الرئيسية / بحوث اسلامية / الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

الصفحة (66)

كان (عليه السّلام) لو شاء لأصبح ـ بانحناءة رأس بسيطة ـ أميراً مطلقاً على ولاية ما ، أو يقنع بزعامة شيعة أبيه (عليه السّلام) ، بينما تنتهك حرمات الدِّين على يد أمير مؤمنين مزيّف .

لكنّه لم يؤثر السلامة ، ولم يرنُ إلى تطلّعات أرضيّة ، فقد كان هدفه أعظم ، ورسالته أعمق غوراً وأبعد فهماً لعقليّة الإنسان آنذاك .

كان يريد أن يقول : ما دامت السنّة قد نزلت ، وما دام الإسلام وليداً يحبو ، فما على المسلم إلاّ أن يكون حفيظ سنّته ، وراعي عقيدته ، لا من أجله فحسب ، بل من أجل كلّ مَن سيولد في الأحقاب التالية على هذه السنّة .

فجاءت صيحته نبراساً لبني الإنسان في كلّ عصر ومصر ، وتحت أيّة عقيدة انضوى ، إذ إنّ أهداف الأديان هي المحبّة والتمسّك بالفضائل ، لتنظيم علاقة الفرد بربّه أوّلاً ، وبأخيه ثانياً .

فلعمري أيّة ثورة تقوم على الحق القراح الخالي من أغراض الهوى ، ولا تجد لها سبيلاً إلى المهج والحنايا ! ألم تكن دعوة الحسين (عليه السّلام) دعوة للتفريق بين الحقّ والباطل ؟ أمَا قيل اعجاباً بهذه الثورة : إنّ الإسلام بدؤه محمّدي وبقاؤه حسيني ؟

ولنطرح جانباً آراء اُولئك الذين رأوا في حركة الحسين (عليه السّلام) حركة عاطفيّة بحتة ، ألقى فيها الشهيد المقدّس بنفسه وآل بيته وصحبه الأطهار في معركة كانت معروفة النتائج سلفاً ، والتي تمثّلت بوقوف ثلاثة وسبعين مقاتلاً في مواجهة خمسين ألف مقاتل .. فتلك الآراء إنّما تمثّل الجانب الفكري ناقص النضج ، والذي وضع حركة الحسين (عليه السّلام) في إطار الثورة للثورة ولا شيء عداها . ولم ينظر إليها ما هي وكما هدفت إليه كمنعطف خطير لمسيرة العقيدة الإسلاميّة ، والتي لولاها لَما كان وجد المؤرّخون شيئاً يتحدّثون به عن الإسلام .

الصفحة (67)

ولعلّ خير مَن وصف هذه الثورة كان ماربين الألماني في كتابه ( السياسة الإسلاميّة ) إذ قال : إنّ حركة الحسين في خروجه على يزيد إنّما كانت عزمة قلب كبير عزّ عليه الإذعان وعزّ عليه النصر العاجل ، فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته ، ويحيي به قضيّةً مخذولةً ليس لها بغير ذلك حياة(1) .

من هذا الفهم يتّضح أنّ قضيّة السنّة الإسلاميّة كانت قضيّة مخذولة عندما قام الحسين (عليه السّلام) بثورته ، وما كان له محيص من السير بها بالشكل الذي بدت به ، غير ضانٍّ بنفسه وبأنفس أهل بيته وصحبه الأطهار ؛ لعلمه الأكيد بأنّ ثورته وإن كانت ضعيفة بتركيبتها الماديّة ، إلاّ أنّ لها صلابة الصّخر والمبدأ بتركيبتها الروحيّة والرمزيّة ، وأنّه بالِغ بها النصر والاستمرار للعقيدة ، ما لم يكن ليبلغه بإيثار السلامة من مذبحة كربلاء .

والحسين (عليه السّلام) عندما ثار لم يثَر لأجل نوال كرسي الحكم إذ لم تكن منطلقاته من قاعدة فرديّة أو زمنيّة ، بل كانت أهدافها تتعدّاه إلى الأعقاب والأجيال القادمة ، التي ستعرف كيف كان شكل الفداء دفاعاً عن عقيدة سُلِّمت لها متلألئة . إنّها عقيدة الشهداء البررة التي لا تنخدع بسراب المطامع الدنيويّة ، ولا ترضى بمبدأ المساومة في ميدان العقيدة .

