الرئيسية / كتب اسلامية pdf / اراء المستشرقين حول القران

اراء المستشرقين حول القران

آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره – ج ١

 المؤلف: 

د. عمر بن إبراهيم رضوان

الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

الجزء ١الجزء ٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

المقدمة

الحمد لله رب العالمين ، الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.

قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

كان الإسلام على مر الحقب والأزمان الماضية مشعل الهداية للمسلمين وأساسا لتقدمهم العلمي والحضاري وفي كل المجالات فأقاموا به دولة ، وأشادوا على أسسه حضارة أثرت على غيرهم من المجتمعات الإنسانية.

ونظرا لقوة الإسلام الذاتية ، وملاءمته لفطرة الإنسان ، دخلت كثير من الشعوب فيه ، وبسطت الدولة الإسلامية نفوذها على كثير من الأقطار ، مما جعل الغرب يفكر جديا في مواجهة هذا الدين بكافة الوسائل فشن حروبا شعواء على ديار الإسلام عرفت في التاريخ بالحروب الصليبية فلما فشلوا في الوصول إلى غاياتهم انصرفوا إلى وسيلة أخرى ، وهي التشكيك في الإسلام العظيم حيلة الضعيف العاجز أمام القوي المنتصر ، وذلك ليحولوا بين الإسلام وبين شعوبهم وبينه وبين اعتزاز أهله به وتمسكهم به وعملهم بهداياته.

وكان من أضخم المؤسسات التي تنبت حرب الإسلام بهذا السبيل التبشير والاستشراق المؤسستان المكملتان لبعضهما في الأهداف والغايات والقريبتان في الوسائل.

وبما أن دراستي عن الاستشراق فسيكون حديثي مقتصرا عليه فالاستشراق

٥

مؤسسة علمية في جوهرها وحقيقة أمرها وجدت لحرب الإسلام والكيد له.

كيف لا ، والاستشراق حركة ولدت في أحضان التبشير ، وشبت ورضعت وترعرعت من الاستعمار ، وأخيرا لبست مسوح رهبان العلم.

ولا أحد ينكر أن الاستشراق نجح في مهمته نجاحا كبيرا ، وحقق كثيرا من أهدافه التي كان لها أعظم الأثر على العالمين العربي والإسلامي من جهة والغربي من جهة أخرى.

ففي المجتمعات العربية والإسلامية سبب الاستشراق ردة فكرية عن الإسلام ونجح المستشرقون في إيجاد طبقة من المسلمين مخدوعة بأفكارهم وآرائهم ، وذلك باستقطاب الآلاف من شباب المسلمين للجامعات الغربية طمعا في الألقاب العلمية ، فرجع هؤلاء الطلاب متأثرين بثقافة الغرب ومناهجه وأساليب تفكيره.

كما كتب الغرب آلاف الكتب ، وعشرات الآلاف من الأبحاث والمقالات والتي ما زال كثير من أساتذتنا ومفكرينا يعتمدون عليها ، ذاكرين ذلك صراحة في بعض الأحيان ، وكاتمين لها في معظم أوقاتهم.

هذا بمجموعه أدى لإيجاد ردة فكرية في عالمنا الإسلامي كما ذكرت وحال دون تطبيق شريعة الإسلام وأحكامها في المجتمعات الإسلامية.

أما تأثيره على العالم الغربي فهو الحيلولة بين الغربيين وبين الإسلام العظيم ، وذلك بتشويه صورة الإسلام في نظر الغربيين الذين لا يعرفونه إلا عن طريق مؤلفات المستشرقين وكلامهم عنه.

فلما كانت الحركة الاستشراقية لها مثل هذا الأثر على المجتمعين العربي الإسلامي من جهة ، والغربي من جهة أخرى ، ولما كنت في مرحلة اختيار الموضوع لرسالة الدكتوراة ؛ صممت أن تكون أطروحتي حول هذا الموضوع ، ووفقت في ذلك ولله الحمد وسجلت رسالتي وهي بعنوان (آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره دراسة ونقدا). ولكني واجهت مشاكل عدة للنجاح بمهمتي.

٦

كان من أعظمها : قلة المراجع في الدول العربية لهذا البحث ، وصعوبة الوقوف على أفكار المستشرقين باتجاه الإسلام ؛ وذلك لأنها مكتوبة بعدة لغات عالمية ولقلة المترجم منها ، وعظم النفقات للحصول والوقوف عليها. ولكنني تغلبت عليها ولله الحمد فسافرت إلى بريطانيا وأحضرت عدة مراجع هامة لبحثي ، وقمت بترجمة بعضها كاملة وأجزاء من بعضها حسب الحاجة كان على رأسها مقدمتا القرآن الكريم لريتشارد بل ، ومونتجمري واط وهما من الإنجليزية ، ومقدمة القرآن الكريم لريجي بلاشير ، وهو من الفرنسية ، وأجزاء من كتاب (تاريخ القرآن الكريم) لتيودور نولديكه ، وهي من الألمانية وغيرها من الكتب.

وبعد الإحاطة بما ورد في هذه الكتب وغيرها ؛ كانت خطتي في البحث على الوجه التالي : التمهيد وتحته ستة مباحث وبابان وتحت كل باب عدة فصول فيما يلي التفصيل :

تناولت في المبحث الأول منه تعريف الاستشراق ، ونشأته ، وتناولت في المبحث الثاني دوافع المستشرقين وأهدافهم. أما المبحث الثالث فتناولت فيه وسائل المستشرقين ، وأما المبحث الرابع فخصصته لعلاقة اليهود بالحركة الاستشراقية ، ثم تناولت في المبحث الخامس طوائف المستشرقين ، أما المبحث السادس فجعلته لمناهج المستشرقين وميزان البحث عندهم.

ومن خلال دراستي لنقاط هذا الباب التمهيدي توصلت إلى ما يلي من الملاحظات :

١ ـ لاحظت أن أبحاث المستشرقين والمبشرين تكاتفت على تشويه الإسلام والتحيز ضده.

٢ ـ لاحظت أن كثيرا من الشخصيات الاستشراقية كانت ذات مسوح كنسية تخصصت بالشرقيات عامة ، وبالإسلاميات خاصة ، بالإضافة إلى اللاهوت المسيحي ، فاستحوذ عليهم التنصير الكنسي والاستشراق المعرفي.

٣ ـ لاحظت الأثر الكبير للفكر النصراني عامة والكاثوليكي خاصة في

٧

فكر المستشرقين وكتاباتهم.

٤ ـ لاحظت أن التحصيل الكنسي يسبق التحصيل الاستشراقي ، ولم نسمع أن مستشرقا علمانيا مثلا أتم تحصيله الاستشراقي ثم عاد إلى الكنيسة للتعلم.

٥ ـ من الناحية التحصيلية فإنه لا يسهل أن نجد شخصيات استشراقية استطاعت بتفوق قدراتها أن تجمع المعارف الغزيرة في علوم شتى وبلغات عدة.

٦ ـ لاحظت أن تأثير الكنيسة على المستشرقين كان أشد وأقوى من العمل الاستشراقي المعرفي عندهم حتى إن طابع البحث عندهم غلبت عليه الروح التنصيرية سواء كان في الموضوعات أو في الطريقة.

٧ ـ أن المستشرق المنصّر لا يمكن أن يتحرر من بصمات المعارف والبواعث الكهنوتية في دراساته مهما حاول أن يعلن خلافهما أو مهما تظاهر بالمنهجية (١).

٨ ـ كما لاحظت وضوح البصمات اليهودية في أبحاث المستشرقين اليهود كمحاولة جعل اليهودية مصدر الإسلام ، وصاحبة الفضل عليه.

٩ ـ وكذلك لاحظت عدم النزاهة ، والتجرد ، والدقة لكثير من المستشرقين في أبحاثهم ، لذا جاءت أبحاثهم فجة ، مليئة بالأخطاء.

أما الباب الأول فقد خصصته لعرض بعض كتابات المستشرقين وهو بعنوان (المستشرقون وكتاباتهم حول القرآن الكريم) وهو يحتوي على فصلين وملحق.

الفصل الأول : مستشرقون أفردوا مؤلفات حول القرآن الكريم :

تناولت مؤلفاتهم (ثلاثة عشر) مؤلفا. وقد أفردت كل مؤلف منها بمبحث عرفت فيه بالمؤلف وبكتابه وبأبرز القضايا التي تناولها كتابه.

__________________

(١) في الغزو الفكري ص ١٦٠ ـ ١٦١.

٨

الفصل الثاني : مستشرقون كتبوا حول القرآن الكريم من خلال مؤلفاتهم تناولت من مؤلفاتهم (سبعة) مؤلفات.

وقد خصصت كل واحد منها بمبحث عرفت فيه بالمؤلف وبما كتبه حول القرآن في كتابه بإيجاز.

ثم ختمت هذا الباب بملحق لأسماء مجموعة من كتب المستشرقين حول القرآن الكريم سردا وذلك إتماما للفائدة.

أما الباب الثاني : فقد خصصته لآراء المستشرقين حول القرآن الكريم ومناقشتها ، حيث استخلصت أقوال المستشرقين وشبهاتهم حوله وحول علومه ، فحصرتها ووزعتها على الفصول السبعة التالية :

الفصل الأول :

شبهات المستشرقين حول مصادر القرآن الكريم.

وفي هذا الفصل بينت أن المستشرقين يعتبرون مصدر القرآن بشريا لفقه محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من عدة مصادر وهي :

١ ـ الوسط الوثني الذي بدأت فيه دعوة الإسلام. وذلك للتشابه بين هدايات القرآن والوسط الجاهلي في بعض القضايا كالعقائد ، والأخلاق وبعض العبادات وبعض العادات كالزواج والطلاق وغير ذلك. زاعمين أن محمدا تلقاها بمعلم أو قرأها بنفسه من مراجعها.

٢ ـ الحنفاء حيث اعتبر المستشرقون الحنفية المصدر الثاني من مصادر القرآن للتوافق والتشابه بين بعض أحكام القرآن وبين ما كان يدعو إليه الحنفاء من ترك عبادة الأصنام ، والوعد بالجنة للموحدين والوعيد بالنار للمكذبين إلى غير ذلك.

٣ ـ الصابئة والزرداشتية والهندية القديمة :

اعتبر المستشرقون هذه المذاهب كذلك مصدرا من مصادر القرآن للتوافق

٩

بينها وبين بعض الآداب التي دعا إليها القرآن كبعض العبادات والأخلاق إلى غير ذلك.

٤ ـ اليهودية والنصرانية المحرفة.

اعتبر المستشرقون هاتين الديانتين عمدة مصادر القرآن الكريم ؛ وذلك لنقاط التشابه بين الإسلام وبين هاتين الديانتين كالدعوة للتوحيد وبعض العبادات والأخلاق إلى غير ذلك.

وقد وقفت مع هذه المصادر طويلا مبينا شبهاتهم فيها رادا عليها ، مبينا الحقيقة الثابتة في أن القرآن تنزيل من رب العالمين وحده دون سواه. وما محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في ذلك إلا مبلغ فحسب. وأن أي تشابه بين هدايات القرآن وبين هذه المذاهب والأديان إما لوحدة المصدر من حيث كونها منزلة من الله سبحانه أو لتأثرها بهذا المصدر لا غير.

الفصل الثاني :

شبهاتهم حول نص القرآن الكريم.

حيث حضرت الشبهات التي أثارها المستشرقون حول ظاهرة الوحي الإلهي والتي عدوها واحدة من الظواهر التالية :

فمنهم : من عدّها وحيا نفسيّا أو إلهاما سمعيا.

ومنهم : من عدها نتيجة انفعالات عاطفية طاغية على نفس محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نتج عنها هذا القرآن.

ومنهم : من زعم أنها تعود لأسباب طبيعية عادية كباعثة التنويم الذاتي.

ومنهم : من زعم أنها كانت نتيجة تجربة ذهنية فكرية تحصل نتيجة طول تأمل وتفكر.

ومنهم : من زعم أنها حالة كالحالة التي تعتري الكهنة والمنجمين.

١٠

ومنهم : من زعم أنها حالة من حالات الصرع والهستريا.

وقد رددت على هذه الافتراءات والتخبطات عند هؤلاء المستشرقين مطولا مبيّنا سذاجتها وتفاهتها ومقررا الحق في هذا الأمر أن ظاهرة الوحي في تلقي محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ القرآن : ربانية المنشأ ، ملائكية النقل ، بشرية التلقي (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى).

كما بينت موقف المستشرقين من النص القرآني من حيث التوثيق ، وتشكيكهم في حفظه عن الزيادة والنقصان مدّعين أن الوسائل الأولية التي كتب عليها تدعو للريبة في بقائه سليما دون ضياع أو نقص.

وكذلك أثاروا مسألة اختلاف مصاحف الصحابة واعتبروا كل مصحف خاص منها نسخة أخرى من نسخ القرآن تؤكد اضطرابه وتناقضه ، إلى غير ذلك من الشبه التي مرجعها اعتبارهم القرآن الكريم بشري المصدر ، غير محفوظ من الله رب العالمين ، ومعتمدين في كثير منها على روايات واهية مردودة.

وقد أسهبت في إبطال كل هذه الشبه في مواطنها من الرسالة.

الفصل الثالث :

تناولت فيه شبهات المستشرقين حول جمع القرآن الكريم.

مبينا شبهاتهم حول كل مرحلة من مراحل الجمع القرآني حيث حاول المستشرقون جهدهم في إثبات عدم جمع القرآن الكريم في حياته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأنّ ما حصل من جمع له في حياة أبي بكر وعثمان كان لأغراض خاصة وبطرق لا تؤكد سلامته من النقص والزيادة والاضطراب وقد وقفت مع هذه الادعاءات طويلا رادا على كل شبهة بما يدحضها ويثبت سلامة النص القرآني من أي تغيير أو تبديل أو اضطراب أو زيادة أو نقص ، وأنه محفوظ بحفظ الله ـ سبحانه ـ له (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

١١

الفصل الرابع :

شبهاتهم حول شكل القرآن الكريم ومضمونه.

كشبهة التجزئة ، ومعنى كلمة السورة ، والحروف المقطعة ، وترتيب السور ، وغير ذلك. وقد رددت على هذه الشبه وبينت محاولاتهم لترتيب القرآن الكريم على غير ترتيبه الحالي التي بلغت تسع محاولات فاشلة.

وقد بينت أن هذه المحاولات نوع من العبث ، واعتداء على قدسية النص القرآني ، حيث تمزق القرآن تمزيقا ، وتفتت أجزاءه المترابطة تفتيتا وتذهب إعجازه وسحر بيانه.

الفصل الخامس :

شبهاتهم حول القراءات القرآنية.

وقد أرجع المستشرقون سبب الاختلاف في القراءات القرآنية : لخصوصية الخط العربي ، وبسبب أخطاء ارتكبها النساخ أثناء كتابتهم للقرآن الكريم ، وللحرية الفردية التي كان يتمتع بها القارئ وقد بينت أن اعتمادهم في إثبات ذلك كله كان على الروايات الواهية الضعيفة والاستنتاجات الخاطئة ، وعدم التمييز بين القراءات الصحيحة من غيرها.

وقد رددت على كل هذه الشبه وبينت أن القراءة سنة متبعة لا يجوز الاجتهاد ولا التشهي فيها ، وأن مدارها على النقل الصحيح المتواتر. وقد وجّهت القراءات التي استشهدوا بها بما اتسع له المقام في مكانه. كما بينت أنه لا يجوز قراءة القرآن الكريم بالمعنى التي حاول المستشرقون إثباتها.

الفصل السادس :

شبهاتهم حول الأسلوب القرآني.

أثار المستشرقون عدة شبه حول هذه القضية كشبهاتهم حول أسلوب القرآن المكّي والمدنيّ ، وأسلوب القصة القرآنية ، وشبهتهم حول الكلمات القرآنية

١٢

(أي التعريب) ، ثم شبهاتهم حول الفاصلة القرآنية. وكان سبب هذه الشبهات كلها اعتبارهم القرآن تأليفا لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والذي تأثر أسلوبه بالوسط الذي كان يعيش فيه.

وقد رددت على هذه الشبه وبينت ربانية المصدر للقرآن الكريم ، وأنه لا اختلاف في أسلوبه ولا تمايز بل كله يمتاز بمتانة الأسلوب ، وترابط المعاني ، وروعة الإعجاز ، وعدم قدرة الخلق على الإتيان بمثله.

الفصل السابع :

شبهاتهم حول إعجاز القرآن الكريم.

وكان من أبرز شبههم في هذا الفصل :

١ ـ أن القرآن الكريم ليس آية في الفصاحة والبلاغة بسبب طريقة كتابته وجمعه.

٢ ـ أن القرآن الكريم متعارض ومتضارب وزعموا أن لذلك أمثلة.

وحاول المستشرقون التدليل على عدم إعجاز القرآن الكريم بعدة قضايا كان من أبرزها : النسخ ، وجود قضايا تتعلق بشخص محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وآل بيته في القرآن الكريم ، وجود كلام زائد عن الحاجة فيه ، التكرار ، المعاياة وفساد المعنى. عدم الترابط بين أجزائه إلى غير ذلك من القضايا. وقد أوردوا عليها شواهد عدة ، رددت عليها ردا مسهبا في أكثر من خمسين صفحة ، وذلك لأن الإعجاز في القرآن أول دليل على إلهية مصدر القرآن الكريم وهو الآية العظمى على صدق نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

أما الباب الثالث : فقد خصصته لقضايا تتعلق بتفسير القرآن الكريم حيث قسمت هذا الباب إلى خمسة فصول وهي كالتالي :

١٣

الفصل الأول :

شبهات المستشرقين حول التفسير بالمأثور.

تناول المستشرقون تحت هذا النوع من التفسير تمنّع بعض الصحابة والتابعين والعلماء من القول في تفسير القرآن الكريم.

كما طعن المستشرقون في رجال هذا اللون من التفسير وفي كتبه ؛ لوجود الإسرائيليات فيها ؛ ولوجود بعض الروايات المختلفة في تفسير القول الواحد إلى غير ذلك من الشبه. وقد رددت على كل هذه الشبه بما يؤكد عظم هذا العلم وفضل هذا اللون من التفسير.

الفصل الثاني :

تناولت فيه التفسير بالرأي وشبهات المستشرقين حوله.

زعم المستشرقون أن هذا اللون من التفسير انشقاق على التفسير بالمأثور وحربا عليه. كما أثنى المستشرقون على أصحاب الرأي غير الملتزم بهدايات الوحي في التفسير ، واعتبروهم أتم عقلا وأنضج فكرا من أصحاب التفسير بالمأثور. فرددت على هذه المزاعم والشبه وبينت التفسير بالرأي الجائز من المذموم ، وأن الجائز لا يعارض المأثور بل منطلق منه ومبني عليه.

أما التفسير المذموم فهو خارج عن هدايات القرآن الكريم ، نابع من أغراض شخصية لأصحابه.

الفصل الثالث :

تناولت ما أطلق عليه المستشرقون اسم التفسير في ضوء التصوف الإسلامي.

الفصل الرابع :

تناولت ما أطلقوا عليه اسم التفسير في ضوء الفرق الدينية.

وهذان الفصلان مبنيان على الفصل السابق عند المستشرقين لأنهم انطلقوا

١٤

في فهمهم لهما من خلال فهمهم للتفسير بالرأي المبني على الهوى فأثنوا على أصحاب هذين اللونين من التفسير ، ووصفوا أصحابهما بالنضوج العقلي والتفوق الذهني.

وقد بينت موقف الإسلام منهما ووجه مخالفتهما للحق الذي يدعو إليه القرآن الكريم وبينت تصادمهما مع الهدايات القرآنية.

الفصل الخامس :

تناولت فيه ما أسموه التفسير في ضوء التمدن الإسلامي.

وقد تبنى المستشرقون أيضا هذا اللون من التفسير ، وفرحوا له كثيرا واعتبروه أنضج ألوان التفسير وقد أثنوا على دعاته كثيرا.

وقد وقفت مع هذا اللون من التفسير وبينت القدر الجائز منه والقدر غير الجائز ، كما بينت الجوانب الإيجابية والجوانب السلبية لأصحاب هذا اللون من التفسير وذكرت بعض الكتب التي انحرف أصحابها عن الصواب نتيجة لتبنيهم الاتجاه التوفيقي بين الإسلام والحضارة الغربية المادية بما فيها من عيوب.

وقد ختمت هذه الرسالة بخاتمة ذكرت فيها أهم النتائج التي توصلت لها ، وكما ضمنتها بعض المقترحات التي سبقني لبعضها أساتذة فضلاء غيورون كان منها :

١ ـ أن الجهد الفردي لأعجز من أن يقف أمام مدّ الهجوم الاستشراقي على الإسلام مما يتطلب أن تكون هناك كليات متخصصة تقوم برصد هذا النتاج الاستشراقي الضخم والرد عليه.

٢ ـ إقامة مؤسسة علمية عالمية محايدة لا تنتمي بالولاء لأي دولة من الدول ، يرصد لها الأموال ويتعاون معها كبار العلماء والمفكرين ، تقوم بإصدار الكتب والمجلات والموسوعات وترجمات معاني القرآن الكريم وترجمتها للغات العالمية ليقف الغرب على الإسلام العظيم دون تحريف ولا تشويه.

١٥

٣ ـ إرسال الأساتذة الدعاة للجامعات الغربية لإلقاء المحاضرات والندوات ولقاءات التحاور لتوضيح الفكرة الإسلامية ناصعة محفوظة من التشويه للعالم الغربي.

٤ ـ تعديل مناهج التعليم في الدول الإسلامية لتقوم على أسس الإسلام الصحيح نقية من الفكر الغربي الدخيل عليها.

٥ ـ توجيه المراكز الإسلامية في العالم الغربي للقيام بواجباتهم وأداء رسالتها بنجاح برصد كل نتاج غربيّ ضد إسلامنا العظيم ، ثم تزويد الجهات المختصة بهذا النتاج للرد عليه ونشر هذه الردود بين الغربيين.

٦ ـ إقامة دورات للمبتعثين لديار الغرب من أجل الدراسة أو المقيمين فيها من أجل العمل لتحصينهم ضدّ شبه الغربيين على الإسلام ولتكون عندهم القدرة في توضيح الصواب. وقد كانت جامعتنا رائدة لهذه الفكرة النبيلة.

٧ ـ ولا يفوتني وأنا أقدم هذه المقترحات أن أشير إلى أمر يشكل على كثير من الناس وهو ظنهم أن المستشرقين قاموا بجهود يعجز عنها علماء المسلمين في الوقت الحاضر. والحقيقة أننا لو بحثنا عن أسباب نجاح المستشرقين في بعض الجوانب العلمية لزال اللّبس والوهم عن الأذهان فلو علمنا أن مؤسسات مالية ضخمة تخصص الملايين من الدولارات ، وتفرّغ أساتذة في الجامعات لإنجاز مشروع ما وتطلق أيديهم بالإنفاق على هذا المشروع بسخاء ويستغرق المشروع عشرات الأعوام فمن البديهي أن تكون النتيجة دراسة متخصصة عميقة في هذا الجانب. ولو تسنى لعلماء المسلمين اليوم مثل هذه الإمكانات المادية والأجواء العلمية لأبدعوا أكثر من هؤلاء بكثير وما نراه من آثار سلفنا الصالح في شتى مجالات المعرفة لدليل على صحة ما أقول على الرغم أن أغلب آثارهم العلمية كانت بجهود فردية.

