الدرس الثالث عشر: تفسير سورة التكاثر
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم﴾
تعريف بالسورة ومحاورها
سُمّيت هذه السورة بالتكاثر, لورود ذكره في مستهلّ السورة، ولورودها بهذا الاسم في بعض الروايات الآتية.
وتتضمّن هذه السورة المباركة 8 آيات, تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- منشأ التباهي والتفاخر بالتكاثر والنسب.
2- الآثار السلبيّة, الدنيوية والأخروية المترتّبة على التباهي والتفاخر بالنسب.
3- عبوديّة الإنسان لله تعالى هي المعيار الحقيقي للتباهي والتفاخر.
4- مانعيّة الحجب من رؤية الحقّ في دار الدنيا، وزوالها في دار الآخرة.
5- مراتب العلم والمعرفة وآثارهما الوجوديّة.
فضيلة السورة
- ما رواه شعيب العقرقوفي، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: “من قرأ سورة (ألهاكم التكاثر) في فريضة, كتب له ثواب وأجر مائة شهيد. ومن قرأها في نافلة, كان له ثواب خمسين شهيداً، وصلّى معه في فريضته أربعون صفّاً من الملائكة”[1].
- ما رواه درست، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قرأ (ألهاكم التكاثر), عند النوم وقي فتنة القبر”[2].
- ما رواه أُبَي بن كعب: “ومن قرأها لم يُحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم عليه في دار الدنيا، وأُعطي من الأجر, كأنّما قرأ ألف آية”[3].
خصائص النزول
اختلف المفسِّرون في مكّيّة السورة أم مدنيّتها، على قولين:
1- مكّيّة السورة. وإليه ذهب أكثر المفسِّرين. واستدلّوا عليه بالآتي:
- أنّها نزلت في حيّين من قريش: بني عبد مناف بن قصي، وبني سهم بن عمرو، تكاثروا، وعدّوا أشرافهم، فكثّرهم بنو عبد مناف، ثمّ قالوا: نعدّ موتانا، حتّى زاروا القبور، فعدّوهم، وقالوا: هذا قبر فلان، وهذا قبر فلان، فكثّرهم بنو سهم, لأنّهم كانوا أكثر عدداً في الجاهليّة[4].
- أنّها تحمل خصائص السور المكّيّة, لجهة قصر آياتها، وشدّة لهجتها، وتناولها لموضوع المعاد والحساب.
2- مدنيّة السورة. وإليه ذهب بعض المفسِّرين. واستدلّوا عليه بالآتي:
- أنّها نزلت في اليهود، قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك, حتّى ماتوا ضلّالاً[5].
- أنّها نزلت في فخذ من الأنصار تفاخروا[6].
وواقع الحال أنّ السورة بطبيعة سياقها تحتمل كلّاً من المكّيّة والمدنيّة.
شرح المفردات
- أَلْهَاكُمُ: “اللام والهاء والحرف المعتلّ أصلان صحيحان، أحدهما: يدلّ على شغل عن شيء بشيء، والآخر: على نبذ شيء من اليد. فالأوّل, اللهو, وهو كلّ شيء شغلك عن شيء, فقد ألهاك”[7]. و”اللَّهْوُ: ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه ويهمّه… ويقال: أَلْهاه كذا. أي: شغله عمّا هو أهمّ إليه. قال تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾”[8].
- التَّكَاثُرُ: “الكاف والثاء والراء أصل صحيح خلاف القلّة”[9]. و”الْمُكَاثَرَةُ والتّكَاثُرُ: التّباري في كثرة المال والعزّ. قال تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾”[10].
- الْجَحِيمَ: “الجيم والحاء والميم, عظمها به الحرارة وشدّتها. فالجاحم المكان الشديد الحرّ”[11]. و”قوله تعالى: ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾, اسم من أسماء النار، وأصله ما اشتدّ لهبه من النيران. وكلّ نارٍ عظيمة في مهواة, فهي جحيم، قال تعالى: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾[12]“[13].
- النَّعِيمِ: “النون والعين والميم, فروعه كثيرة، وعندنا: أنّها على كثرتها راجعة إلى أصل واحد, يدلّ على ترفّه، وطيب عيش، وصلاح”[14]. و”النِّعْمَةُ: الحالةُ الحسنةُ… والنَّعِيمُ: النِّعْمَةُ الكثيرةُ”[15].
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾:
ذُكِرَ في تفسير الآية قولان، هما:
- الأوّل: شغلكم التكاثر في متاع الدنيا وزينتها والتسابق في تكثير العِدَّة والعُدّة, عمّا يهمّكم, وهو ذِكْر الله, حتّى لقيتم الموت، فعمتكم الغفلة مدى حياتكم. وهذا المعنى يناسب ظاهر السياق.