ورفض الخداع والمساومة مقرون دوماً بالاستعداد لبذل الحياة وإطفاء شعلة النفس إذا كان في إطفائها ما ينير شمعة تهدي السائرين على طريق الحقّ والعدل .

وهذا المبدأ المنبثق عن هكذا عقيدة من الصعب إدراك معانيه في أوانه ، سيّما إذا

ــــــــــــــ
(1) السياسة الإسلاميّة ـ ماربين / 213 .

الصفحة (68)

كانت الموازين آنذاك هي الموازين التي نَصّبها حكّام ظالمون لاُمّة تدجّنت روحها ، وذبلت عقيدتها ، فما عادت تفرّق بين الخطأ والصواب .

وعلى هذا المقياس الذي لا يرفعه إلاّ الصّفوة المختارة من الصالحين أصاب الحسين (عليه السّلام) بثورته في المدى البعيد ، وأخفق في المدى القريب ، طلب إحقاق الحقّ في وقته ، فلم يصل إليه ، لكن اُمّة الإسلام أدركته بمماته ، ولم يقف الأمر عندها على مستوى إدراكه فحسب ، بل صار جزءاً من وجدانها العقائدي ، وضميراً يستصرخها ويستحثّها في كلّ مواقف الضعف ، وحيال مختلف أشكال التدجين والظلم والانحراف عن السّنة .

الصفحة (69)

فداء الحسين (عليه السّلام) في الفكر المسيحيّ

الملحمة التي تمّت فصولها فوق أرض كربلاء ، هل هي ملحمة تخصّ فئةً بشريةً ما ، أو فئات تعتقد أنّها قامت لأجلها فحسب ؟ وهل تعتبر النتائج التي تمخّضت عنها ذات خصوصيّة لهذه الفئة أو تلك ، وأنّه لا يمكن لفئات أخرى من استلهام ما قدّمته هذه الثورة وتطبيق أخلاقيّاتها على ممارسات ومواقف أي فرد إنساني ضمن إطار عقيدته وإزاء ممارسات ومواقف حكّامه ومحكوميه ؟ وبمعنى أدق هل نرضى بحصر استشهاد الحسين (عليه السّلام) بأرض كربلاء إذا ما رغبنا بوضعها في مكانها حيث جرت أحداثها وكذلك نخصّ بها اُمّة الإسلام على اعتبار أنّها قامت من أجل حماية عقيدة الإسلام ، ونتحدّث عنها في صيغة الماضي في الفترة الزمنيّة التي تفجّرت بها ؟

تلك التساؤلات تستلزم تحديد ماهيّة ثورة الحسين (عليه السّلام) ، هل هي ثورة أرض ؟

الصفحة (70)

أم هي انتفاضة على الحكم ؟ أم حركة تقويميّة دينيّة ؟ أم خطأ في الحركة والتوقيت ؟ أم قضيّة خذلان بعد وثوق ؟

فلو نظرنا إلى الملحمة على أنّها ثورة تمّت فوق أرض معيّنة هي أرض كربلاء ، لجاءنا جواب: على أنّ أيّة بقعة فوق الكرة الأرضيّة من الممكن أن تكون كربلاء ثانية ما دامت واقعة بين مكانين ، أحدهما يرتع به الباطل ، والآخر ينطلق منه الحق .

وإذا اعتبرت انتفاضة على الحكم ، لجاءنا جواب: بأنّها لا تزال مستمرّة حتّى وقتنا هذا في أيّ بلاد فسد بها الحكم .

أمّا القول : بأنّها حركة تقويميّة دينيّة ، فإنّها تكون حركة حارّة لم تبرد إلى عصرنا هذا ، طالما استغلّ الدين لتحقيق أغراض بعيدة عن جوهره .

وأمام الرأي القائل بأنّها خطأ في الحركة والتوقيت ، فإنّ هذا الخطأ يحمل في ثناياه الصواب أكثر ممّا يحمل الصواب من صوابية . أمّا كونها قضيّة خذلان بعد وثوق ، فإنّها وإن تك كذلك ، فإنّها كانت لحكمة ربّانية من الكفر إثارة التساؤل حولها .