ولما كان الاستشراق بهذه الخطورة في حرب الإسلام ، وتشويه صورته في نفوس من يتعرف على الإسلام من خلال كتاباتهم رغبت في نشر هذا الكتاب

١٦

الذي كان أطروحتي لدرجة الدكتوراة من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وبإشراف أستاذي الكبير الدكتور مصطفى مسلم محمد ليستفيد منه أبناء الإسلام ويعرفوا هذه الفئة على حقيقتها.

ومما يجدر الإشارة إليه أني قد تناولت كتاباتهم بمحض الموضوعية ولم أنزل لأسلوبهم المليء بالإسفاف والحقد على الإسلام العظيم ..

والله ولي التوفيق

المؤلف

د. عمر رضوان.

 

١٧
١٨

الباب التمهيدي

الاستشراق

١٩
٢٠

الباب التمهيدي

الاستشراق

المبحث الأول

أ ـ تعريفه

ب ـ نشأة الاستشراق

المبحث الثاني

دوافع المستشرقين وأهدافهم

المبحث الثالث

وسائل المستشرقين

المبحث الرابع

اليهود والاستشراق

المبحث الخامس

طوائف المستشرقين

المبحث السادس

المناهج وميزان البحث عند المستشرقين

٢١
٢٢

الباب التمهيدي

الاستشراق

المبحث الأول

أ ـ تعريفه :

كلمة الاستشراق لفظة مولدة من لفظ (استشرق) المأخوذ من مادة «شرق» أي مستشرق.

استعملها المحدثون ترجمة لكلمة (Orientalism) التي تدل على معنى (مستشرقون) ، أما المحققون فيستعملون بدلا منها (علماء المشرقيات) ولكن كلمة (مستشرقون) أكثر شيوعا خاصة في الآونة الأخيرة (١).

فالمستشرق هو : عالم غربي اهتم بالدراسات الشرقية عقدية كانت أو تاريخية أو أدبية أو حضارية .. إلخ.

فالاستشراق إذن هي دراسة الغربيين عن الشرق من ناحية عقائده أو تاريخه أو آدابه .. إلى غير ذلك.

وكان أول ظهور لكلمة «مستشرق» في اللغة الإنجليزية سنة ١٧٧٩ م كما دخلت في معجم الأكاديمية الفرنسية سنة ١٨٣٨ (٢) م.

ب ـ نشأة الاستشراق :

اختلف المفكرون كثيرا في بداية حركة الاستشراق على أقوال عدة وإن كان قول من أرجعه للقرن السادس عشر الميلادي أكثر وضوحا ولا يمنع أن يكون هناك محاولات غير منظمة ظهرت قبل هذا التاريخ من القرن العاشر الميلادي منذ

__________________

(١) الاستشراق نشأته وتطوره وأهدافه ـ إسحاق موسى الحسيني ص ١.

(٢) فلسفة الاستشراق. د. أحمد سمايلوفتش ص ٣٠ ، والاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ـ محمود زقزوق ، ص ١٨.

٢٣

أن عم الإسلام بلاد الأندلس ، وانهزمت أمامه جيوش الغرب العسكرية وبأن عوار تأخره ثقافيا وحضاريا ، فما كان منه إلا أن وجه كل اهتمامه للتعرف على هذه القوة التي قهرته وتغلغلت في أرضه حتى دكت أبواب دوله وعواصمه. فأرسل طلابه ينهلون من العلوم الإسلامية في معاقل العلم في ديار الإسلام ، فترجموا كثيرا من كتبه وعلى رأس ذلك القرآن الكريم للتعرف على هذا الدين العظيم كما طلبوا مدرسين يعلمونهم في مراكز العلم عندهم إلى غير ذلك من الأمور التي تدل على اهتمامهم بالشرق الإسلامي من وقت مبكر.

فمن هذه البعثات الدراسية التي جاءت تنهل العلم من ديار الإسلام.

١ ـ البعثة الفرنسية برئاسة الأميرة «إليزابيث» ابنة خالة «لويس السادس» ملك فرنسا.

٢ ـ البعثة الإنجليزية برئاسة الأميرة (دوبان) ابنة الأمير جورج صاحب مقاطعة (ويلز).

٣ ـ البعثة الأسبانية التي كانت سنة ١٢٩٣ م والتي بلغ تعداد طلابها (٧٠٠) طالب وطالبة (١) وكان من بين هؤلاء الطلاب بعض الرهبان فرجع هؤلاء لبلادهم يحملون علوم الشرق الإسلامي الباهرة.

وكان من بين الدعاة المتحمسين الذين طالبوا بضرورة تعلم لغات الشرق لغرض التنصير «روجر بيكون» (١٢١٤ ـ ١٢٩٤ م) و «رايموندلول» (١٢٣٥ ـ ١٣١٦ م) وكان لهذين المستشرقين الأثر الكبير في إنشاء كراسي تدريس اللغة العربية في الجامعات الغربية على أثر قرارات مجمع (فينا) الكنسي في عام ١٣١٢ م الذي وافق على أفكارهما واقتراحاتهما بذلك فأنشأ خمسة كراسي جامعية في خمس جامعات غربية لتعليم اللغة العربية منها : باريس ، اكسفورد ، بولونيا ، سلمنكا (٢).

__________________

(١) الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار ـ البهي الخولي ، ص ٥٣٢.

(٢) تراث الإسلام ـ لجنة الجامعيين لنشر العلم بحث الأدب ـ جب ١ / ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٢٤

والعوامل التي كونت نشأة الاستشراق متعددة : دينية ، وسياسية ، واقتصادية ، وعلمية ، وغير ذلك.

فالعامل الديني واضح لا غموض فيه وهو يهدف إلى نشر الديانة المسيحية وتبليغ دعوتها ، وتصوير الإسلام تصويرا يثبت فضل المسيحية ورجحانها عليه ، ويبعث في الطبقة المثقفة إعجابا بالمسيحية وحرصا عليها ويحول بين أفرادهم والدخول في الإسلام ، لذا ركزوا على إثارة الشبهات والأباطيل حول القرآن خاصة والإسلام عامة لهذا الغرض نفسه. ولذلك نرى أن «الاستشراق والتبشير» يسيران في أغلب الأحوال معا. وأن عدد المستشرقين الأكبر أساقفة ، وعددا منهم يهود ديانة وجنسا.

أما العامل السياسي فواضح كذلك فقد كان المستشرقون روادا لدولهم الغربية في الشرق ، ومن واجبهم أن يمدوها بمددهم العلمي ليتعرف الغرب ـ عن قرب ـ على الشرق في كل شئون حياته ، ويتسنى له أن يبسط نفوذه وسلطته على الشرق وأن يحسن التعامل مع أهله ، ويتسنى له قيادهم والتحكم فيهم.

أما العامل الاقتصادي فكثير من المثقفين اتخذ الاستشراق تجارة رابحة ، ومهنة ناجحة. فشجعوا نشر الكتب التي تدور حول الإسلام والعلوم الشرقية ، وأشرفوا على نشرها لما يرون لها من سوق نافقة في أوربا وآسيا وغيرهما من بلاد العالم اليوم.

وأما العامل العلمي المحض فهو محدود وقد كان من عدد قليل من المثقفين الذين اهتموا بالدراسات الشرقية لشغفهم العلمي (١).

هذه العوامل وغيرها كانت من الأسباب الرئيسية في نشأة الاستشراق ودفع عجلته للأمام وكان من أوائل من اهتم بالدراسات الاستشراقية الراهب الفرنسي «جوبرت» الذي انتخب بابا لكنيسة روما عام (٩٩٩ م) بعد تعلمه في

__________________

(١) الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية لأبي الحسن الندوي ص ١٨٧ وما بعدها (بتصرف).

٢٥

مدارس الأندلس وعودته إلى بلاده ، و «الراهب بطرس» المحترم (١٠٩٢ ـ ١١٥٦ م) ، والراهب «جيراردي كريمون» (١١١٤ ـ ١١٨٧ م) وفردريك الثاني ملك صقلية سنة (١٢٥٠ م) ، و «الفونس» ملك قشتالة ، و «جوبرت» الراهب الفرنسي ، وغيرهم.

وعند ما عاد هؤلاء الرهبان من الأندلس إلى بلادهم نشروا ثقافة المسلمين وعلومهم ومؤلفات أشهر علمائهم في تلك البلاد ، وأخذوا يدرسونها في معاهدهم آنذاك. وقد استمروا بالاعتماد على هذه الكتب قرابة ستة قرون. ولما جاء القرن الثامن عشر العصر الذي بدأ فيه الغرب في استعمار العالم الإسلامي والاستيلاء على ممتلكاته نبغ عدد من علماء الغرب في الاستشراق نبوغا ملحوظا.

وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر عقد أول مؤتمر للمستشرقين في باريس عام (١٨٧٣ م) وتتالى عقد المؤتمرات التي تلقى فيها الدراسات عن الشرق وأديانه وحضاراته حتى يومنا هذا.

فبناء على ما تقدم تكون بداية الاستشراق بشكل واضح منذ أن دقت جيوش الفتح الإسلامي أبواب أوربا وعواصمها ؛ مما دفع أوربا الغارقة في الجهل والتخلف الحضاري يومئذ للبحث عن أسباب نهضة المسلمين ، وعن سبب بلوغهم هذا المجد العظيم الذي بلغوه ؛ لذا درسوا علوم هؤلاء الفاتحين لعلهم يوقفون مدهم وزحفهم عن بلادهم ، ولعلهم يكتسبون منهم ما ينفعهم في إنقاذهم من تخلفهم الحضاري ، لذا كان الاستشراق هو باب الأمل المنشود لهم (١).

ولما انتهت الحروب الصليبية بالهزيمة الساحقة لجيوش الغرب النصراني ، وضعت الخطة لغزو المسلمين بوسائل أخرى غير الحرب بالأسلحة المادية واقتضت خطة الغزو الجديد التوسع في الدراسات الاستشراقية ؛ لتكون تمهيدا للغزو الفكري الرهيب وإعدادا لشروطه الفكرية والنفسية. وانطلق المهتمون بالدراسات

__________________

(١) أجنحة المكر الثلاثة عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ص ١٢٠ ـ ١٢١. والمستشرقون والإسلام إبراهيم اللبان ، ص ١١.

٢٦

الشرقية يعملون لهذا الهدف فأخذوا يترجمون إلى لغاتهم كثيرا من كتب المسلمين ويعملون عليها الدراسات المتعددة فيضعونها بين أيدي ساسة الغرب ليتسنى لهم إخضاع الشرق لهم فكريا ، وتوجيهه سياسيا حسب خططهم المرسومة.

من هنا زاد اهتمام هؤلاء الساسة لحركة الاستشراق وتوجيهها ودعمها لدراسة الشرق من جوانب متعددة : لغوية ، ودينية ، واجتماعية ، وتاريخية ، وسياسية ، وغير ذلك. وقد كان كثير من هؤلاء المستشرقين من منسوبي الكنيسة. لذا التقت في الاستشراق أهداف جمعيات التبشير وأهداف الدوائر الاستعمارية ، ثم توسعت الحركة الاستشراقية ونمت بشكل كبير خاصة عند ما انتقلت إلى مقاعد الدراسة ومراكز العلم حيث أسست للاستشراق معاهد ومقاعد جامعية ، وتألفت له جمعيات تهتم به وبدراساته وتنشر هذه الدراسات في صحف ومجلات لها اهتمام بهذا الجانب ومن دراساتهم التي نشرت بعض المخطوطات العربية ووضع الفهارس الشاملة لبعض الكتب الإسلامية ووضع بعض المعاجم المفهرسة (كالمعجم المفهرس لألفاظ الحديث) وتأليف (المعجم المفهرس لآيات القرآن الكريم). وكتفصيلهم آيات القرآن الكريم حسب الموضوعات إلى غير ذلك ..

ومن الجامعات التي اهتمت بالاستشراق فأنشأت له كراسي جامعية جامعة السوربون في فرنسا ، وجامعة لندن في بريطانيا ، وغيرهما. وقد بلغ بهذه الجامعات أن أخذت تعطي شهادات في الدراسات الشرقية عامة والإسلامية خاصة. ومما يؤسف له أن بعض هذه الجامعات تدعم من قبل بعض الدول العربية. ظنا منهم أن في دعمهم لها تعريفا للغرب على الإسلام. ورأى اليهود في الاستشراق بابا يحقق أغراضهم وأهدافهم فدخلوه باهتمام بالغ حتى وصل بعضهم لرئاسة بعض هذه الأقسام واحتلال كثير من كراسيها الجامعية مثل جولد تسيهر وغيره.

كما أن الدول الأوربية الشرقية بعد نجاح الثورة الشيوعية في بلادهم اهتمت بالحركة الاستشراقية لاستخدامها في حرب الإسلام الذي يقف سدا منيعا في طريق انتشارها.

٢٧

وهكذا نجد أن الاستشراق ولد في حضن التبشير وكبر في حضن الاستعمار والصهيونية والشيوعية.

٢٨

المبحث الثاني

دوافع المستشرقين وأهدافهم

باستطاعتنا أن نتعرف على دوافع المستشرقين وأهدافهم من خلال أعمالهم ، ومن النظرات التاريخية إلى واقع حال الدول الغربية ، قبل أن تظهر فيها ظاهرة الاستشراق وبعدها ، ومن النظر في صلة الاستشراق بالتبشير ، وإلى صلته بالاستعمار .. إلخ فسأذكر فيما يلي خلاصة عن دوافعهم وأهدافهم. مع العلم أن الدوافع تلتقي مع الأهداف ، باعتبار أن الدافع يمثل المحرض النفسي لاتخاذ الوسائل التي توصل إلى الأهداف الغائبة من العمل (١).

أ ـ دوافع الاستشراق :

تنوعت دوافع الاستشراق خلال فترات نشأته منها :

١ ـ الدافع النفسي :

لا شك أن حب الاطلاع والتعرف على حياة الآخرين وأفكارهم وسبل معيشتهم أمر فطري غريزي في الإنسان وهذه الرغبة متأصلة في أعماق النفس البشرية لا يمكن أن تستأصل. ومن أجل هذه الرغبة يتحمل الإنسان المتاعب والمصاعب بأنواعها (٢).

لذا فهذا الدافع كان من أول الدوافع التي جعلت المستشرقين يهتمون بالشرق وحضارته وسبل عيش أهله وطرق تفكيرهم ، إلى غير ذلك مما يجهلونه ويحبون أن يطلعوا عليه.

__________________

(١) أجنحة المكر الثلاثة للميداني ص ١٢٥.

(٢) فلسفة الاستشراق ص ٤٠ ـ ٤٢ ، د. أحمد سمايلوفتش ، طبعة دار المعارف.

٢٩

٢ ـ الدافع التاريخي :

العلاقة بين الشرق والغرب قديمة جدا ، كان يصحبها في بعض الأحيان عداء وحروب بين الطرفين ، وصراع من أجل السيطرة سواء كانت فكرية أو عسكرية. مما يدعو كل طرف منهما للاطلاع على ما عند الآخر من عقائد ، وتراث وحضارة وعادات وقيم ليخترقه ويسيطر عليه من خلال نقاط الضعف التي فيها. ومن الأمثلة على ذلك الحروب الصليبية حيث اقتضت هذه الحروب استصحاب من له خبرة واطلاع على جغرافية الشرق وأحوال أهله ودياناتهم وعاداتهم .. إلى غير ذلك من الأمور (١).

٣ ـ الدوافع الاقتصادية والتجارية :

من الدوافع التي كان لها الأثر في تنشيط حركة الاستشراق ، رغبة الغربيين في التعامل مع الشرق لترويج بضائعهم في أسواقه والاستيلاء على موارده الطبيعية الخام بأبخس الأثمان ؛ لذا حرصوا على فتح أسواق تجارية لصناعاتهم في منطقتنا ، وحرصوا كذلك على قتل النشاط الصناعي والتجاري في شرقنا حتى يبقى متخلفا ، شاعرا بالنقص والحاجة لهم ، منهزما نفسيا أمام تقدمهم مما يسهل خضوعه وخنوعه وانقياده لهم.

هذه من الدوافع التي جعلت الغرب يهتم بالشرق ويحب التعرف على كل شيء فيه خاصة جغرافيته ، ومكان الخيرات فيه مما جعل هؤلاء الطامعين يشجعون الباحثين والمفكرين في تقديم دراسات وافية عن الشرق (٢) وقد نالت هذه الدراسات الرضا والقبول وأصبحت تدر على أهلها ودور النشر التي تتولى نشرها أرباحا هائلة.

٤ ـ الدافع الديني :

إننا لا نحتاج إلى عناء كبير للتعرف على دافع الاستشراق الديني فقد بدأ

__________________

(١) الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ـ د. محمود زقزوق ص ٧٤.

(٢) افتراءات فيليب حبيب وكارل بروكلمان على التاريخ الإسلامي ـ عبد الكريم الباز ص ١٩ ، وأجنحة المكر الثلاثة ص ١٢٨.

٣٠

الاستشراق أول ما بدأ كما ذكرت سابقا من الفاتيكان ، وكان أول رواده من رجال الكنيسة وعلماء اللاهوت حيث ظلوا المشرفين على هذه الحركة والمسيرين لها حتى القرن التاسع عشر ؛ وذلك للدفاع عن الكنيسة وسلطانها ولمواجهة الضغوط الشديدة المتزايدة من المفكرين المتمردين عليها ، خاصة وأن بعض المتمردين وجدوا في الإسلام فرصة لتفكيرهم وتخلصا من سلطان كنائسهم التي تحجر على عقولهم ، حيث أظهر بعضهم إعجابه بالإسلام. مما أفزع الكنيسة ودفعها لمحاربة الإسلام بثلاثة اتجاهات :

١ ـ الطعن في الإسلام وتشويه حقائقه ، والافتراءات عليه بمختلف الأكاذيب لشحن أتباعها ضده وتنفيرهم منه ، والإثبات لجماهيرها التي تخضع لسلطانها أن الإسلام هو الخصم الوحيد للمسيحية وهو دين لا يستحق الانتشار ، زاعمة أن أتباعه ـ على حد زعمهم ـ قوم همج متخلفون ، سراق نياق ، سفاكو دماء ، يبحثون عن المتعة الرخيصة من الكأس إلى غير ذلك من الأباطيل والافتراءات التي لا تمت للحقيقة بصلة (١).

٢ ـ حماية النصارى من خطر الإسلام بالحيلولة بينهم وبين رؤية حقائقه الناصعة ، وآياته البينة الواضحة ، وتاريخه المجيد حتى لا يؤثر عليهم فيدخلوا فيه.

٣ ـ محاولة تنصير المسلمين فمن أجل ذلك جهزوا جيوشا من المنصرين لهذا الغرض ، ووضعوا بين أيديهم الإمكانيات الكبيرة ؛ لإعطاء الثقة لمن فقدها من أبناء جنسهم ، ولهز ثقة المسلمين أنفسهم في دينهم.

فمن أجل هذا الغرض عقدوا مؤتمرات عدة بدءوها بمؤتمر فينا الكنسي سنة (١٣١٢ ه‍) الذي قرروا فيه إنشاء كراسي جامعية للغة العربية (٢) كما حصل في جامعة كمبردج آنذاك وغيرها وذلك ليسهل عليهم التعرف على الإسلام

__________________

(١) افتراءات فيليب حبيب وبروكلمان على التاريخ الإسلامي ص ١٨ ـ الاستشراق والخلفية الفكرية زقزوق ص ٧٢. الاستشراق والخلفية الفكرية ص ١٩.

(٢) الاستشراق والخلفية الفكرية ص ٧٢.

٣١

ومعرفة مكامن الضعف عند المسلمين فيتسللوا من خلالها. وكذلك أنشئوا المجلات العلمية لنشر أفكارهم ودسائسهم فيها كمجلة العالم الإسلامي (سنة ١٩١١ م) برئاسة (صموئيل زويمر) رئيس المبشرين في الشرق الأوسط. كما أكثروا من التأليف عن الإسلام بكتب فقدت روح البحث العلمي لما حوته من تفاهات وأساطير وأباطيل وقلب للحقائق عن الإسلام ككتب «سال» مثلا (١) وقد استمرت سيطرة الكنيسة على حركة الاستشراق من سنة (١٣١٢ م) إلى القرن الثامن عشر حيث بدئ بالفصل بين اللاهوت والدراسات الاستشراقية في بعض البلاد الغربية كفرنسا وانجلترا. أما ألمانيا والنمسا فقد استمرت فيهما سيطرة الكنيسة على الحركة الاستشراقية لمنتصف القرن التاسع عشر حيث فصل بينهما.

وخير من وجه حركة الاستشراق وجهة علمية بعيدة عن التنصير وكان ذلك في منتصف القرن التاسع عشر المستشرق الفرنسي (سلفستر دي ساسي).

وممن اشتهر من المستشرقين بالدراسات الإسلامية على وجه الخصوص «جولد تسيهر» ، و «نولديكه» ، و «فلهاوزن» ، «ريتشارد بل» ، و «بلاشير» وغيرهم. كما أن هذا الدافع دفع اليهود لاستغلال حركة الاستشراق لتحقيق مآربهم وأهدافهم وإن لم يظهروا بشخصيتهم اليهودية بل تلونوا مع كل الطوائف وعملوا تحت كل اللافتات وكان من أشهرهم اليهودي المجري «جولد تسيهر» ، والألماني «نولديكه» وغيرهما كثير.

وكان هذا الدافع من أكثر الدوافع التي دفعت عجلة الاستشراق للأمام وأكثر من أساتذتها وتلاميذها.

٥ ـ الدافع الاستعماري والسياسي :

لازمت حركة الاستشراق الاستعمار الغربي لبلاد الشرق الإسلامي فقد

__________________

(١) الاستشراق والخلفية الفكرية ص ٧٢.

٣٢

استطاع الغرب المسيحي أن يسيطر على كثير من بلدان العالم الإسلامي. وقد كان هذا الاستعمار امتدادا للحروب الصليبية التي كانت في ظاهرها دينية وفي باطنها استعمارية.

ولم تأت نهاية القرن التاسع عشر حتى كانت كل أجزاء العالم الإسلامي تقريبا قد سقطت في براثن الاستعمار الغربي. وليتم لهم السيطرة ، وليتمكنوا من الاستمرار في بقائهم في هذه البلاد كان لازما عليهم دراسة أحوال الشرق ، وتاريخه ، ولغاته وعقائده فجندوا لهذه المهمة عددا كبيرا ممن لهم دراية بالشرق وأحواله فسخروا علمهم لخدمة الاستعمار البغيض فكان هؤلاء المستشرقون عملاء لحكوماتهم ، وشركاء لهم في صنع القرار السياسي في آن واحد.

بعد تحرر البلاد الإسلامية من الاستعمار العسكري رأى ساسة الغرب أن يكون الاستعمار له طابع آخر وهو أن يكون استعمارا فكريا ؛ لذا اقتضى الأمر أن تزود القنصليات والسفارات والمؤسسات الدولية التابعة لهم بمن لديهم الخبرة في الدراسات الاستشراقية ليبثوا ما تريده دولهم من اتجاهات سياسية ، وليقوموا بمهمات سياسية متعددة منها :

١ ـ الاتصال بالسياسيين والتفاوض معهم لمعرفة آرائهم واتجاهاتهم.