- الثاني: شغلكم التباهي والتباري, بكثرة الرجال, بأن يقول هؤلاء: نحن أكثر رجالاً، وهؤلاء: نحن أكثر, حتّى إذا استوعبتم عدد الأحياء, صرتم إلى القبور، فعددتم الأموات
من رجالكم، فتكاثرتم بأمواتكم. وهذا المعنى مبني على ما ورد في أسباب النزول[16].
والألف واللام في التكاثر للعهد, وذلك للقرائن الآتية:
- مقام الخطاب.
- الآيات التي وردت بعدها, وهي آيات تحديد.
- شأن نزول السورة المباركة الذي تقدّم ذِكره.
- لفظة “ألهاكم”, التي هي في مقام التوبيخ.
فمن مجموع هذه القرائن, يتبيّن: أنّ العهد هو العهد المذموم, وهو التكاثر في الأمور الدنيويّة الدنيّة الفانية. ومورد النزول، وإن كان في خصوص التكاثر في النسب، ولكنْ نستطيع أن نفهم من عموم الآية أنّ التكاثر في جميع الأمور الدنيويّة, من المال، والجاه، وكلّ شيء في تلهّي عن الآخرة واشتغال بالدنيا.
ونكتة حذف المُلهَى عنه, أي الذي أُلهِيَ عنه, وهو ما يعنيهم من أمر الدين، لأجل إفادة:
- التعظيم, لأنّ الحذف, كالتنكير، قد يُجعَل ذريعة إلى التعظيم, لاشتراكهما في الإبهام.
- المبالغة, فلإمكان أن تذهب النفس كلّ مذهب، فيدخل فيها جميع ما يحتمله المقام، مثل: ألهاكم التكاثر عن ذِكْر الله وعن الواجبات وعن المندوبات، وعمّا يتعلّق بالقلب, كالعلم، والتفكّر، والاعتبار، أو بالجوارح, كأنواع الطاعات، وعمّا يتعلّق بمستقبل الإنسان, من الموت وما بعده.
الآية (2): ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾:
ذُكِرَ في معنى الزيارة أقوال، هي:
- المراد بالزيارة, معناها الظاهر, وهو زيارة القبور, من أجل التفاخر والتكاثر بالأموات. وهذا ما تُفيده روايات أسباب النزول.
- المراد بالزيارة, المعنى الكنائيّ عن التذكّر وذِكْر أسمائهم في مقام التفاخر، فيكون لسان الآية حينئذٍ لسان الاستهزاء والسخرية بهم, بأنّ التفاخر بكثرة القبيلة بلغ إلى حدّ ذكرتم الموتى – أيضاً في عداد قبيلتكم، واستوعبتم عددهم، وصرتم إلى التفاخر
والتكاثر بالأموات، فعبّر عن انتقالهم إلى ذِكْر الموتى, بزيارة القبور, أي جُعِلَت كناية تهكُّماً واستهزاء، وإنّما كان تهكّماً, لأنّ زيارة القبور شُرِّعت لتذكّر الموتى ورفض حبّ الدنيا وترك المباهاة والتفاخر، وهؤلاء عكسوا الأمر, حيث جعلوا زيارة القبور سبباً لمزيد القسوة والاستغراق في حبّ الدنيا والتفاخر في الكثرة.
- المراد بالزيارة, زيارة القبور بالموت والحمل إلى المقابر، أو الدخول في القبور. فيكون المعنى: ألهاكم التكاثر إلى أن متّم وقُبرتم مضيّعين أعماركم في طلب الدنيا، معرضين عمّا يهمّكم من السعي لأخراكم.
الأقوال الثلاث لها وجه وجيه، وتحتملها الآية، وإنْ كان القول الأوّل هو الأوفق بروايات أسباب النزول[17].
الآية (3): ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾:
ردع عن اشتغالهم, بما لا يهمّهم, عمّا يعنيهم، وتخطئة لهم.
وقوله تعالى: ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾, تهديد, مفاده: سوف تعلمون تبعة تلهّيكم هذا، وتعرفونها إذا انقطعتم عن الحياة الدنيا. وهذا ما يؤيّده المقام[18].
الآية (4): ﴿ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾:
ذُكِرَ في تفسير الآية قولان:
– الأوّل: المراد من الآية, تأكيد الردع والتهديد السابقين.
– المراد بالعلم في الآية السابقة, خصوص علمهم بها عند الموت. وبالعلم في هذه الآية, خصوص علمهم بها عند البعث[19].
