الرئيسية / بحوث اسلامية / الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

الصفحة (255)

وأخوه وولده ومولاه وبعض جنده ، كما أضيف إليهم بعض من عسكر ابن سعد المتسلّلين إلى معسكر الحسين .

ولمّا وثق الحسين من صدق نيّتهم أراد أن ينبّههم إلى ما ينتظرهم في الغد فقال لهم : (( إنّي غداً اُقتل وكلّكم تُقتلون معي ولا يبقى منكم أحد ، حتّى القاسم وعبد الله الرضيع ، إلاّ ولدي علياً زين العابدين ؛ لأنّ الله لم يقطع نسلي منه وهو أبو أئمّة ثمانية )) .

فرفع الجميع أصواتهم مجدّداً شاكرين الله الذي كرّمهم بنصرته وشرّفهم بالقتال معه .

وفي تلك الليلة سمع علي بن الحسين أباه يقول وهو يصلح سيفه :

يا دهرُ أفٍّ لك من iiخليلِ      كم لك بالإشراقِ والأصيلِ
من صاحبٍ وطالبٍ iiقتيلِ      والـدهرُ لا يقنع iiبالبديلِ
وإنـّما الأمرُ إلى iiالجليلِ      وكـلُّ حـيٍّ سالكٌ iiسبيلِ

وقد أخبر عمّته زينب بما سمعه ، فجاءت إلى أخيها تصيح : وا ثكلاه ! ليت الموت أعدمني الحياة(1) .

ــــــــــــــ
(1) مقاتل الطالبيّين ـ لأبي الفرج / 45 ، وكامل ابن الأثير 4 / 24 ، ومقتل الخوارزمي 1 / 238 .

الصفحة (256)

وبكت النسوة معها ، فقال لهنّ الحسين : (( يا اُختاه ، يا اُمّ كلثوم ، يا فاطمة ، يا رباب ، انظرنَ إذا قُتلت فلا تشقن عليَّ جيباً ، ولا تخمشن وجهاً ، ولا تقلن هجراً ))(1) . ثمّ أوصى (عليه السّلام) اُخته زينب بأخذ الأحكام من ابنه علياً وإلقائها إلى الشيعة ستراً عليه .

وفي السحر من تلك الليلة خفق الحسين ثمّ استيقظ ، وأخبر أصحابه بأنّه رأى في منامه كلاباً شدّت عليه تنهشه ، وأشدّها عليه كلب أبقع ، وأنّ الذي يتولّى قتله من هؤلاء رجل أبرص .

وقد صدق حدسه (عليه السّلام) إذ ما أن رأى شمراً الأبرص حتّى قال : (( هو الذي يتولّى قتلي )) .

وصف ابن رستة في الأعلاق النفيسة شمراً بقوله : كان الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين أبرص . وفي كامل ابن الأثير ذكر : إنّ الشمر أبرص يرى بياض برصه على كشحه . وفي عجالة المبتدي في النسب للحافظ الهمداني ذكر : أنّ شمراً اسمه ( شور بن ذي الجوشن ) ، ولأبيه صحبة ورواية روى عنه ابنه شور .

وكان الحسين (عليه السّلام) يحدّث أصحابه في كربلاء بما قاله جدّه (صلّى الله عليه وآله) فكان يقول : (( كأنّي أنظر إلى كلب أبقع يلغ في دماء أهل بيتي )) .

ــــــــــــــ
(1) الإرشاد .

      الصفحة (257)

مقتلُ الحسين (عليه السّلام)

قام الشهيد الحسين (عليه السّلام) في صبيحة اليوم العاشر فصلّى بأصحابه صلاة الصبح ، ثم قام بهم خطيباً ، فقال : (( إن الله تعالى أذن في قتلكم وقتلي في هذا اليوم ، فعليكم بالصبر والقتال ))(1) .

وأحاطته جيوش عمر بن سعد ، فلما رأى (عليه السّلام) كثرتهم رفع يديه إلى السماء ، وقال : (( اللَّهمَّ أنت ثقتي في كلّ كرب ، ورجائي في كلّ شدة ، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدة ))(2) .

ثم ارتحل راحلته وخطب في الجيش خطبته الاُولى ، فلم يُسمع متكلمٌ قبله ولا بعده أبلغ منه في منطقه ، حذَّرهم فيها من أنّهم زحفوا إلى ذرّيّة الرسول وعِترته يريدون قتلهم .

ــــــــــــــــــ

(1) ابن قولويه ، والمسعودي ، وإثبات الوصية / 139 .

(2) كامل ابن الأثير 4 / 25 ، وتاريخ ابن عساكر 4 / 233 .

الصفحة (258)

ثم طلب منهم أن ينسبوه مَن هو . . . ويرجعوا إلى أنفسهم يعاتبونها وينظرون هل يحلّ لهم قتله وانتهاك حرمته ؟! وذكَّر بعضهم بالكتب التي أرسلوها إليه يخبرونه بها بأن الثمار أينعت ، والجند مجندة .

ولما أنكروا طلب منهم أن يَدعوه ينصرف عنهم إلى مأمن في الأرض ، فقالوا له : أَوَلاَ تنزل على حكم بني عمك ؟ فردّ الحسين (عليه السّلام) : (( والله ، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفر فرار العبيد ))(1) .

ثم دارت مساجلات كلاميّة بين أصحاب الحسين (عليه السّلام) وجند ابن سعد ، أنهاها أبو عبد الله بنشر مصحف فوق رأسه ، وإلقاء خطبته الثانية(2) التي أوضح لهم فيها كيف خذلوه بعد أن استصرخوه ، وكيف يؤثر مصارع الكرام على طاعة اللئام .

