لقاء الله المعنى العرفاني للقاء الله وكيفيته ؟
عن عبد الصمد بن بشير عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «قلت : أصلحك الله مَن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومَن أبغض لقاء الله أبغض الله لقاءه ؟ قال : نعم قلت : فوالله إنا لنكره الموت : فقال : ليس ذلك حيث تذهب ، إنما ذلك عند المعاينة إذا رأى ما يُحب فليس شيء أحب إليه من أن يَقدم على الله ، والله تعالى يُحب لقاءه وهو يُحب لقاء الله حينئذ ، وإذا رأى ما يَكره فليس شيء أبغض إليه من لقاء الله والله يُبغض لقاءه» ( فروع الكافي / المجلد الثالث )
بيان إجمالي للحديث
في الحديث الشريف سأل أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام عن موضوع متعلق ( بلقاء الله ) مستفسراَ عن صحة حديث كان قد سمعه وهو :
( مَن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومَن أبغض لقاء الله أبغض الله لقاءه ؟ )
فقال له نعم هو صحيح ..
وحيث أن الرجل كان يعتقد أن معنى لقاء الله هو الموت ، فسأل الإمام عليه السلام قائلا :
فوالله إنا لنكره الموت …
فقال له الإمام : ليس ذلك حيث تذهب ..!
أي ليس معنى ليس معنى الحب والكره للقاء الله هو عند الموت ، ولكن ذلك عند ( المعاينة ) فقط
ولكن مالمقصود بالمعاينة ؟
يقول الإمام الخميني :
( وعايَنتُ الشيء عيانا إذا رَأيته بِعَينك . ويسمى حين النزع والاحتضار بالمعاينة ، لأن الميّت يشاهد آثار عالم الآخرة بعينه ، حيث تنفتح عيونه الغيبية الملكوتية ، وتنكشف عليه نبذة من أحوال الملكوت ، ويعاين بعض آثار وأعمال وأحوال نفسه )
أقول :
أن المعني أنه عند الإحتضار وسكرات الموت تنفتح العوالم الغيبية أمام الميت ويعاين أثار أعماله وأحوال نفسه … فإذا كانت أعماله حسنة سعد وفرح بذلك وأحب سرعة لقاء الله والإنتقال لعالم البرزخ حيث تتفتح عيونه الملكوتيه :
( فكشفنا عنك غطاؤك فبصرك اليوم حديد )
والعكس إذا رأي أثار أعماله سيئة ورأى صورتها البرزخية المرعبة كره لقاء الله وكره الإنتقال إلى البرزخ ..
ولكن هل هذا هو المعني الوحيد للقاء الله ؟ أي عند المعاينة لأحوال البرزخ والأخرة عند نزع الروح …؟
يعتبر الإمام الخميني أن هذا التصور للقاء الله على أنه يقتصر على المعاينة عند الموت فقط هو تصورضعيف وبعيد جداَ ولكن يوجد بُعد أخر للقاء الله وهو ( المشاهدات العينية والتجليات الإلهية ) للسالك في الطريق إلى الله ..
أي أن لقاء الله يشمل نوعين :
الأول هو عند المعاينة لأحوال البزخ والأخرة عند نزع الروح وهذا يكون عند أطلاق لفظ لقاء الله .
والثاني هو عند المشاهدات العيتية والتجليات الذاتية والأسمائية للولي أو عند السالك أو المسافر إلى الله
يقول الإمام الخميني :
اعلم بأنه قد ذهب بعض العلماء والمفسرين إلى سد باب السبيل إلى (لقاء الله) نهائيا ، والجحود للمشاهدات العينية والتجليات الذاتية والأسمائية ، زاعمين بذلك أنهم ينزهون الذات المقدس ، ومفسرين جميع آيات لقاء الله وأحاديثها ، بلقاء يوم الآخرة ، ولقاء الجزاء والثواب والعقاب .
وهذا التوجيه ليس ببعيد كثيرا ، بالنسبة إلى مطلق اللقاء وإتجاه بعض الآيات والروايات ، ولكنه بالنسبة إلى بعض الأدعية المعتبرة والأحاديث المأثورة في الكتب المعتبرة ، والأحاديث المشهورة التي ارتكز عليها علماؤنا العظام ، موهون وبعيد جدا)
المعنى العرفاني للقاء الله وكيفيته
يذكر الإمام الخميني في البداية عدة ملاحظة هامة :
وهي أن لقاء الله لا يعني التعرف على حقيقة ذاته المقدسة
ولا يعني إمكانية الإحاطة به في العلم الحضورى والمشاهدات العينية الروحانية
وأمتناع ذلك أيضاَ عن طريق الفلسفة في العلم الكلي .
