على حقوقهم ، فليحذروا أن يكون جزاؤهم نفس ما عملوه مع اليتيم ، ولينتظروا يوماً يعامل فيه أيتامهم بنفس الطريقة التي أساؤوا بها إلى أيتام الآخرين .
قال تعالى :
« وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً » (1).
وقد جاء عن الامام الصادق (ع) قوله :
« إن أكل مال اليتيم يخلفه وبال ذلك في الدنيا ، والآخرة . أما في الدنيا : فان الله تعالى يقول : فليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله . وأما في الآخرة فان الله عز وجل يقول : « إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً » (2).
إذاً فلرعاية الايتام أثار وضعية دنيوية ، وللإساءة اليهم مثلها إذ كل شخص في هذه الحياة عرضة إلى الموت وأبنائه معرضون إلى اليتم في كل لحظة ، فليتق الله في الأيتام ليتق غيره في أيتامه .
وبالعكس ، فرعايتهم ، والأخذ بأيديهم له الأثار الوضعية أيضاً
____________
(1) سورة النساء : آية (9).
(2) وسائل الشيعة : 12| 181 حديث (4) الطبعة الجديدة.
فالله لا ينسى تلك الأيادي البيضاء على هؤلاء المقطوعين الذين لف كفيلهم رداء الموت .
وقد عرض القرآن الكريم نماذج من هذا النحو من الرعاية المتقابلة فقال تعالى :
« وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك » (1).
لقد حفظ الله ، ورعى لاب هذين اليتيمين جزاء صلاحه يتيميه فقيظ لهما من بنى لهما الجدار الذي ذخر الكنز لهما تحته ريثما يبلغا أشدهما ، ويستخرجا كنزهما كل ذلك رحمة من ربك ، ومعاملة حسنة بالمقايضة ، والمقابلة .