وأنشد شعراً(3) حذَّرهم بعده من مغبَّة آخرتهم ، ثم رفع يديه نحو السماء ودعا الله أن يحبس عنهم قطر السماء ، وينتقم منهم قتلة بقتلة ، وضربة بضربة ، ويبعث عليهم سنين كسني يوسف ، ويُسلِّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبَّرة .

وتحدث (عليه السّلام) مع ابن سعد كلاماً مؤنباً ، ولمّا سمع الحرُّ كلامه ضرب جواده ،

ـــــــــــــــــــ

(1) راجع ابن نما في مثير الأحزان / 26 .

(2) تذكرة الخواصّ / 143 .

(3) أبيات فروة بن مسيك المرادي :

فإنْ نهزم فهزّامون قدماً = وإن نُهزمْ فغيرُ مُهزّمينا

الصفحة (259)

وانضم إليه تائباً ، ثم ما لبث أن استأذن الحسين (عليه السّلام) بإسداء نصيحة لأهل الكوفة ، فأذن له .

ومع السهام الاُولى التي بدأت تتساقط هتف الحسين (عليه السّلام) : (( قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه ؛ فإن هذه السهام رسل القوم إليكم ))(1) .

وبدأت المعارك تتوالى . . . سهام متراشقة ، ومبارزات بين اثنين وأربعة ، ولمّا رأى الحسين (عليه السّلام) كثرة القتلى من أصحابه ، صاح وهو يقبض على شيبته المقدّسة صيحته الداوية في عمر الدهور : (( أما مِن مغيث يُغيثنا ؟ أما من ناصر يعيننا ؟ أما من طالب حقّ ينصرنا ؟ ))(2) . وسمع الأنصاريان سعد بن الحارث وأخوه أبو الحتوف استغاثة الحسين (عليه السّلام) ، فمالا بسيفهما على أعدائه يعملان بهم القتل حتّى قُتلا .

ولما استشهد الحرُّ الرياحي قام الحسين (عليه السّلام) إلى الصلاة ، ولما فرغ قال لأصحابه : (( يا كرام ، هذه الجنّة قد فتحت أبوابها ، واتّصلت أنهارها ، وأينعت ثمارها ، وهذا رسول الله والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله(3) يتوقَّعون قدومكم ؛ فحاموا عن دين الله ودين نبيّه ، وذُبُّوا عن حرم رسول الله )) .

واشتد القتال ثانية ، وتساقط أصحاب الحسين (عليه السّلام) أمام عينيه

ـــــــــــــــــــــ

(1) اللهوف / 56 .

(2) المصدر نفسه / 57 .

(3) ( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ) . سورة النساء / 76 .

الصفحة (260)

الحزينتين ، وكان (عليه السّلام) ينحني فوقهم ويقبِّلهم ويبكي لهم ، ويأذن للأحياء منهم بالقتال . وكانت الأهوال التي تعرض أمام عينيه من الفضاعة بحيث لا يقوى على معاينتها إلاّ عظام الرجال ، وقد كُتب على سيد الشهداء أن يظل واقفاً حتّى آخر رجل ؛ يرى بعينيه ، ويعيش بوجدانه وقلبه هذه المآسي المهولة التي أنزلتها السماء في هذا اليوم العاشر من محرم .

أهلُ البيت (عليهم السّلام) في الميدان

ولمّا لم يبقَ من أصحابه أحد بقتل سويد بن عمرو ، عزم أهل بيت الحسين النزول إلى ميدان الشهادة ، وكان أوّلهم علي الأكبر . ولمّا رآه والده في فكِّ الحتوف رفع رأسه إلى السماء وقال : (( اللَّهمَّ اشهد على هؤلاء ، فقد برز إليهم أشبه الناس برسولك محمّد خَلقاً وخُلُقاً ومنطقاً ))(1) .

ولما قطّعته السيوف انحنى الحسين (عليه السّلام) فوقه ، واضعاً خدّه على خده وهو يقول : (( على الدنيا بعدك العفا ، ما أجرأهم على الرحم وعلى انتهاك حرمة الرسول ! ))(2) .

وتوالى بعد علي الأكبر ضراغمة أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ فقُتل عبد الله بن مسلم بطعنة في قلبه ، فحمل آل أبي طالب حملة واحدة على أعدائهم .

ــــــــــــــــــــــ

(1) مثير الأحزان لابن نما ، واللهوف ، ومقتل الحسين (عليه السّلام) للخوارزمي .

(2) اللهوف / 64 ، تاريخ الطبري 6 / 265 .

الصفحة (261)

ولما سقط العباس (عليه السّلام) عاد الحسين (عليه السّلام) إلى المخيم كسيراً يكفكف دموعه ، فنادى : (( أما من مغيثٍ يُغيثنا ؟ أما من مجيرٍ يُجيرنا ؟ أما من ذابٍّ عن حرم رسول الله ؟ ))(1) .

ولما استفسرت الحرائر عن القتيل ، صاحت زينب (عليه السّلام) : وا خاه ! وا عباساه ! وا ضعيتنا بعدك !

سيد الشهداء (عليه السّلام) في الميدان

بموت العباس (عليه السّلام) ظل الحسين (عليه السّلام) وحيداً في الميدان بين أهله وأصحابه المجزرين كالأضاحي المذبوحة المشوهة ، فعلا بكاؤه على هؤلاء الأبرار الذين ماتوا دون مبدأهم وعقيدتهم .

وكانت أصوات النساء ترتفع بالعويل ، فتردّدها تلك الأنحاء القفر كرجع صدى لظلم الإنسان وجبروته الشيطاني ، وتبعث في الجسد قشعريرة ، وفي النفس أسىً لا يُحدّ .

