بسم الله الرحمن الرحيم
المقدّمة
بعد أن لاقى كتاب الموعظة الصادر عن مركز نون في جمعية المعارف الإسلاميّة صدى إيجابيّاً لدى العلماء الكرام، سعى المركز لوضع اثنتي عشرة موعظة جديدة لتكون مادّة وعظية بين أيديهم، وهذه المواعظ المختارة مستقاة من حاجة لواقع بعض مجتمعاتنا وبيئاتنا، وممّا قد يعانيه بعض الأخوة الأعزّاء، ولم نتعرّض لصلب المشاكل الاجتماعية الجزئيّة، تاركين ذلك لوعي وخبرة العلماء الكرام، مكتفين بالإشارة؛ لأنّ اللبيب تغنيه الإشارة، وعليه أن يفرّع الأمثلة من البيئة الّتي يعيشها الواعظ الكريم.
وحيث إنّ هذه المواعظ لا تُعطى إلّا لأهلها، ولمن يريد تهذيب نفسه والرقيّ بها وبمجتمعه نحو مجتمع أفضل وأسمى، حاولنا قدر الإمكان إغناء هذه المواعظ بالآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، لأنّها المعيار الفاصل في عملية التكامل الإنسانيّ. وقد ارتأينا أن تكون تسمية هذه المواعظ مقتبسةً من الآية القرآنية الكريمة “وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ”1 .
1- سورة النور، الآية: 34.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يملأ بهذا الكتاب فراغاً في الساحة الاجتماعيّة، ويعالج بعض الظواهر والمشكلات الّتي يسعى لمعالجتها المخلصون، وأن يرزقنا حسن العاقبة والفوز بالجنّة والرضوان مع محمّد وآله صلوات الله عليهم أجمعين.
مركز نون للتأليف والترجمة
الدرس الاول: عالم الغيب والشهادة
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
“ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ”
(سورة البقرة، الآيتان: 2-3)
تمهيد:
يقول تعالى في كتابه المجيد:”ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ”2 ، جاعلاً سبحانه أوّل صفة للمتّقين إيمانهم بالغيب، فما هو الغيب؟ وما هي أهميّة الإيمان به؟ وما هي نتائجه؟ هل ما سنتعرّض له في حديثنا هو من باب الترف الفكريّ خاصة أنّه قد يُقال بما أنّنا في عصر العلم والتجربة وبعد إخضاع كلّ شيء للحسّ والمشاهدة، ما معنى البحث عن الغيب والإمداد الغيبيّ وكلّ ما هو وراء عالم الطبيعة؟
بين العلم والغرور العلميّ:
والحقّ أنّ هذا الاعتراض ناشيء من الجهل، بل هو أقبح منه، فإنّ الجمود والغرور العلميّ أقبح من الجهل، والعالِم الحقيقيّ هو الّذي يعترف بجهله، يقول تعالى: “…وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً”3 .
وفي نفس الوقت لا يقبل أيّ حقيقة ولا يُنكر أيّ دعوى إلا بدليل، وأمّا إذا اكتفى العالِم بما لديه من معلومات وجمد على ما وصل إليه فهو الغرور بعينه وهو أقبح من
2- سورة البقرة، الآيتان: 2 و 3.
3- سورة الإسراء، الآية: 85.
الجهل بكثير.
وحسّ التحقيق أكثر قداسة من العلم نفسه، وإنّما يُعتبر العلم مقدّساً حينما يُلازم روح التحقيق واتّباع الدليل، وهذه الروح لا توجد إلا في العالِم الّذي يعترف بنقصه العلميّ والثقافيّ، وفي الحديث حول تقسيم العلم:
“العلم ثلاثة أشبار فمن نال منه شبراً شمخ بأنفه وظنّ أنّه هو، ومن نال منه الثاني صغرت إليه نفسه وعلم أنّه ما ناله، وأمّا الثالث فهيهات لا يناله أحد”4 .