وأمتناع ذلك أيضاَ بالإحاطة بالذات المقدسة بالبصيرة عن طريق العرفان
إذن بعد هذه الإمتناعات :
فما المقصود بلقاء الله وكيفيته ؟
يقول الإمام الخميني :
( المقصود لدى من يدعي مقام لقاء الله هو :
أنه بعد حصول التقوى التامة والكاملة ،
وانصراف القلب نهائيا عن جميع العوالم ،
ورفض التوجه نحو النشأتين ـ المُلك والملكوت ـ
ووطأ الأنانية والإنّية ،
والإقبال الكلي نحو الحق المتعالي وأسماء ذاته المقدس وصفاته ،
والانصهار في عشق ذاته المقدس وحبّه ،
وتحمّل جهد وترويض القلب ،
يحصل صفاء في القلب لدى السالك يبعث على :
تجلّي أسماءه وصفاته ،
وتمزّق الحجب الغليظة التي أسدلت بين العبد من جهة والأسماء والصفات من جهة أخرى ،
والفناء في الأسماء والصفات ،
والتعلق بعزّ قدسه وجلاله والتدلّي التام بذاته .
وفي هذا الحال لا يوجد حاجز بين روح السالك المقدسة والحق المتعالي سوى حجاب الأسماء والصفات .
ثم يستطرد الإمام قائلا :
( ويمكن أن يرفع الستار النوري للأسماء والصفات لبعض أرباب السلوك أيضا ، وينال التجليات الذاتية الغيبية ، ويرى نفسه متدليا ومتعلقا بالذات المقدس ، ويشهد الإحاطة القيومية للحق والفناء الذاتي لنفسه ، ويرى بالعيان أن وجوده ووجود كافة الكائنات ، ظلا للحق المتعالي . )
بعض النصوص والروايات :
«إن روح المؤمن لأشد اتصالا بروح الله من اتصال شعاع الشمس بها» ( أصول الكافي ج2 )
وفي المناجاة الشعبانية المقبولة لدى العلماء ، والتي يدل مضمونها على أن هذه المناجاة من الأئمة المعصومين عليهم السلام :
«إلهي هب لي كمال الإنقطاع إليك ، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعز قدسك . إلهي واجعلني ممن ناديته فأجابك ولاحظته فصعق لجلالك فناجيته سرا وعمِل لك جهرا» .
وفي الكتاب الإلهي الشريف ، لدى حكاية معراج الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم « ثم دنى فتدلّى * فكان قاب قوسين أو أدنى»
ولا تتنافى هذه المشاهدة الحضورية الفنائية ، مع البرهان على عدم الاكتناه والإحاطة للذات المقدسة ، ومع الأخبار والآيات التي تدل على تنزيه الحق جلا وعلا من كل عيب ونقص وحدّ . بل يكون مؤكدا ومؤيدا لها .
ثم يرد الإمام الخميني على العلماء الذين يؤلون هذه النصوص فيقول :
( فانظر الآن ما جدوى هذه التوجيهات والتأويلات البعيدة ؟ هل نستطيع أن نوجه كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الذي يقول «فهبني صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك» (3)
هل أن تحرّق وتألّم أولياء الله ، من فراق حور العين وقصور الجنة ؟
( وهل يمكن تفسير هذه الجملة (ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنّتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك عبادة الأحرار) على أن هذا الأنين من جرّاء الفراق عن الجنة وأطعمتها ؟ هيهات أن يكون ذلك ، إنه لكلام غير موزون ، وتوجيه غير مقبول .