في هذا الجو الصعب كان الحسين (عليه السّلام) يقف ويتطلع تارة إلى الجيوش المهاجمة ، وتارة إلى أرض المعركة حيث الأشلاء ، وتارة اُخرى إلى خيم الأيامى والأطفال . ولفت نظره خروج السجاد (عليه السّلام) يتوكّأ على عصا ، ويجر سيفه لكثرة مرضه ، فصاح الحسين (عليه السّلام) باُمِّ كلثوم كي تحبسه ؛ لئلاّ تخلو الأرض من نسل آل محمد (صلّى الله عليه وآله) .

ــــــــــــــــــــ

(1) راجع منتخب الطريحي / 312 .

الصفحة (262)

ثم ودّع (عليه السّلام) عياله ، وطلب ثوباً لا يرغب فيه أحد ، ودعا بولده الرضيع يودعه . . . فجيء به ، فحمله وأتى به نحو القوم يطلب له الماء(1) .

إلاّ أن الخسة المستوطنة في جند عبيد الله دفعت بحرملة بن كاهل الأسدي لأن يرمي الرضيع الصغير بسهم فيذبحه في الحال ، فتلقّى الحسين (عليه السّلام) دمه بكفِّه ورمى به نحو السماء ، فلم تسقط منه قطرة واحدة . وسمع (عليه السّلام) قائلاً يقول : ( دعه يا حسين ؛ فإن له مرضعاً في الجنّة )(2) . ودفنه مرمّلاً بدمه ، وارتدّ على القوم مصلتاً سيفه ، فقتل كثيراً ، فصاح عمر بن سعد حيث انطلقت بعد صيحته أربعة آلاف نبلة ناحية الحسين (عليه السّلام) .

واشتد القتال ، واشتد بالحسين (عليه السّلام) العطش ، فحمل من نحو الفرات على عمرو بن الحجّاج وكان في أربعة آلاف مقاتل ، فكشفهم عن الماء ، واقتحم الفرس إليه ، فأبت الفرس الشرب ، ولمّا مد الحسين (عليه السّلام) يده ليشرب ناداه رجل : أتلتذّ بالماء وقد هُتكت حرمتك ؟ فرمى الماء وقفل عائداً إلى الخيمة(3) .

ــــــــــــــــــــــــ

(1) يصف الفيلسوف الألماني (ماربين) حمل الحسين (عليه السّلام) لطفله الرضيع وصفاً رائعاً ، فيقول : أتى الحسين في آخر ساعات حياته عملاً حيَّر عقول الفلاسفة ، ولم يصرف نظره عن ذلك المقصد العالي مع تلك المصائب المحزنة ، والهموم المتراكمة ، وكثرة العطش والجراحات ، وهو قصة عبد الله الرضيع .

فلما كان الحسين (عليه السّلام) يعلم أن بني اُميّة لا يرحمون له صغيراً ، رفع طفله الصغير ـ تعظيماً للمصيبة ـ على يده أمام القوم ، وطلب منهم الماء له ، فلم يجيبوه إلى بالسهم .

ويغلب على الظنِّ أنّ غرض الحسين (عليه السّلام) من هذا العمل تفهيم العالم بشدة عداوة بني اُميّة لبني هاشم ، ولا يظن أحد أنّ يزيد كان مجبوراً على تلك الأعمال المفجعة لأجل الدفاع عن نفسه ؛ لأن قتل الطفل الرضيع في تلك الحال بتلك الكيفية ، ليس هو إلاّ توحش وعداوة سَبْعِيَّة منافية لقواعد كلّ دين وشريعة . وهذه كانت كافية لافتضاحهم واتّهامهم بالسعي بعصبية جاهليّة إلى إبادة آل محمد (صلّى الله عليه وآله) وجعلهم أيدي سبا .

(2) تذكرة الخواصّ / 144 ، القمقام لميرزا فرهاد / 385 ، تهذيب الأسماء للنووي 1 / 102 ، شرح المواهب اللدنية للزرقاني 3 / 214 .

(3) البحار 10 / 204 ، مقتل العوالم / 38 ، نَفَس المهموم / 188 ، الخصائص الحسينيّة / 46 .

الصفحة (263)

وفي الخيمة ودّع الشهيد أهله ثانية ، واغتنمهما ابن سعد فرصة ، فأمر رجاله بالشدِّ عليه طالما هو مشغول بأهله ، فتصدى لهم (عليه السّلام) واتّقى السهام بصدره .

وعطش فطلب الماء ، فأبى عليه الشمرُ ذلك ، ورماه أبو الحتوف الجعفي بسهم في جبهته ، ورماه رجل بحجر على جبهته ، فأخذ ثوبه يريد مسح الدم فرماه آخر بسهم ذي ثلاث شعب وقع على قلبه ، فقال (عليه السّلام) : (( بسم الله وبالله وعلى مِلَّة رسول الله . إلهي ، إنّك تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن بنت نبيٍّ غيري )) .

ثم أخذ من دمه الذي كان يشخب كالميزاب ولطَّخ به رأسه ووجه ولحيته ، وقال : (( هكذا أكون حتّى ألقى الله وجدّي رسوله (صلّى الله عليه وآله) وأنا مُخضب بدمي ، وأقول : يا جد , قتلني فلان وفلان ))(1) .

وأعياه النزف فجلس يستريح ، فانتهى إليه مالك بن النسر فشتمه ، وضربه بالسيف على رأسه . وانطرح (عليه السّلام) على الأرض منهوكاً ، ولم يكن أحد يجسر على قتله وهو في هذه الحال ، فصاح الشمر بهم : ما وقوفكم والرجل اثخنته السهام والرماح ؟!(2) .

وهجموا كالضباع المفترسة ؛ فضربه زرعة بن شريك على كتفه ، ورماه

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مقتل الحسين (عليه السّلام) للخوارزمي 2 / 34 ، اللهوف / 70 .

(2) مناقب ابن شهر آشوب 2 / 222 ، مقتل الحسين (عليه السّلام) للخوارزمي / 35 .