فالّذي ينال الثاني يتواضع فكيف بالّذي ينال الشبر الثالث؟ والدين الإسلامي لم يكن أبداً ضدّ العلم، بل على العكس كان محفِّزاً للعلم باتّجاه التحقيق باعتراف الكثير من العلماء5 ، ولذلك نحن علينا أنْ نقبل عالم الغيب والإمدادات الغيبية بالدليل والبرهان.
ما هو الغيب؟
وردت كلمة الغيب في أكثر من موضع في القرآن الكريم حيث يقول سبحانه وتعالى:
“الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ…”6 .
ويقول: “وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ…”7 .
وكذلك يقول تعالى: “…عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ…”8 .
ويُراد بالغيب الأمور الخفيّة والغائبة عن الحسّ. واصطلح الفلاسفة على
4- فيض القدير في شرح الجامع الصغير للمناوي ج 4، ص 509.
5- يقول وليم جيمس: “إنّ الدين يشير إلى بعض الأمور والأشياء الّتي لا طريق للعلم والعقل لمعرفتها، ولكنّ هذه المؤشّرات هي التّي حفّزت العلم والعقل على التحقيق وبالتالي توصل الكثير إلى الاكتشافات والاختراعات في مختلف الميادين” نقلاً عن مجموعة الآثار للشهيد مرتضى مطهري ج 3، ص 336.
6- سورة البقرة، الآية: 3.
7- سورة الأنّعام، الآية: 59.
8- سورة الزمر، الآية: 46.
وصف عالَم الطبيعة(المادّة) بعالَم الشهادة، وعالَم الملكوت (التجرّد من المادّة والجسميّة) بعالَم الغيب9
عالَم الشهادة:
هو العالَم الّذي نراه ونلمسه ونسمعه وكلّ ما له علاقة بالحواس، وهذا العالَم لا يحتاج في إثباته والإيمان به إلى دليل غير الحواس الخَمس.
عالَم الغيب:
هو العالَم الّذي يغيب عن الحواس، ولا تكفي الحواس وحدها للكشف والتعرُّف إلى هذا العالَم ومن ثَمَّ الإيمان به، وإنّما المرء بحاجة إلى مساعدة العقل10 ، وإلى قوّة أكثر خفاء للإيمان بالغيب، وهي إخبار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو الوليّ عليه السلام.
فالأنبياء عليهم السلاملم يُبعثوا ويُكلَّفوا بإقناع الناس بوجود عالم الغيب والاعتقاد به، فقط، بل بُعثوا لأجل أنْ يؤمن الناس به وبالإمدادات الغيبيَّة، فكانوا همزة الوصل بين الناس والغيب وما يُفاض عنه وفق الشروط الخاصّة، ومن هنا كان لمسألة الغيب علاقة بالواقع العمليّ للإنسان.
ستار الغيب:
ما هو ستار الغيب الّذي أُسدل بيننا وبين الغيب؟
هل هو حجاب وستار مادّيّ أو أنّ التعابير المستعملة كنايات عن معنى ومفهوم خاص؟ فقد استعمل القرآن الكريم تعبير الغطاء، حيث يقول سبحانه:
(كَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)11.
9- وقد استوحوا ذلك من التعبير القرآني في آية الزمر.
10- يعتبر العقل مرتبة من مراتب الغيب.
11- سورة ق، الآية: 22.
وكذلك ورد في القول المشهور المنسوب لأمير المؤمنين علي عليه السلام: “لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً”12 .
ومن المسلّم أنّ هذا الستار ليس ستاراً مادّيّاً محسوساً، وإنّما هو كناية عن حجاب محدوديّة الحواسّ الّتي لا يتسنّى لها إدراك غير الأمور المحسوسة والمحدودة. ولتوضيح هذا الستار بشكل أفضل ندخل في بحث:
المحدود واللّامحدود:
يُمكن تقسيم الموجود إلى الموجود المحدود والموجود اللّامحدود. ومن خلال معرفة المحدود نعرف اللّامحدود، وهذا ما يصطلح عليه (تعريف للشيء بضدّه أو بنقيضه)، ويُستعمل هذا الأسلوب عندما لا يُمكن للحواس أنْ تتعرّف إلى الشيء.