٢ ـ الاتصال برجال الفكر والصحافة للتعرف على أفكارهم وواقع بلادهم.

٣ ـ بث الاتجاهات السياسية التي تريدها دولهم ، فيمن يريدون بثها فيهم وإقناعهم بها.

٤ ـ الاتصال بعملائهم وأجرائهم الذين يخدمون أغراضهم السياسية داخل شعوب الأمة الإسلامية (١).

وقام هؤلاء المستشرقون بدراسة هذه البلاد في كل شئونها من عقدية

__________________

(١) الاستشراق والمستشرقون ـ د. مصطفى السباعي ص ١٨ ـ ١٩.

٣٣

وعادات وأخلاق وثروات ولغات وتاريخ إلى غير ذلك. للتعرف على مواطن القوة فيها فيضعفوها ، وإلى مواطن الضعف فيغتنموها ، ولإضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوس المسلمين ، وبث الوهن والارتباك في تفكيرهم ، وكان لهم في ذلك دسائس تسللوا بها إلى نفوس المسلمين منها :

١ ـ التشكيك بفائدة ما في أيدي المسلمين من تراث ، وبما عندهم من عقيدة وشريعة ، وخلق وقيم إنسانية. ليفقدوا الثقة بأنفسهم ويرتموا في أحضان الغرب يستجدون منهم المقاييس الأخلاقية والمبادئ والعقائد والحلول لمشاكلهم ، ليتم للغرب إخضاع المسلمين لحضارته وثقافته إخضاعا كاملا.

٢ ـ إحلال مفاهيم جاهلية ماتت منذ انتشر الإسلام ، كالقوميات الفرعونية ، والفينيقية ، والآشورية ، والعربية والكردية والتركية ، والفارسية ، ونحو ذلك ؛ ليتسنى لهم تشتيت شمل الأمة الواحدة (١).

٣ ـ إحلال الفتن الطائفية بين السكان كالمسلمين والنصارى والدروز والعلويين ، وغير ذلك. وما حرب لبنان عنا ببعيد. وإشعال الفتن بين الدول الجارات كما حصل في إشعالهم الحرب بين العراق وإيران وتمزيق وحدة الأمة الواحدة بسياستهم «فرق تسد» ، وطبخ الانقلابات العسكرية لصالح سياسة دولة من دولهم .. حتى باتت كثير من حكوماتنا عسكرية تحكم شعوبها بالحديد والنار وسفك الدماء وسجن الأحرار والمصلحين. مع أنهم لا يرضون لأنفسهم إلا الديمقراطية وكامل الحرية الشخصية للفرد.

فمن خلال هذه الدراسات تعرف الغرب على مكامن وبواعث القوة والمجد ومواقع الخير والإنتاج والعبقرية والتفوق عند الشرق وعلى مواقع الجدب وهزال الإمكانات والمواهب (٢) فتسنى لهم السيطرة الكاملة على شرقنا العزيز ، فضيعوا هويته ، وأفقدوه ثقته بنفسه فكان لهم ما أرادوا. وبهذا يكون قد خرج

__________________

(١) أجنحة المكر الثلاثة ـ ص ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٢) وحي الله حقائقه في الكتاب والسنة نقض مزاعم المستشرقين ـ د. حسن عتر. ص ٢١.

٣٤

الاستشراق عن غايته الأساسية التي أسس من أجلها مما أثار في نفوس بعض المنصفين منهم الأسى والحزن لهذه السياسة حيث قال «استفان فيلد» مظهرا استياءه :

[والأقبح من ذلك أنه توجد جماعة يسمون أنفسهم مستشرقين سخروا معلوماتهم عن الإسلام وتاريخه في سبيل مكافحة الإسلام والمسلمين. وهذا واقع مؤلم لا بد أن يعترف به المستشرقون المخلصون لرسالتهم بكل صراحة](١).

ومن بين الأمثلة العديدة على ارتباط الاستشراق بالاستعمار :

١ ـ المستشرق «كارل هينريخ بيكر» (ت ١٩٣٣ م) مؤسس (مجلة الإسلام) الألمانية الذي قام بدراسات تخدم الاستعمار الألماني في إفريقيا حيث حصل الرايخ الألماني في عام ١٨٨٥ ـ ١٨٨٦ م على مستعمرات في إفريقيا واستمر هذا الاستعمار إلى عام ١٩١٨ م.

٢ ـ المستشرق الروسي «بارثود» (ت ١٩٣٠ م) الذي تم تكليفه عن طريق الحكومة الروسية بالقيام ببحوث تخدم السيادة الروسية في آسيا الوسطى. وقد أسس مجلة باسم (عالم الإسلام).

٣ ـ المستشرق (سنوك هورجرونية) عالم الإسلاميات الهولندي الشهير ، فإنه في سبيل خدمة الاستعمار توجه إلى مكة في عام ١٨٨٥ م بعد أن انتحل اسما إسلاميا هو (عبد الغفار) ، وأقام هناك ما يقرب من نصف عام ، وقد ساعده على ذلك أنه كان يجيد العربية كأحد أبنائها ، وقد لعب هذا المستشرق دورا هاما في تشكيل السياسة الثقافية والاستعمارية في المناطق المستعمرة للهولنديين في الهند الشرقية ، وقد شغل «سنوك» مناصب قيادية في السلطة الاستعمارية الهولندية في أندونيسيا (٢).

__________________

(١) الاستشراق ـ محمود حمدي زقزوق ص ٤٤.

(٢) نفس المرجع السابق ص ٤٥ ـ ٤٦.

٣٥

٤ ـ «هانوتو» ج. ت (١٩٤٤ م) المستشرق الفرنسي الذي كان بمقترحاته يوجه سياسة فرنسا في مستعمراتها الأفريقية الإسلامية والتي ركز فيها على إضعاف المسلمين في عقيدتهم حتى يسهل قيادهم (١).

٥ ـ اللورد «كيرزن الإنجليزي» الذي كان متحمسا لإنشاء مدرسة للدراسات الشرقية لدعم الموقع الذي نالته بريطانيا في الشرق وقد تحولت هذه المدرسة فيما بعد إلى جامعة لندن للدراسات الشرقية والأفريقية. والذي يظهر لك مقدار اعتماد الدول الاستعمارية على الاستشراق أن الحكومة البريطانية كانت تضع سياستها في البلاد التي احتلتها بعد التشاور مع فريق من المستشرقين.

وهكذا يظهر لنا جليا الارتباط العضوي الذي كان يجمع بين الاستعمار والاستشراق وكيف استطاع الاستعمار أن يسخر الاستشراق لأغراضه الرخيصة ، وأن يخرج الاستشراق عن أهدافه العلمية.

٦ ـ الدافع العلمي :

من المستشرقين نفر قليل جدا أقبل على الدراسات الاستشراقية لإشباع نهم علمي متجرد. وذلك بدافع من حب الاطلاع على حضارات الأمم ، وأديانها ، وثقافاتها ، ولغاتها. وكان هؤلاء النفر من المستشرقين أقل من غيرهم خطأ في فهم الإسلام وتراثه ، حيث جاءت بحوثهم أقرب إلى الحق والصواب ، إلا أن موارد هؤلاء المالية الخاصة بهم كانت قليلة لا تسعفهم بالانصراف لمثل هذه الدراسات والتي لا تلقى رواجا عند رجال الدين ولا عند رجال السياسة في بلدانهم ؛ لذا كسدت بحوثهم فقل عددهم حتى أصبحوا نادرين وهؤلاء مع إخلاصهم في البحث والدراسة لم يسلموا من الأخطاء والاستنتاجات البعيدة عن الحق ، إما لجهلهم بأساليب اللغة العربية وإما لجهلهم بالأجواء التاريخية الإسلامية على حقيقتها ، فيتصورونها كما يتصورون مجتمعاتهم الغربية ، ناسين الفروق الطبيعية والنفسية والزمانية التي تفرق بين المجتمعين ، ومن استطاع من هؤلاء أن يعيش

__________________

(١) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي ص ٣٠.

٣٦

بقلبه وفكره ويتجرد من جو البيئة التي كان يعيش فيها ، أتى بنتائج توافق الحق والصدق والواقع ومثل هؤلاء المستشرقين لا يدعهم قومهم وشأنهم ، بل يهاجمونهم ، ويتهمونهم بالانحراف عن المنهج العلمي ، والانسياق وراء العاطفة لمجاملة المسلمين. ومن هؤلاء المستشرقين المستشرق «توماس أرنولد» الذي حين أنصف المسلمين في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) الذي برهن فيه على تسامح المسلمين في جميع العصور مع مخالفيهم في الدين.

ومن هؤلاء المستشرقين من أدى به بحثه الخالص لوجه الحق إلى اعتناق الإسلام كما حصل ذلك مع المستشرق الفرنسي الفنان «دينيه» والذي سمى نفسه «ناصر الدين دينيه» وألف بعد ذلك مع عالم جزائري كتابا عن سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. و «لدينيه» كتاب آخر بعنوان (أشعة خاصة بنور الإسلام) بين فيه تحامل قومه على الإسلام ورسوله. ومنهم المستشرق المجري «عبد الكريم جرمانوس» الذي أسلم في الهند سنة ١٩٣٠ م والذي ألف أكثر من (١٥٠) كتابا عن الإسلام ومنهم الطبيب الفرنسي «موريس بوكاي» صاحب كتاب «دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة» الذي أثبت فيه موافقة القرآن لأحدث الحقائق العلمية التي توصل إليها الناس بوسائلهم المختلفة اليوم (١) ، وغير هؤلاء كثير. ومثل هؤلاء المستشرقين يحتاجون من المسلمين أن يتبنوا كتبهم بنشرها والوقوف بجانبهم في كل ما يحتاجونه من دعم مادي ومعنوي ، فإنهم أقدر منا وأبلغ في إيصال دعوة الإسلام لأبناء قومهم وذلك لمعرفتهم الشاملة بما يناسب قومهم من أساليب وبراهين ، وما هم بحاجة لكشفه من شبهات وتفنيد ما ترسب في نفوسهم من أباطيل وأكاذيب (٢)(وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٣).

__________________

(١) والأستاذ «محمد أسد» صاحب كتاب منهاج الحكم في الإسلام.

(٢) أجنحة المكر الثلاثة ص ١٢٩ ـ ١٣١ (بتصرف).

(٣) سورة يوسف (٢١).

٣٧

ب ـ أهداف المستشرقين :

الذي ينظر في أعمال المستشرقين وجهودهم التي بذلوها في سبيل التعرف على الشرق وأحواله ودياناته وحضاراته .. إلخ يتساءل :

ما الذي دعا هؤلاء الباحثين الغربيين لبذل كل هذا الجهد والعمر والمال في دراسة غريبة عنهم. مع أنهم لو بذلوها لدراسة مجالات أوربية أخرى لكانت أكثر فائدة لهم من الناحية العلمية والمادية. ولسلموا من النقد الذي يوجه إليهم دائما ، فلا شك أن هناك دوافع قوية وأهدافا رئيسية كانت وراء كل هذه الجهود وقد وجدت «نجيب العقيقي» في كتابه (المستشرقون) قد جعل الدافع العلمي وراء كل هذه الجهود.

ولكني أجد أن الاستشراق ولد في حضن التنصير ، وكبر في حضن الاستعمار ، ونضج في النهاية في حضن المؤسسات التعليمية.

وقد أكد «رودي بارت» أن الدافع العلمي في الحركة الاستشراقية لم يظهر إلا في منتصف القرن التاسع عشر.

فالذي يرجع لبداية تاريخ الاستشراق يجد أن الهدف الديني هو أساس انطلاقة الحركة الاستشراقية ولم يستطع الاستشراق أن يتحرر من إسار الخلفية الدينية حتى نهاية القرن التاسع عشر إلا قليلا. وقد تمثل هذا الهدف باتجاهات ثلاثة :

١ ـ محاربة الإسلام والبحث عن نقاط ضعف فيه ، وإبرازها وتضخيمها والزعم بأنه دين مأخوذ من النصرانية واليهودية ، والانتقاص من قيمته والحط من قدر نبيه.

٢ ـ حماية النصارى من خطر الإسلام بحجب حقائقه عنهم ، وتحذيرهم من خطره عليهم.

٣ ـ حملات التنصير بين المسلمين ، لتشكيكهم في دينهم ، وهز ثقتهم

٣٨

فيه وخير ما يوضح هذا الهدف قرارات مؤتمر (فينا) الكنسي الذي عقد سنة ١٣١٢ م.

واعتبار هذا الهدف هو أساس الأهداف كلها لا يعني أنه لا يوجد أهداف أخرى واكبت حركة الاستشراق في خلال مسيرتها. وسأستعرض هذه الأهداف بشيء من التفصيل .. والله الموفق.

١ ـ منع انتشار الإسلام في أوربا وغيرها والحيلولة بينه وبينهم ، حفاظا على سلطان الكنيسة ومغانمها. وذلك لما رأوا في الإسلام من تمتع بقوى ذاتية يصل من خلالها للنفوس ، بسبب جلاء معانيه ، وبساطة تعاليمه ، وانسجامه مع الفطرة ، وصلاحيته لكل زمان ومكان وفي كل الظروف (١) لذا قاموا بتشويه الإسلام ، وحجب محاسنه عن أقوامهم لإقناعهم بعدم صلاحيته لهم كنظام حياة.

وقد استغل المستشرقون كراهية الأوربيين للإسلام بسبب التوسع العثماني في أوربا ، وما صحبه من تعصب وحروب لعدة قرون ، فعمد المستشرقون إلى تعميق هذه الكراهية والأحقاد في نفوس الأوربيين وتغذيتها بالشبهات والأباطيل.

٢ ـ اقتباس أفكار إيمانية من الإسلام لتثبيت أقدام الكنيسة في بلادها بفكر ديني معقول. وهذا يظهر جليا في مسائل القضاء والقدر وكلزوم التداوي من الأمراض اليوم وخلاف ما كان يعتقده القوم سابقا (٢). واختيار الإنسان في أعماله الإرادية .. وفي مسائل الإيمان عامة كالإيمان بوحدة الكون ووحدة نظامه في الأرض والأجرام السماوية. وسلك رجال الكنيسة في إيراد الدلائل العقلية على الإيمان بالله كثيرا آخذيها من مسائل علماء الإسلام المتقدمين الواردة في الكتاب والسنة وكتب علم الكلام. ولا يعني هذا أن الفكر الكنسي الغربي قد خلص من جميع آفاته بل إنه لا يزال يعول على ما نسميه : العقيدة الاحتياطية ، والتي يقصدون بها أن العقيدة الدينية قضايا فوق العقل ، فالتسليم بها واجب

__________________

(١) وحي الله ـ د. عتر ص ٣٢.

(٢) انظر شمس العرب تسطع على الغرب للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه ـ ص ٢١٥.

٣٩

ومناقشتها بالدلائل محظور وذلك تخلصا من نقاش عامة النصارى للأسس والعقائد الكنسية المنافية للعقل والعلم كالتثليث ونحوه (١).

٣ ـ جعل الدراسات الاستشراقية مصدرا لتعليم الإسلام للمسلمين أنفسهم ومصدرا للدراسات عن الشرق عامة.

لقد شملت دراسات المستشرقين كافة الدراسات العربية والإسلامية مما دعا قومنا لإكبارهم والإعجاب بإنتاجهم العلمي واثقين بهذه الدراسات كل الثقة لتوهمهم أنها أنشئت على الموضوعية العلمية والحياد والإنصاف في البحث ابتغاء الحقيقة.

وغفل قومنا أن هؤلاء لم يكونوا أمناء على كتابهم المقدس فكيف بهم يؤمّنون على دراساتنا ولغاتنا. والذي يطلع على ما كتب هؤلاء يجد أنهم وضعوا السم في الدسم ، وقلبوا الحقائق وكتموا الحق وهم يعرفونه. وقد وصل الهوان بقومنا أن أصبحت مناهج التعليم في كثير من الدول الإسلامية في المدارس والجامعات من صنع هؤلاء المستشرقين.

قال الأستاذ «عبد الرحمن الميداني» : [وسقطت معظم الجامعات المنشأة في بلاد المسلمين تحت الأيدي الخفية للاستشراق والتبشير والدوائر الاستعمارية ، وغدت خططها ومناهجها وتوجيهاتها تخضع بطريق غير مباشر لما تفرضه وتمليه هذه الأيدي الخفية ، وغدت الكنيسة الغربية تفخر بأن العلوم الإسلامية والعلوم العربية تدرس على طريقتها التي تخدم أغراضها في بلاد المسلمين ، وبأن المشرفين على تدريس هذه العلوم من تلامذة أبنائها](٢).

وأي انتكاس أقبح من هذا الانتكاس ، أن يتعلم المسلمون دينهم ولغاتهم وفق طرائق أعدائهم وأعداء دينهم ، ووفق دسائسهم وتشويهاتهم وتحويراتهم وأكاذيبهم وافتراءاتهم.

__________________

(١) وحي الله ـ د / عتر ص ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) أجنحة المكر الثلاثة ـ للميداني ص ١٥٠ ، طبعة دار القلم ـ دمشق.

٤٠

٤ ـ تمزيق الوحدة اللغوية في الأمة الإسلامية حرصا على تمزيق عقيدة الأمة ووحدتها.

صب المستشرقون وعملاؤهم أشنع الاتهامات على اللغة العربية فزعموا أنها عاجزة عن مسايرة ركب الحضارة المعاصرة ، وموكب العلم الحديث مع أن هذه اللغة أقوى لغات العالم في توليد الألفاظ والكلمات اللازمة للمعاني المستحدثة بالنحت والاشتقاق ، والقلب والإبدال والتعريب (١).

فركز المستشرقون طعوناتهم في حيوية هذه اللغة وروجوا لغيرها من اللغات بأساليب متعددة منها :

أ ـ زعمهم أن اللغة العربية اقتبست كلمات عربية من لغات قديمة متنوعة. مما يدل على قصورها في تلبية حاجات الشعوب والمعروف أن الشعوب تتأثر ببعضها ثقافة وحضارة إلى غير ذلك من الأمور ، لذا فأمر طبيعي انتقال بعض المفردات من أمة إلى أمة أخرى كما هو ملاحظ اليوم بين شعوب الأرض قاطبة.

ب ـ ومن ذلك زعمهم أن اللغة العربية عسيرة التعلم ؛ لذا تبنوا الدعوة إلى اللغة العامية ليجمدوا تقدم العربية وتمكنها من نفوس المسلمين فيضعف فهمهم للقرآن الكريم.

وكان على رأس الداعين لهذه الدعوة من المستشرقين «د. نللينو» الإيطالي ، و «سيافكوفسكى» الروسي ولكل منهما كتاب بعنوان (دراسة عامية مصر).

والمستشرق «فيليب وولف الألماني» وله كتاب بعنوان (دراسة عامية مصر والشام وفلسطين) ومجموعة من علماء فرنسا برئاسة «ماشويل» ولهم كتاب بعنوان (دراسة عامية المغرب وتونس).

والمستشرق «إلياس برازين» الروسي وله كتاب بعنوان (دراسة عامية

__________________

(١) الفصحى لغة القرآن الكريم. أنور الجندى ، ص ٥١.

٤١

الجزيرة العربية وبين النهرين) والمستشرق «يوريال» الفرنسي وله كتاب (عامية حلب).

والمستشرق «فرانكل» وله كتاب (الكلمات الآرامية الدخيلة في العربية) ، وغير هؤلاء كثير. كما للمستشرقين مجموعة من الصحف التي اعتنت بهذا الجانب ومن المؤسف أن كثيرا من أبناء جنسنا من المفكرين والأدباء والكتاب قد حمل وزر هذه الدعوة منهم :

«لطفي السيد» حيث كتب عدة مقالات في جريدة (الجريدة) سنة (١٩١٣ م) يدعو فيها إلى استعمال الألفاظ العامية وإدخالها حرم اللغة الفصحى ، و «قاسم أمين» حيث أعلن تصريحه عن الإعراب وتسكين أواخر الكلمات عام (١٩١٢ م) ، و «الخوري مارون غصن» حيث ألف كتابا بعنوان (حياة اللغة وموتها) «اللغة العامية» سنة (١٩٢٦ م). و «سلامة موسى» وله كتاب (الدعوة إلى اللغة العامية وكتابة البلاغة العصرية) ، و «طه حسين» حيث ألف كتابه (مستقبل الثقافة) سنة (١٩٣٩ م) ، وقد بلغ ببعضهم المطالبة بتغيير الحروف العربية إلى اللاتينية. كان منهم «عبد العزيز فهمي» حيث قدم مشروعا إلى المجمع اللغوي المصري في ٢٤ يناير ١٩٤٤ م لاتخاذ الحروف اللاتينية لرسم الكتابة العربية (١).

ج ـ دعوا إلى إحياء اللغات القومية لكل جنس كالفارسية والتركية والأوردية والكردية والبربرية وغيرها.

والمعروف أن اللغة العربية من أهم عوامل الوحدة بين الشعوب الإسلامية ، وهي عامل تعلمهم الإسلام وفهمهم للقرآن الكريم ، وعامل توحيدهم فكريا وعقائديا واجتماعيا وشعوريا ، ولكن ضعف المسلمين وغفلتهم هو الذي أدى لخسران المسلمين للغتهم ولكن هذه الدعوات ولله الحمد قد باءت بالفشل بعد ما تبينت أغراضها (٢) وسوء مقاصد أصحابها.

__________________

(١) الفصحى لغة القرآن ص ١٨٥.

(٢) وحي الله ـ د. عتر ٣٨ ـ ٤٠.

٤٢

٥ ـ إضعاف الشخصية الإسلامية بالاحتيال والتزوير في تاريخ الإسلام المجيد ، ومحاولة تحطيمها كذلك بالحرب النفسية.

المعروف أن التاريخ المجيد ذا الصفحة البيضاء لأي أمة يعتبر من أهم العناصر الفعالة في تكوين شخصية المواطن لتصبح قوية وتندفع في سلّم الترقي والتقدم فالتاريخ هو شخصية الأمة.

لذا فالمستشرقون لم يتركوا هذا الجانب من الدراسات الإسلامية دون اهتمام وبحث فدرسوا التاريخ الإسلامي وأخذوا يغيرون حقائقه ويخفون صفحاته البيضاء ، ويظهرون ما كان فيه من ثغرات ويضخمونها كبعض الفتن التي حصلت في تاريخ الإسلام حيث ضخموها أضعاف حجمها ، مضيفين إليها تفسيراتهم الخاصة كالتفسير المادي المنزوع منه الجمال الإيماني ، والرجولة العربية المتميزة كما فعل ذلك بروكلمان وفيليب حتى في كتاباتهم ، وغيرهما.

لذا فالواجب على المهتمين بهذا الجانب من الدراسات من المسلمين أن يعيدوا النظر فيما كتب هؤلاء المستشرقون فينظفوا تاريخنا من دسائسهم وافتراءاتهم وأكثر من حمل وزر هذه الافتراءات «فيليب حتى» ، و «بروكلمان».