الصفحة (264)

الحصين في حلقه ، وضربه آخر على عاتقه ، وطعنه سنان بن أنس في ترقوته ورماه بسهم في نحره ، وطعنه صالح بن وهب في جنبه(1) .

وطلب أن يُسقى ماء فبخلوا عليه بشربة . ولمّا اشتد به الحال رفع طرفه إلى السماء وراح في دعاء أخير ، قال فيه : (( اللَّهمَّ احكم بيننا وبين قومنا ؛ فإنّهم خذلونا وغدروا بنا ، وقتلونا ونحن عترة نبيك ))(2) .

ولما سقط وعاد الفرس إلى الخيمة ، ونظرنه النساء مخزياً ، والسرج عليه ملويّاً ، خرجن من الخدور ناشرات الشعور ، يلطمن وجوههن ، ونادت اُمّ كلثوم زينب العقيلة : وا محمّداه ! وا أبتاه ! وا عليّاه ! وا جعفراه ! وا حمزتاه ! هذا حسين بالعراء ، صريع بكربلاء ! ووصلت إلى الحسين (عليه السّلام) وقد دنا منه عمر بن سعد ، فصاحت به : أَيْ عمر , أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ؟! فصرف بوجهه عنها وهو يبكي .

ثم صاح برجاله : انزلوا إليه وأريحوه . فبدر له شمر ورفسه برجله ، وجلس على صدره ممسكاً بيده على شيبته المقدّسة ، وضربه بالسيف اثنتي عشرة ضربة ، واحتز بعدها رأسه المقدّس(3) .

إنّ في إيراد وصف الحادثة كاملة في هذا المقام من كتابنا المكرّس للتحليل

ــــــــــــــــ

(1) راجع الأتحاف بحب الأشراف / 16 .

(2) مصباح المتهجد ، والإقبال ، وعنهما في مزار البحار / 107 نقلاً عن المقتل للمقرّم .

(3) مقتل العوالم / 100 ، مقتل الحسين (عليه السّلام) للخوارزمي 2 / 36 .

الصفحة (265)

والمقارنة ، لأمر ضروري لاكتمال سورة الهمجيّة واللا إنسانيّة التي واجهها الحسين الشهيد في لحظاته الأخيرة ، والتي تشكل لوحدها فصولاً ملحمية تحمل شحنات درامية لا تقوى أقسى القلوب على احتمال مؤثراتها ، فكيف بأرقّها تلك المُحِبَّة للشهيد المظلوم المذبوح بوحشية لم يسجل لها التاريخ شبيهاً ؟!

فقد ذكر أبو مخنف في مقتله ص90 واصفاً هذه اللحظات الدمويّة الأخيرة من عمر سبط النبي (صلّى الله عليه وآله) بقوله : وبقي الحسين (عليه السّلام) مكبوباً على الأرض ملطّخاً بدمه ثلاث ساعات ، وهو يقول : (( صبراً على قضائك ، لا إله سواك يا غياث المستغيثين )) . فابتدر إليه أربعون رجلاً كلّ منهم يريد حزَّ نحره الشريف ، وعمر بن سعد يقول : ويلكم ! عجِّلوا عليه .

وكان أوّل من ابتدر إليه شبث بن ربعي وبيده السيف ، فدنا منه ليحتزّ رأسه ، فرمق الحسين (عليه السّلام) بطرفه , فرمى بعدها السيف من يده وولَّى هارباً ، وهو يقول : ويحك يابن سعد ! تريد أن تكون بريئاً من قتل الحسين وإهراق دمه ، وأكون أنا مُطالب به ؟! معاذ الله أن ألقى الله بدمك يا حسين .

فأقبل سنان بن أنس وقال : ثكلتك اُمّك ، وعدموك قومك لو رجعت عن قتله ! فقال شبث : يا ويلك ! إنه فتح عينيه في وجهي فأشبهتا عينَي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ فاستحييت أن أقتل شبيهاً لرسول الله . فقال له : يا ويلك ! أعطني السيف فأنا أحق منك بقتله . فأخذ السيف وهمَّ أن يعلو رأسه ، فنظر إليه الحسين (عليه السّلام) فارتعد وسقط السيف من يده وولَّى هارباً ، وهو يقول : معاذ الله أن ألقى الله بدمك يا حسين .

الصفحة (266)

فأقبل عليه شمر وقال : ثكلتك اُمّك ! ما أرجعك عن قتله ؟ فقال : يا ويلك ! إنه فتح في وجهي عينيه ، فذكرت شجاعة أبيه , فذُهلت عن قتله .

فقال الشمر : يا ويلك ! إنك لجبان في الحرب ، هلم إليَّ بالسيف فوالله ما أحد أحق مني بدم الحسين ؛ إني لأقتله سواء شبه المصطفى أو علي المرتضى . فأخذ السيف من يد سنان وركب صدر الحسين (عليه السّلام) فلم يرهب منه ، وقال : لا تظن أني كمن أتاك ، فلست أرد عن قتلك يا حسين .

فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( مَن أنت ويلك ! فلقد ارتقيت مرتقىً صعباً طالما قبّله النبي (صلّى الله عليه وآله) )) . فقال له : أنا الشمر الضبابي . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( أما تعرفني ؟ )) . فقال ولد الزنا : بلى أنت الحسين ، وأبوك المرتضى ، واُمّك الزهراء ، وجدُّك المصطفى ، وجدَّتُك خديجة الكبرى .