الآية (5): ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾:
ردع بعد ردع, لأجل التأكيد. والمراد بعلم اليقين, العلم الذي لا يُداخله شكّ وريب.
وجواب “لو” في قوله تعالى: ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾ محذوف, تقديره: لو تعلمون الأمر علم اليقين, لشغلكم ما تعلمون عن التباهي والتفاخر بالكثرة[20].
روى البرقي، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام: في قوله الله: ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾، قال: “المعاينة”[21].
الآية (6): ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾:
الآية, استئناف في الكلام. واللام, للقسم. ومعنى الآية: أُقسم! لترون الجحيم, التي هي جزاء هذا التلهّي.
الآية (7): ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾:
المراد بعين اليقين, اليقين نفسه. ومعنى الآية: لترونها محض اليقين, وذلك بمشاهدتها يوم القيامة, لقوله تعالى بعد ذلك: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم﴾[22].
وذُكِرَت أقوال عدّة في المراد بالرؤية في هذه الآية والآية السابقة، هي:
- الرؤية الأولى, رؤيتها قبل يوم القيامة, بعين البصيرة, وهي رؤية القلب, التي هي من آثار اليقين، على ما يُشير إليه، قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾[23]. وهذه الرؤية القلبيّة قبل يوم القيامة غير محقّقة لهؤلاء المتلهّين، بل ممتنعة في حقّهم, لامتناع اليقين على مَنْ هم في حالتهم. والرؤية الثانية, بالمشاهدة والمعاينة يوم القيامة[24]. وهذا القول يُساعد عليه ظهور السياق.
- الرؤية الأولى, رؤيتها قبل الدخول فيها يوم القيامة، والثانية, إذا دخلوها.
- الرؤية الأولى, بالمعرفة، والثانية, بالمشاهدة.
- المراد الرؤية بعد الرؤية, الإشارة إلى الاستمرار والخلود فيها.
والوجوه الثلاث الأخيرة ضعيفة، لا يُساعد عليها السياق.
الآية (8): ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم﴾:
ظاهر السياق أنّ الخطاب في هذه الآية والآيات المتقدّمة, هو للناس, بما أنّ فيهم مَنْ اشتغل بنعمة ربّه عن ربّه, فأنساه التكاثر فيها ذِكْرَ الله.
والتوبيخ والتهديد في السورة المتوجّه إلى عامّة الناس ظاهراً, هو واقع على طائفة خاصّة منهم حقيقة, وهم الذين ألهاهم التكاثر.
والمراد بالنعيم, مطلق النعيم, على ما يُفيده ظاهر السياق, وهو كلّ ما يصدق عليه أنّه نعمة, فالإنسان مسؤول عن كلّ نعمة أنعم الله بها عليه, وذلك أنّ النعمة – وهي الأمر الذي يُلائم المُنعَم عليه ويتضمّن له نوعاً من الخير والنفع – إنّما تكون نعمة بالنسبة إلى المنعَم عليه, إذا استعملها بحيث يسعد بها, فينتفع. وأمّا لو استعملها على خلاف ذلك, فإنّها ستكون نقمة بالنسبة إليه، وإن كانت نعمة بالنظر إلى نفسها.
وقد خلق الله تعالى الإنسان وجعل غاية خلقته التي هي سعادته ومنتهى كماله, التقرّب العبوديّ إليه تعالى, كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[25], وهي الولاية الإلهيّة لعبده، وقد هيّأ الله سبحانه له كلّ ما يَسعَد وينتفع به في سلوكه نحو الغاية التي خُلِقَ لأجلها, وهي النعم، فأسبغ عليه نعمه, ظاهرة وباطنة.
فاستعمال هذه النِّعَم, على نحو يرتضيه الله، وينتهي بالإنسان إلى غايته المطلوبة, هو الطريق إلى بلوغ الغاية, وهو الطاعة، واستعمالها بالجمود عليها ونسيان ما وراءها, هو غيّ وضلال وانقطاع عن الغاية, وهو المعصية. وقد قضى سبحانه قضاء لا يُردّ ولا يبدّل: أنْ يرجع الإنسان إليه، فيسأله عن عمله, فيُحاسبه ويجزيه. وعمله, هو استعماله للنعم الإلهيّة، قال تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء
الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى﴾[26], فالسؤال عن عمل العبد هو سؤال عن النعيم, كيف استعمله, أشكر النعمة أم كفر بها؟![27].