إذاً فإنّ الثورة بماهيّتها هذه ذات استمراريّة خالدة ، فكلّ مكان يقف عليه ثائر هنا وهناك هو كربلاء ، وكلّ طعنة سيف في عاشوراء هي طعنة لمفاسد الحكم في أيّ وقت ، وكلّ نقطة دم أريقت فداءً للحق استمرّت تعلن فداءها في رغبة الإنسان العامرة في الاستشهاد في سبيل مبادئه .

الصفحة (71)

هي ثورة بدأت ساخنة واستمرّت محافظة على سخونتها طالما ثمّة ظلم فوق هذا الكوكب ، ولطالما ثمّة فساد في الحكم ، ولطالما ثمّة عبث في العقائد . وهي ثورة لن تبرد أبداً ، بل هي في غليان دائب سيّما في هذا العصر ، عصر الضنك والظلم والاضطهاد والترويع لشعوب كثيرة . حيث انتهكت الحريات ، وبان جليّاً العبث في العقائد والأديان ، بل واستغلال هذه الأديان في تثبيت المفاسد والانتهاكات البشريّة .

فالحسين (عليه السّلام) ثار من أجل الحقّ ، والحق لكلّ الشعوب .

والحسين (عليه السّلام) ثار من أجل مرضاة الله ، وما دام الله خالق الجميع ، فكذلك ثورة الحسين لا تختصّ بأحدٍ معيّن ، بل هي لكلّ خلق الله .

وفي قولة النبي الكريم : (( إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً )) . دلالة على شموليّة ثورة الحسين (عليه السّلام) ، فمقولة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم تقتصر على ( المسلمين ) ، وإلاّ للفظها لسانه الكريم بهذا المعنى … لكنه (صلّى الله عليه وآله) شمل كلّ المؤمنين قاطبةً تحت أية عقيدة انضووا ، وفوق أية بقعة فوق الأرض وجِدوا ، وخصّهم بنصيب من هذه الحرارة السّنية التي لا تبرد في قلوبهم لقتل الحسين .

المظلومون والمضطهدون والمقهورون والمروّعون من كلّ المذاهب والبقاع يتّجهون في كلّ رغباتهم إلى جوهر ثورة الحسين (عليه السّلام) ، ففي اتجاههم الفطري ورود إلى منبع الكرامة والإنصاف والعدل والأمان .

وما دامت قد تحدّدت ماهيّة ثورة الحسين (عليه السّلام) بهذه الأطر ، أفلا يجدر اعتبار الحسين شهيداً للإسلام والمسيحيّة واليهوديّة ولكلّ الأديان والعقائد الإنسانيّة الاُخرى ؟

الصفحة (72)

فإذا كان من البديهي الإجابة بـ( نعم ) فما هي إذاً رؤية الفكر المسيحي المتفرّع من شجرة الفكر الإنساني لملحمة استشهاد وفداء الحسين (عليه السّلام) , هذا الفكر الذي يرى في ركني الاستشهاد والفداء الأعمدة التي تقوم عليها معتقداته المؤطّرة بشمولية إنسانيّة ؟

فعيسى بن مريم (عليه السّلام) ما جاء إلى الناس إلاّ فادياً ومستشهداً من أجل بشارة الحقّ(1) . وثمّة تقارب كبير بين حركتي الفداء والاستشهاد الّلتين أقدم عليهما عيسى والحسين (عليهما السّلام) ، مع الإقرار بالفوارق البيّنة في أسبابهما وكيفيّتهما ، لا في جوهرهما وأهدافهما .

فأوجه الشبه بين عيسى والحسين (عليهما السّلام) تتجلّى في مولدهما وسيرة حياتهما ، فقيل : لَم يولد مولود لستّة أشهر وعاش إلاّ الحسين وعيسى بن مريم .