فقال له : (( ويحك ! إذ عرفتني فلِم تقتلني ؟! )) . فقال له : أطلب بقتلك الجائزة من يزيد . فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( أيما أحبّ إليك ؛ شفاعة جدي رسول الله أم جائزة يزيد ؟ )) . فقال : دانقٌ من جائزة يزيد أحبّ إلي منك ومن شفاعة جدّك وأبيك . فقال له الحسين : (( إذا كان لا بدّ من قتلي فاسقني شربة من الماء )) . فقال : هيهات هيهات ، والله ما تذوق الماء أو تذوق الموت غصّة بعد غصة ، وجرعة بعد جرعة .

ثم قال : يابن أبي تراب ، ألست تزعم أنّ أباك على الحوض يسقي مَن أحب ؟ اصبر قليلاً حتّى يسقيك أبوك . ثم قال : والله لأذبحنَّك من القفا . . . ثم أكبَّه على وجهه الشريف وجعل يحزّ أوداجه بالسيف ، وكلّما قطع منه عضو ، نادى الحسين (عليه السّلام) : (( وا محمّداه ! وا عليّاه ! وا حسناه ! وا جعفراه ! وا حمزتاه ! وا عقيلاه ! وا عبّاساه ! وا قتيلاه ! وا قلة ناصراه ! وا غربتاه ! )) .

الصفحة (267)

فاحتزّ الشمر رأسه الشريف وعلاه على قناة طويلة ، فكبّر العسكر ثلاث تكبيرات .

ولم يكتفِ هذا الرهط الشيطاني بما فعل ، بل تكالبوا على الجسد المدمى المفصول الرأس يسلبونه سترته ، حيث لم يتورعوا عن قطع إصبعه ويده اليمنى من أجل خاتم وتكة سروال .

ونظرتُ سِبط محمدٍ في كربلا= فرداً يعاني حزنَهُ المكظوما

تنحو أضالعَه سيوفُ اُميّة=فتراهُمُ الصمصومَ فالصمصوما

فالجسمُ أضحى في الصعيدِ موزّعاً=والرأسُ أمسى في الصعادِ كريما(1)

وحرَّكت مطامع الري والديلم رجس ابن سعد الكامن في صدره ، فنادى : ألا من ينتدب إلى الحسين فيوطئ الخيل صدره وظهره ؟

وتنادى له عشرة لا يقلُّون عنه ضِعَةً ومَوات ضمير ، فداسوا بخيولهم جسد الحسين الطاهر ، صدراً وظهراً حتّى الصقوه بالأرض . وبعد أن انتهوا من مهمّتهم الشائنة أقبلوا على ابن زياد يتقدّمهم اُسيد بن مالك يرتجز شعراً يتباهى بما اقترفته يداه :

ـــــــــــــــــــ

(1) أبيات من مرثية في الحسين (عليه السّلام) لديك الجنِّ .

الصفحة (268)

نحنُ رضضنا الصدرَ بعد الظهرِ=بكلِّ يعبوبٍ(1) شديدِ الأسرِ

فأمر لهم بجوائز كلّ على قدر ما أظهر من خسَّة في جريمته النكراء .

وقد ذكر البيروني : أنّ ما فعلته هذه الطغمة بوطئها الخيل جسد الحسين (عليه السّلام) ما لم يُفعل في جميع الاُمم بأشرار الخلق ؛ من القتل بالسيف والرمح والحجارة ، وإجراء الخيول .

وجرى وصف هذه الفعلة شعراً على لسان أبي ذيب شيخ القطيفي ، المتوفى عام (1200هـ ) ، فقال :

فليتَ أكفّاً حاربتك تقطّعتْ=وأرجلَ بغيٍ جاولتك جذامُ

وخيلاً غدتْ تُردى عليك جوارياً=عُقرن فلا يُلوى لهنَّ لجامُ

ورضّت قراك الخيلُ من بعد ما غدتْ=اُولو الخيلِ صرعى منك فهي رمامُ

اُصبتَ فلا يوم المسرات نيّرٌ=ولا قمرٌ في ليلهنَّ تمامُ

* * *

ـــــــــــــ

(1) اليعبوب : الفرس السريع الطويل

الصفحة (269)

وهكذا استشهد الحسين ، وهكذا قُتل

استشهد راضياً مرضيَّاً

معمِّداً شهادته بالدمِّ الزكي

فادياً عقيدة جدّه

رافعاً راية ثورة بلون الدمِ

ثورة كلّ مظلوم . . ضد كلّ ظالمٍ

لم يخرج أَشراً ولا بَطِراً ولا مُفسداً

بل طالباً الإصلاح في اُمّة الرسول

صاح في وجه المستأثرين بالفيء : (( أنِ ارعووا . . . ))

عمل بالقول والفعل أمام ناكثي عهد الله

نصح مظهري الفساد ومعطِّلي الحدود

قال لهم : (( انسبوني مَن أنا . . .

هل يحقُّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟ ))

لكن الضمائر التي ماتت

والأطماع التي عصفت العقول

أصمَّت الآذان . . . وأعمت البصائر

فتكالبوا على ريحانة الرسول

كبواشق كاسرة

أحدهم يحلم بالمال

وآخر بملك الريِّ والدَيْلم

والباقون باعوا أنفسهم للشيطان

سيف الحقِّ ما ارتفع إلاّ بذراع الحسين

شعار العدل لم يُسمع إلاّ من فم أبي عبد الله

الصفحة (270)

كلمة الإنصاف ما لفظتها إلاّ شفتا سيد الشهداء

الموت دون العقيدة محطّ هواه

الذود عن الإسلام مهوى فؤاده

إيقاظ ضمير المسلم هدف نهضته

إحقاق الحق مرمى ثورته

وقف التحريف والزيف مبدأه

توليد إسلام جديد رسالته

الاستشهاد في سبيل الله قدره

ما كانت له عقليّة كسرى

ولا كانت له نفسية سلطان

ما فكّر كإمبراطور

ولا عمل كفرعون

ما غرَّته مطامع ملك

ولا رفَّت جفنه الدنيويات

كان يصبو إلى العُلا

حيث مثوى الشهداء والأخيار

وكان يعرف بأنه قتيل وذبيح ومُهان

فتقدّم

السرُ الإلهي رسم خطواتِه

وحكمةُ الربِّ كتبت مصيرَه

وجعلته مثالياً أوحد

لم تنجب مثيله كلّ الأديان

كان نسراً أُعطي وسائل بشريّة

الصفحة (271)