٦ ـ تحويل المسلمين عن دينهم ، وإشاعة البلبلة الفكرية في صفوفهم ، وتحطيم الوحدة الفكرية التي تجمعهم ؛ لتصير البلاد لقمة سائغة للأعداء ، ويصير المسلمون أتباعا لهم خاضعين لسلطانهم.

لذا ركز المستشرقون في دراساتهم على تشكيك المسلمين في دينهم وإضعافه في نفوسهم ، والتشكيك في صحة نبوة سيدنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبإضعاف الروح المعنوية عند المسلمين ، وإضعاف ثقتهم في نفوسهم وذلك بتعظيم أمر الحضارة الغربية في أعينهم وتقليل شأن الحضارة الإسلامية حتى ينظر لهم بعين الإعجاب ويتبع ذلك سهولة الانقياد. وركزت دراسات المستشرقين كذلك على كل ما يبعد المسلمين عن دينهم وقيمهم وأخلاقهم بنشر المذاهب الهدامة والمبادئ

٤٣

الفاسدة المخالفة للشرع الإسلامي الحنيف ، وإيهام الشباب أن سبب تخلف البلاد الإسلامية التمسك بالدين الذي يربي أفراده على الجمود والرجعية ـ على حد زعمهم ـ كل ذلك لتذويب الشخصية الإسلامية ولتسييرها في ركب الغرب الغاشم بسهولة ويسر.

٧ ـ تأييد الغزو الاستعماري لبلاد المسلمين والعمل على تحطيم المقاومة الإسلامية.

لذا قام المستشرقون بتقديم خدمات عدة لهذا الغرض ، من هذه الخدمات : تزويدهم الاستعمار بما يحتاجه من دراسات استشراقية عن مناطق نفوذه مما يسهل له مهمته ويمكنه من رقاب الشعوب الإسلامية وذلك بتعريفه بنقاط القوة في العالم الإسلامي لهدمها ومواطن الضعف للتسلل من خلالها ، فمن أجل هذه المهمة فتح المستشرقون في المنطقة جامعات وزودوها بالأساتذة الفاهمين لدورهم ، وزودوا الحملات الاستعمارية بأصحاب اختصاص ومعرفة بالشرق وأحواله من المستشرقين.

ولتسهيل المهمة أكثر فتحوا كراسي للغة العربية والدراسات الإسلامية في جامعاتهم لتخريج كوادر طلابية تحمل سموم أفكارهم وتهيئ لهم المناخ في بلادنا لتحقيق أهدافهم وغاياتهم كما أنهم أعدوهم لتولي مناصب هامة في بلادنا لتنفيذ مخططاتهم كما أن هؤلاء المستشرقين يبذلون قصارى جهدهم لتحطيم مكامن القوة الإسلامية فشنوا حملاتهم ضد مفهوم الجهاد الإسلامي مع محاولاتهم صرف أنظار المسلمين إلى الدعة والقعود عن هذا الجهاد طالما أنه في سبيل الله. مع دفع مفهوم الجهاد الحقيقي لمعنى آخر وهو :

الاشتغال بالعبادة والزهد وتسميته بالجهاد الأكبر وإكمالا لهذا الأمر تبنوا الجماعات التي تؤول الجهاد عن معناه الحقيقي وتمنعه كالأحمدية والقاديانية في باكستان وغيرها (١) ، كما عمل المستشرقون على تحطيم وحدة المسلمين ، وتمزيق

__________________

(١) الرسول في كتابات المستشرقين ص ١٢٠.

٤٤

الدول الإسلامية ، وعزل الشريعة الإسلامية عن التطبيق في المجتمع المسلم ، وإحلال الأنظمة الوضعية القانونية والسياسية والتربوية محل أنظمة الإسلام العظيم بالقوة.

٨ ـ التنفير من العودة للخلافة الإسلامية :

لا شك أن الخلافة الإسلامية من أهم العوامل في توحيد المسلمين وجمع كلمتهم ، وإعادة مجد قوتهم وعزتهم ؛ لذا ركز المستشرقون والمبشرون والمستعمرون في دراساتهم وأعمالهم للحيلولة بين المسلمين وهذا المطلب العزيز ؛ فأخذ المستشرقون على عاتقهم نشر كل ما يسيء للخلفاء بتوهين شخصياتهم وتشكيك الناس في حسن أخلاقهم وإداراتهم ، فأخذوا يكيلون لهم كل تهمة باطلة كما هو الحال مع الخليفة الصالح «هارون الرشيد» الذي يعتبرونه رجل مجون وفسق زورا وبهتانا ، ناقلين أخباره من كتب غير علمية ، وأكثر ما هاجم هؤلاء المستشرقون الخلافة العثمانية التي تآمر المستعمرون واليهود على إسقاطها والتي يسعى المستشرقون والمبشرون والمستعمرون من الدول الكبرى من الحيلولة دون رجوعها إلى البلاد الإسلامية (١).

وكما ركز المستشرقون في دراساتهم المصدرة لنا بحروبهم النفسية لتحطيم الشخصية الإسلامية كزعمهم أن الناس أجناس فالغرب جنس آري فطر على الذكاء والنبوغ والمواهب والعلم والعبقرية ، وأن الشرق جنس سامي لا يرقى لهذا المستوى وليس هو بأهل له فالغرب غرب والشرق شرق ، كما بثوا زعمهم أن العوالم دول صناعية متقدمة وهي دول الغرب ، ودول نامية متخلفة يقصدون بذلك ما سواهم ، حتى يرسخوا في نفوس المسلمين أنهم شعوب متخلفة لا ترقى لمصاف الدول المتقدمة ، وشنوا حربهم على كل بادرة تقدم في ديارنا ونهبوا خيرات بلادنا باشتراء مواردنا الخام بأرخص الأثمان ليصنعوا منها أسلحتهم ، وصناعاتهم بأنواعها وأخذوا يبيعونها في البلاد الإسلامية بأغلى الأثمان.

__________________

(١) وحي الله ـ د. عتر ص ٤٢ ـ ٤٣.

٤٥

كما قام هؤلاء المستشرقون بإقناع أغنياء العالم الإسلامي بحفظ أموالهم في بلاد الغرب فانجر أغنياء الدول الإسلامية لهذه الخدعة فسلموهم أموالهم وأخذ الغرب يعمل ويصنع بها ، وإذا احتاجت دولة من الدول الإسلامية لقرض من القروض داينوهم من هذه الأموال بفوائد سنوية ربوية كبيرة ، فإن عجزوا عن التسديد تضاعف الربا عليهم ، حتى أثقلوا كاهلهم بالديون ، وقلّ أن تجد دولة إسلامية وليس عليها ديون كبيرة نتيجة لهذه الخطة الماكرة ، فبهذه السياسة الرهيبة تمكن المستعمرون بتوجيه من المستشرقين من رقاب المسلمين ، وحكامهم ، فأصبح الحكام لا يقدرون أن يعصوا لهم أمرا وإلا هددوهم بما عليهم من التزامات مالية كبيرة.

وإذا قام مصلح أو جماعة إصلاحية تنبه لهذا الخطر المدلهم أوعزوا إلى هؤلاء الحكام بالتهديد بديونهم تارة وبتخويفهم من ضياع سلطانهم تارة أخرى بالضرب بيد من حديد على يد هؤلاء المصلحين. وكان لهم ما أرادوا فامتلأت السجون بالدعاة المصلحين ، وحوربوا في أرزاقهم وحرياتهم واعتدي على كراماتهم وأعراضهم ردعا لهم عما قاموا من أجله ، وتفوهوا به من الإصلاح ، ووصل الأمر إلى حد التصفيات الجسدية وبإشراف من هؤلاء الغربيين على الأمر بأنفسهم من خلف الستار.

فبهذه السياسة الرهيبة للمستشرقين والدراسات الحاقدة لهم تكونت عقدة النقص في الشعوب الإسلامية ، مما دعاهم للتقليد الأعمى ، والتبعية دون وعي منهم لهذه الدول الكافرة ، مع الخضوع والذلة لهم والسير كما يريدون.

والحل هو أن ننتبه لخطر هذه الدراسات الاستشراقية ، وخطر سياسات هذه الدول الاستعمارية ، وأن نعرف ما يريدون من بلادنا وشعوبنا وأن نعرف أنهم ذئاب بثياب حملان ، وأعداء بألسنة مطلية بالعسل وحلو الكلام وعلى حكامنا إعادة الثقة بنفوس شعوبهم والتخفيف ما أمكن من حاجاتنا لهذه الدول المستعمرة وتقليل التبعية لهم مع رفع مستوى بلادهم خلقيا ونفسيا وصناعيا.

٤٦

٩ ـ تشكيك المسلمين بقيمة تراثهم الحضاري :

فقد ركز المستشرقون في أبحاثهم على أن الحضارة الإسلامية منقولة عن حضارة الرومان ، وما المسلمون في نظرهم إلا ناقلون لفلسفة هذه الحضارة ، وإذا ذكروا شيئا من محاسن حضارتنا ـ على مضض ـ انتقصوه وقللوا من شأنه (١) ، ليشككوا المسلمين في تراثهم العريق العظيم الذي أقام أمة فريدة متميزة في كل شئون حياتها فنالت الخيرية على كل أمم الأرض.

وقد شككوا كذلك في التراث العلمي للمسلمين زاعمين أنه قد دخله التحريف والوضع والكذب كما هو حال الحديث النبوي الشريف.

كل ذلك لتشكيك المسلمين في تراثهم العلمي ويضطروهم للأخذ بالتراث الغربي فيسهل للاستعمار تشديد الوطأة عليهم ، والتحكم بهم ، وإضعاف روح المقاومة والدفاع عن أنفسهم عندهم حيث تذوب شخصيتهم في غيرهم.

__________________

(١) الاستشراق والمستشرقون ـ السباعي ص ٢٣.

٤٧
٤٨

المبحث الثالث

وسائل المستشرقين

تعددت وسائل المستشرقين في الوصول لتحقيق أغراضهم ونشر أفكارهم الاستشراقية.

وذلك لأنه أصبح استشراقا مبرمجا وراءه مؤسسات دينية أو سياسية أو اقتصادية تدعمه.

وقد أخذت هذه المؤسسات تغدق على المستشرقين بالأموال الطائلة ، والمناصب العالية والألقاب الرفيعة ، وحبست لهم الأوقاف ليتمكن العاملون في هذا المجال من أداء مهماتهم بيسر وسهولة.

فمن هذه الوسائل التي استخدموها :

١ ـ تأليف الكتب ، وتحقيق المخطوطات ، وإصدار الموسوعات العلمية الإسلامية والشرقية بوجه عام وغير ذلك.

أ ـ تأليف الكتب :

قام المستشرقون بتأليف الكتب في جميع العلوم العربية والإسلامية والشرقية مظهرين عليها طابع العلم المتجرد ولكن هذه الكتب لم تخل من دسهم فيها مقدارا من السم وإن كانوا حريصين كل الحرص أن لا يزيدوا على مقدار قدروه ، ونسبة عينوها حتى لا يستوحش القارئ ولا يثير ذلك فيه الحذر ، ولا تضعف ثقته بنزاهة المؤلف وهذا فيه صعوبة بالغة لرجل متوسط في عقليته أن يدرك هذه السموم لذا فتجده ينساق لها ويتأثر بهذه الكتابة.

٤٩

وكتابة هؤلاء أشد خطرا علينا ممن يجاهر بالعداء ويسفر عن ذلك في كتاباته فالحرص منه أسهل (١) وسيأتي ذكر مجموعة من هذه المؤلفات تحت مبحث خاص بها.

ب ـ تحقيق كتب التراث :

اهتم المستشرقون بعملية تحقيق كتب التراث في الشرق عامة والإسلام خاصة في كل موضوع من مواضيع القرآن الكريم والسنة المطهرة والسيرة النبوية العطرة ، والفقه والكلام.

كما تحدثوا عن تاريخ الإسلام ، والصحابة والتابعين الكرام ، والأئمة المجتهدين والمحدثين والفقهاء ، والمشايخ والصوفية ، ورواة الحديث وعن فن الجرح والتعديل ، وأسماء الرجال ، وحجية السنة ، وتدوينها ، ومصادر الفقه الإسلامي ، وتطوره في أسلوب لا يخلو عن التشكيك وإثارة الشبهات ، ويكفي لزعزعة العقيدة والترغيب عن الإسلام لرجل ليس له نظر عميق في هذا الموضوع ، (٢) وغالبا يشتركون في التحقيق مع بعض العلماء المسلمين ولكنهم يخفون أسماءهم لسبب أو لآخر.

ولا شك أن ما حققوه من تراثنا كان من أجل خدمة أغراضهم وأهدافهم وليتعرفوا على أسرار هذا الدين العظيم.

وقد ركز المستشرقون على إحياء التراث الإسلامي المنحرف كالباطني والمجوسي والغنوصي القديم هادفين من وراء ذلك تحطيم أصالة الفكر الإسلامي كما ركزوا على نشر الفكر الإلحادي والمنحرف كفكر غلاة الصوفية وبعض المنحرفين من أهل الحلول والاتحاد والإباحية وغير ذلك (٣).

__________________

(١) الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية لأبي الحسن الندوي ص ١٩٠.

(٢) الصراع بين الفكرة الإسلامية والغربية ص ١٩٠.

(٣) أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي ، د / علي جريشة ومحمد الزيبق دار الاعتصام ، ص ٢٥ ـ ٢٦.

٥٠

ج ـ إصدار الموسوعات العلمية :

ومما اعتنى به المستشرقون على اختلاف جنسياتهم إصدار الموسوعات العلمية عن الشرق وعلومه.

ومن أخطر هذه الموسوعات (دائرة المعارف الإسلامية) والتي صدرت بعدة لغات عالمية وقد كتبت بأسلوب علمي ميسر للمثقف العام مما جعلها موضع إقبال أبناء المسلمين أنفسهم.

وقد حشد لهذه الموسوعة كبار المستشرقين ، وأشدهم عداء للإسلام ودس فيها السم بالدسم ، ونثرت فيها أباطيل كثيرة عن الإسلام والمسلمين.

ومن المؤسف أنها مرجع لكثير من المثقفين من أبناء المسلمين وكذلك لكثير من العلماء والمفكرين على ما فيها من خلط وتزييف وقلب للحقائق وتعصب سافر ضد الإسلام والمسلمين.

وهناك موسوعات عامة : كالموسوعة الفرنسية (لاروس) والموسوعة البريطانية (١) ، وموجز دائرة المعارف الإسلامية ، وموسوعة معارف العلوم الاجتماعية ، ودائرة المعارف (الدين والأخلاق) وغيرها كثير.

د ـ صنع المعاجم اللغوية وغيرها :

كما اهتم المستشرقون بتأليف المعاجم وقد أفادوا كثيرا في هذا الجانب من المعاجم الإسلامية المتقدمة منهاجا ودقة فمنها :

أ ـ معاجم دينية :

وهذه المعاجم بعضها اهتم بالآيات القرآنية مثل : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن وبعضها اهتم بالحديث النبوي الشريف كالمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف.

__________________

(١) أجنحة المكر الثلاثة ص ١٣٢ ـ ١٣٣ ، وحي الله ص ٢٥.

٥١

ب ـ معاجم لغوية :

ومما اهتم به المستشرقون كذلك صناعة المعاجم اللغوية.

مثل : تاريخ الأدب العربي ـ بروكلمان ـ وهو مشهور في الأوساط الأدبية واللغوية والعلوم الإسلامية.

وكتاب تاريخ الأدب العربي وهو في سبع مجلدات تأليف «هامر بوجشتال» وقد ترجم ل (٩٩١٥) أديبا وشاعرا.

ومن أضخم هذه المعاجم معجم فينشك الروسي (١٩٠٢ ـ ١٩٣٩) وكانت مدة عمله له في ١٥ سنة وقد تمكن من تسويد (٣٠٠) ألف بطاقة وتوفي ولم يكمله.

ومن أعظمها انتشارا وأهمية معجم فيشر اللغوي الأدبي المقارن باللغات السامية القديمة والذي جمع فيه اللغة من ديوان امرئ القيس والقرون الثلاثة الأولى بعد الهجرة.

ج ـ معاجم عامة :

مثل المعجم العام ل «هوبلر الفرنسي» ١٦٢٥ ـ ١٦٩٥ ومعجم الإسلام بالإنكليزية «هيوز» لندن ١٩٨٥ وغيرها (١).

ه ـ ترجمة الكتب الإسلامية للغاتهم :

كما اهتم المستشرقون بترجمة كثير من الكتب الإسلامية خاصة والشرقية عامة للغاتهم المختلفة والذي يزور مكتباتهم يجدها حوت كثيرا من تراثنا بكل فروع العلوم مترجمة إلى لغات القوم المتعددة ؛ وذلك ليسهل عليهم الرجوع لها ، ولأن الكثير منهم لا يجيدون العربية ولم تتح لهم الفرصة لتعلمها (٢) وعلى رأس هذه

__________________

(١) في الغزو الفكري المفهوم ـ الوسائل ـ المحاولات للأستاذ نذير حمدان ص ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

(٢) انظر المستشرقون والإسلام ـ اللبان ص ٢٠ ـ ٢١.

٥٢

الكتب التي قاموا بترجمتها القرآن الكريم ـ لتزييف مفاهيمه وانتقاصها ـ وكتب السنة وعلى رأسها الصحيحان إلى غير ذلك من الكتب.

٢ ـ إنشاء المطابع الشرقية :

دأبت البلاد الغربية على إنشاء المطابع التي تحوي الحروف العربية والعبرية والفارسية ، وغيرها ، حيث بدأت هذه المطابع عملها في إيطاليا ثم في فرنسا. ومن هذه المطابع في أسبانيا مطبعة مايستري في مدريد ومطبعة المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد أيضا ، وفي النمسا المطبعة الإمبراطورية والمطبعة الشرقية للآباء المختارين. وفي هولندا مطبعة ليون وهناك كثير من هذه المطابع في مختلف أنحاء أوربا (١).

أما الهدف من إنشاء هذه المطابع وذلك لتسهل عليهم مهماتهم بإيصال أفكارهم إلى العالم الإسلامي بسهولة ويسر.

٣ ـ إنشاء الجمعيات وإصدار المجلات والصحف :

من الأمور التي اهتم بها المستشرقون لبث أفكارهم وتحقيق أغراضهم إنشاء الجمعيات الاستشراقية وإصدار المجلات والدوريات فقد زاد عدد هذه المجلات وحدها عن (٣٠٠) مجلة خاصة بالاستشراق ، عدا المئات من مجلاتهم العامة التي تتعرض له في موضوعاتها العامة ، كمجلة القانون المقارن ومحفوظات التاريخ ، ومباحث العلوم الدينية وهي تنتشر بعدة لغات عالمية والتي ينشر فيها مباحث ومخطوطات ووثائق وغير ذلك (٢) من الدراسات المختلفة.

أ ـ أنشأ الفرنسيون جمعية من المستشرقين سنة ١٧٨٧ م وألحقوها سنة ١٨٢٠ بالجمعية الآسيوية الفرنسية تعاضدها وتتعاون معها ، ثم أصدرت هاتان الجمعيتان (المجلة الآسيوية) ومن المجلات الفرنسية المشهورة التي علا صيتها

__________________

(١) المستشرقون ومشكلات الحضارة ، د. عفاف صبره ص ٣٢.

(٢) المستشرقون. العقيقي ج ٣ ، ص ٣٧٧.

٥٣

(مجلة العالم الإسلامي) وهذه المجلة تتجه اتجاها تبشيريا (كاثولوكيا) وقد كان ظهورها في سنة ١٩٠٦ م بإدارة المسيو «الفرد لوشاتليه» الأستاذ في كلية فرنسا.

ب ـ في إنجلترا تألفت جمعية لتشجيع الدراسات الشرقية عام ١٨٢٣ م ، وقد كان ملك إنجلترا الرئيس الفخري لها وقد صدر عنها مجلة (الجمعية الآسيوية الملكية).

ج ـ في أمريكا أنشأ الأمريكيون سنة ١٨٤٢ م جمعية ومجلة. فقد كانت الجمعية باسم (الجمعية الشرقية الأمريكية).

أما المجلات التي أصدرها الأمريكيون في هذا القرن ، مجلات تطبع الاستشراق بالطابع السياسي ، وتوجه معظم أبحاثها ودراساتها نحو السياسة الاستعمارية المبطنة التى تحاول فيها أمريكا أن تبسط نفوذها على الشرق عامة وعلى العالم العربي والإسلامي خاصة. ومنها مجلة (جمعية الدراسات الشرقية) وكانت تصدر في مدينة «جامبير» في ولاية أوهايو ، ولها فروع في معظم عواصم أوربا في لندن وباريس وغيرها. ومثلها مجلة (شئون الشرق الأوسط) ومجلة (الشرق الأوسط) وطابعها كلها على العموم طابع الاستشراق السياسي.

ومن أخطر المجلات التي يعنى بها المستشرقون الأمريكيون في الوقت الحاضر (مجلة العالم الإسلامي) التي أنشأها زعيم المستشرقين المنصرين «صمويل زويمر» في سنة ١٩١١ م وهذه المجلة تعنى بالاستشراق التنصيري وذلك لتشجيع الإرساليات التنصيرية (البروتستانت) وتناولت القضايا التي تتصل بتنصير العالم الإسلامي (١).

كما أنشأ المستشرقون الألمان ، والنمساويون ، والإيطاليون جمعيات ومجلات استشراقية خاصة بهم.

__________________

(١) في الغزو الفكري ـ نذير حمدان ، ص ٢٥١ ـ ٢٥٣.

٥٤

ويتبين مما مضى أن الدوريات التي أنشأها المستشرقون يمكن أن تقسم إلى ثلاثة أنواع:

أ ـ علمية دراسية تحليلية في ظاهرها ، تتناول القضايا الفكرية الإسلامية من جانب ثقافي لتطرح من خلاله الشبهات وتظهره على صور تؤدي بالفكر الإسلامي إلى الشك والحيرة والتردد. وهذا العمل يقصدون منه هدم أصول الإسلام أو إضعاف المسلمين.

ب ـ مجلات استعمارية سياسية تقصد نشر الفكر الاستعماري في الأمة العربية والإسلامية. وهذه المجلات تحاول إبراز حاجة المسلمين للمدنية الغربية وجهلهم بالتقدم العلمي وعدم قدرتهم على مواصلة البحوث المتطورة في عالم الصناعة.

ج ـ مجلات تنصيرية غايتها الأساسية ارتداد المسلمين وتنصير الوثنيين وهذه المجلات قد احتضنتها الدول الكبرى لهدف استعماري في الأصل (١).

أما بالنسبة للصحف فهي كذلك كثيرة فقد استطاع المستشرقون استئجار مجموعة من الصحف العالمية لبث أفكارهم وبحوثهم إلى الآخرين فيها ، واستطاعوا كذلك أن يستأجروا كتّابا وأساتذة جامعيين وغير جامعيين ، وأدباء ، وشعراء من أبناء الشعوب الإسلامية ، يحملون أفكارهم وينشرونها بأقلامهم وألسنتهم ، ليكونوا أكثر تأثيرا في الأجيال الناشئة من أبناء المسلمين ، وهؤلاء هم الأبواق الناعقة لهم ، الأجراء والعملاء والتلاميذ المخلصون أمثال : سلامة موسى ، طه حسين ، وغيرهما (٢).

