الرئيسية / شخصيات أسلامية / عجائب شتّى في شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

عجائب شتّى في شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

التيّارات الضالّة في زمن الإمام عليّ عليه السلام

 

أهل البغي في زمن الإمام عليّ عليه السلام

إنّ قضيّة قوّة أمير المؤمنين عليه السلام إلى جانب مظلوميّته الّتي انتهت إلى هذا الحال يمكن تلخيصها في ما يلي: لقد اصطفّت ضدّ عليّ عليه السلام في أيام حكومته الّتي استمرت أقلّ من خمس سنوات، ثلاثة تيارات هي: القاسطون، والناكثون، والمارقون؛ إذ ينقل عنه السنّة والشيعة أنّه قال: “أمرت أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين”1. وهذه التسمية هو الّذي أطلقها على تلك الفئات الثلاث؛ فالقاسطون بمعنى الظالمين؛ لأنّ الفعل قسط حينما يأتي مجرّداً: قَسَطَ يقسِط، بمعنى جار يجور، وظلم يظلم.

وحينما يأتي على صيغة الثلاثي المزيد على وزن أفعل: أقسط يُقسط، فمعناه العدل والإنصاف.

وعلى هذا، إذا استعملت كلمة القسط على وزن أفعل، تعني العدل، وإذا جاءت على صيغة قَسَطَ يقسِط فهي على الضدّ من ذلك؛ أي بمعنى الظلم والجور. فهو عليه السلام سمّاهم الظالمين.

من هم أولئك القاسطون؟

القاسطون فئة دخلت الإسلام ظاهريّاً لمصالحها الخاصّة, ولم تكن

 1- دعائم الإسلام، القاضي النعمان المغربي، ج‏ 1، ص 388، فصل ذكر قتال أهل البغي.

تعترف بالحكومة العلويّة أساساً, ولم تُجدِ نفعاً كلّ الأساليب الّتي انتهجها معها أمير المؤمنين عليه السلام, والتفّت تلك الفئة حول محور بني أميّة الّذي كان معاوية بن أبي سفيان والي الشام آنذاك أبرز شخصيّة فيه، ثم يأتي من بعده مروان بن الحكم والوليد بن عقبة.

شكّل هذا المحور جبهة رفضت التفاهم والاتّفاق مع أمير المؤمنين عليه السلام.

ومع أنّ المغيرة بن شعبة وعبد الله بن عباس وغيرهما أشاروا على أمير المؤمنين عليه السلام منذ أوّل حكومته بالإبقاء عليهم في مناصبهم لبعض الوقت، غير أنّه أبى عليهم ذلك، فذهبت بهم الأوهام إلى أنّه لم يحسن اتخاذ الموقف السياسيّ المناسب.

ولكنّهم هم الذين كانوا في غفلة كما برهنت الأحداث اللاحقة؛ لأنّ معاوية لم يأتلف مع أمير المؤمنين عليه السلام رغم كلّ الأساليب الّتي اتبعها” عليه السلام لأجل هذه الغاية.

ولم يكن ذلك النهج ممّا ترتضيه حكومة كالحكومة العلويّة، على الرغم من تحمّل السابقين لبعض هؤلاء.

كانت قد مضت أقلّ من ثلاثين سنة منذ أن أسلم معاوية إلى أن هبَّ لمحاربة أمير المؤمنين عليه السلام.

وكان هو وأذنابه قد حكموا الشام سنوات طويلة, وبسطوا نفوذهم فيها, وأسّسوا لهم قاعدة واسعة هناك.

ولم تكن الأحوال آنذاك كما كانت عليه في الأيام الأولى الّتي كان بالإمكان أن يقال لهم فيها إذا ما أظهروا الخلاف إنّكم دخلتم الإسلام توّاً، ولا يحقّ لكم الخلاف.

فهم كانوا قد ثبّتوا لهم قدماً عند ذاك.

إذاً كان هذا التيار يرفض الحكومة العلويّة جملة وتفصيلاً، ويرنو إلى نمط آخر من الحكم يكون زمامه بيده، وهو ما ثبت عنهم فيما بعد وذاق العالم الإسلاميّ مرارة حكمهم.