وكان شهيداً لا نبيَّاً

أخذ من الأنبياء آلامهم وعذاباتهم

ولم يوهب مثل نبوَّتهم

فكانت وسائله أرضيّة

ما استعان بعدد وعدة في سبل ثورته

فثورته فريدة بوسائلها

لم تكن ثورة العضلات والسيف

بل ثورة الروح والضمير والفكر

خلَّدتها الأزمان

وقدَّستها الدهور

ونزهتها تكريماً الأجيال

هي ثورة لا تزال مدوِّية

تُرجع صداها كلُّ الأكوان

توصل هتافها كلُّ الأزمان

تُبرز نبلها كلُّ الأنفس

هي رمز لقبول الحق

نهضة لي ولك ولكم

وله ولها ولهم

طالما كرهنا الظلم وعشقنا الحقّ

طالما نبذنا الانحراف وأحببنا الصراط المستقيم

هي ثورة لي ولك

الصفحة (272)

طالما نحن مؤمنون

سَكَنها في قلبيْنا

لا تبرد أبداً

طالما في حنايانا رحمة

وبين أضلعنا إيمان

فإذا تعاملنا بالعدل فنحن حسينيون

وإذا حافظنا على عقيدتنا فننحن جندٌ في ثورته

وإذا دفعنا ظلماً عن أحد فننحن كمسلم بن عقيل

وإذا رفضنا ظلماً على أحد فنحن كقيس بن الصيدواي

وإذا ذدنا المتصدِّين للعبث نكون كسعد وأبي الحتوف الحارث

وإذا تُبنا عن غيِّنا فننحن كالحُرِّ الرياحي

فلنسأل أنفسنا إذا كنا مؤمنين ؟

وهل تصلنا صيحة سيد الشهداء ؟

هل نُصغي لاستغاثته ؟

هل نُبصر رايته المرفوعة أبداً ؟

أما عصفت بنا يوماً نعرة يزيدية ؟

أما كنّا عمر بن سعد في لحظة ما ؟

الصفحة (273)

أما تشابهنا مع ابن زياد في موقف ؟

أما فعلنا كالشمَّر في مسيرة دنيانا ؟

أما قرَّبنا شيء إلى حرملة الأسدي ؟

أما شعرنا بدنوٍّ من الحصين بن نمير ؟

أما رمينا الحسين بسهمٍ قط كما فعل أبو الحتوف الجعفي ؟

أما ضربناه بسيف كمالك بن النسر ؟

أما كنا أبداً كزرعة بن شريك ؟

أو سنان بن أنس ؟

أو صالح بن وهب ؟

أو ابن حويه . . . ؟

كيف لا ونحن نصبر على ظالم . .

ونرضى بالظلم على مستضعف . .

ونبيع آخرتنا بدنيانا . .

ونسلم تسليم الذليل . .

ونفرّ فرار العبيد . .

فلِمَ قام الحسين بثورته ؟

أَلنظل هكذا ؟

التدجين يأكل نخوتنا . .

والزيف يغلِّف حياتنا . .

والأطماع تلِّون أخلاقنا . .

لِمَ ذُبح الحسين في فلاة كربلاء ؟!

ألأجل أن نظلّ كما كنّا . .

الصفحة (274)

نُسام العسف فنسكت . .

وننام على الضيم فنحلم ؟

أمن أجل كلّ هذا وطئ الخيل صدره وظهره ؟

أمن أجل أن نكون كما نحن . .

رُفع رأسه على رمح ؟

أمن أجل نومتنا نهض ؟

أمن أجل خنوعنا ثار ؟

أمن أجل قعودنا تحرك ؟

أمن أجل فرارنا تقدم ؟

لعكس كلّ ذلك فعل ما فعل

فلننهض

ولنتحرك

ولنثر على الظلم

ولنقتلع من أجسادنا أشواك الضيم

ولنا في ثورة سيد الشهداء نبراس

وفي شعاراتها هديٌ ودفعٌ

وفي عنفوانها حماسة وإباء

ولنردد مع معلم الثوار : (( الموتُ أولى من ركوبِ العارِ= والعارُ أولى من دخولِ النارِ ))

ولننصره إذا استصرخنا

كما نَصَرنا حينما استصرخناه

الصفحة (275)

ولا ننسَ أنَّا خذلناه

ففي تذكُّرنا عبرة وتقريع

يُعيد صور تقصيرنا

وعُشقنا لذواتنا وأطماعها

وبعدنا عن الدرب الصحيح

وضلالنا في أثمن ما نملك .

فإن فعلنا كما أمرنا الحسين

وإن مشينا خلف ريحانة الرسول

ضَمنَّا راحة القلب

ورضى الخالق الرحوم

فلنمض إلى الجهاد

إلى أن ينقرض نسل يزيد

ولنُنزل رأس الحسين من على سن الرمح

ولنستشهد كلّ يوم في كربلاء ذواتنا

[ سأمضي ] فما بالموتِ عارٌ على الفتى =إذا خالف مثبوراً وفارق مجرما

فإذا عشنا لم نندم

وإن متنا لم نُلم

فالحسين ليس مرحلة فحسب . . بل مسيرة

وليس وسيلة . . بلَ غَاية

وليس اُسلوب . . بل نتيجة

الصفحة (276)

وليس تظاهرة . . . بلَ مبدأ أزلياً

فسلام على سِبط محمد

سلام عليه يوم ولد

ويوم مات

ويوم يبعث حياً

سلام عليه

نبراساً لنا وموَئلا

وقُدوة وملاذاً أخيراً

في رحلة أحزاننا

من المهد إلى اللحد .

