وأُخرى عند أهل السنة مصرحة بعدد الاَئمة تارة كما في الصحاح ، ومشخصة لاَسمائهم كما في كتب المناقب وغيرها وإلى جانب هذا توجد جملة من الاَحاديث المتّفق على صحّتها تدلّ على حياة المهدي ما بقي في الناس اثنان ، وهذا لايتمّ إلاّ بتقدير كونه التاسع من ولد الاِمام الحسين عليه السلام . وسوف لن نذكر من تلك الاحاديث إلاّ ما احتُجَّ به في كتب الفريقين.
حديث الثقلين :
مما لا شكّ فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد انتقل إلى الرفيق الاَعلى والسنة لم تدوّن بكل تفاصيلها في عهده ، وهو منزّه عن التفريط برسالته المحكوم ببقائها إلى يوم القيامة ، ومنزّه أيضاً عن إهمال أُمته مع نهاية رأفته بهم وشفقته عليهم ، فكيف يوكلهم إلى القرآن الكريم وحده مع ما فيه من محكم ومتشابه ، ومجمل ومفصّل ، وناسخ ومنسوخ ، فضلاً عمّا في آياته من وجوه ومحامل استخدمت للتدليل على صحة الآراء المتباينة كما نحسّ ونلمس عند أرباب المذاهب والفرق الاسلامية .
هذا ، مع علمه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه قد كُذِب عليه في حياته فكيف الحال إذن بعد وفاته ، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم الذي اتخذ بكتب الدراية مثالاً على التواتر اللفظي : «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» .
فمن غير المعقول إذن أن يدع النبي شريعته مسرحاً لاجتهادات الآخرين من دون أن يحدد لهم مرجعاً يعلم ما في القرآن حق علمه، وتكون السنة معلومة بكل تفاصيلها عنده .
وهذا هو القدر المنسجم مع طبيعة صيانة الرسالة ، وحفظها ، ومراعاة استمرارها منهجا وتطبيقاً في الحياة .
ومن هنا تتضح أهمية حديث الثقلين (القرآن والعترة) ، وقيمة إرجاع الاَمّة فيه إلى العترة لاَخذ الدين الحق عنهم ، كما تتضح أسباب التأكيد عليه في مناسبات مختلفة ونُوَب متفرقة، منها في يوم الغدير ، وآخرها في مرضه الاَخير .
فعن زيد بن أسلم ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : «كأنني قد دُعِيت فأجبت، إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله، وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، إنّ الله مولاي ، وأنا ولي كل مؤمن . من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه»(1).
وعن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : «إنّي تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الارض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(2)، هذا فضلاً عن تأكيده صلى الله عليه وآله وسلم المستمر على الاقتداء بعترته أهل بيته ، والاهتداء بهديهم، والتحذير من مخالفتهم ، وذلك بجعلهم تارة كسفن للنجاة ، وأُخرى أماناً للاَُمّة ، وثالثة كباب حطّة .
وفي الواقع لم يكن الصحابة بحاجة إلى سؤال واستفسار من النبي لتشخيص المراد بأهل البيت ، وهم يرونه وقد خرج للمباهلة وليس معه غير أصحاب الكساء وهو يقول : «اللّهم هؤلاء أهلي» وهم من أكبر الناس معرفة بخصائص هذا الكلام ، وإدراكاً لما ينطوي عليه من قصر
____________
(1) مستدرك الحاكم 3 : 109.
(2) سنن الترمذي 5 : 662 | 3786، وحديث الثقلين قد روي عن أكثر من ثلاثين صحابياً، وبلغ عدد رواته عبر القرون المئات. راجع حديث الثقلين تواتره، فقهه، للسيد علي الحسيني الميلاني : 47 ـ 51. فقد ذكر فيه بعض الرواة وفيه الكفاية.
واختصاص . وإلا فتسعة أشهر وهي المدّة التي أخبر عنها ابن عباس في وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على باب فاطمة صباح كل يوم وهو يقرأ : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا )(1)كافية لاَن يعرف الجميع من هم أهل البيت عليهم السلام .