المحدود: كلّ جسم يشغل حيِّزاً مكانيّاً فهو موجود فيه وغير موجود في غيره، وإذا وجد في غيره فهو غير موجود في المكان السابق.
إذاًََ، الجسم محدود بمكان خاصٍّ ولا يُمكن له أنْ يكون في موضعين في نفس الوقت، والكلام نفسه بالنسبة للزمان فهو موجود في هذا الزمان مثلاً وغير موجود في الزمان السابق أو اللاحق.
إذاًَ، الجسم محدود بزمان خاصٍّ أيضاً، وجميع الموجودات في عالم الطبيعة الّتي نُدركها بالحواسّ هي من هذا القبيل، أيْ إنّها محدودة بالزمان والمكان.
اللّامحدود: وهو نقيض المحدود، أيْ إنّه الموجود الّذي لا يحدّه الزمان ولا المكان.
وبتعبير آخر هو الذي لا يُحدّ بزمان ولا مكان ولا يحتاج في وجوده إليهما، وبتعبير ثالث هو الموجود المحيط بالزمان والمكان.
12- منتهى المطلب للعلّامة الحلّي ج3، ص44، ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج1، ص317، ومستدرك سفينة البحار للشيخ علي النمازي ج5، ص163. ومن كلام له عليه السلام بعد تلاوة ألهاكم التكاثر: “… فلو مثّلتهم بعقلك أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك وقد ارتسخت بالهوام فاستكّت….” نهج البلاغة من خطب الإمام علي عليه السلام ، ص208، تحقيق الشيخ محمّد عبده. (المحرِّر)
مثالٌ توضيحيٌّ: عندما نسمع صوت الرعد مثلاً فإنّنا نُلاحظ أنّ هذا الصوت يمتدّ لثوانٍ معدودة ثُمَّ ينقطع، فهذا الصوت لم يكن ثُمَّ كان ثُمَّ انقطع، وحاسّة السمع إنّما تُدرك هذه الأصوات المحدودة زماناً الّتي توجد تارة وتنعدم أخرى، ولكنْ لو فُرض أنّ هناك صوتاً ممتدّاً عبر الزمن كان وما زال ولا يزال مستمرّاً منذ الأزل وإلى الأبد، فإنّ حاسّة السمع لا يُمكن لها سماع هكذا صوت، لأنّه صوت غير محدود ونطاق عمل الحواسّ هو الموجودات المحدودة لا غير.
ونفس الكلام يجري لو فرض موجود غير محدود بمكان فإنّ حاسّة البصر لا يُمكن لها أنْ تراه لأنّ مجال عملها هو الأجسام المحدودة المكانيّة.
تُعرف الأشياء بأضدادها: إنّما نعرف النور لأنّ هناك ظلمة، فالنور قد يوجد وقد لا يوجد فهو محدود بمكان وزمان.
أمّا لو كان غير محدود وكان النور شاسعاً مستمرّاً ولا وجود للظلمة، عندها لا يُمكن لنا إدراك النور، وكان هذا الموجود، الّذي هو أظهر الأشياء وهو الظاهر بنفسه المظهر لغيره من الأشياء، خافياً علينا.
وكذلك الله تعالى اسمه، فالعالَم بأسره فيض من فيوضاته، وهو موجود في كلّ مكان وزمان، ولكنّ شدّة ظهوره كانت سبب خفائه، فهو خفيٌّ لأنّه ليس له غياب فحيثيّة الظهور والخفاء واحدة فيه، وقد ورد في دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة “… أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلُّ عليك؟ ومتى بعُدت حتّى تكون الآثار هي الّتي توصل إليك؟..”