الصفحة (277)

الفصل الثالث

الصفحة (278)

الصفحة (279)

الجريرةُ التي أسقطت اُميّة

ليس ثمَّة من سبب لسقوط عرش اُميّة إلاّ واتصل بجريرة كربلاء ، وليس أقل تبصّراً لدى بحث أسباب سقوط اُميّة من ردّه إلى عوامل اُخرى تبعُد أو تقرُب من كربلاء ، حتّى في أخذ المؤرّخين لهذه العوامل بالتسجيل أو التحليل ، [ فإنهم ] يأخذونها على أنها عوامل منفصلة بحدِّ ذاتها ، لها خصائصها الكاملة التي إذا اجتمعت شكَّلت عاملاً وسبباً لما جرى .

ولكن المدقق البصير لهذه العوامل التي تبدو للعيان متباعدة لا تمتّ لبعضها بصلة ، يجد أن ثمة خيطاً رفيعاً غير منظور يربط بعضها إلى بعض ، ويشدُّها لتكون في النهاية سلسلة واحدة متعددة الحلقات ، لكلّ حلقة خصائصها المميزة التي لا تنفلت عن الاُخرى ، بل ترتبط إليها برابط موضوعي من لُحمة واحدة .

وردُّ أسباب سقوط اُميّة إلى عوامل تبعد عن جرائر كربلاء لهو إغماط لقدسية هذه الملحمة ، وكُفرٌ بيِّن لتَعلاَّت العناية الإلهية ، وإلغاء عمدي لكلِّ الشهادات التي سبقتها ، وعدم إيمان بنبوءات الرسل والأوصياء .

الصفحة (280)

وسنعرض بالتفصيل للآراء التي تصدَّت لتحليل أسباب سقوط العرش الاُموي ، ولكن قبل أن نخوض في هذه الآراء سنذكر لكلّ مَن سبق واطّلع عليها بأن إحدى معجزات استشهاد الحسين (عليه السّلام) كان سقوط اُميّة ؛ وهي معجزة زمنية لم تكن هدفاً بحد ذاتها لشهادة الحسين (عليه السّلام) ، بل لحقت فيما لحقت به من معجزات أكبر منها .

ففي ميزان الإعجاز ، أيها أعظم أثر المعجزة التي حقَّقتها هذه الشهادة في ضمير الاُمّة الإسلاميّة ، أم معجزة سقوط اُميّة ؟ طبعاً الجواب سيدور حول عظمة المعجزة الاُولى ؛ فهي الأصل الذي هدفت له ملحمة كربلاء ، أما المعجزتان اللتان تقدّمتها إحداهما ولحقت بها الاُخرى ـ غضب الطبيعة والأفلاك والجن بعد المقتل مباشرة ، وسقوط اُميّة بعد عدد من السنين ـ فهما معجزتان كان لا بدّ من حدوثهما ؛ تأثُّراً مُسبقاً أو لاحقاً بالمعجزة العظيمة التي كان مسرحها الضمائر والأفكار لمجموع اُمّة الإسلام .

وهنا لا بدّ من طرح إجابة على سؤال من الممكن أن يجول في الأذهان ، وهو سؤال ذو ثلاث نقاط :

1 ـ لماذا هُزم الحسين (عليه السّلام) عسكرياً ؟

2 ـ لماذا تأخّر سقوط اُميّة ؟

3 ـ لماذا ثار الحسين (عليه السّلام) في عهد يزيد بالذات ؟

للإجابة على السؤال الأول لا بدّ من النظر بعين الاعتبار إلى كون هزيمة الحسين (عليه السّلام) ما كانت لتتم على عهد يزيد ؛ إلاّ لأن هذا العهد كان الظرف المناسب لإظهار تناقضات السلطة الممثَّلة بيزيد كخليفة على المسلمين يُزاحم آل البيت (عليهم السّلام) حقَّهم في هذه الخلافة .

ولو شاءت العناية الإلهيّة لأنفذت لمهمة الاستشهاد حسيناً في غير هذا العهد ، فيما سبقه أو لحقه من عهود ، ولكانت أمدته بقوى أسعفته في حينه ؛ فينتصر ولا يستشهد ، ويسجل التاريخ نصره إلى جانب الانتصارات العسكرية التي تحفل بها صفحاته الكثيرة .

الصفحة (281)

أما لماذا تأخّر سقوط اُميّة بعد استشهد الحسين ما دامت عوامل هذا السقوط تكوَّنت بإعجاز من هذا الاستشهاد ؟ فذلك لسرٍّ آخر أعدته الحكمة العُلويّة ؛ لكي تطول فترة الندم ، وتتفاعل عوامل النهوض في ضمير الأمة الإسلاميّة ، حتّى إذا ما هبَّت ، هبَّت كبركان اختزن سخونته طويلاً فكانت ثورته حتّى عنان السماء .

وكما هو معروف في علم الطبيعة أن كلّ ما يحصر دون متنفس تزداد قوة انفجاره ، وهذا ما ينسحب على علم النفس ؛ إذ أن هذا الموضوع يشكل عنصراً مهماً في عيادات طب النفس ، حيث يعرف بالكبت أو الكمون النفسي الذي يتبعه انفجار ؛ إما أن يكون إيجابياً فيبني ، أو سلبياً فيهدم ، للهدم لا للبناء .