وقد عبر عن أهمية الصحافة بالنسبة للمستشرقين المستشرق «جب» حيث قال : «.. يجب ألا ينحصر الأمر في الاعتماد على التعليم في المدارس الابتدائية

__________________

(١) نفس المرجع ص ٢٥٤.

(٢) أجنحة المكر الثلاثة ص ١٣٤.

٥٥

والثانوية ، بل يجب أن يكون الاهتمام الأكبر إلى خلق رأي عام ، والسبيل إلى ذلك هو الاعتماد على «الصحافة».

ويقرر «جب» أن الصحافة هي أقوى الأدوات الأوربية وأعظمها نفوذا في العالم الإسلامي (١).

لذا لا غرابة أن نجد كثيرا من الصحف في العالمين العربي والإسلامي تخدم هذا الهدف.

٤ ـ إنشاء المؤسسات التعليمية من : مدارس ، ومعاهد ، وجامعات ، وكراسي جامعية والتسلل للمجامع العلمية :

اهتم المستشرقون والمبشرون بالمؤسسات التعليمية بأنواعها لتخريج جماعات من الطلبة تجيد اللغات الشرقية ومهيئين لتحمل المسئوليات التي ستلقى على عاتقهم تجاه الشرق وأهله ، وليكونوا عملاء للاستعمار في بلاد الإسلام ، الاستعمار بشتى أساليبه وألوانه وليكونوا أداة تقوض صرح البناء الإسلامي من جميع جوانبه الدينية والثقافية والاجتماعية ، وذلك باتصالهم بالمسلمين فيوهمونهم بأنهم على معرفة تامة بأحوال الشرق وعلومه وعقائده ولغاته ، وهذا ما دأب عليه الاستشراق لتوهين قوى المسلمين وإيهامهم في كل مناسبة بأنهم ضعفاء ومتخاذلون في شتى الميادين.

وسأذكر بعض هذه المؤسسات التعليمية الاستشراقية.

أ ـ إنشاء المدارس :

اهتم المستشرقون بالمدارس ذات الطابع التبشيري ، والمدارس الحديثة التي أسست على مفاهيم غربية ، حيث وضعوا لها المناهج الخاصة وزودوها بمدرسين ذوي مهمة خاصة ليربّوا عليها النشء بطريقتهم الخاصة.

__________________

(١) المستشرقون ومشكلات الحضارة ص ٤٦.

٥٦

وإنشاء هذه المدارس مهمة ذات اتجاهين : تبشيرية استشراقية ؛ لأن الاستشراق مغذ لروح التبشير والعقل المدبر له.

قال المبشر «جون تكلمي» : يجب أن نشجع المدارس ، وأن نشجع على الأخص التعليم الغربي. إن كثيرين من المسلمين قد زعزع اعتقادهم حينما تعلموا اللغة الإنجليزية ، إن الكتب المدرسية الغربية تجعل الاعتقاد بكتاب شرقي مقدس أمرا صعبا جدا (١).

وكان اعتناء المستشرقين بالمدارس منذ القرنين الخامس عشر والسادس عشر ، حيث أنشئت مدرسة الجمعية المقدسة سنة ١٦٢٢ م وقد أنشئت هذه المدارس في العالمين الغربي والعربي والإسلامي على حد سواء.

فمن المدارس الغربية ذات الطابع التبشيري :

١ ـ أسس البابا «سلفستر الثاني» مدرستين عربيتين لتدريس اللغة العربية والحضارة الشرقية ، وكانت الأولى في «روما» في مقر بابويته ، والثانية في راميس وطنه ، ثم أضاف بعد ذلك مدرسة ثالثة وهي مدرسة «شارتز».

٢ ـ مدارس خاصة لأغراض سياسية :

أ ـ المدارس العربية ومعهد «بريل» في مدينة ليون ب (هولندا).

ب ـ مدرسة أكسفورد في إنجلترا.

ج ـ مدرسة القناصل الإمبراطورية الملكية في النمسا ، وهذه مهمتها تعليم السلك الدبلوماسي اللغة العربية.

د ـ وفي باريس أنشئت مدرسة على هذا الغرار باسم المدرسة الخصوصية للغات الشرقية الحية سنة ١٧٩٥ م.

__________________

(١) التبشير والاستعمار ـ مصطفى الخالدي ص ٩٨.

٥٧

أما في البلاد العربية والإسلامية فقد اهتم المستشرقون بإنشاء المدارس الخاصة بهم والتي تخدم أغراضهم. من هذه المدارس :

أ ـ مدارس الفرير في سوريا والأردن.

ب ـ ومدارس دي لي سال ، وتراسانتا في الأردن.

ج ـ ومدارس سان فنستان دي بول في القاهرة.

د ـ والمدرسة الشرقية في تركيا.

ه ـ الكلية اليسوعية والتي حول اسمها إلى الكلية الأمريكية في لبنان ومصر ولا تزال.

و ـ مدرسة اللائيك في حلب.

ز ـ مدرسة الأرض المقدسة في حلب.

وغيرها كثير في بلاد العالم الإسلامي المترامية الأطراف.

ب ـ إنشاء المعاهد :

أما المعاهد فهي كثيرة وهي في العالمين الغربي والعربي وهذه المعاهد في الغالب تكون تابعة لجامعة من الجامعات في العالم الغربي.

فمن ذلك معهد الدراسات الشرقية في لندن الذي أنشأته الحكومة البريطانية سنة ١٩١٧ م ومهمة هذا المعهد إعداد رجال ونساء يخدمون وطنهم في الشرق إمّا في السلك السياسي أو التجاري ، أو في دوائر الحكومة وراء البحار ، أو في ميادين الثقافة.

وعند ما ضغطت الحروب الأولى ، وتزايدت مصالحها خارج بريطانيا من المحيط الأطلسي إلى بحر الصين ، عهدت الحكومة البريطانية إلى اللورد «بري» بإنشاء معهد آخر يهتم بالدراسات الشرقية.

أما في المنطقة العربية فقد أنشأ الألمان «معهد جوته الألماني» في القاهرة ،

٥٨

وأنشأ الفرنسيون «المعهد الفرنسي للآثار الشرقية» في القاهرة ، ودمشق ، وطهران ، وتونس.

وقد زودت هذه المعاهد بكوادر مؤهلة لمهمتها خير تأهيل ، وزودت بمكتبات فيها كثير من الكتب العربية والإسلامية والشرقية وبعض هذه المعاهد له صلاحية منح شهادات عليا كالماجستير والدكتوراة لطلابها ومن بين هؤلاء الطلاب طلبة عرب وشرقيون على وجه العموم يعدون لمهمة التدريس في بلادهم (١).

ج ـ إنشاء الكراسي الجامعية :

أنشأ المستشرقون في داخل أروقة الجامعات الأوربية كراسي خاصة للدراسة الشرقية ، وقد اتخذ المستشرقون هذه المؤسسات لاصطياد أبناء الشعوب الإسلامية ، والتأثير عليهم فكريا وسلوكيا ونفسيا (٢) وكذلك لإنشاء جيل من أبنائهم على دراية بأحوال الشرق لتحقيق أهداف المستشرقين في المنطقة وقد أعطيت هذه الكراسي الجامعية الحق في منح طلبتها الشهادات العليا في الدراسات العربية والإسلامية والشرقية على حد سواء مستغلين تلهف الشرق إلى الشهادات والألقاب العلمية. فصيروا أنفسهم مصدرا وثيقا للعلوم الإسلامية.

وقد حقق هذا اللون من النشاط غاية ما تصبو إليه أنفس المتحاملين من المستشرقين ومن أمثلة هذا اللون من النشاط :

١ ـ كرسي للدراسات الشرقية بجامعة سانت أندريز سنة ١٩٦٨ م وقد أسست هذه الجامعة في مدينة لا باس في بوليفيا عام ١٨٣٠ م.

٢ ـ كرسي للدراسات الإسلامية بجامعة كمبردج. وبها كرسي آخر تأسس عام ١٩٣٢ م تعهد توماس أدافر رئيس بلدية لندن بتمويله.

__________________

(١) الاستشراق والخلفية الفكرية زقزوق ص ٥٩ ـ ٦٠ ، وأخطار الغزو الفكري د / صابر طعيمة ص ٨٩ ، والمستشرقون ومشكلات الحضارة ص ٣٠ ـ ٣١.

(٢) أجنحة المكر الثلاثة ص ١٣٢.

٥٩

٣ ـ مركز الشرق الأوسط للدراسات العربية في جامعة لندن وهو باسم مركز الدراسات الآسيوية والأفريقية ، ومركز للدراسات الشرقية بجامعة مانشستر والذي تموله دولة عربية وكثير من الجامعات فتحت مثل هذا اللون من النشاط الاستشراقي مثلا :

في باريس : جامعة تولوز ، ويوردوا ، والسوربون.

وفي إنجلترا : جامعة أكسفورد ، ودرهام ، وفكتوريا ، وليدز وويلز وليفربول ، وبرستول ، وشيفيلد ، وهال.

وفي اسكتلندا : جامعة اسكتلندا ، وجلاسجو ، وأبردين ، وأدنبره.

وفي إيرلندا : كلية ترينيتي في دبلن ، وجامعة إيرلندا الوطنية.

وفي كندا : جامعة تورنتو ، وأوتاوه .. إلخ.

وفي ألمانيا : جامعة هايدلبرج ، وجامعة بون ، وجامعة برلين.

وغير هذه الجامعات كثير من جامعات البلدان الغربية (١).

الجامعات في الدول الإسلامية :

هذه الجامعات التي أسسها المستشرقون في بلدان العالم الإسلامي بإدارة وأساتذة منهم ومناهج خاصة ، هدفها تخريج كوادر قيادية تستلم مراكز حساسة في الدول الإسلامية تحمل المفاهيم الغربية ، والثقافية الاستشراقية.

وكذلك لرصد كل جديد من الدراسات والمستجدات في المنطقة الإسلامية ، من هذه المؤسسات :

١ ـ الجامعة الأمريكية في بيروت وهي الكلية السورية الإنجيلية والتي أنشئت سنة (١٢٨٣ ه‍ / ١٨٦٦ م) وفروعها في تركيا والقاهرة.

__________________

(١) المستشرقون ومشكلات الحضارة ص ٣٠ ـ ٣١.

٦٠

٢ ـ جامعة القديس يوسف في بيروت (١٢٩١ ه‍ / ١٨٧٤ م) أنشأها اليسوعيون بدعم من فرنسا (١).

د ـ التسلل للمجامع العلمية في المنطقة :

تمكن المستشرقون أن يتسللوا إلى المجمع اللغوي في مصر والمجمع العلمي العربي في دمشق. والمجمع العلمي في بغداد (٢).

منهم «جوزيف شاخت» (١٩٠٢ ـ ١٩٦٩ م) ألماني الذي انتخب أحد أعضاء المجمع العلمي العربي في دمشق.

و «فنسنك» (١٨٨١ ـ ١٩٣٩ م) الهولندي الذي كان أحد أعضاء المجمع اللغوي المصري.

كان من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق من المستشرقين منذ سنة ١٩٢١ م والذي بلغ عددهم حوالي (٦٦) مستشرقا.

ـ من الفرنسيين : دوسو ، غوي ، ماسينيون ، وغوستاف لوبون.

ـ ومن الإيطاليين : جويدي جريفيني ، نللينو ، كايتاني.

ـ ومن البريطانيين : مارجليوث ، براون.

ـ ومن الهولنديين : هوتسما ، سنوك هر.

ـ ومن السويسريين : مونتيه.

ـ ومن الأسبانيين : ميكل آن (٣).

أما أعضاء المجمع المصري من المستشرقين فقد بلغوا (١٧) مستشرقا منهم :

__________________

(١) انظر في الغزو الفكري ـ نذير حمدان ص ١٣٦.

(٢) أخطار الغزو الفكري ص ٧٥ ، وكتاب في الغزو الفكري نذير حمدان ص ٢٠٨ ـ ٢٢٦.

(٣) مستشرقون ـ نذير حمدان ص ١٤١.

٦١

ـ من الإيطاليين : جبرئيلي ، وكالرلنللينو.

ـ ومن البريطانيين : أربري.

ومن لاووست : ليون.

ـ ومن ينبرج : أوبسالا.

ـ ومن الفرنسيين : لويس ماسينيون الذي يعد من كبار المستشرقين الخطرين على الإسلام ، حيث لا يقل خطورة عن جولد تسيهر ، وسنوك هورجرونية ، ولي شاتليه ، ولاووست هنري مدير المعهد الفرنسي بالقاهرة (١) وغيرهم كثير.

أما أعضاء المجمع العراقي من المستشرقين منهم :

ـ عبد الكريم جرمانوس ـ المجري.

ـ الفريد جيوم الإنكليزي (٢).

٥ ـ عقد المؤتمرات الاستشراقية وعقد الندوات ولقاءات التحاور.

هذا اللون من الأنشطة الاستشراقية يقوم به المستشرقون لتبادل الرأي والخبرات فيما يحقق أهدافهم ، وللتخطيط لمستقبل أعمالهم ، ولطرح بحوث عامة في ظاهرها وهي في الحقيقة دعاية ضد الإسلام ، وكان أول هذه المؤتمرات في باريس سنة ١٨٧٣ م (٣).

وما زالت تتكرر حتى يومنا هذا ، حتى بلغت ما بين سنة (١٨٧٣ ـ ١٩٦٤ م) فقط ٢٦ مؤتمرا ضم كل واحد منها مئات العلماء من أعلام المستشرقين والعرب والمسلمين والشرقيين ومن هذه المؤتمرات التي عقدت :

__________________

(١) مستشرقون ـ نذير حمدان ص ١٨٣ ـ ١٩٣.

(٢) مستشرقون ـ نذير حمدان ص ٢٣٠ ـ ٢٣١.

(٣) وحي الله ص ٢٥ ، وأجنحة المكر الثلاثة ص ١٣٢ ـ ١٣٥.

٦٢

مؤتمر عقد في القاهرة عام ١٩٠٦ م في منزل «عرابي» تحت شعار (الدين لله والوطن للجميع) وبلغ عدد إرسالياته (٦٢) عضوا مسيحيا وكان هدف المؤتمرين تحويل الأنظار عن المقاومة المصرية للاستعمار وأنها ليست إسلامية وإنما هي وطنية ، تقودها الوحدة الوطنية (١) أي المسلمون والنصارى.

ومن الآثار الفكرية لهذه المرحلة : الإنتاج الأدبي المعادي للإسلام فيما كتبه «سلامة موسى» في كتاب (اليوم والغد) وما كتبه «طه حسين» في كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) ، و «لويس عوض» في معظم كتاباته ، و «جورجي زيدان» ومدرسته الماسونية في (دار الهلال).

٢ ـ مؤتمر القدس الذي عقد سنة ١٩٢٢ وضم عناصر يهودية ومسيحية اتفقت على احتلال فلسطين على ضوء برامج وأساليب في مجال التعليم والإعلام تحول دون دخول العناصر الإسلامية حلبة الصراع.

٣ ـ مؤتمر التربية الإلحادية عام ١٩٦٤ م في موسكو. وكان أهم بحوثه : بحث مستقبل الشيوعية أمام الإيدولوجية في الإسلام. وبحث موضوع التجديد في وسائل الدعوة الإسلامية ، وتجنيد العناصر الماركسية في بلاد الإسلام من بين الشخصيات البارزة التي تعرف في الساحة الإسلامية (٢).

٤ ـ مؤتمر أدنبرة في سنة (١٩١٠ م) وقد ضم (١٢٠٠) عضوا مسيحيا وبلغت من أهمية هذا المؤتمر أنه كان من المقرر أن يرأس وفده الأمريكي «روزفلت» : الذي أناب عنه شخصية بارزة لعدم تمكنه من الحضور. وفي هذا المؤتمر تمت دراسة مستقبل النشاط التبشيري ضد الإسلام في أوربا على وجه الخصوص وفي بلاد المسلمين بصفة عامة.

٥ ـ مؤتمر لكنو بالهند الذي عقد في سبتمبر عام ١٩١١ م ، وقد اشترك فيه (١٦٨) عضوا تحت إشراف وتوجيه الإرساليات الإنجليزية.

__________________

(١) المستشرقون ومشكلات الحضارة ص ٣٣.

(٢) المستشرقون ومشكلات الحضارة ص ٧٧ ـ ٧٨.

٦٣

وكان هدفه عدم تمكين العناصر الإسلامية من العمل السياسي ولدراسة مستقبل التجمعات الإسلامية التي كانت نواة لقيام دولة الباكستان الإسلامية.

وكان رئيس هذا المؤتمر القس «صموئيل زويمر».

٦ ـ مؤتمر المجتمع المسكوني الذي عقد في ٧ نوفمبر عام ١٩٦٤ م في روما وحضره (٢٤٢٧) عضوا من المهتمين باللاهوت والسياسية.

وفي هذا المؤتمر تم التنسيق بين القوى المسيحية واليهودية في حرب الإسلام (١).

وغير هذه المؤتمرات كثير. واقتصرت على ستة منها خوفا من الإطالة.

أما بالنسبة للندوات. ولقاءات التحاور فإنهم يقصدون من ذلك نقل أفكارهم في وسط المجتمعين على اختلاف جنسياتهم.

ولكي يتم استدراج بعض المسلمين لتحريف الإسلام إما بقصد الدفاع عنه ، أو تطوعا منهم ليساير المفاهيم الغربية وأسلوب التفكير الغربي لإظهار مرونة الشريعة الإسلامية(٢).

وهذا من الانحراف الفكري الذي أصاب بعض أبناء المسلمين نتيجة الانبهار بالحضارة الغربية اليوم على علاتها.

٦ ـ إنشاء المكتبات العلمية :

اعتنى المستشرقون بهذا الجانب من النشاط تدعيما لحركة الاستشراق وتسهيلا لمهمتهم.

وقد جمعوا في هذه المكتبات ملايين الكتب تتعلق بكافة أنواع العلوم

__________________

(١) ذكر هذه المؤتمرات الثلاث ، د. صابر طعيمة في كتابه أخطار الغزو الفكري ص ٧٦ ـ ٧٨.

(٢) أجنحة المكر الثلاثة ص ١٣٢ ـ ١٣٥.

٦٤

الإسلامية والشرقية من بينها المخطوطات النفيسة التي استولوا عليها خلال فترات احتلالهم للمنطقة الإسلامية ومن أهم هذه المكتبات :

مكتبة باريس الوطنية في فرنسا ، ومكتبة المتحف البريطاني في لندن ، ومكتبة الاسكوريال بأسبانيا ، والتي تحتوي على عدد كبير من المخطوطات العربية والإسلامية من بقايا المكتبة الأندلسية بغرناطة. ومكتبة فيينا الوطنية والتي تحوي على مئات المخطوطات النفيسة ومكتبة جستربتي في دبلن في إيرلندا وفيها مجموعة كبيرة من المخطوطات العربية والإسلامية ، ومكتبة ليدن بهولندا والتي تضم مخطوطات نفيسة قضى المستشرقون الهولنديون قرونا متواصلة في جمعها. وهناك مكتبة برلين الوطنية في ألمانيا ، ومكتبة جامعة ميونخ ، وجامعة هايدلبرج إلى غير ذلك من المكتبات العامة ومئات المكتبات الخاصة بمختلف الجامعات.

وهناك نوع آخر من المكتبات الخاصة التي كانت ملكا للمستشرقين وقف بعضها على المكتبات العامة ، ولجميع دور النشر الشرقية فهارس لمجموعاتها (١).

وقد حوت هذه المكتبات من المخطوطات على (٢٥٠) ألف مجلد في مطلع القرن التاسع عشر (٢). ولا شك أنها زادت كثيرا عن هذا الرقم بعد ذلك.

٧ ـ إنشاء المتاحف الشرقية :

ومن أجل تحقيق هذا الأمر اعتنى المستشرقون بالسياحة كوسيلة لجمع المعلومات والصور الفوتوغرافية (٣) القديمة والآثار الشرقية ، والمخطوطات القديمة ، وأدوات التراث. وقد اعتنوا بهذا الجانب كثيرا ليكونوا معالم تاريخية لتطور المنطقة ولمحاولة ربط الإسلام بجذور يونانية أو رومانية أو فينيقية أو آشورية ، وغير ذلك ، وكذلك لإثبات الجذور اليهودية أو النصرانية في المنطقة.

وقد دفعوا في هذه الآثار الشيء الكثير ليصلوا بها لأغراض وأهداف خبيثة

__________________

(١) المستشرقون ومشكلات الحضارة ص ٣١. د. عفاف صبره.

(٢) وحي الله ـ ص ١٧. د. حسن عتر.

(٣) المستشرقون والمبشرون ـ إبراهيم خليل ص ٨٨ ، والمستشرقون ومشكلات الحضارة ص ٣٢.

٦٥

وأثاروا من ورائها نزاعات وفتنا في المنطقة ، وكذلك ليصفوا المجتمع بأوصاف من خيالهم السابح في الأوهام انطلاقا من رواسب دفينة في نفوسهم والمؤسف أن هذه الكتب تكتب عادة بأسلوب تهكمي قصصي يغذي خيال الشعوب الغربية الأوربية والأمريكية ويلبي رغباتهم ولهذه الكتب أثر سيئ في تصوير المسلمين تصويرا غير حقيقي كالتخلف والهمجية وغير ذلك. ثم ينتهز المستشرقون هذا اللون من الكتابة فيدونون ـ باسم البحث العلمي ـ كتبا في علم الأجناس ونفسية «فسيولوجية» الشعوب التي فيها ، مصورين أن الإسلام مختلف حسب هذه الأجناس فهناك إسلام الهند ، وإسلام تركيا ، وإسلام البربر ، وإسلام العرب .. إلخ وكل إسلام يختلف عن الآخر باختلاف أهله .. كل هذا ليتسلطوا على رقاب المسلمين بإشاعة الفرقة في نفوسهم (١) والذي يزور متاحف الغرب (٢) يجدها قد حوت من كل لون من ألوان التراث سواء كانت كتبا أو أواني أو سلاحا أو ملابس .. إلخ لتحقق لهم أغراضهم المتنوعة.

فعلينا جميعا أن ننتبه لهؤلاء المستشرقين ولأغراضهم من هذه السياحات واختيار أماكن معينة في بلادنا لتصويرها.

وقد ذكر «العقيقي» في كتابه كثيرا من هؤلاء الرحالة الذين زاروا المنطقة العربية وكتبوا أوصافا لها تفيد الغربيين في التعرف عليها فزودوا مكتباتهم ، ومتاحفهم بكثير من مؤلفاتهم وبما جمعوه من الخرائط ، والقطع الأثرية ، والمؤلفات القيمة. من هؤلاء الرحالة : «لورفيشودي بارتيما» البحار الإيطالي الذي طاف اليمن عام ١٥٠٨ م وكتب عنها تقريرا ضافيا.

ومنهم البعثة الدانمركية التي قامت بزيارة جنوب بلاد العرب سنة ١٧١٦ حيث قاموا بالتنقيب عن حضاراتها القديمة ، ورجعوا بخرائط ونقوش ، فألفوا

__________________

(١) المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي ـ إبراهيم خليل ص ٨٨ ـ ٩٠.

