د. علي دربج ـ باحث ومحاضر جامعي
غني عن التعريف أن آفة العنصرية تجاه المسلمين المهاجرين في فرنسا، متجذرة في نفوس نسبة كبيرة من الفرنسيين، لكن بعد هجمات 2015 التي شنها “وهابيو العقيدة والانتماء” (قدمت فرنسا لهم الدعم المادي ذات يوم، وفتحت لهم الابواب وعملت على تصديرهم الى سوريا بعدما صنفتهم كثوار أحرار) تصاعدت مشاعر الكره والتمييز ضد جميع المسلمين الفرنسيين بشكل غير مسبوق، بحيث لم يعد أيّ منهم يشعر بالأمان هناك.
المخزي في الأمر، أن هذه الظاهرة المقيتة ـ في دولة تدعي أنها أُمّ الحريات في العالم ـ تبرز بقوة مع كل استحقاق انتخابي كما يجري حاليًا، إذ إن المنافسين الثلاثة الأوائل للرئيس إيمانويل ماكرون ـ الذين من المتوقع أن يمثلوا ما يقارب 50 % من الأصوات وفقًا لاستطلاعات الرأي ـ يديرون جميعًا حملات مناهضة للمهاجرين المسلمين (حتى المقيمين منهم ويحملون جنسيات فرنسية)، الى حد أنها باتت تثير بحسب نظرتهم مخاوف أمّة تواجه تهديدًا حضاريًا من خلال غزوها من غير الأوروبيين. والأنكى أن هذا الموضوع، أصبح يتصدر جدول أعمالهم، على الرغم من أن الهجرة الفرنسية الفعلية متخلفة عن مثيلتها في معظم البلدان الأوروبية الأخرى.
ما هي أبرز مظاهر العنصرية والتمييز ضد المسلمين في فرنسا؟
يحتل المسلمون الفرنسيون، الذين يقدر عددهم بـ 10% من السكان، مكانًا غريبًا في الحملة الانتخابية، مع أنه نادرًا ما تُسمع أصواتهم الفعلية. لا يعد هذا مؤشرًا على الجروح العالقة التي سببتها هجمات 2015 و 2016، التي أودت بحياة المئات، بل أيضًا سببه صراع فرنسا الطويل حول قضايا الهوية وعلاقتها التي لم تحل مع مستعمراتها السابقة.
فغالبًا، ما يتم ربط المسلمين بالجريمة أو العلل الاجتماعية الأخرى، فضلًا عن نعتهم بأوصاف تنطوي على اهانات وشتائم، مثلًا تعبيرات “صافرة الكلاب” التي استخدمتها فاليري بيكريس، مرشحة يمين الوسط المرتبط الآن بزعيمة اليمين المتطرف، مارين لوبان والتي تأتي في المركز الثاني خلف ماكرون.
وفقًا للشكاوى الرسمية التي جمعتها اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان التابعة للحكومة، ارتفعت خلال السنوات الأخيرة، وتحديدًا عام 2020، الأعمال المناهضة للمسلمين في فرنسا بنسبة 52 بالمائة مقارنة بالعام السابق، إضافة الى ذلك، وجد تحقيق رسمي نادر في عام 2017، أن الشباب الذين يُنظر إليهم على أنهم عرب أو سود كانوا أكثر عرضة بـ 20 مرة لفحص هوياتهم من قبل الشرطة.
ليس هذا فحسب، فاستنادًا لتقرير حكومي صدر في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، كان لدى المرشحين للوظائف ذوي الأسماء العربية، فرصة أقل بنسبة 32 بالمائة في أن يتم استدعاؤهم لإجراء مقابلة في مكان العمل مثلًا.
ماذا أنتجت هذه السياسة العنصرية؟
في الواقع، من المجافي للحقيقة، اختصار المشكلة في فرنسا بالهجرة. فلطالما تهربت السلطات الفرنسية من الاعتراف بحقيقة النزعة العنصرية المنتشرة في المجتمع الفرنسي والتي كان من نتائجها، ظهور موجهة هجرة أدمغة معاكسة خصوصًا في أوساط المسلمين.
لسنوات، فقدت فرنسا مهنيين متعلمين تعليمًا عاليًا يسعون إلى مزيد من الديناميكية والفرص في أماكن أخرى. وكان من بينهم، وفقًا للباحثين الأكاديميين، عدد متزايد من المسلمين الفرنسيين الذين يقولون إن التمييز كان عامل دفع قوي للهجرة، بعدما تكونت لديهم قناعة ثابتة، بأنهم مجبرون على المغادرة بسبب التحيز والأسئلة المزعجة حول أمنهم والشعور بعدم الانتماء.