فهذا معاوية نفسه، الّذي كان في عهد صراعه مع أمير المؤمنين عليه السلام يُظهر الودّ والمحبّة لبعض الصحابة، أبدت حكومته فيما بعد أسلوباً في غاية العنف والشدّة حتّى انتهى بها الحال إلى عهد يزيد وواقعة كربلاء، ومن بعده إلى زمن مروان وعبد الملك والحجّاج بن يوسف الثقفي ويوسف بن عمر الثقفي الّذين يعدّون من جملة نتائج تلك الحكومة.

ومعنى هذا أنّ الحكومات الّتي يهتزّ التاريخ لذكر جرائمها كحكومة الحجّاج على سبيل المثال كان معاوية هو الّذي أرسى أسسها وحارب أمير المؤمنين عليه السلام من أجلها.

فقد كانت غايتهم معروفة منذ البداية، إذ إنّهم كانوا يبتغون حكومة دنيويّة محضة تدور في فلك ذواتهم ومصالحهم الذاتيّة؛ وهي المظاهر الّتي شاهدها الجميع في حكومة بني أميّة.

وأنا طبعاً لا أريد الدخول هنا في أي بحث عقائديّ أو كلاميّ.

والأمور الّتي أعرضها هنا من صلب التاريخ، وليس تاريخ الشيعة طبعاً، وإنّما تاريخ “ابن الأثير”2 و “ابن قتيبة”3 وما شابه ذلك.

وهي نصوص مدوّنة ومحفوظة، وتدخل في عداد الحقائق المسلّم بها, وليس في إطار الاختلافات الفكريّة بين الشيعة والسنّة.

الجبهة الثانية الّتي حاربت أمير المؤمنين عليه السلام هي جبهة الناكثين, والناكث هو: الناقض، والمراد به هنا: ناقض البيعة.

وهذه الفئة بايعت أمير المؤمنين عليه السلام في البداية إلّا أنّها نقضت البيعة فيما بعد.

وكان أفراد هذه الفئة على العكس من الفئة الأولى مسلمين ملتزمين، وفي الخندق الموالي, إلّا أنّ ولاءهم واعترافهم بحكومة عليّ بن أبي طالب عليه السلام كان منوطاً بإعطائهم حصّة مقبولة فيها، والتشاور معهم ومنحهم المناصب والمسؤوليّات الحكوميّة, مع عدم التعرّض لِما في أيديهم من ثروات, وعدم السؤال عن مصادرها.

إذاً كانت هذه الفئة ترتضي حكم أمير المؤمنين عليه السلام, ولكن بشرط عدم المساس بمثل هذه الأمور، وأن لا يُقال لأحدهم من أين لك هذه الثروة؟ وكيف حصلت عليها؟ وما إلى ذلك؛ ولهذا السبب بايع أكثرهم

2- عز الدين أبو الحسن عليّ بن محمد بن عبد الكريم الجزري (555 ـ630 ﻫ) المعروف بابن الأثير الجزري، مؤرخ إسلاميّ كبير، له التأليفات القيمة؛ الكامل في التاريخ، وهو في التاريخ العامّ. التاريخ الباهر في الدولة الأتابكيّة. أسد الغابة في معرفة الصحابة. اللباب في تهذيب الأنساب.

3- أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (213 ـ 276 ﻫ/828 ـ 899 م) أديب فقيه محدث مؤرّخ. له العديد من المصنّفات أشهرها عيون الأخبار، وأدب الكاتب وغيرها.

 منذ البداية، في حين أنّ بعضهم الآخر لم يبايع؛ فسعد بن أبي وقّاص لم يبايع منذ البداية، إلّا أنّ طلحة والزبير وأكابر الصحابة وغيرهم بايعوا أمير المؤمنين عليه السلام وأسلموا له القياد، بَيْدَ أنّهم أدركوا بعد مضي ثلاثة أو أربعة أشهر عدم إمكانيّة الانسجام مع هذه الحكومة, الّتي لا تفرّق في تعاملها بين القريب والبعيد، ولا ترى لذاتها ولا لأفراد أسرها أي امتياز، ولا تقرّ بأيّ امتياز للسابقين في الإسلام وإن كان أمير المؤمنين عليه السلام نفسه أوّلهم إسلاماً ولا تحابي أحداً في تطبيق الأحكام الإلهيّة؛ ولهذه الأسباب جنّدوا أنفسهم لمعارضة هذه الحكومة, وتسبّبوا في وقوع معركة الجمل الّتي كانت فتنة حقّاً، واصطحبوا معهم أمّ المؤمنين، وقتل في هذه المعركة عدد كبير من المسلمين، وانتهت المعركة بانتصار أمير المؤمنين عليه السلام فأعاد الأمور إلى نصابها.