(٢) من أشهر المتاحف المتحف البريطاني في بريطانيا ، ومتحف فيكتوريا ، ومتحف أشمولين في أكسفورد ، ومتحف جراتس في النمسا ، ومتحف الفن الإسلامي في برلين والمتحف الوطني في باريس ، وغيرها كثير.

٦٦

بذلك كتبا تصف رحلتهم. ومن هؤلاء : كذلك «جورج والين الفنلندي» الذي طاف مصر والجزيرة العربية وبغداد ، وأصبهان ، وبصرى ، ودمشق ، في حوالي ١٨٤٠ م فاستمر أكثر من ست سنوات فكتب بذلك واصفا رحلته ومؤلفا كتابا في الفروق بين اللهجات العربية بين المتأخرين والمتقدمين وكان ذلك في سنة ١٨٤٥ م ، وغيرهم كثير (١).

٨ ـ إمداد الإرساليات التبشيرية إلى العالم الإسلامي بخبراتهم وجهودهم :

فالمعروف أن المبشرين تسللوا للمنطقة تحت شعارات مختلفة من ذلك بعض الأعمال الإنسانية في الظاهر كالمستشفيات والجمعيات الخيرية والمدارس ودور الأيتام ، ودور الضيافة ، وغيرها. ولكنها في الحقيقة لإلقاء الشبه والافتراءات والأباطيل ضد الإسلام بين أبناء المسلمين لتشكيكهم في دينهم فيسببوا ردتهم عنه.

كما أنه لوحظ أن بعض هذه المؤسسات كانت تختار الأذكياء من أبناء المسلمين فيأخذونهم من مرحلة ابتدائية أو متوسطة لتدريسهم في البلاد الغربية فيتلقون تعاليمهم وأفكارهم وسمومهم ويرجعون لبلادهم ليعملوا وينتجوا لهم أكثر من هؤلاء مجتمعين (٢).

__________________

(١) المستشرقون للعقيقي ٣ / ٣٣٩ ـ وما بعدها.

(٢) أجنحة المكر الثلاثة ص ١٣٣.

٦٧
٦٨

المبحث الرابع

اليهود .. والاستشراق

لا شك أن اليهود وجدوا فرصتهم في الاستشراق لتحقيق أهدافهم الدينية والسياسية. فلتحقيق أهدافهم الدينية ركز اليهود في أبحاثهم على إضعاف الإسلام والتشكيك في قيمته بإثبات فضل اليهودية على الإسلام بادعاء أن اليهودية هي مصدر الإسلام الأول.

أما لتحقيق أهدافهم السياسية فقد عمل اليهود لخدمة الصهيونية فكرة أولا ثم دولة ثانيا.

فالظروف كلها تؤكد أن كتاباتهم تعزز هذا الرأي (١).

أما سبب عدم تصريح اليهود بهذه الأهداف فيرجع إلى أن اليهود استطاعوا أن يكيفوا أنفسهم ليصبحوا في إطار الحركة الاستشراقية الأوربية النصرانية. فقد دخلوا الميدان بوصفهم الأوربي لا بوصفهم اليهودي حتى استطاع بعضهم أن يصل لمقام مرموق في الاستشراق كاليهودي (جولد تسيهر) الذي أصبح زعيم علماء الإسلاميات في أوربا بلا منازع. ولا تزال كتبه حتى اليوم تحظى بالتقدير العظيم والاحترام الفائق من كل فئات المستشرقين.

وكذلك لم يظهر اليهود أنفسهم بوصفهم يهودا حتى لا يعزلوا أنفسهم عن المجتمع. خاصة أنهم منبوذون في كل مجتمع وبالتالي يقل تأثيرهم. فبهذا النهج الذي سلكوه وبذلك كسبوا مرتين : كسبوا أولا فرض أنفسهم على الحركة

__________________

(١) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي ص ٥٣٤.

٦٩

الاستشراقية وكسبوا ثانيا بتحقيق أهدافهم بالنيل من الإسلام ، وإضعاف الروح المعنوية للمسلمين لتضعف مقاومتهم بالتالي لليهود.

وتاريخ اليهود مع الإسلام وحقدهم عليه وحربهم له قديم منذ أن بعث الله سيدنا محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بهذا الدين العظيم.

قال تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ..)(١).

وقد بقي اليهود يتحينون كل فرصة لحرب الإسلام والكيد له وتحريض من يقف في حربه فكانت الفرصة مواتية لهم بظهور الحركة الاستشراقية متسترين تحت رداء العلم (٢).

وكان من بين هؤلاء المستشرقين اليهود :

١ ـ جولد تسيهر اليهودي المجري وكتبه كلها مليئة بالافتراءات والأباطيل ضد الإسلام. مثل كتابه : (العقيدة الإسلامية) و (مذاهب التفسير الإسلامي) ولنا وقفة طويلة مع افتراءاته في موطنها من الرسالة.

٢ ـ مكسيم رودنسون ـ يهودي ماركسي ـ ألف كتابا بالفرنسية عن محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والكتاب مشحون بالافتراءات الاستشراقية على الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ورسالته وكثير من هذه الافتراءات مستمدة من التفسير المادي (الاقتصادي) للتاريخ عند «كارل ماركس».

ومن التحليل النفسي (الجنسي) للإنسان عند سيجموند فرويد ـ وكلها افتراءات ساقطة مبتذلة نعف عن مجرد ذكرها (٣).

__________________

(١) سورة المائدة آية ٨٢.

(٢) الاستشراق ـ زقزوق ـ ٤٨ ـ ٥٠ بتصرف.

(٣) رؤية إسلامية للاستشراق ص ٤٩ ـ ٥٠.

٧٠

٣ ـ دافيد سانتلانا (١٨٥٥ ـ ١٩٣١ م) يهودي سياسي جامعي. ولد في أسرة يهودية في تونس ومن أصل أسباني قديم وأسرته تحمل الجنسية الإنكليزية. كان أبوه قنصلا بريطانيا في تونس. وحاول (سانتلانا) أن يقيم تشابها بين الفقه الإسلامي وبين القانون الروماني والقانون الأوربي الحديث.

مع أن هذه المحاولة لا يقوم عليها دليل ، أو حجة سليمة فقد خدمت روحه وتطلعاته الاستشراقية انكلترا وإيطاليا وفرنسا معا.

وكان أكثر اهتماماته بالحركة الصوفية ورجالها ومبادئها وربطه بالتصوف اليوناني الأفلاطوني والتصوف المسيحي (١) … إلخ.

٤ ـ «ليفي بروفنسال» في المغرب العربي. يهودي فرنسي استعماري وكان أستاذا جامعيا في جامعة (تولوز) في باريس ولد في الجزائر العاصمة من أسرة يهودية ، وشب على أيدي كبار المستشرقين الفرنسيين أمثال : «رينيه باسيه» و «جيروم».

واستطاع بذكائه الماكر أن يخفي مشاعره اليهودية ، على الرغم من تورطه في كثير من كتاباته في الإساءة للإسلام والتنصير من مجتمع المسلمين مما حقق له ولأمثاله لمعانا وشهرة في مجتمعاتهم وبين قومهم.

وقد ركز في كتاباته على إهمال البعد الديني في انتشار الإسلام السريع والمبكر في العالم حينذاك زاعما أن ذلك لحب السيطرة وجمع الثروة ، وبخاصة في الأندلس والمغرب العربي ، وقد صور العرب طبقة أرستقراطية خاصة في الأندلس (٢).

٥ ـ بول كراوس (١٩٠٤ ـ ١٩٤٤) تشيكي سياسي جامعي صهيوني (٣). وغير هؤلاء كثير.

__________________

(١) مستشرقون ـ سياسيون ـ جامعيون ـ مجمعيون ـ نذير حمدان ص ٩٨ وما بعدها.

(٢) مستشرقون ـ نذير حمدان ص ١٠٣ ـ ١٠٨.

(٣) نفس المرجع السابق ص ١٠٨ وما بعدها.

٧١
٧٢

المبحث الخامس

طوائف المستشرقين

لم يكن المستشرقون على درجة واحدة في دراسة الإسلام خاصة والدراسات الشرقية على وجه العموم ، مع أنهم جميعا تزيوا بمسوح العلم وأظهروا الولاء والإخلاص للبحث والتقصي إلا أن الكثير منهم أساءوا للعلم وأهله بمناهجهم الفجة ، وتسخيرهم إياهم لأغراضهم الخاصة.

ويمكن تقسيم هؤلاء المستشرقين بالنسبة لموقفهم من الإسلام إلى فئات :

١ ـ طائفة لم تملك الفهم اللغوي والبلاغي الدقيق ، فأخطئوا بسبب ذلك في فهم النصوص ومصطلحاتها البلاغية والبيانية وحملوها ما لا تحتمل ، وصرفوا دلالاتها ومقاصدها عن حقيقتها وأتوا بأمور شكلية ، ونتائج خاطئة وهؤلاء كثير ؛ كالذي ألف قاموس «المنجد» حيث أحصى الدكتور مصطفى جواد أغلاط المنجد فقط المقصودة والتي مبعثها الجهل بالعربية إلى «ثلاثمائة وأربعة وعشرين» غلطا.

٢ ـ طائفة أثرت في دراساتهم مآرب السياسة ، والتعصب الديني (التنصيري) أو الصهيوني ، فوجهوا الحقائق وفسروها بما يوافق أغراضهم وأهدافهم.

ومن المؤسف أن يسخر هؤلاء العلم الذي يسمو به الإنسان ، ويحرر من عبودية الجهل والعادة الخاطئة والوصول به للإنسانية الكاملة لإذلال الإنسان أو استعباده أو الطعن في تراثه وعقيدته بغير حق. (١) أمثال : «جب» وشاتليه ،

__________________

(١) المنتقى في دراسات المستشرقين ص ج ، د من التمهيد.

٧٣

وكريستان سنوك هيروجرونجيه ، وجولد تسيهر ، وإبراهام كاش ، وغيرهم.

فهؤلاء كانوا يبحثون عن مواطن الضعف في الشريعة الإسلامية والحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي .. إلخ.

٣ ـ طائفة أوتيت سعة من العلم والتمكن في العربية ، والإخلاص للبحث ، والتحرر ، والإنصاف ، والتجرد من الأهواء ، فآتت دراساتهم ثمراتها ، فمنهم من وصل نور الإسلام لنفسه وقلبه فقال فيه كلمة حق ولم يؤمن أمثال : توماس كارليل ، وجوستاف لوبون ، وأميل درمنجم ، والبارون كاراديفو ، وغيرهم.

ولا يعني هذا أنهم لم يقعوا في أخطاء تجاه الإسلام.

ـ ومنهم من بهره الإسلام بحقائقه فوصل إلى قلبه نوره فآمن به أمثال : اللورد هدلي ، وإتيان دينيه ، ولوين روس ، والدكتورة لورافنيسيا فاليري ، وموريس بوكاي ، وغيرهم كثير.

ـ ومنهم من آمن به فكريا فقط فتراجع عن افتراءات القرون الوسطى أمثال : رينان ، وأوغست كونت ، ورينوتويب الذي ألف كتابا له يعتذر فيه للإسلام ويدافع عنه باسم (اعتذار إلى محمد والإسلام) (١).

٤ ـ طائفة منهم كانوا يعينون لهم غاية أو يضعون لهم قاعدة كلية توهما ثم يبدءون بجمع المعلومات لها سواء كانت من مصادر أصيلة أو غير أصيلة.

كما لاحظنا هذا في أعمال «جولد تسيهر» حيث كان يقول بنتائج خطيرة ويقرر مسائل هامة قبل بدايته في البحث ويأتي لها بأدلة من كتب النوادر والفكاهة والمجون ، أو كتب الحيوان .. إلخ (٢).

٥ ـ طائفة منهم كانوا يضعون في كتاباتهم مقدارا خاصا من السم ، ويحترسون في ذلك فلا يزيدون على هذه النسبة حتى لا يستوحش القارئ ولا

__________________

(١) الحركات الإسلامية والقوى المضادة ـ الكيلاني ص ١٥.

(٢) الإسلاميات بين كتابات المستشرقين والباحثين المسلمين ـ الندوي ص ١٦.

٧٤

يثير ذلك منه الحذر ولا تضعف ثقته بنزاهة المؤلف ممن هم ليسوا من أهل الاختصاص ، أو من متوسطي العقل. أمثال : جوستاف لوبون كما جاء في كتابه (حضارة العرب) وبروكلمان في كتابه (تاريخ الأدب العربي) وغيرهما (١).

٦ ـ طائفة دفعهم لدراسة العلم الشغف العلمي ، وحب الاطلاع فبذلوا في دراسة الشرقيات عامة والإسلام خاصة جهودا مضنية. فظهر على أيديهم دراسات طيبة ، وحققوا من كتب التراث ، أو صنفوا فيه كتبا أخذت حظها من الاحترام والموثوقية حتى غدت مرجعا لأبناء جنسهم وللمسلمين على حد سواء .. أمثال : «البروفيسور ت. و. آرنولد صاحب كتاب (الدعوة إلى الإسلام) «واستانلي بول» وكتابيه «صلاح الدين الأيوبي» و «العرب في الأندلس» و «د / سبرنجر» صاحب المقدمة النفيسة لكتاب (الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني) و «إدوارد لين» صاحب (المعجم العربي الكبير) ، وهو في تسع مجلدات شرح فيه مواد اللغة العربية باللغة العربية شرحا موسعا والكتاب فيه فوائد لعلماء اللغة العربية والنحو ولغيرهم.

وأشرف الأستاذ «أ. ي. ونسنك» على كتاب (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث) وهو لمجموعة من المستشرقين حيث فرغوا فيه تسعة من كتب الحديث. وغيرها كثير (٢).

٧ ـ طائفة منهم (إلحادية) درست الإسلام بنوايا الحرب السافرة للأديان عموما ، ولفض الناس من حولها (٣). ومن هؤلاء : «م. ر. رحماتوف» كاتب اللجنة المركزية للحزب الشيوعي والسفير للاتحاد السوفياتي بموريتانيا. حيث ألف كتابه (هل يمكن الاعتقاد بالقرآن) بهجوم سافر وأسلوب مفضوح.

وقد رد على هذا الكتيب الأستاذ «عبد الله كنون» جزاه الله خيرا ..

__________________

(١) الإسلاميات ص ١٧.

(٢) الإسلاميات للندوي ص ١٣ ـ ١٤.

(٣) الحركات الإسلامية والقوى المضادة ـ نجيب الكيلاني ص ١٢١.

٧٥
٧٦

المبحث السادس

المناهج وميزان البحث عند المستشرقين

عند ما بدأت كتابات المستشرقين عن الإسلام لم تكن كتابة علمية منهجية ، ولا بحوثا تتوخى حقائق التاريخ ، وإنما كانت أسلحة من أسلحة الدعاية الحربية ، وأسلوبا انتقاديا ضد الإسلام وأهله ؛ لما لاقوا من هزائم على أيدي المسلمين.

لذا حرص الغرب على ترويج الأكاذيب ضد الإسلام بأساليب ومناهج متعددة. ومن أشد هذه الكتابات على الإسلام كانت الكتب التي صدرت في العصور الوسطى (١) ، لما فيها من الشتم والسباب وعدم المنهجية بحال واعتمادها لعدة قرون بعدها من قبل الدارسين للشرق وأهله ودياناته.

أما كتب القرنين الحادي عشر والثاني عشر فقد تميزت بكثير من التهور والاندفاع في حرب الإسلام وأهله ، مبتدئين حربهم بالهجوم على القرآن الكريم. فقد صرح بذلك وزير المستعمرات البريطانية في القرن العشرين «جلادستون» (أنه لن تستقر أقدام الإنجليز في الشرق الأوسط ما دام القرآن يتلى بين الشرقيين) (٢) وترقت هذه المناهج بعد أن ألبست هذه الأفكار بثياب العلم ومسوحه.

وإليك هذه المناهج :

١ ـ شبهات ومطاعن ساذجة واستغلال شعارات خادعة وأغلب هذه

__________________

(١) العصور الوسطى : هي الفترة من منتصف القرن الحادي عشر حتى القرن الحادي عشر.

(٢) صور استشراقية ـ ص ٢٧ ـ ٢٩. د. عبد الجليل عبده شلبي.

٧٧

الشبه والمطاعن بهذا المنهج كانت تطلق من المبشرين المتعصبين ولغرض ديني وهو منهج القرون الوسطى.

كان أصحاب هذا المنهج يتصورون أنهم بذلك سيدخلون الناس في النصرانية ويسببون لهم الردة عن الإسلام. لكن هذا المنهج لم يكن له أثر يذكر. بل ربما أتى بالعكس لأنه يهيج العاطفة الإسلامية ويدفع المسلم زيادة في التمسك بدينه ؛ لذلك غيروا خطتهم وسلكوا منهجا آخر وهو الاحتكاك اليومي في التعليم أو الطب أو ملاجئ الأيتام وغيرها.

وقد حدد (المرود وغلاس) فائدة هذا المنهج في مقالة بعنوان (كيف نضم إلينا أطفال المسلمين في الجزائر) قال : (إن هذه السبل لا تجعل الأطفال نصارى ، ولكنها لا تبقيهم مسلمين كآبائهم ، ومثل هذه الجهود ما يبذله المبشرون في شمال إفريقية ومصر) (١).

ومن هذه الأكاذيب التي مصدرها الحقد النصراني الأعمى على الإسلام ما نشره الأدباء الغربيون في القرون الوسطى أن المسلمين قوم وثنيون يعتقدون بألوهية محمد وأنهم يعبدون ثلاثة آلهة محمد (ما هولت) والقرآن (ترافاجن) الله (أبوليق) كما جاء هذا في أغنية «رولات» الشهيرة (٢).

٢ ـ الإيهام والتشكيك والنقد الجائر للإسلام العظيم : لم يترك المستشرقون جانبا من جوانب الإسلام إلا وهاجموه بالنقد الجائر والتشكيك الفاضح ابتداء بالقرآن الكريم وانتهاء بسنته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وسيرته ، محاولين طمس كل معالم المجد والخير في التاريخ الإسلامي.

وقد سلك المستشرقون في هذا المنهج بدراسات منظمة ، وأسلوب جذاب يجذب القارئ البسيط الذي لم ينل من التعليم الصحيح عن دينه وتاريخه وحاضر أمته إلا قليلا. ووصل بهم الأمر أن سمموا به فكر كثير من المثقفين في وقت

__________________

(١) الغزو الفكري ص ٢٢٨. والمستشرقون والإسلام ـ اللبان ص ٣٦.

(٢) التبشير والاستشراق ـ طهطاوي ص ٣٨.

٧٨

كانت الأجيال مهزومة سياسيا ونفسيا ، وموصومة بالتخلف ماديا وحضاريا ، ومفرغة من أصالتها روحيا وعلميا ومحرومة من التربية الإسلامية الصحيحة مبهورة بالحضارة الغربية.

وقد عمل المستشرقون جهدهم في تربية فئة من أبناء المسلمين على هذه الأفكار وصدّروهم مراكز علمية أو أدبية ليسهل على الأمة تجرعها وكان على رأس هؤلاء الدكتور : «طه حسين» الذي أطلقوا عليه ظلما «عميد الأدب العربي» فهاجم الإسلام عامة والقرآن والسنة واللغة العربية خاصة وكان أساتذته في هذه الأباطيل. «ود. جويدي» الإيطالي و «ماسينيون» اليهودي الفرنسي ، و «مرجليوث» الإنجليزي (١).

ومن الأمثلة التي تؤكد حكمهم على الأشياء بمجرد الوهم دون اتباع الحقيقة فيها. واعتمادهم على المراجع الواهية زعم «جولد تسيهر» أن «أبا حنيفة النعمان» ـ رحمه‌الله ـ لم يكن يعرف هل كانت معركة بدر قبل أحد أم كانت أحد قبلها! معتمدا «جولد تسيهر» في ذلك على كتاب الحيوان للدميري.

ولا شك أن أقل الناس اطلاعا على التاريخ يرد مثل هذه الرواية المكذوبة فأبو حنيفة من أشهر أئمة الإسلام الذين تحدثوا عن أحكام الحرب في الإسلام حديثا مستفيضا في فقهه الذي أثر عنه وفي كتب تلامذته الذين نشروا علمه ك «أبي يوسف» و «محمد». فيستحيل على العقل أن يصدق بأنه كان جاهلا بوقائع سيرة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومغازيه وهي التي استمد منها فقهه في أحكام الحرب.

زيادة على ذلك أن المرجع الذي اعتمده «جولد تسيهر» ليس كتاب فقه ولا تاريخ. والدميري ليس مؤرخا وإنما حشر في كتابه كل ما يرى إيراده. من حكايات ونوادر تتصل بموضوع كتابه من غير أن يعنّي نفسه البحث عن صحتها (٢).

__________________

(١) الغزو الفكرى ص ٢٢٨.

(٢) الاستشراق والمستشرقون ، د. مصطفى السباعي ص ٤٤ ـ ٤٥.

٧٩

٣ ـ وضع فكرة معينة في أذهانهم ، ثم البدء بتصيد الأدلة لإثباتها على عكس المنهج العلمي الاستدلالي.

وحين يبحثون عن هذه الأدلة لاتهمهم صحتها بمقدار ما يهمهم إمكان الاستفادة منها لدعم آرائهم الشخصية. وكثيرا ما يستنبطون الأمر الكلي من حادثة جزئية ، أو أنهم يدخلون مشاعرهم الشخصية وآراءهم وأهواءهم الخاصة فيفسرون الحوادث ويناقشون النصوص ، ويحللون القضايا والشخصيات الإسلامية على ضوء وجهة نظرهم ، وتجدهم يؤيدونها بأدلة واهية أو ضعيفة من كتب موثوقة أو غير موثوقة.

وغالبا ما يضطرهم هذا المنهج إلى الكذب والمغالطات ، واقتطاع النصوص (١).

وخير من مثل هذا المنهج «جولد تسيهر» في كتبه ومن الأمثلة على ذلك : زعم «جولد تسيهر» أن الحديث مجموعة من صنع القرون الثلاثة الأولى للهجرة وليس قول الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما ادعى أن أحكام الشريعة لم تكن معروفة لجمهور المسلمين في الصدر الأول من الإسلام وأن الجهل بها وبتاريخ الإسلام كان لاصقا بكبار الأئمة.

وقد حشد لذلك بعض الروايات الساقطة المتهافتة. وكان ممن نهج هذا المنهج كذلك المستشرق «جب» حيث كان يقدم فرضيات مسبقة ثم يحاول البحث عن نصوص وقرائن لكي يضعها موضع القطع واليقين. لا يبالي في ذلك تزييف الأدلة أو نقضها أو نقل شطر منها وترك شطر آخر.

فمن مزاعمه أن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يكن نبيا ـ وإن كان لدى العرب من بقايا عهد إبراهيم ـ إنما هو من مخترعاتهم وتقاليدهم التي ابتدعوها من عند أنفسهم.

__________________

(١) أجنحة المكر الثلاثة ص ١٤٢ ـ ١٤٧ ، وافتراءات الباز ص ٢٥.

٨٠

ومن ذلك زعمه أن تقديس الكعبة ليس أثرا من آثار دعوة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وإنما هو شيء نسجته البيئة العربية فكان تقليدا.