أمّا لماذا ثار الحسين في عهد يزيد بالذات ؟ ففي العودة إلى متن الكتاب إجابة عنه ؛ إذ إنه كان مقدَّراً أن تكون ثورة الشهيد وشهادته في هذا الوقت بالذات وفي هذا العهد بعينه ، لا من أجل إظهار عورات وسوءات العهد إيّاه فحسب ، بل من أجل جعله كمثال لسوءات كلّ العهود التي يضيع فيها الحق ، وترتفع خلالها رايات الباطل ، وما كان أجدر بعهد يزيد لتمثيل هذه العهود .

ولنعرض الآن لجملة آراء حول أسباب سقوط اُميّة ، المباشرة منها وغير المباشرة .

في كتاب أبو الشهداء للعقاد رأي يقول : إن مصرع الحسين هو الداء القاتل الذي سكن جثمان الدولة الاُمويّة حتّى قضى عليها .

وفي كتاب له عن معاوية ، يرد العقاد ضياع الدولة الاُمويّة إلى النزاع بين المضرية واليمانية الذي ابتدأ منذ أيام مؤسس الدولة الاُمويّة معاوية .

وللمسعودي رأي يقترب من هذا المعنى ، إذ يذكر أن التفاخر بين نزار (قيس) واليمن ، وتحرك العصبية في البدو والحضر ، أدّى إلى انتقال الدولة من بني اُميّة إلى بني هاشم .

الصفحة (282)

ويرى المستشرق (جولد تسهير) أن عمر بن عبد العزيز أحد اُمراء اُميّة الذين تربوا في بيئة صالحة ، والذي كان جاهلاً بالاُمور السياسية ، عجَّل بسقوط العرش الاُموي .

ويصف الحكيم (ماربين) إقدام يزيد على قتل الحسين بأعظم خطأ سياسي صدر من بني اُميّة ، فجعلهم نسياً منسياً ، ولم يبق منهم أثر ولا خبر .

ويرى بعض المؤرّخين أن سقوط الدولة الاُمويّة كان بفعل نشاط المعتزلة لإحلال العباسيين محلهم ؛ مما أدى بخلفاء العصر العباسي الأول للأخذ بمذهبهم كالمأمون والمعتصم والواثق ، وحاولوا جعله مذهباً رسمياً للدولة .

ونزع البعض إلى اعتبار مصرع الوليد بن يزيد إيذاناً بنهاية الدولة الاُمويّة ، بعد أن انتشرت دعوة الخوارج في سورية مع غياب هيبة الخلافة بفعل خلفاء اُميّة .

فإذا نظرنا إلى هذه الآراء بتجرد لما وجدنا الأسباب التي اعتبرتها كعوامل رئيسة لسقوط اُميّة ، لتخرج عما اتصلت به أهداف ثورة الحسين ؛ فالحسين (عليه السّلام) قام يقف في وجه الانحراف الذي بدأ على عهد عثمان ووصل إلى عهد يزيد ، والذي استمر إلى آخر خليفة اُموي ، بحيث لم تتغير الأرضية التي يرتكز عليها الحكم ، وبالتالي ظلَّت الخصائص هي ذاتها لم تتبدل بتبدُّلِ الوجوه ، وظلّت الآفات تنخر في هيكل العرش الاُموي ، بل ازدادت فاعليتها في أواخر هذا الحكم حينما أخذت الخلافة تنتقل بقوة السيف كما فعل يزيد الثالث ومروان الثاني ، واستفحلت العصبية القبلية حتّى أصبحت مرقاة لكلّ طامح بالعرش .

ومما يؤكد رأينا بأن سقوط اُميّة كان نتاجاً خالصاً مئة في المئة من إعجاز كربلاء ، أن الدولة الاُمويّة بعد أن جعل مروان الجعدي مركز خلافته بعيداً في حران بجوار قيس ، ومحاولته إنشاء عاصمة جديدة في عزِّ مجدها الحربي ، وحتى عصر هشام سنة

الصفحة (283)

(125هـ) حيث كانت الدولة متينة البنيان ، لم تصمد لأكثر من سبع سنوات بعد هذا التاريخ ، وسقطت سقوطاً غير متوقع ، جعل الدهشة هي القاسم المشترك لكلّ من خبر قوّتها وعاين إعجاز سقوطها المريع .

وإذا لم تكن جريرة قتل الحسين وآل البيت (عليهم السّلام) هي السبب الرئيس الذي قوَّض الدولة الاُمويّة , فأي جريرة أكبر من هذه الجريرة يمكن أن تتفاعل داخل المجتمعات الإسلاميّة وتسبِّب كلّ هذه الثورات التي تلتها , والتي كان من نتيجتها أن نجحت أخيراً في اجتثاث النظام الذي ارتكبها ، والتي بسببها قُتل حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وآل بيته الأطهار ؟!

فها هو معاوية الثاني يقول : أيها الناس ، إن جدّي معاوية نازع الأمر أهلَه ومَن هو أحقّ منه ؛ لقرابته من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو علي بن أبي طالب .

وعندما يتفاعل الندم مع لوم النفس في نفس ابن القاتل , أفلا يجدر تفاعله في نفس رجل الشارع الذي اعتبر نفسه مسؤولاً عن خذلان الشهيد ابن الشهيد وأبو الشهداء الحسين (عليه السّلام) ، مقابل مغانم زالت وبقي له الندم وتبكيت الضمير ؟!

ولم يقف هذا التبكيت على رجل الشارع ، بل تعدَّاه إلى أفراد الاُسرة الاُمويّة غير معاوية الثاني ، فإذا بعبد الملك يكتب للحجاج : لا تعرض لمحمد بن الحنفيّة ولا لأحد من أصحابه ، جنبني دماء آل أبي طالب ؛ فليس منها شفاء من الحرب .

وهذا علي بن عبد الله بن عباس ، جد أبي العباس وأبي جعفر ، يقطعه بنو اُميّة قرية (الحميمة) في إقليم البلقاء بالأردن ، حيث أنزله بها الوليد بن عبد الملك .

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...