بحث تفسيري: دور العلم والمعرفة في تكامل الإنسان[28]
أرشد القرآن الكريم إلى ضرورة تنمية العقل بالعلم والمعرفة الصحيحتين والنافعتين, لما لذلك من آثار وبركات عظيمة على تكامل الإنسان وتدرّجه في مدارج القرب من الله تعالى، ومن الآيات التي بيّنت هذه الآثار وشجّعت على العلم والمعرفة النافعتين، ما يأتي:
1- قوله تعالى: ﴿… يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾[29].
لا ريب في أنّ لازم رفعه تعالى درجة عبد من عباده, مزيد قربه منه تعالى، وهذا قرينة عقليّة على أنّ المراد بهؤلاء الذين أوتوا العلم: العلماء من المؤمنين، فتدلّ الآية على انقسام المؤمنين إلى طائفتين: مؤمن، ومؤمن عالم. والمؤمن العالم أفضل. وقد قال تعالى: ﴿… قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾[30].
ويتبيّن بذلك أنّ ما ذُكِرَ مِنْ رَفع الدرجات في الآية مخصوص بالذين أوتوا العلم، ويبقى لسائر المؤمنين من الرفع, الرفع درجة واحدة، ويكون التقدير: يرفع الله الذين آمنوا منكم درجة، ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات. وفي الآية من تعظيم أمر العلماء ورفع قدرهم ما لا يخفى. وتأكيد الحكم بتذييل الآية بقوله: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
2- قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾[31].
العلم وعدمه مطلقان، لكن المراد بهما، بحسب ما ينطبق على مورد الآية, العلم بالله وعدمه, فإنّ ذلك هو الذي يكمل به الإنسان وينتفع بحقيقة معنى الكلمة ويتضرّر بعدمه، وغيره من العلم, كالمال ينتفع به في الحياة الدنيا ويفنى بفنائها. وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾, أي ذوو العقول, وهو في مقام التعليل لعدم تساوي الفريقين, بأنّ أحد الفريقين يتذكّر حقائق الأمور، دون الفريق الآخر, فلا يستويان، بل يترجّح الذين يعلمون على غيرهم.
3- قوله تعالى: ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾[32].
إنّ الحقّ يستقرّ في قلوب هؤلاء الذين استجابوا لربّهم، فتصير قلوبهم ألباباً وقلوباً حقيقيّة, لها آثارها وبركاتها, وهو التذكّر، والتبصّر. والاستفهام في الآية هو للإنكار ونفي التساوي بين من استقرّ في قلبه العلم بالحقّ، ومن جهل الحقّ. وفي توصيف الجاهل بالحقّ بالأعمى إيماء إلى أنّ العالم به, أي بالحقّ هو بصير, كما في قوله تعالى: ﴿… قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾[33], فالعلم بالحقّ بصيرة، والجهل به عمى. والتبصّر يفيد التذكّر, ولذا عدّه من خواص أولي العلم, بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ الذي هو في مقام التعليل لما سبقه, أي قوله تعالى: ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ﴾, والمراد أنّهما لا يستويان, لأنّ لأولي العلم تذكُّراً ليس لأولي العمى والجهل. وقد وضع في موضع أولي العلم أولوا الألباب, فدلّ على دعوى أخرى تُفيد فائدة التعليل, كأنّه قيل لا يستويان, لأنّ لأحد الفريقين تذكّراً ليس للآخر، وإنّما اختصّ التذكّر بهم, لأنّ لهم ألباباً وقلوباً، وليس ذلك لغيرهم.
4- قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[34].
فالله سبحانه يشهد, وهو شاهد عدل على أنّه لا إله إلا هو، يشهد لذلك بكلامه, وهو قوله: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ على ما هو ظاهر الآية الشريفة, فالآية في اشتمالها على شهادته تعالى للتوحيد نظيرة قوله تعالى: ﴿لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا﴾[35]. والملائكة يشهدون بأنّه لا إله إلا هو, فإنّ الله يُخبِر في آيات مكّيّة نازلة قبل هذه الآيات, بأنّهم عباد مكرمون، لا يعصون ربّهم، ويعملون بأمره، ويُسبّحونه, وفي تسبيحهم شهادة أن لا إله غيره، قال تعالى: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾[36].
وقال تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾[37]. وأولوا العلم يشهدون أنّه لا إله إلا هو يشاهدون من آياته الآفاقيّة والأنفسيّة وقد ملأت مشاعرهم ورسخت في عقولهم.
وغيرها آيات كثيرة تُشير إلى عدم استواء مقام مَنْ يَعلَم مع مَنْ لا يَعلَم عند الله: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾[38]، وإلى حرمان الجاهل نفسه, بفعل استغراقه في جهله، من نيل نعمة الهداية الربّانيّة: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ﴾[39]، ﴿فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾[40].