ومع هذا فلا معنى لسؤالهم واستفسارهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمّن يعصموا الاَُمّة بعده من الضلالة إلى يوم القيامة فيما لو تمسكت بهم مع القرآن.
فحاجة الاَُمّة ـ والصحابة أيضاً ـ ليس أكثر من تشخيص أولهم ليكون المرجع للقيام بمهمته بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يأخذ دوره في عصمة الاَُمّة من الضلالة ، وهو بدوره مسؤول عن تعيين من يليه في هذه المهمة، وهكذا حتى يرد آخر عاصم من الضلالة مع القرآن على النبي الحوض.
وإذا علمت أن علياً عليه السلام قد تعيّن بنصوص لاتحصى ، ومنها في حديث الثقلين نفسه ، فليس من الضروري إذن أن يتولّى النبي بنفسه تعيين من يلي أمر الاَُمّة باسمه في كل عصر وجيل ، إن لم نقل إنه غير طبيعي لولا أن تقتضيه بعض الاعتبارات .
فالقياس إذن في معرفة إمام كل عصر وجيل : إمّا أن يكون بتعيينهم دفعة واحدة ، أو بنص السابق على إمامة اللاحق وهو المقياس الطبيعي المألوف الذي دأبت عليه الاَنبياء والاَوصياء عليهم السلام ، وعرفته البشرية في سياساتها منذ أقدم العصور وإلى يوم الناس هذا.
وإذا ما عدنا إلى واقع أهل البيت عليهم السلام نجد النصّ قد توفر على إمامتهم بكلا طريقيه، ومن سَبَر الواقع التاريخي لسلوكهم علم يقيناً بأنهم ادعوا لانفسهم الاِمامة في عرض السلطة الزمنية ، واتخذوا من أنفسهم كما
____________
(1) الاحزاب : 33 | 33 . وانظر روايات وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على باب فاطمة وهو يقرأ الآية في تفسير الطبري : 22 | 6 .
اتخذهم الملايين من أتباعهم أئمة وقادة للمعارضة السلمية للحكم القائم في زمانهم، مع إرشاد كل إمام أتباعه على من يقوم بأمر الاِمامة من بعده، وعلى هذا جرت سيرتهم ، فكانوا عرضة للمراقبة والسجون والاستشهاد بالسم تارة ، وفي سوح الجهاد تارة أُخرى وعلى أيدي القائمين بالحكم أنفسهم.
ثم لو فرض أنّ أحدهم لم يعيّن لاَتباعه من يقوم بأمر الاِمامة من بعده، مع فرض توقف النص عليه ، فإنّ معنى ذلك بقاء ذلك الاِمام خالداً مع القرآن في كل عصر وجيل ؛ لاَنّ دلالة «لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» على استمرار وجود إمام من العترة في كل عصر كاستمرار وجود القرآن الكريم ظاهرة واضحة ، ولهذا ذهب ابن حجر إلى القول : «وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة ، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك ، ولهذا كانوا أمانا لاَهل الاَرض ، ويشهد لذلك الخبر :«في كلِّ خَلَفٍ من أُمتي عدول من أهل بيتي»(1).
حديث : (من مات ولم يعرف إمام زمانه) :
سُجّل هذا الحديث ـ بألفاظٍ مختلفةٍ وكلّها ترجع إلى معنىً واحدٍ ومقصدٍ فارد ـ : في أُمهات كتب الحديث السنية والشيعية ، ويكفي على ذلك اتفاق البخاري ومسلم ـ من أهل السنة ـ على روايته(2)، والكليني، والصدوق، ووالده، والحميري، والصفار ـ من الشيعة الاِمامية ـ على
____________
(1) الصواعق المحرقة : 149.
(2) صحيح البخاري 5 : 13 باب الفتن ، صحيح مسلم 6 : 21 ـ 22 | 1849 .