وزعمه كذلك أن الجان مخلوقات وهمية وما جاء في القرآن عنها كذلك هو وهم … إلى آخر أقواله (١).

وكذلك المستشرق «مرجليوث» تجده يقطع النصوص ليؤكد ما في نفسه من باطل فقد ذكر حديث (إنما حبب إليّ في دنياكم الطيب والنساء) مخفيا باقي الحديث (وجعلت قرة عيني في الصلاة) حتى يظهر شخصية الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مشغوفة بأمور الدنيا (٢).

٤ ـ دس بعضهم مقدارا من السم في مؤلفاتهم ولا يزيدون على هذا المقدار حتى لا يستوحش القارئ ولا يثير ذلك فيه الحذر ، ولا تضعف ثقته بنزاهة المؤلف (٣).

فمن هؤلاء المستشرقين الذين سلكوا هذا المنهج : «جوستاف لوبون» في كتابه (حضارة العرب). الذي سار في كتابه سيرا جيدا بإظهار مزايا العرب ومآثرهم على غير عادة قومه ولكنه عند ما تحدث عن سيرة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والقرآن لم يستطع إخفاء ما في نفسه ضدها. فاتهم الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بميله الشديد للنساء وشهوانيته. وعند حديثه عن القرآن اعتبره نوبات صرعية كانت تغشاه إلى غير ذلك من الأخطاء (٤).

ومنهم «بروكلمان» في كتابه (تاريخ الأدب العربي) حيث سار في كتابه سيرا منهجيا وعند ما تحدث عن القرآن وجمعه لم يستطع إخفاء عدائه فاعتبره كذلك نوبات صرع. وعند ما تحدث عن التفسير اعتبره علما لا أصل له إلى

__________________

(١) الإسلام والمستشرقون ص ٦٩ ـ ٧٠.

(٢) نفس المرجع ص ١٠١.

(٣) انظر كتاب الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية ص ١٩٠.

(٤) حضارة العرب «جوستاف لوبون» ص ١٤٢.

٨١

غير ذلك من السموم التي يستطيع أي قارئ بصير بأمور دينه أن يقف عليها (١).

٥ ـ رفض الحق بالنفي المجرد والافتراء على الإسلام بالهوى الأعمى والتعصب المقيت ، الذي لا يدعمه دليل صحيح مقبول في المنهج العلمي السليم.

كما حصل ذلك بموقفهم من القرآن الكريم ومصدريته الإلهية حيث حاول الكثير من المستشرقين إثبات أنه من صنع وتأليف محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لفّقه من ديانات ومذاهب عقدية كانت موجودة في عصره وعلى رأسها اليهودية والنصرانية. وكان من بين هؤلاء المستشرقين «جولد تسيهر» و «بلاشير» في كتابه (معضلة محمد) وأوسع من كتب في هذا الموضوع «كلير تسدال» في كتابه (مصادر الإسلام). وكل ما حاولوا الإتيان به من أدلة لإثبات صواب أقوالهم مردود عليهم.

ومن افتراءاتهم أن الإسلام لا مستقبل له كما زعم ذلك «مرجليوث» عام ١٩٠٤ م ، و «لامنس» منذ عام ١٩٣٠ م (٢) وافتراء «شاخت» و «جردنجيه» و «جولد تسيهر». أن الشريعة الإسلامية مأخوذة من القانون الروماني وأن التشريع المتعلق بالأسرة والوراثة مأخوذ من النظام القبلي (٣).

٦ ـ اعتمادهم على روايات مكذوبة أو ضعيفة أو قصص مختلقة أثناء حديثهم عن الإسلام أو القرآن أو نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام.

زعم بعض المستشرقين كذبا أن ضعف محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يتمثل في حبه الطارئ للنساء مما جعله يتجرأ على تزوج زوجة ابنه بالتبني ، ورؤياه لها وهي عارية كما زعم ذلك «جوستاف لوبون» في كتابه (حضارة العرب) (٤).

__________________

(١) تاريخ الأدب العربي «بروكلمان» ج ١ ص ١٣٧.

(٢) الإسلام والمستشرقون ص ٧٢. لنخبة من العلماء المسلمين.

(٣) نفس المرجع ص ٩٦.

(٤) حضارة العرب «جوستاف لوبون» ص ١٤٢.

٨٢

ومن كذبهم كذلك قصة الغرانيق وسجود محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأصنام قريش اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى واحتفالهم البالغ بمعراج ابن عباس ومقارنتهم بينه وبين الكوميديا الإلهية.

مع أن هذه القصص وأمثالها من القصص المكذوبة المفضوحة التي تردها روايات السنة الصحيحة ، وروايات التاريخ الصادقة ويردها ذلك العقل السوي المتجرد في الحكم على الأشياء وقد بينت عوار هاتين الروايتين : قصة زواجه من السيدة زينب بنت جحش وقصة الغرانيق وسجوده للآلهة المزعومة في مواطن أخرى من الرسالة.

٧ ـ اختراع العلل لبعض القضايا الإسلامية بمحض التخيل والتحكم والهوى بقصد الإساءة للإسلام.

من ذلك ما جاء في كتاب (دراسة عن الإسلام في إفريقية السوداء) لمؤلفه «فيليب فونداسي».

تفسير أحد المستشرقين لموقف الإسلام من المال تفسيرا بعيدا عن التصور الإسلامي له ، فاهما قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها ..)(١). حيث قال : (إن الأموال المادية ـ في نظر الإسلام ـ هي من أصل شيطاني نجس ، ويحل للمسلم أن يتمتع بهذه الأموال شريطة أن يطهرها وذلك بإرجاع الأموال إلى الله).

وقد ردد هذا الفهم الأب «دومينيكاني» الذي كان يقيم في مصر في إحدى محاضراته عن علم الكلام في جامعة مونتريال (إن المسلمين يتجنبون الناس الذين يشتغلون بالمال ، ويعتبرونهم أقرب للكلاب منهم للبشر ولا شك أن كلاما كهذا في مجتمع مادي النزعة يسيء للإسلام والمسلمين أيما إساءة) (٢).

__________________

(١) سورة التوبة ١٠٣.

(٢) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي ـ د. محمد البهي ص ٥٧.

٨٣

٨ ـ قياسهم لقضايا الإسلام والأحداث التاريخية والعادات والأخلاق الإسلامية بأسلوب التفكير والسلوك والمنهج الغربي وتفسير هذه الأمور تفسيرا ماديا ، وبنوازع نفسية دنيوية. وليس أثرا لدافع مرضاة الله وثواب الآخرة ، وأكثر ما يظهر هذا المنهج عندهم في السيرة النبوية ، والتاريخ الإسلامي (١) ومحاولة تضخيم الأخطاء ، والتصرفات الشخصية ، وحمل الكثير منها على غير محملها الحسن.

من ذلك تعليلهم الفتوحات الإسلامية أنها كانت للسيطرة على الموارد المالية للأقطار المفتوحة لحاجة المسلمين الماسة للمال. وهذا ما ركز عليه لإثباته صاحب كتاب (الإسلام قوة عالمية متحركة) (٢) وهذه النظرة للإسلام ليست بغريبة على الحس الغربي الذي كانت من ضمن أهداف حروبه الصليبية هذا الهدف.

وزعم بعضهم على أن ظاهرة الدين الإسلامي الذي دعا إليه محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ زاد نموها بسبب ما كان موجودا من ظاهرة التعبد سواء لله بين الحنفاء أو للأصنام كما هو حال قريش. فعلى هذا فالإسلام يعتبر سلسلة من التغيرات الاجتماعية في هذا المجال (٣).

كما أنهم من هذا الفهم المادي أنكر بعضهم الوحي والنبوة والمصدر الرباني للقرآن وهذا الفهم صادر عن فهمهم للأديان الأخرى التي يعتبرونها من صنع الرسل وتلامذتهم.

وكان من بين هؤلاء المستشرقين «بروكلمان» في كتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية) و «روزنتال» الذي يصور التاريخ الإسلامي سلسلة متصلة من الحكام الطغاة ، وأن التاريخ الحضاري للإسلام كان تكرارا مسجلا للأفكار ، وأن التاريخ الديني كان بقايا متحجرة متجمدة تناقلتها الأجيال بعضها عن بعض (٤).

__________________

(١) أجنحة المكر الثلاثة ص ١٤١ ـ ١٤٨.

(٢) الإسلام في الفكر الغربي د. محمد شامة ص ٨٦.

(٣) نفس المرجع ص ٣٤.

(٤) نفس المرجع ص ١٠٣.

٨٤

٩ ـ اعتماد المنهج المعكوس والانتفاء الكيفي والتفسير الاختياري للنصوص.

وهذا المنهج يقوم على تبييت فكرة مسبقة ثم يجيئون بوقائع ونصوص تؤيدها ويستبعدون ما دون ذلك.

ومن هؤلاء المستشرق «كيتاني» الذي وضع رأيه وأفكاره في السيرة قبل الشروع فيها فاستعان لذلك بكل خبر ضعيف وعده حجة وبنى عليه حكمه.

وقد أشار لهذا المنهج «ايتين دينيه» في كتابه (الشرق كما يراه الغرب) حيث يقول : (لقد أصاب الدكتور سنوك هير غونجه بقوله : إن سيرة محمد الحديثة تدل على أن البحوث التاريخية مقتضي عليها بالعقم إذا سخرت لأي نظرة أو رأي سابق).

ومن أصحاب المنهج الانتقائي «لامانس» المستشرق الفرنسي ، وقد تمثل هذا واضحا في معالجته لبعض القضايا التاريخية عارضا لها على أفكاره ومعتقداته الخاصة دون أن يعبأ بالموضوعية.

ومنهم كذلك (بروكلمان) الذي لا يشير إلى دور اليهود في تأليب الأحزاب على المدينة. ولا إلى نقض بني قريظة عهدها مع الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حيث أظهر هذا بقوله : (ثم هاجم المسلمون بني قريظة الذي كان سلوكهم غامضا على كل حال) (١).

١٠ ـ المنهج التأثري المنطلق من رواسب تنصيرية كنسية ، أو من خلفيات علمانية ، أو من رواسب يهودية.

وهذه في معظمها يستخدمها الفكر السياسي الاستعماري لمصالحه القومية وقلما نجد قضية هامة عولجت متحررة من ذات الباحث وأفكاره السابقة.

__________________

(١) الإسلام والمستشرقون ص ١٢١ ـ ١٢٢.

٨٥

ومثال هذا في دراسات المستشرقين وكتاباتهم كثير منها :

زعمهم أن الدين الإسلامي : دين سيف ، وأنه أقيم على سفك الدماء ، وأنه دين الهمجية والإجرام ، إلى غير ذلك من التهم التي لفقها للإسلام أعداؤه من اليهود والنصارى.

في حين أنهم يظهرون النصرانية بأنها دين الرحمة والمحبة والتسامح وبأنها تبغض البغضاء والقتال.

ومن بين هؤلاء المستشرقين «هربرت جوتشالك» في كتابه (الإسلام قوة عالمية متحركة) (١).

ومن ذلك ما ذكره المستشرق «مايور» كما نقله عن «مارجليوث» [أن أهل البدو كانوا كثيري الاهتمام بتعلم البلاغة وطلاقة اللسان ، فلا يبعد أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قد مارس هذا الفن حتى نبغ فيه].

هذا الكلام غير العلمي يدل على مقدار تحكيم الهوى ونزعة العداء في أقوالهم المليئة بالافتراءات والتخيلات الملقاة على كواهلها. والكل يعرف أن أمر العربية وأساليبها البلاغية كان أهل البادية يتقنونها سليقة لا تعلما.

ومن ذلك مهاجمة «جولد تسيهر» وافتراؤه على الإمام «الزهري» واعتباره وضاعا للأحاديث حيث اتهمه بوضع حديث «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» (٢) وحجته في ذلك أن الزهري وضعه لعبد الملك بن مروان ليصرف الناس عن مكة والمدينة إلى المسجد الأقصى. مع أن كتب الجرح والتعديل كلها أجمعت على صدق هذا الإمام الجليل وأمانته وورعه (٣) ومع أن الزهري لم يلق «عبد الملك» إلا بعد سنوات من مقتل «ابن الزبير».

__________________

(١) انظر الإسلام في الفكر الأوربي ص ٧٦.

(٢) مسند الإمام أحمد ٢ / ٢٣٤.

(٣) الاستشراق والمستشرقون ص ٤٦.

٨٦

١١ ـ رد معطيات السيرة وغيرها من القضايا الإسلامية إلى أصول نصرانية أو يهودية.

وكان من بين هؤلاء المستشرقين «كلير تسدال» في كتابه (مصادر الإسلام) الذي حاول إظهار الإسلام من مصادر شتى على رأسها اليهودية والنصرانية.

و «قسيس إنجليكاني» في كتاب له من سلسلة «بنجوين» الذي زعم أن الإسلام صورة غير محكمة أو مشوهة للمسيحية.

وكذلك «ولفرد كانتول سمت» الذي حاول جاهدا أن يوضح نقاط التشابه بين الإسلام والنصرانية و «جولد تسيهر» الذي سلك هذا المسلك في كثير من كتبه ، وغير هؤلاء المستشرقين كثير (١).

١٢ ـ المنهج التلقائي شبه العفوي : كان منهج بعضهم في البحث الاتفاق المسبق والتعاون الجماعي على ترويج الأكاذيب عن الإسلام ، والتاريخ الإسلامي ، وإضفاء صفة العلمية على هذه الأكاذيب ، واستعماله بطريقة تلقائية شبه عفوية ، بحيث تبدو وكأنها حقائق بديهية ، وحتى ينشغل المسلمون بها وبموقف الدفاع انشغالا دائما يمنعهم من اتخاذ موقف البناء ، أو الهجوم على النصرانية واليهودية.

فمن هذه الأكاذيب :

تشويه مكانة المرأة في الإسلام ، وحقيقة تعدد الزوجات في حياة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والجهاد وقضية انتشاره بالسيف والعنف ـ بزعمهم ـ ، وبأن الإسلام دين لا دولة ، وأنه دين يتعدد بتعدد شعوبه ، وأن عقيدته تجلب الحيرة للمسلم كما زعم ذلك «رينان» .. إلخ (٢).

١٣ ـ من مناهجهم اعتماد الطابع العلمي الوضعي والرؤية المحدودة للقضايا الإسلامية.

__________________

(١) الإسلام والمستشرقون ص ١١٩.

(٢) العقل المسلم في مرحلة الصراع الفكري ـ د. عبد الحليم عويس ، مكتبة الفلاح ص ١٨.

٨٧

إن اعتماد هذا المنهج عند بعض المستشرقين أوقعهم في كثير من الأخطاء ، فمن هؤلاء المستشرقين «فلهاوزن» وعدد من رفاقه الذين اعتبروا الحركة الإسلامية إقليمية لأهل مكة فقط وأنها لم تنتقل للمرحلة العالمية ـ في العصر المدني ـ إلا بعد أن أتاحت لها الظروف لذلك ، ولم يكن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليفكر بذلك من قبل.

وقد رد «سيرتوماس أرنولد» هذه الدعوى بقوله : (من الغريب أن ينكر بعض المؤرخين أن الإسلام قد قصد به مؤسسه في بادئ الأمر أن يكون دينا عالميا برغم هذه الآيات البينات ..) (١).

١٤ ـ استنباط الأمر الكلي والقواعد الكبرى من الحوادث الجزئية والمسائل الفرعية ، فنتج عن ذلك أخطاء جسيمة ، ومفارقات عجيبة من ذلك ما بنى عليه بعض المستشرقين على وجود بعض الكلمات في القرآن المتشابه ببعض اللغات الأخرى على أن القرآن ليس عربيا ومصدره لغات وديانات شتى.

وكذلك كان من وراء مزاعمهم هذه إيجاد فجوة بين بيان القرآن وبين لغة الكتابة العربية لتستعجم الألسنة ، ولينقطع الطريق لفهم الإسلام.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف توالت دعوات المستشرقين لعدم التمسك بهذه اللغة وعدم اعتبارها مقدسة ؛ فدعوا للعاميات وللكتابة بالحروف اللاتينية وترك الإعراب زعما أن ذلك أيسر على الأجنبي في تعلم العربية.

وكان منهم المستشرق الفرنسي «ماسينيون» والمستشرق «مارجليوث» البريطاني اليهودي و «وليم ويلكوكس» ، و «ويلمور» ، وغيرهم كثير (٢). وقد تبنى هذه الدعوة من أبناء العربية مجموعة من تلاميذ الاستشراق ـ سبق أن ذكرت بعضهم ـ وكزعم أن تأخر كتابة السنة كان سببا لإضعاف الثقة فيها فدخلها الوضع والكذب.

__________________

(١) الإسلام والمستشرقون ص ١٢٩.

(٢) الإسلام والمستشرقون ـ عدد خاص صادر عن ندوة العلماء لكنهو في الهند ص ٨٣ ـ ٩١.

٨٨

١٥ ـ تضخيم الأخطاء الصغرى والتصرفات الشخصية ، وجعلها تطغى على ساحة صورة تاريخ المسلمين ، وطمس الصور الرائعة المشرقة في هذا التاريخ.

من ذلك محاولة تضخيم ما حصل من فتن وحروب بين الصحابة وخروج بعض الفرق عن طريق مذهب أهل السنة ذاكرين دوافع لها في قمة الغرابة والاستهجان.

والمعروف أن مثل هذه الهفوات أمر لا تخلو منه أمة من الأمم لأن هذا من طبيعة البشر. ولكنه الحقد الدفين والعداء السافر الموجه لهذا الدين.

١٦ ـ النفي الكيفي وإثارة الشكوك في معطيات السنة والتاريخ الإسلامي وخاصة السيرة النبوية.

لقد غالى المستشرقون في كتاباتهم في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي كثيرا ، وأثاروا كثيرا من الشكوك حولهما ومن الغريب أن بلغ بهم الأمر إثارة الشك في اسم الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولو تمكنوا لأثاروا الشك حتى في وجوده حسدا وحقدا على هذا الدين. وقد أشار «درمنغهم» إلى هذه المسألة فقال : (من المؤسف حقا أن غالى بعض هؤلاء المتخصصين ـ من أمثال موير ، ومارجليوث ، ونولدكه ، وشبرنجر ، ودوزي ، وكيتاني ومارسين ، وغويم ، وجولد تسيهر ، وغود فروا ، وغيرهم ـ في النقد أحيانا فلم تزل كتبهم عامل هدم على الخصوص ، ومن المحزن ألا تزال النتائج التي انتهى إليها المستشرقون سلبية ناقصة ، ولن تقوم سيرة على النفي ، ومن دواعي الأسف أن كان الأب «لامانس» الذي هو من أفضل المستشرقين المعاصرين من أشدهم تعصبا ، وأنه شوه كتبه الرائعة الدقيقة وأفسدها بكرهه للإسلام ونبي الإسلام ، فعند هذا العالم اليسوعي أن الحديث إذا وافق القرآن كان منقولا عن القرآن فلا أدري كيف يمكن تأليف التاريخ إذا اقتضى تطابق الدليلين لتهادمهما بحكم الضرورة بدلا من أن يؤيد أحدهما الآخر (١)؟!

__________________

(١) الإسلام والمستشرقون ص ١٢٥ ـ ١٢٦.

٨٩

ومن أمثلة ذلك رد بعض المستشرقين كل ما لم يرد في القرآن من أحداث السيرة ، كان منهم :

«ولفنسون» الذي رد صحة الرواية التي بينت سبب محاربة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإجلائه لبني النضير وهي محاولتهم اغتياله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وحجة هذا المستشرق أن هذه الرواية لم يرد ذكرها في القرآن الكريم.

دلالات منهجية في أعمال المستشرقين :

١ ـ لوحظ أن أبحاث المستشرقين والمبشرين تكاتفت على تشويه الإسلام والتحيز ضده مع محاولات التغيير الديني والفكري والسلوكي للمسلمين.

٢ ـ لوحظ أن كثيرا من الشخصيات الاستشراقية كانت ذات مسوح كنسية تخصصت بالشرقيات عامة وبالإسلاميات خاصة ، بالإضافة إلى اللاهوت المسيحي ، فاستحوذ عليهم التنصير الكنسي والاستشراق المعرفي.

٣ ـ لوحظ تأثير كل الفرق والمذاهب المسيحية في الفكر الاستشراقي عموما والكاثولوكية المتطرفة على وجه الخصوص.

٤ ـ يلاحظ أن التحصيل الكنسي يسبق التحصيل الاستشراقي ولم نسمع أن مستشرقا علمانيا مثلا أتم تحصيله الاستشراقي ثم عاد إلى الكنيسة للتعلم.

٥ ـ من الناحية التحصيلية فإنه لا يعسر أن نجد شخصيات استطاعت بتفوق قدراتها أن تجمع المعارف الغزيرة في علوم شتى وبلغات عدة.

٦ ـ لوحظ أن أنصاف المتعلمين والباحثين من المستشرقين والتأثير المتبادل عليهم من الكنيسة والاستشراق دفعهم إلى تزييف الحقيقة أو ضياعها. كل ذلك يعود لضعف الشخصية والرواسب البيئية.

٧ ـ الملاحظ أن تأثير الكنيسة على المستشرقين كان أشد وأقوى من العمل الاستشراقي حتى إن الطابع البحثي يغلب عليه الروح التنصيرية سواء كان في الموضوعات أو في الطريقة.

٩٠

٨ ـ أن المستشرق المنصر لا يمكن أن يتحرر من بصمات المعارف والبواعث الكهنوتية في دراساته مهما حاول أن يعلن خلافهما أو يتظاهر بمنهجيتها (١).

٩ ـ كما لوحظ وضوح البصمات اليهودية في أبحاث المستشرقين اليهود كمحاولة جعل اليهودية مصدر الإسلام ، وصاحبة الفضل عليه.

١٠ ـ وكذلك لوحظ عدم النزاهة ، والدقة ، والتجرد لكثير من المستشرقين في أبحاثهم. لذا جاءت أبحاثهم فجة ، مليئة بالأخطاء.

__________________

(١) في الغزو الفكري ص ١٦٠ ـ ١٦١.