الأفكار الرئيسة
1- هذه السورة مكّيّة على الأشهر، وتتضمّن 8 آيات, تحوي مجموعة من المحاور: التباهي والتفاخر بالتكاثر والنسب/ عبوديّة الإنسان لله تعالى/ حجاب الدنيا/ مراتب العلم والمعرفة/…
2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.
3- في تفسير السورة: شغلكم التباري في متاع الدنيا وزينتها عمّا يهمّكم حقيقة, وهو ذِكْر الله تعالى, حتى وصلت بكم الغفلة إلى عدّ موتاكم في مقابركم, للمفاخرة, بدلاً من الاتعاظ. كلا سوف تعلمون تبعات تلهّيكم عن الموت والبعث, يوم تبعثون وترجعون إلى الله تعالى, يومها تنقطع عنكم الأسباب الظاهريّة، ويسألكم الله تعالى عن النعم التي أعطاكم إيّاها في دار الدنيا, ماذا فعلتم بها؟
4- أرشد القرآن الكريم إلى ضرورة تنمية العقل بالعلم والمعرفة الصحيحتين والنافعتين, لما لذلك من آثار وبركات عظيمة على تكامل الإنسان وتدرّجه في مدارج القرب من الله تعالى.
فكّر وأجب
1- أَجِبْ بـ ü أو û:
– هذه السورة مدنيّة على قول أغلب المفسِّرين.
– المراد بـ “علم اليقين”: الرؤية القلبيّة في الدنيا.
– المراد بـ “عين اليقين”: المعاينة يوم القيامة.
2- أَجِبْ باختصار:
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾؟
—————————————————————-
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾؟
—————————————————————-
- بيّن معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم﴾؟
—————————————————————-
[1] الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص430.
[2] م.ن.
[3] م.ن.
[4] الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص431.
[5] م.ن.
[6] م.ن.
[7] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة “لَهَوَ”، ص213.
[8] الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة “لَهَى”، ص748.
[9] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة “كَثُرَ”، ص160.
[10] الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة “كَثُرَ”، ص703.
[11] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج1، مادّة “جّحَمَ”، ص429.
[12] سورة الصافات، الآية 97.
[13] الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج6، مادّة “جّحَمَ”، ص26.
[14] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة “نَعَمَ”، ص446.
[15] الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة “نَعَمَ”، ص815.
[16] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص351.
[17] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص351.
تَدَبُّر: تُرشِد الآية الشريفة الإنسان إلى ضرروة التخلّص من داء التعلّقات الدنيويّة, بواسطة زيارة المقابر, بوصفها طريقاً من طُرُق العلاج لهذا الدّاء.
عن أبي بصير، قال: قال لي أبو عبد الله الصادق عليه السلام: “أما تحزن، أما تهتمّ، أما تألم؟ قلت: بلى والله. قال: فإذا كان ذلك منها, فاذكر الموت، ووحدتك في قبرك، وسيلان عينيك على خدّيك، وتقطُّع أوصالك، وأكل الدود من لحمك، وبلاك، وانقطاعك عن الدنيا, فإنّ ذلك يحثّك على العمل، ويردعك عن كثير من الحرص على الدنيا” (الصدوق، الأمالي، م.س، ص426).
[18] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص351.
[19] انظر: م.ن.
[20] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص153.
[21] البرقي، المحاسن، م.س، ج1، ح250، ص247.
[22] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص352.
[23] سورة الأنعام، الآية 75.
[24] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص351-352.
[25] سورة الذاريات، الآية 56.
[26] سورة النجم، الآيات 39 ـ 42.
[27] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص352-353.
تفسير بالمصداق: ما رواه أحمد بن إدريس، عن أحمد بن محمد، عن سلمة بن عطا، عن جميل، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلت قول الله: ﴿لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾، قال: “قال تُسئَل هذه الأمّة عمّا أنعم الله عليهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ بأهل بيته المعصومين عليهم السلام”. (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص440).
[28] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج3، ص114-115, ج11، ص341-342, ج17، ص243, ج19، 188-189.
[29] سورة المجادلة، الآية 11.
[30] سورة الزمر، الآية 9.
[31] سورة الزمر، الآية 9.
[32] سورة الرعد، الآية 19.
[33] سورة الأنعام، الآية 50.
[34] سورة آل عمران، الآية 18.
[35] سورة النساء، الآية 166.
[36] سورة الأنبياء، الآيتان 26-27.
[37] سورة الشورى، الآية 5.
[38] سورة الأنعام، الآية 50.
[39] سورة النجم، الآيتان 30-29.
[40] سورة النساء، الآية 78.