واعتلّت فاطمة (عليها السّلام) لمّا ولدت الحسين (عليه السّلام) وجفّ لبنها ، فطلب رسول الله مرضعة فلم يجد ، فكان يأتيه فيلقمه إبهامه فيمصّه ، ويجعل الله في إبهام رسوله غذاء الطفل الوليد ، ففعل ذلك أربعين يوماً بلياليها ، فأنبت الله سبحانه وتعالى لحمه من لحم رسول الله(2) ، وهذا ما يفسّر قول الرسول الكريم : (( حسين منّي وأنا من حسين )) . وهكذا كان الحسين الرضيع غذيّ النبوّة ، وعيسى مولود النفحة السماويّة بمريم (عليها السّلام) ، غذيّ القوّة الإلهيّة .

قسيس مسيحي قال : لو كان الحسين لنا لرفعنا له في كلّ بلد بيرقاً ، ولنصبنا له في كلّ قرية منبراً ، ولدعونا الناس إلى المسيحيّة باسم الحسين .

ـــــــــــــــ
(1) يوحنا 14 / 6 .

(2) أبو الشهداء ـ العقّاد / 54 .

الصفحة (73)

مثل هذا الكلام لا يصدر على عواهنه ، بل يقصد به أنّ الفداء والاستشهاد اللذَين يشكّلان ركن الدين المسيحي الأساسي قد جسّدهما الحسين (عليه السّلام) خير تجسيد في استشهاده ، هذا الاستشهاد الذي لا يقدم عليه إلاّ المبشّرون بالأديان السماويّة ، أو المتصدّون لانحرافها ، وكان الحسين (عليه السّلام) واحداً منهم .

ولنعد إلى نقاط التشابه والاختلاف بين الشهيدَين العظيمَين للإسلام والمسيحيّة ، فنجد أنّهما ـ حتّى في اختلافهما في بعض نقاط ـ ثمّة تشابه غير مباشر يقرّبهما من بعضهما ، فعيسى (عليه السّلام) اُوتي قدرة مخاطبة الناس وهو في المهد صبيّا ، والحسين (عليه السّلام) اُوتي ملكة الخطابة من طلاقة لسان ، وحسن بيان ، وغنّة صوت ، ورشاقة إيماء .

وعيسى اضطهد واُهين وضفر جبينه بالشوك ، وحوكم وقُتل ، وطُعن وبصق عليه ، وجرّد من ثيابه . والحسين شرّد وحوصر ، واُعطش واُهين ، وقُتل وسبيت عياله ، وجرّد من ثيابه وسلبت حلله .

عيسى (عليه السّلام) قال : (( روح الربّ نازل عليَّ ؛ لأنّه مسحني وأرسلني لاُبشّر الفقراء ، واُبلّغ المأسورين إطلاق سبيلهم ، واُفرّج عن المظلومين ، وأعلن سنّة مرضيّة لدى الربّ ))(1) . والحسين (عليه السّلام) قال :

ـــــــــــــ
(1) لوقا 4 / 18 ـ 19 و أشعيا 61 / 1 ـ 2 و متّي 3 / 16 .

الصفحة (74)

(( وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ، ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي ، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي أبي طالب )) .

عيسى قال لتلاميذه : (( فإذا اضطهدوني يضطهدونكم أيضاً ، سينزلون بكم ذلك كلّه من أجل اسمي ، لو لم آتِ واُكلّمهم لما كتبت عليهم خطيئة ))(1) . والحسين قال لصحبه قبل بدء المعركة عشيّة التاسع من محرّم : (( إنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ وأوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي جميعاً . ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء غداً ، وإنّي قد رأيت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً خيراً ، وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم ؛ فإنّ القوم إنّما يطلبوني ، ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري ))(2) .

عيسى (عليه السّلام) أنكره أقرب تلامذته ( بطرس ) ، والحسين (عليه السّلام) خذله أنصاره الذين استدعوه من المدينة .

ـــــــــــــــ
(1) يوحنا 15 / 21 ـ 22 .

(2) الطبري 6 / 238 ـ 239 ، والكامل لابن الأثير 4 / 34 .

شاهد أيضاً

قيادي في الحرس الثوري: إعادة النظر في الاعتبارات النووية في حال وجود تهديدات اسرائيلية

قال قائد قوات حماية المراكز النووية التابعة للحرس الثوري العميد احمد حق طلب: إذا كانت ...