وهذه هي الجبهة الثانية الّتي شغلت أمير المؤمنين عليه السلام ردحاً من الزمن.

أما الجبهة الثالثة فكانت جبهة المارقين، والمارق بمعنى: الخارج والهارب؛ وقيل إنّهم سموا بالمارقين لخروجهم من الدين كخروج السهم من القوس.

وكانت هذه الفئة متمسّكة بظواهر الدين، ويكثرون من التبجّح باسم الدين.

وهؤلاء هم الخوارج, الّذين وضعوا أسسهم الفكريّة على أساس فَهم

مغلوط للدين وهي ظاهرة خطيرة طبعاً ولم يأخذوا الدين عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام الّذي كان مفسّراً للقرآن وعالماً بالكتاب.

أمّا تكتّلهم أو ما يسمّى بالاصطلاح المعاصر “تحزّبهم” فكان يستلزم سياسة معيّنة، وكانت هذه السياسة تُوجّه من مكان آخر.

والسمة البارزة الّتي كانت تميّز أعضاء هذه الفئة هي أنّك لا تكاد تتلفّظ بكلمة حتّى يسارع أحدهم إلى الإتيان بآية من القرآن، وكانوا كثيراً ما يقرؤون أثناء صلاة الجماعة لأمير المؤمنين عليه السلام آيات معرّضين به، أو يقومون عند منبره ويقرؤون آية فيها تعريض يقصدونه به، وكان شعارهم “لا حكم إلّا لله”، بمعنى أنّنا لا نعترف بحكومتك، ونحن أتباع حكومة الله!

هذه الفئة، الّتي كان ظاهر أمرها على هذه الشاكلة، كان تنظيمها واتجاهها السياسيّ يجري وفقاً لآراء وتوجيهات كبار القاسطين والشخصيّات البارزة في حكومة الشام أي عمرو بن العاص ومعاوية إذ كانت لهذه الفئة علاقات بأولئك الأشخاص؛ فالأشعث بن قيس، كما تشير الكثير من القرائن كان رجلاً غير نزيه.

واتّبعت هذه الفئة طائفة كبيرة من البسطاء فكريّاً.

إذاً الفئة الثالثة الّتي جابهت أمير المؤمنين عليه السلام وانتصر عليها طبعاً هي فئة المارقين الّتي وجّه لها ضربة قاصمة في معركة النهروان. ولكن كان لهم وجود في المجتمع، وفي ختام المطاف كان استشهاده على أيديهم.

وقد أشرت في خطبة سابقاً إلى أنّه ينبغي أن لا يُشتبه في فهم الخوارج،

 فهنالك من يصف الخوارج بالتحجّر والتنسّك الجامد؛ ولكن المتنسّك يتّصف بالعزلة والانطواء على صلاته ودعائه، وهذا المعنى لا يصدق على الخوارج؛ لأنّ الخوارج عناصر متمرّدة تثير الأزمات، ولها وجود فاعل في الساحة، وتشنّ حرباً ضدّ الإمام عليّ عليه السلام ، ولكن أساسها مغلوط، وحربها خاطئة، وأساليبها مرفوضة، وغايتها باطلة.

هذه هي الفئات الثلاث الّتي جابهت أمير المؤمنين عليه السلام.

الفارق الأساس بين أمير المؤمنين عليه السلام في عهد حكومته، وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أيّام حياته وعهد حكومته هو أنّ الخنادق كانت في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مميّزة ومفصولة تماماً؛ خندق الإيمان، وخندق الكفر.

أمّا المنافقون فكثيراً ما كانت الآيات القرآنية تشير إليهم وتحذّر منهم، وتقوّي صفوف المؤمنين في مواجهتهم، وتضعّف من شوكتهم.