المفارقة أن السياسيين وأغلبية وسائل الإعلام الفرنسية، لم يلاحظوا “هجرة الأدمغة” هذه إلى الخارج، والتي أظهرت فشل فرنسا في توفير مسار للتقدم حتى لأنجح مجموعة أقلية لديها (اي هذه “الادمغة” أولئك الذين كان من الممكن أن يخدموا كنماذج للتكامل في المجتمع الفرنسي.
وفي هذا السياق، يقول الأستاذ في مركز العلوم السياسية والقانون العام وعلم الاجتماع بجامعة “ليل” “أوليفييه إستيفيس”، وهو كان أجرى مسحًا لـ 900 مهاجر فرنسي مسلم وقام بمقابلات معمّقة مع 130 من هؤلاء: “ينتهي الأمر بهؤلاء الأشخاص إلى المساهمة في اقتصاد كندا أو بريطانيا. معهم فرنسا تطلق النار على نفسها حقًا”.
اللافت أنه ومع أن هؤلاء المسلمين المتعلمين، يعرفون أن الأماكن التي استقروا فيه، وبينها بريطانيا والولايات المتحدة، ليست جنة خالية من التمييز ضد المسلمين أو مجموعات الأقليات الأخرى، لكنها تبقى بنظرهم “أهون الشرّين”، إذ يشعرون بفرصة وقبول أكبر هناك، لدرجة ان بعضهم قال إنه خارج فرنسا، ولأول مرة، لم يتم التشكيك في حقيقة أنه فرنسي.
إحدى الشهادات على عنصرية فرنسا الكريهة، أدلى بها مواطن فرنسي يدعى عمار مكروس (46 سنة)، وهو مسلمين كان قد نشأ في إحدى ضواحي باريس في كنف والديه المهاجرين، فقال “أنا فرنسي فقط في الخارج. أنا متزوج من امرأة فرنسية. أتحدث الفرنسية، أحب الطعام والثقافة الفرنسيتين. لكن في بلدي لست فرنسيًا”. فيما قالت مواطنة أخرى “ينتابني القلق بشأن تربية طفل عربي في فرنسا”.
ما هي أسباب “هجرة الأدمغة هذه”؟
دفعت الشبهات التي تحيط بالمسلمين الفرنسيين بعد اعتداءات 2015، عددًا منهم الى الاستقرار مع عائلاتهم في بريطانيا. وقد زادوا قبل خروج لندن من الاتحاد الأوروبي، وكان معظمهم من العائلات والأمهات الشابات العازبات الذين يجدون صعوبة في العثور على وظائف في فرنسا لأنهم ارتدوا الحجاب الإسلامي.
في الآونة الأخيرة فقط، بدأت مجموعة من الباحثين الأكاديميين المنتسبين إلى جامعة “ليل” (وهي جامعة فرنسية رائدة) بالعمل على تكوين صورة عن المسلمين الفرنسيين الذين غادروا باريس، وذلك عبر قيامهم بمشروع بحثي حول هجرة المسلمين الفرنسيين، بالتعاون مع “المركز الوطني للبحوث العلمية”، و”المؤسسة البحثية الرئيسية للحكومة الفرنسية”.
وعلى خط مواز، كان باحثون في ثلاث جامعات أخرى هي “لييج” في فرنسا، و”لوفين” في بلجيكا، و”أمستردام” في هولندا، يعملون على ذات المشروع.
أبرز النتائج التي خلص اليها الباحثون، لخصها الباحث الفرنسي المشارك في الدراسة في جامعة “لييج” “جيريمي ماندين”، حيث أشار الى أن “العديد من الشباب الفرنسي المسلم أصيب بخيبة أمل لأنه لعب وفقًا للقواعد، وفعل كل ما طُلب منه، وفي النهاية لم يتمكن من عيش حياة مرغوبة”.
أما الشهادة الأبلغ على التمييز والعنصرية الفرنسية، فقد جاءت من “راما ياد” التي تولت منصب وزيرة الدولة للشؤون الخارجية وحقوق الإنسان في عهد الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، حيث قالت إن “إنكار فرنسا لمشاكل مثل عنف الشرطة زاد الطين بُلة”.
عندما تم تعيين “ياد” ـ المولودة في السنغال لأسرة مسلمة ـ وزيرة دولة عام 2007، كانت تعتقد أن ذلك سيكون “نقطة انطلاق”.
تحدثت “ياد” (وهي الآن مدير أول لإفريقيا في أتلانتيك كاونسل) عن تجربتها داخل الحكومة الفرنسية قائلة “كان سقف زجاجي سياسيًا”. بالنسبة لها، كان تركيز السباق الرئاسي على الهجرة هو “تكريس 20 عامًا من التدهور في ثقافة سياسية مهووسة بالهوية الوطنية”.
في النهاية انسحبت “ياد” من حزبها السياسي لأنه، على حد قولها “أصبح معاديًا جدًا لأي شيء لا يمثل نسخة خيالية من الهوية الفرنسية”.