هل يمكن القول أن تجلّي جمال الحق سبحانه ليلة المعراج ، والمجلس الذي أقيم في تلك الليلة من دون أن يحضرها أحد من الكائنات أو لم يطلع على أسراره أحد ، حتى أمين الوحي جبرائيل ، بأنه مشاهدة للجنة وقصورها المشيّدة ، وأن أنوار العظمة والجلال هي رؤيته لنعم الحق ؟
هل أن التجليات التي حصلت للأنبياء عليهم السلام ، والتي ورد ذكرها في الأدعية المعتبرة هي من قبيل النعم والمأكول والمشروب أو البساتين والقصور ؟
ومن المؤسف أننا نحن المساكين ، المسجونين في الحجب المظلمة ، والمصفدون بسلاسل الآمال والأمنيات ، لا نفهم إلا المطعومات والمشروبات والمنكوحات وأمثالها ، وإذا أراد فيلسوف أو عارف أن يرفع هذه الحجب ، اعتبرنا سعيه هذا غلطا وخطأ ، وما دمنا مسجونين في البئر المظلم ، عالم المُلك لم نستوعب شيئا من أصحاب المعارف والمشاهدات .
ثم ينبهنا الإمام الخميني إلى ملاحظة هامة قد تقف في الطريق أمام الراغبين في المعرفة ، وهي إستحالة الوصول إلى هذه المقامات …
فيقول الإمام رضوان الله عليه :
ولكن عزيزي : لا تقارن نفسك مع الأولياء ، ولا تظن بأن قلبك يضاهي قلوب الأنبياء وأهل المعارف . إن قلوبنا ذات غبار التعلق بالدنيا ، وملذاتها وإن انغماسنا في الشهوات يمنع قلوبنا من أن تكون مرآة لتجلي الحق سبحانه ، ومحلا لظهور المحبوب . ومن المعلوم أننا لا نعي شيئا من تجليات الحق وجماله وجلاله عندما نشعر بالأناينة والذاتية والمحورية بل يجب أن نكذب في هذا الحال أحاديث الأولياء وأهل المعرفة ، فإن لم نكذّبها بألسنتنا في الظاهر ، كذّبناها في قلوبنا . وإن لم نجد سبيلا للتكذيب ، بأن كانت أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الأئمة المعصومين عليهم السلام ، لفتحنا باب التأويل والتفسير ، وفي النهاية نسد باب معرفة الله .
بعض التأويلات الضعيفة لهذه النصوص
يقول الإمام الخميني معددا بعض التأويلات الضعيفة التي يراد منها إبطال هذه المعاني العرفانية للقاء الله ..
فيقول :
( فنفسر قوله «ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله معه وقبله وفيه» على رؤية الآثار .
وقوله «لم أعبد ربا لم أره» بالعلم بالمفاهيم الكلية التي تضارع علومنا ،
وقوله في آياته الكريمة التي تتحدث عن لقاء الله ، بلقاء يوم الجزاء .
وقوله «لي مع الله حالة» بحالة الرقّة في القلب .
وقوله «وارزقني النظر إلى وجهك الكريم»
وتأوّه الأولياء وتحرّقهم في معاناة الفراق ، بالبعد عن حور العين ، وطيور الجنة .
وهذه التفاسير لا تكون إلا نتيجة أننا لا نكون رجال تلك الساحات ، ولا نفهم إلا المتع الحيوانية والجسمانية دون غيرها ، ولهذا ننكر جميع المعارف . والأنكى من كل ذلك ، هذا الإنكار الذي يفضي إلى غلق باب كل المعارف ، ويحجزنا عن السعي والطلب ، ويجعلنا نقتنع بمستوى الحيوانية والبهيمية ، ويحرمنا من عوالم الغيب والأنوار الإلهية
. أصبحنا نحن المساكين المحرومين نهائيا من المشاهدات والتجليات في منأى حتى عن الإيمان بهذه المعاني التي هي درجة من الكمال النفسي والتي يمكن أن تسوقنا إلى مرحلة متقدمة . نهرب من العلم الذي قد يكون منطلقا وبذرة للمشاهدات ، ونغلق عيوننا وأسماعنا نهائيا ونضع القطن في آذاننا حتى لا يتطرق كلام الحق إليها . وإذا سمعنا حقيقة من لسان عارف هائم أو سالك حزين أو فيلسوف متأله ، نتصدى فورا نتيجة عدم طاقة آذاننا على استماع تلك الحقيقة ، ونتيجة أن حب النفس يمنعنا من جعل هذه الحقائق اسمى من قدرة استيعابنا لها ونتصدى فورا للطعن فيه ولعنه وتكفيره وتفسيقه ، ولا نأبى من أي غيبة أو تهمة .
( للمقال بقية لو وفقنا الله بمنه ولطفه لذلك )