أي أنّ كلّ شيء كان في النظام الإسلاميّ في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واضحاً تمام الوضوح، وكانت الصفوف مفروزة بشكل صريح؛ فطائفة على الجاهليّة والكفر والطاغوت، وأخرى على الإيمان والإسلام والتوحيد.

ومن الطبيعيّ أنّ كلّ واحدة من هاتين الطائفتين كانت تضم صنوفاً شتّى من الناس، لكنّ الصفوف كانت مميّزة وواضحة كلّ الوضوح.

مواجهة الإمام عليّ عليه السلام للمشاكل بصبر وبصيرة

أمّا في عهد أمير المؤمنين عليه السلام فكانت المشكلة الكبيرة في تداخل

 الصفوف والخنادق؛ وهذا هو السبب الّذي جعل للفئة الثانية أي الناكثين وضعاً مقبولاً ومبرراً، وكان كلّ مسلم يتردّد كثيراً في محاربة شخصيّات من أمثال طلحة أو الزبير؛ فالزبير هو ابن عمّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكان من الشخصيّات البارزة والمقرّبة إليه، حتّى أنه بعد عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان ممّن اعترضوا على السقيفة دفاعاً عن أمير المؤمنين عليه السلام ، ولكن الأمور بخواتيمها. نسأل الله أن يجعل عاقبتنا إلى خير.

قد يؤثّر حبّ الدنيا ومظاهر الحياة في بعض الناس إلى درجة تجعل المرء يشكّ حتّى في الخواصّ، فما بالك بالعوامّ.

وعلى كلّ الأحوال، كانت الظروف آنذاك عصيبة حقاً، ولا بدّ أنّ الناس الّذين صمدوا مع أمير المؤمنين عليه السلام وحاربوا إلى جانبه كانوا على قدر كبير من البصيرة.

وقد استشهدتُ عدّة مرّات بقول أمير المؤمنين عليه السلام: “وَلاَ يَحْمِلُ هذَا الْعَلَمَ إِلاَّ أَهْلُ الْبَصَرِ والصَّبْرِ”4.

فلابدّ من توفّر البصيرة بالدرجة الأولى.

ويُستدلّ من هذه التداخلات على طبيعة المشاكل الّتي واجهت أمير المؤمنين عليه السلام ، وعلى الأساليب الملتوية الّتي اتّبعها الناس الّذين حاربوه.

في صدر الإسلام كانت هناك أفكار خاطئة كثيرة تطرح في الساحة، ولكن كانت تنزل آية قرآنية تفنّدها بصراحة؛ سواء وقتما كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

4- نهج البلاغة، الخطبة: 173.

 في مكّة أم في المدينة؛ فسورة البقرة على سبيل المثال وهي سورة مدنيّة، حاشدة بصور من التحدّيات والاشتباكات بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمنافقين واليهود؛ حتّى أنها تناولت التفاصيل الجزئيّة واستعرضت الأساليب الّتي كان يتّبعها يهود المدينة في إيذاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسيّاً، ومنها﴿لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا﴾5 وما شابه ذلك.

وجاءت أيضاً سورة الأعراف وهي سورة مكيّة زاخرة بمحاربة الخرافات وكُرّس فصل منها للحديث عن تحريم وتحليل أنواع اللحوم، في مقابل التحليل والتحريم الزائف الّذي اصطنعه الناس لأنفسهم يومذاك:﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾6 .

هذه هي المحرّمات الحقيقيّة, وليست تلك الّتي اصطنعتموها أنتم لأنفسكم من أمثال البَحيرة والسائبة وما شاكل ذلك.

وكان القرآن يحارب هذه الأفكار صراحة.

أما في عهد أمير المؤمنين عليه السلام ، فقد كان أعداؤه يستغلّون تلك الآيات القرآنيّة؛ وهذا ما صعّب كثيراً من مهمته عليه السلام.

لقد قضى أمير المؤمنين عليه السلام مدّة خلافته القصيرة في أمثال هذه المصاعب والمعضلات.

وفي مقابل هؤلاء كانت جبهة عليّ عليه السلام ، وهي جبهة قويّة حقّاً، وفيها

5- سورة البقرة، الآية: 104.

6- سورة الأعراف، الآية: 33.