مثال السمكة: السمكة لا تُدرك الماء الّذي يُحيط بها من كلّ جانب فلذلك هي لا تعرف الماء، لكنْ عندما توضع على اليابسة (ضدّ الماء) تُدرك معنى الماء وتشعر بأهمّيّته بالنسبة لها، فلولا اليابسة ما عرفت معنى الماء ولولا الماء ما عرفنا نحن معنى اليابسة.
النتيجة
إذاً الغيب إنّما هو غيب بالنسبة لنا لقصور قدراتنا الحسّيّة عن التعلُّق باللّامحدود، لا أنّه هناك حائل وحاجب بين قدراتنا الإدراكيّة والحسيّة وبين الغيب.
محدوديّة الحواسّ:
تعرّض الشاعر الفارسيّ مولوي قبل قرون لفكرة قصور الحسِّ البشريّ حيث ضرب مثالاً لذلك في أبيات جميلة وعُرف المثال من بعده بمثال الفيل.
فقد صوّر أنّ الهنود جاؤوا بفيلٍ لعرضه في بلدٍ لم يرى أهله الفيل من قبل ولكنْ وضعوه في اللّيل في غرفة مظلمة، وعندما تهافت الناس للتعرُّف إلى هذا الموجود الجديد بدؤوا بتحسّسه باللّمس لأنّه لا مجال للبصر في الليل، فمن لمس خرطومه قال إنّه موجود كالميزاب، ومن لمس أذنه قال إنّه كالمروحة اليدويّة، ومن لمس قدمه قال إنّه كالأسطوانة، ومن لمس ظهره قال إنّه كالسرير، ولكن لو حمل كلّ واحد شمعة بيده وأعمل حاسّة بصره لزال الاختلاف من الأساس.
إذن، اللّامسة أكثر محدوديّة من الباصرة الّتي تُدرك الحجم الكبير بصورة موجود واحد، ونسبة حدود اللّامسة إلى الباصرة تُشبه حدود الحاسّة المحدودة إلى الحاسة اللّامحدودة (النسبيّ)، ونفس هذه النسبة بين الحواسّ كلّها.
أهميّة الإيمان بالغيب:
يقول تعالى في صفة المتّقين: “الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ”13 .
الإيمان بالغيب هو بالضبط النقطة الفاصلة الأولى بين المؤمنين بالأديان السماويّة، وبين منكري الخالق والوحي والقيامة.
13- سورة البقرة، الآية: 3.
ومن هنا كان الإيمان بالغيب أوّل سمة ذُكِرت للمتّقين. المؤمنون خرقوا طوق العالَم الماديّ، واجتازوا جدرانه. إنّهم بهذه الرؤية الواسعة مرتبطون بعالَمٍ كبيرٍ لا متناهٍ. بينما يُصرُّ معارضوهم على جعل الإنسان مثل سائر الحيوانات، محصوراً في موقعه من العالَم الماديّ. وهذه الرؤية الماديّة تقمّصت في عصرنا صفات العلميّة والتقدّميّة والتطوّريّة!
لو قارنّا بين فهم الفريقين ورؤيتهما، لعرفنا أنّ “المؤمنين بالغيب” يعتقدون أنّ عالم الوجود أكبر وأوسع بكثير من هذا العالَم المحسوس، وخالق عالم الوجود غير متناه في العلم والقدرة والإدراك، وأنّه أزليٌّ وأبديٌّ، وأنّه صمّم هذا العالَم وفق نظام دقيق متقن. ويعتقدون أنّ الإنسان – بما يحمله من روح إنسانيّة – يسمو بكثير على سائر الحيوانات، وأنّ الموت ليس بمعنى العدم والفناء، بل هو مرحلة تكامليّة في الإنسان، ونافذة تطلُّ على عالمٍ أوسع وأكبر. بينما الإنسان الماديّ يعتقد أنّ عالَم الوجود محدود بما نلمسه ونراه، وأنّ العالم وليد مجموعة من القوانين الطبيعيّة العمياء الخالية من أيِّ هدف أو تخطيط أو عقل أو شعور. والإنسان جزء من الطبيعة ينتهي وجوده بموته، يتلاشى بدنه، وتندمج أجزاؤه مرّة أخرى بالمواد الطبيعيّة. فلا بقاء للإنسان، وليس ثمّة فاصلة كبيرة بينه وبين سائر الحيوانات!