رجال كعمّار ومالك الأشتر وعبد الله بن عبّاس ومحمّد بن أبي بكر وميثم التمّار وحجر بن عديّ، وكانوا رجالاً مؤمنين ذوي بصيرة ووعي، وكان لهم دور مؤثّر في توعية الناس الآخرين.

كان من جملة المواقف الجميلة في عهد أمير المؤمنين عليه السلام ويُعزى جمالها طبعاً إلى الجهود الطيّبة لهؤلاء العظماء، إلّا أنها في الوقت ذاته كانت مريرة بسبب ما لحقهم من جرّائها من عناء وعذاب هو مسيرهم نحو الكوفة والبصرة من بعد ما هبَّ طلحة والزبير وغيرهما واستولوا على البصرة وأرادوا المسير منها نحو الكوفة، حيث أرسل أمير المؤمنين عليه السلام الإمام الحسن عليه السلام وبعض هؤلاء الأصحاب، وكان لهم مع الناس في المسجد مداولات وأحاديث ومحاججات تعتبر من المواقف المثيرة وذات المغزى العميق في تاريخ الإسلام؛ ولهذا السبب يلاحظ أنّ الهجمات الأساس لأعداء أمير المؤمنين عليه السلام وجّهت صوب هذه الشخصيّات؛ ضدّ مالك الأشتر، وضدّ عمّار بن ياسر، وضدّ محمّد بن أبي بكر، وضدّ كلّ من وقفوا إلى جانب أمير المؤمنين عليه السلام منذ البداية وأثبتوا صلابة إيمانهم وسلامة بصيرتهم.

ولم يتورّع الأعداء عن كيل أنواع التهّم لهم والسعي لاغتيالهم؛ ولهذا قضى أكثرهم شهداء؛ فاستشهد عمّار في الحرب، واستشهد محمّد بن أبي بكر بتحايل أهل الشام، وكذا استشهد مالك الأشتر بحيلة من أهل الشام.

وبقي بعضهم الآخر إلى أن استشهدوا على نحو قاس وفجيع.

هذه هي الظروف الّتي عاشها أمير المؤمنين عليه السلام في حياته وفي عهد حكومته.

ولو أردنا الخروج بنتيجة ملخّصة عنها لقلنا: إنّها كانت حكومة قويّة, ولكنّها في الوقت ذاته مظلومة ومنتصرة.

بمعنى أنّه استطاع قهر أعدائه في أيّام حياته، واستطاع من بعد استشهاده مظلوماً أن يتحوّل إلى شعلة وهّاجة على مدى تاريخ الإنسانيّة.

ولا شكّ في أنّ المرارة الّتي ذاقها أمير المؤمنين عليه السلام خلال هذه الفترة تعتبر من أشدّ وأصعب المحن في التاريخ.

… رُوي عن الإمام الحسن عليه السلام أنّه قال بعد يوم واحد من جرح أبيه, أو بعد يوم من استشهاده أنّه كان يتحدّث مع أبيه بمناسبة ذكرى معركة بدر فقال له أبوه: “مَلَكَتْنِي عَيْنِي، فَسَنَحَ لي رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، مَاذَا لَقِيتَ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الاْوَدِ وَاللَّدَدِ؟ فَقَالَ: “ادْعُ عَلَيْهِمْ”، فَقُلْتُ: أَبْدَلَنِي الله بِهمْ خَيْراً لي مِنْهُمْ، وَأَبْدَلَهُمْ بِي شَرّاً لَهُمْ مِنِّي”7.

واستجاب الله دعاء أمير المؤمنين عليه السلام بعد يوم واحد, وضرب على رأسه صبيحة التاسع عشر من رمضان، ونُكبت الأمّة الإسلاميّة باستشهاده. وفَقَد الناس عليّاً عليه السلام, وذاقت الأمّة الإسلاميّة بعد فقده ما ذاقت.

7- نهج البلاغة، الخطبة: 69.

وتحمّلت الكوفة بلايا عظاماً، وتسلّط عليها الحجّاج، وتسلّط عليها يوسف بن عمر الثقفيّ، وتسلّط عليها، بدلاً من أمير المؤمنين عليه السلام ، الحكّام الأمويون واحداً تلو الآخر.

وكان الناس هم السبب في هذه المصائب الّتي حلّت بالكوفة8.

8- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 20/ رمضان/ 1419ﻫـ ق.

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...