ما أكبر الهوّة الّتي تفصل بين هاتين الرؤيتين للكون والحياة ! وما أعظم الفرق بين ما تفرزه كلّ رؤية من حياة اجتماعيّة وسلوك ونظام !
الرؤية الأولى تُربّي صاحبها على أنْ يُنشد الحقّ والعدل والخير ومساعدة الآخرين، والثانية، لا تُقدِّم لصاحبها أيَّ مبرِّر لممارسة الأمور اللّهمّ إلّا ما عاد عليه بالفائدة في حياته الماديّة. من هنا يسود في حياة المؤمنين الحقيقيّين التفاهم والإخاء والطهر والتعاون، بينما تُهيمن على حياة المادّيين روح الاستعمار والاستغلال وسفك الدماء والنهب والسلب. ولهذا السبب نرى القرآن يتّخذ من “الإيمان بالغيب” نقطة البداية في التقوى.
مطالعة
جزاء العفّة
عن الإمام عليٍّ بن الحسين عليهما السلام، قال: “إنّ رجلاً ركب البحر بأهله فكسر بهم، فلم ينج ممّن كان في السفينة إلا امرأة الرجل، فإنّها نجت على لوح من ألواح السفينة حتّى ألجأت على جزيرة من جزائر البحر وكان في تلك الجزيرة رجلٌ يقطع الطريق ولم يدع لله حرمة إلا انتهكها فلم يعلم إلا والمرأة قائمة على رأسه، فرفع رأسه إليها فقال: إنسيّة أم جنيّة؟ فقالت: إنسيّة، فلم يُكلِّمها كلمة حتّى جلس منها مجلس الرجل من أهله.
فلمّا أن همّ بها اضطربت، فقال لها: ما لك تضطربين؟ فقالت: أفرق (الفَرَق: الخوف) من هذا – وأومأت بيدها إلى السماء – قال: فصنعت من هذا شيئاً؟ قالت: لا وعزّته.
قال: فأنت تفرقين منه هذا الفرق ولم تصنعي من هذا شيئاً، وإنّما أستكرهك استكراهاً فأنا والله أولى بهذا الفرق والخوف وأحقّ منك، قال: فقام ولم يُحدث شيئاً ورجع إلى أهله وليست له همّة إلا التوبة والمراجعة.
فبينا هو يمشي إذ صادفه راهب يمشي في الطريق، فحميت عليهما الشمس فقال الراهب للشابّ: ادع الله يُظلّنا بغمامة، فقد حميت علينا الشمس، فقال الشابّ: ما أعلم أنّ لي عند ربّي حسنة فأتجاسر على أنْ أسأله شيئاً، قال: فأدعو أنا وتؤمِّن أنت؟ قال: نعم. فأقْبَلَ الراهب يدعو والشابّ يؤمِّن، فما كان بأسرع من أنْ أظلّتهما غمامة، فمشيا تحتها مليّاً من النهار. ثُمَّ تفرّقت الجادّة جادّتين فأخذ الشابّ في واحدة وأخذ الراهب في واحدة فإذا السحابة مع الشابّ، فقال الراهب: أنت خيرٌ منّي، لك استُجيب ولم يُستجب لي، فأخبرني ما قصّتك؟ فأخبره بخبر المرأة فقال: غفر لك ما مضى حيث دخلك الخوف، فانظر كيف تكون فيما تستقبل”14 .
14- الكافي، الكليني، ج 2، ص 69 – 70.