٩١
٩٢

الباب الأول

المستشرقون وكتاباتهم حول القرآن الكريم

٩٣
٩٤

الباب الأول

المستشرقون وكتاباتهم حول القرآن الكريم

الفصل الأول

مستشرقون أفردوا مؤلفات حول القرآن الكريم

الفصل الثاني

مستشرقون كتبوا عن القرآن من خلال مؤلفاتهم

ملحق

لأسماء مجموعة من كتب المستشرقين حول القرآن الكريم

٩٥
٩٦

الفصل الأول

مستشرقون أفردوا مؤلفات حول القرآن الكريم

المبحث الأول

مقدمة القرآن ـ لمؤلفه ريتشارد بل

المبحث الثاني

مقدمة القرآن ـ لمؤلفه مونتجمري واط

المبحث الثالث

القرآن ـ لمؤلفه ريجي بلاشير

المبحث الرابع

مقدمة القرآن ـ لنفس المؤلف

المبحث الخامس

مصادر الإسلام ـ لمؤلفه كلير تسدال

المبحث السادس

جمع القرآن الكريم لمؤلفه جون بيرتون

المبحث السابع

صلة القرآن باليهودية والمسيحية ـ لمؤلفه د. فلهلم رودلف

٩٧

المبحث الثامن

المفردات الأجنبية في القرآن ـ لمؤلفه آرثر جيفري

المبحث التاسع

مقالة في الإسلام ـ لمؤلفه جرجيس صال

المبحث العاشر

التوراة والإنجيل والقرآن والعلم ـ لمؤلفه موريس بوكاي

المبحث الحادي عشر

مذاهب التفسير الإسلامي ـ لمؤلفه جولد تسيهر

المبحث الثاني عشر

مصادر وطرق لتفسير الكتاب المقدس ـ لمؤلفه ج. فانسبرف

المبحث الثالث عشر

تاريخ النص القرآني ـ لمؤلفه تيودور نولديكه

٩٨

الباب الأول

المستشرقون وكتاباتهم حول القرآن الكريم

الفصل الأول

مستشرقون أفردوا مؤلفات حول القرآن الكريم

هذا الفصل أفردته للحديث عن بعض الكتب التي تحدثت عن القرآن الكريم ، وقد بلغت ثلاثة عشر كتابا عرفت بالمؤلف بما تيسر لي من كتب التراجم المختصة بهم. ومن لم أترجم له فلعدم تعرض هذه الكتب له ، وسبب ذلك غالبا لوجوده على قيد الحياة.

كما تعرضت فيها لعرض ما جاء في الكتاب باختصار ثم قومت الكتاب وذكرت فيه رأيي بإيجاز.

والجدير بالذكر أن هذه هي مجموعة من الكتب التي وقفت عليها وأكثرها كان مرجعا لعملي في هذه الرسالة ، وقد عرفت بها القارئ على نماذج من منهج هؤلاء المستشرقين في كتبهم حين يتعرضون فيها وللقرآن الكريم ليقف القارئ على مقدار التحامل والمغالطات التي في هذه الكتب فيحذروها.

٩٩

المبحث الأول

مقدمة القرآن

لمؤلفه ريتشارد بل

تعريف بالمؤلف :

«ريتشارد بل» إنجليزي الأصل وهو أحد أساتذة اللغة العربية بجامعة ادنبره ، صرف سنين عدة من عمره في دراسة القرآن الكريم وتاريخه دراسة وافية متتالية فكان من أشهر أعماله :

١ ـ ترجمة للقرآن الكريم .. سنة ١٩٣٧ م ـ ١٩٤١ م.

٢ ـ ومقدمته للقرآن الكريم .. وهي قيد التعريف.

٣ ـ أسلوب القرآن الكريم .. سنة ١٩٤٢ م ـ ١٩٤٤ م.

٤ ـ المتشابه في القرآن الكريم .. سنة ١٩٨٢ م.

٥ ـ أهل الأعراف .. سنة ١٩٣٢ م.

٦ ـ سورة الحشر .. سنة ١٩٤٨ م.

وله عدة مقالات أهمها :

١ ـ «الحديث عند المسلمين» سنة ١٩١٣ م ـ ١٩٢٢ م. نشرت هذه المقالة في الجمعية الشرقية.

٢ ـ «أذن في الناس بالحج» نشرت هذه المقالة في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية ١٩٣٧ م.

٣ ـ «معلومات محمد عن العهد القديم» نشرتها مجلة الدراسات السامية والشرقية سنة ١٩٤٥ م ، وغير ذلك من الأبحاث والمقالات كثير.

١٠٠

وقد اقتصرت على ذكر هذا العدد من المؤلفات والمقالات خوفا من الإطالة.

تعريف بالكتاب :

أصدر «بل» هذه المقدمة سنة ١٩٣٥ م وطبعتها مطبعة جامعة أدنبره ، وقد مات المؤلف أثناء عمل تجارب الطباعة لهذا الكتاب فقرأها صديقه «جلبرت واطسون» الذي كان يشغل وظيفة كبير المفتشين لمدارس اسكتلندا ، وراجعه القس «أ. ت. جوردن» الحاصل على درجة الماجستير في الآداب ، وأستاذ اللغة العربية ، والدراسات الإسلامية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.

وقد قام بتجميع العمل «ر. ر. كلارك» وبلغت عدد صفحات الكتاب (١٧٣) بالقطع المتوسط غير الفهارس.

وقد قسمه لعشرة فصول :

الفصل الأول ـ :

وعنوانه : (الموقف التاريخي ومحمد):

تحدث «بل» في هذا الفصل عن البيئة التي نبتت فيها الدعوة الإسلامية وما كان لها من تأثير على التعاليم والعقائد الإسلامية ، كالاعتقاد بالجن وموقفه من الكهان ، وتأثير اليهودية والنصرانية والحنفاء على الأسلوب القرآني وتأثير الموقف العالمي حول الجزيرة على الدعوة الإسلامية وخاصة المجوسية والزرادشتية.

ثم تحدث عن موقف الإسلام من المرأة. ثم عن الكتابة والقراءة وتأثير ذلك على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

ثم ذكر نبذة عن سيرة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم تحدث عن الأشهر العربية والأشهر الحرم منها. ثم ختم الفصل بالحديث عن الوحي ومعناه ، واستعمالاته في القرآن الكريم.

١٠١

الفصل الثاني ـ :

وعنوانه : (أصل القرآن):

تحدث في هذا الفصل عن القرآن ونزوله وجمعه والصحف الخاصة بالصحابة رضوان الله عليهم ، والنص القرآني من حيث الزيادة والنقصان. متأثرا بأقوال الشيعة الذين يزعمون بأن النقص والزيادة والاضطراب دخل القرآن الكريم ، ثم تعرض في نهاية الفصل للقراءات القرآنية السبعة وقرائها ومن اعتنى بها من المستشرقين أمثال : براجشترستر ، وبيرتزل ، وآرثر جيفري ، وهؤلاء اعتنوا بهذا الجانب خاصة «القراءات الشاذة». ساردا بعض الأمثلة على ذلك ؛ ليخلص منها أن هذه القراءات ما هي إلا نسخ أخرى من القرآن الكريم تقابل النسخة العثمانية ليدلل على وجود الاضطراب والاختلاف في نص القرآن الكريم.

الفصل الثالث ـ :

وعنوانه : (شكل القرآن):

تحدث المؤلف في هذا الفصل عن أقسام القرآن الكريم إلى أجزاء وأحزاب وأرباع وسور وعناوين السور ثم تحدث عن الحروف المقطعة ثم ذكر أن الغرض من وراء هذا التقسيم كان لغرض التلاوة ـ على حد تعبيره ـ ثم ذكر موقف ابن مسعود من المعوذتين ، ثم تحدث عن إيقاع الآيات القرآنية وعن الصور الدرامية في القرآن الكريم ، ثم وضع جدولا إلى نهاية الفصل حسب طبيعة رد سلوب التي اعتمدها «فلوجل» ذاكرا أرقام هذه الآيات بأرقام رومانية.

الفصل الرابع ـ :

وعنوانه : (بنية وأسلوب القرآن):

تحدث «بل» في هذا الفصل عن أسلوب القرآن الكريم زاعما أنه غلب عليه السجع والإلزامات المتكررة لتأثره بسجع الكهان كما ذكر أن أسلوبه امتاز بالقصر وشدة الإيقاع ، والتكرار ، والفقرات التوكيدية. وأنه كان غنيا بالقصص والحكايات الرمزية ، والتشبيهات ، والاستعارات .. إلخ.

١٠٢

الفصل الخامس ـ :

وعنوانه : (تصنيف السور):

تكلم في هذا الفصل عن السور القرآنية من حيث الطول والقصر وتكرار العبارات المسجوعة والانقطاع النحوي للجمل والإقحامات لبعض الفقرات كتكميلات بديلة على حسب زعمه. زاعما أن هذه التكميلات كانت بعد تمام الجمع ، وأكد أن هذا كان بفعل جمعة القرآن الذين كانوا يضعون ما على ظهر الورقة بصورة عشوائية ، ثم ذكر أن عدم كفاية التفسيرات العادية لإيضاح بعض العبارات غير المترابطة أدى إلى بعض الاضطراب والخلط ، وضرب على ذلك بعض الأمثلة (١).

ثم ذكر بعض الفقرات التي ناقشت موضوعات سببت مشكلات حرجة لمحمد ـ حسب زعمه ـ ثم ذكر في هذا الفصل أن الصورة الحالية للقرآن تعتمد على وثائق مكتوبة ترجع إلى زمن حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم ختم الفصل بالحديث عن الناسخ والمنسوخ.

الفصل السادس ـ :

وعنوانه : (الترتيب الزمني للقرآن):

عالج «بل» في هذا الفصل قضية الترتيب في القرآن الكريم وذكر موقف المستشرقين منها ، ومحاولات المستشرقين لترتيب القرآن الكريم ترتيبا زمنيا كمحاولة «نولديكه» و «موير» و «جريم» وغيرهم ، مبينا العناصر التي اعتمدوها في هذه المحاولات كتحليل مواد السورة بدراسة الأسلوب ، والصياغة وعلاقتها بتكليف محمد بالرسالة لأول مرة ، وعلاقة ذلك بمبدإ عقوبة الكافر ، مع بيان ردة فعله على عداوة يهود المدينة له مع مراعاة تواريخ بعض الفقرات ثم ذكر جدولا بين فيه ترتيب سور القرآن الكريم حسب المصحف العثماني

__________________

(١) سأناقش الأمثلة التي أوردها (بل) وغيره في موضعها من الرسالة.

١٠٣

وحسب رأي «نولديكه» و «جريم» و «موير» وحسب ترتيب المصحف المصري.

الفصل السابع ـ :

وعنوانه : (مراحل نمو القرآن):

تحدث «بل» في هذا الفصل عن دلائل قدرة الله سبحانه وعلى كرمه بإنعامه على خلقه ، مع ربط هذا الأمر بآيات البعث ، زاعما أن كثيرا من هذه الآيات قد روجعت وعدلت بحيث تتلاءم مع وضعها الحالي في المصحف ، وزعم أن ذلك بسبب التأثر بالمصادر المسيحية. ثم تناول معنى «مثاني» مبينا فهم بعض المستشرقين لها حيث فسرها بعضهم بالفاتحة بآياتها السبع ، أو هي سبع قصص عقاب كثر تكرارها في القرآن الكريم : كقصة عاد ، وثمود وأصحاب الحجر ، وأهل الأيكة ، وقوم تبع ، وسبأ ، وقصة نوح ، وغيرها.

ثم ختم الفصل بالحديث عن أسماء القرآن الكريم :

(القرآن ـ الكتاب ـ الفرقان).

الفصل الثامن ـ :

وعنوانه : (محتوى القرآن ومصادره):

تحدث «بل» في هذا الفصل عن تعاليم القرآن الكريم وأهدافه ودرجة تأثره باليهودية والنصرانية ، والمبدأ الأساسي الذي دعا له : وهو توحيد الله سبحانه ، وأسمائه ، وصفاته ، وزعمه تأثر بعض أسماء الله عزوجل (كالرحمن) بالمذهب المانوي ، وغيره. ثم تحدث عن تطور معنى كلمة «رسول» من المعنى الإقليمي إلى المعنى العالمي.

ثم ختم الفصل بالحديث عن نهاية العالم ، ومصير الإنسان فيه إلى جنة أو نار.

١٠٤

الفصل التاسع ـ :

وعنوانه : (القصص):

تحدث في هذا الفصل عن القصص القرآني ومقدار تأثره باليهودية والنصرانية ، واعتماده على المصادر الشفوية أكثر من المصادر المكتوبة الموثقة ـ في نظره ـ ثم ذكر أن بعض القصص كان فيه اضطراب واضح ـ على حد زعمه ـ.

الفصل العاشر ـ :

وعنوانه : (التشريع):

تحدث «بل» في هذا الفصل عن بعض العبادات في الإسلام كالصلاة والصيام والزكاة والحج ، ثم تناول بعض جوانب التشريع المتعلقة ببعض المطعومات والمشروبات : كالخمر ، والربا ، والمقامرة ، ثم تحدث عن بعض الأحكام المتعلقة بالأسرة كالزواج ، والطلاق ، والإرث .. إلخ. وختم الكتاب بقائمة فهارس تخدم الكتاب.

تقويم الكتاب :

الكتاب يمثل دراسة أكاديمية بذل فيها المؤلف جهدا كبيرا ولكنها لم تتجرد عن النزعة العدوانية للإسلام. وقد ملئ كتاب «بل» بكثير من الأخطاء وسببها اعتباره القرآن الكريم من تأليف محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لذا أخضعه لمقاييس الكتب البشرية من حيث الأفكار والأسلوب والمضمون وغير ذلك مما تورثه البيئة في فكر المؤلف وأسلوبه.

فمن هنا وجدنا «بل» يعتبر أن التأثير الأكبر على شخص رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان من البيئة المحلية كاليهودية والنصرانية والوثنية ومن البيئة الخارجية كالمجوسية والزرادشتية.

١٠٥

وكذلك وجدنا «بل» في كتابه ركز على الطعن في سلامة النص القرآني ، فزعم أنه مضطرب دخلته الزيادة والنقصان ، والتلفيق بين بعض الفقرات مبتدعا نظرية سماها (نظرية التكميلات البديلة).

ونلاحظ أن الموروثات الفكرية عند «بل» والمنهج الذي وضعه لنفسه كانا السبب في وقوع «بل» في كثير من الأخطاء العلمية المردودة عليه والتي سأرد عليها في مواضعها من الرسالة إن شاء الله.

١٠٦

المبحث الثاني

مقدمة القرآن

لمؤلفه دبليو منتجمري واط

تعريف بالمؤلف :

هو عميد قسم الدراسات العربية في جامعة أدنبره ، له عدة مؤلفات عن الإسلام منها : هذه «المقدمة» ، وكتاب «الإسلام» و «الإسلام والجماعة الموحدة ، دراسة فلسفية اجتماعية» ، و «محمد في مكة» ، و «محمد في المدينة» ، و «الوحي الإسلامي في نظر العالم الحديث» ، و «الجدل الديني» (١).

تعريف بالكتاب :

هذا الكتاب هو الثامن من سلسلة الدراسات المسيحية الإسلامية ، وقد طبع لأول مرة في سنة ١٩٧٧ م.

قسم المؤلف الكتاب لأحد عشر فصلا سوى الفهارس والمقدمة وهو في (١٨٥) صفحة بالقطع المتوسط.

الفصل الأول :

وهو بعنوان : (السياق التاريخي):

وهو دراسة تاريخية تناول فيها المؤلف الجزيرة العربية ، والموقف العالمي حولها في ذلك الوقت وموقف هذه الدول منها ، ثم تناول حياة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وما أثرته هذه البيئة وطبيعة عصره عليه ، ملحقا هذا الفصل بملحقين :

__________________

(١) المستشرقون ٢ / ١٣٢.

١٠٧

الملحق الأول :

جدول زمني متسلسل لمجرى حياة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

الملحق الثاني :

تكلم فيه عن كلمة «حنيف» من حيث المعنى وعلاقتها بحنيفية إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ.

الفصل الثاني :

وعنوانه : (خبرة محمد كرسول):

تكلم «واط» في هذا الفصل عن موقف الناس من الدعوة الإسلامية ثم تكلم عن الوصف القرآني للوحي والنبوة ، وإمكانية فهم الوظيفة النبوية. ثم تحدث عن القرآن الكريم وحفظه في زمن الرسول ، ولم يمانع المؤلف من وجود شيء منه مكتوبا بشكل ما ، ثم ناقش قضية أمية الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

الفصل الثالث ـ :

وعنوانه : (تاريخ النص القرآني):

تحدث في هذا الفصل عن مراحل جمع القرآن الكريم (كصحف خاصة ـ ثم جمعه في عهد أبي بكر وعثمان ـ رضي الله عنهما ـ) ثم تناول أسلوب القرآن الكريم في تلك الفترة. ثم ختم الفصل بالحديث عن موثوقية القرآن من حيث اكتماله أو احتمال سقوط وضياع شيء منه.

الفصل الرابع ـ :

وعنوانه : (الشكل الخارجي للقرآن):

تناول المؤلف في هذا الفصل أسماء القرآن الكريم ، وأقسامه ، والطقوس الدينية التي يقرأ فيها ، وآياته ، وترتيبها ، والإيقاعات والإلزامات في قوافي الآيات ـ كما يسميها ـ أي (الفاصلة القرآنية) ثم تحدث عن الحروف المقطعة

١٠٨

ومعناها وأقوال المستشرقين في ذلك. ثم تحدث عن الصور الدرامية ـ كما يسميها ـ الموجودة في أسلوب الخطاب القرآني ويقصد بذلك أسلوب الالتفات في القرآن الكريم.

الفصل الخامس ـ :

وعنوانه : (خصائص الأسلوب القرآني):

تحدث «واط» في هذا الفصل عن القوافي القرآنية ، والوزن الشعري في الآيات القرآنية. والصيغ التعليمية المختلفة التي جاءت في القرآن الكريم كالأمثال والقصص وغيرهما. ثم تناول الآيات التي غلب عليها أسلوب الكهان. ثم تحدث عن أسلوب القصص والأمثال ذات المغزى الأخلاقي في القرآن الكريم. ثم تحدث بعد ذلك عن الاستعارة في القرآن الكريم. وخاتما الفصل بالحديث عن لغة القرآن الكريم مطلقا عليها لغة الكويني (الشعر).

الفصل السادس ـ :

وعنوانه : (تشكيل القرآن):

تحدث المؤلف في هذا الفصل عن نظرية النسخ القرآني ، وإمكانية وجود المراجعة في النصوص القرآنية ثم ذكر نظرية أستاذه «بل» «التكميلات البديلة» ذاكرا بعض الشواهد على حدوث المراجعة والتعديل ، وذكر موقفه من هذه النظرية.

الفصل السابع ـ :

وعنوانه : (الترتيب الزمني في القرآن):

تحدث في هذا الفصل عن وجهات النظر الإسلامية والتقليدية والأوربية حول التاريخ. مؤكدا أن تتابع الأفكار في القرآن دليل على عملية التاريخ الزمني والتطور الفكري في القرآن.

١٠٩

الفصل الثامن ـ :

وعنوانه : (أسماء الرسالة المنزلة):

تحدث «واط» في هذا الفصل عن أسماء القرآن الكريم : (القرآن ، الكتاب ، التنزيل ، ذكر ، وذكرى ، وتذكرة ، وفرقان).

ثم عقد فصلا عن كون القرآن الكريم آية ومعجزة. ثم تكلم عن معنى «مثاني» وعن طريقة عرض القرآن الكريم لجانب العقيدة ثم ختم الفصل بالحديث عن الجانب التشريعي الإسلامي وعن أركان الإسلام الخمسة.

الفصل التاسع ـ :

وعنوانه : (العلماء المسلمون والقرآن):

تحدث المؤلف في هذا الفصل عن جهد العلماء المسلمين في علم التفسير والتأويل ، ثم تحدث عن المتكلم الحقيقي في القرآن الكريم ، وموقف المعتزلة من ذلك.

الفصل العاشر ـ :

وعنوانه : (القرآن والعلماء الغربيون):

تحدث «واط» في هذا الفصل عن جهود العلماء الغربيين في ترجمة القرآن الكريم ، وتاريخ هذه الترجمة والمراحل التي مرت بها. ثم ذكر فهرسا بأشهر الكتب التي تناولت موضوعات القرآن الكريم المتعددة ، ثم علق على بعض هذه الكتب ككتاب (تاريخ القرآن) ل «نولديكه» وكتاب (أبحاث جديدة في تركيب وتفسير القرآن) ل «هيرشفيلد ١٩٠٢ م» وكتاب (تركيب القرآن وترتيبه الزمني) ل «هيوبرت جريم» وغيرها من الكتب.

وفي آخر هذا الفصل تناول المشكلات التي تواجه الدارس غير المسلم خلال دراسته للقرآن الكريم مثل :

١ ـ مشكلة صدق هذا القرآن الكريم.

١١٠

٢ ـ مشكلة المصادر الأصلية ذات العلاقة المباشرة بالنصوص القرآنية.

ثم ختم الفصل بقائمة للفهارس تخدم كتابه وجدولا للآيات القرآنية حسب ترتيب «فلوجل» مقارنا هذا الترتيب بترتيب المصحف المصري.

تقويم الكتاب :

منهج الكتاب والهدف من تأليفه :

الهدف من تأليف هذا الكتاب واضح وهو دراسة القرآن الكريم دراسة علمية بالطريقة الغربية خدمة لأغراضهم.

شمل هذا الكتاب كثيرا من أبواب علوم القرآن ، ولكنه لم يخرج فيه عن خطوات أستاذه «بل» إلا تخفيف حدة بعض العبارات الجارحة لشعور المسلمين التي كان لا يبالي بها أستاذه «بل» كما ذكر ذلك المؤلف نفسه في مقدمة كتابه.

وبسبب تبعية «واط» لأستاذه «بل» وقع في أخطاء عدة منها :

١ ـ اعتبار النبوة أمرا يكتسب بالخبرة والتجربة الحياتية.

٢ ـ تأثير البيئة على نشأة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حسب زعمه ـ لذا حاول بكل جهده الربط كغيره من الغربيين بين الإسلام والديانات الأخرى.

٣ ـ محاولة «واط» للتشكيك في سلامة القرآن من النقصان أو الزيادة.

٤ ـ قياسه أسلوب القرآن الكريم على الشعر ، والنثر المسجوع ومحاولة وصفه بسجع الكهان.

وقد ساقت هذه الدراسة لأسلوب القرآن الكريم المؤلف إلى القول بنظرية أستاذه «التكميلات البديلة».

١١١

المبحث الثالث

كتاب القرآن

لمؤلفه : ريجي بلاشير (١)

تعريف بالمؤلف :

ولد ريجي بلاشير في ٣٠ يونيو سنة ١٩٠٠ م في ضاحية مونروج في (باريس) ، ثم سافر إلى المغرب سنة ١٩١٥ م وتلقى فيها دراسة الثانوية والجامعية فقد حصل على الليسانس منها سنة ١٩٢٢ م.

ثم سافر بعدها للجزائر وتابع بعد ذلك دروس أستاذه «وليم مرسية» حتى حصل على الدكتوراة من جامعة باريس سنة ١٩٣٦ م ، ثم عين بعدها مدرسا في المدرسة الوطنية للغات الشرقية لسنة ١٩٥٠ م. ثم أستاذا الكرسي اللغة والأدب العربي في (السوربون) لغاية سنة ١٩٧٠ م حين تقاعد وشغل عدة مناصب غيرها. وله عدة مؤلفات منها :

١ ـ القرآن وهو قيد التعريف في هذه الدراسة.

٢ ـ مقدمة عن القرآن وسأعرف به كذلك لاحقا.

٣ ـ ترجمة القرآن الكريم باللغة الفرنسية مرتبا السور والآيات حسب النزول. ثم أعاد الترجمة سنة ١٩٥٧ م حسب ترتيب المصحف.

٤ ـ له كتاب لخص فيه أبحاث المستشرقين الذين كتبوا عن حياة النبي محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

__________________

(١) انظر المستشرقون نجيب العقيقي ١ / ٣٠٩ ـ ٣١٢. وموسوعة المستشرقين ـ بدوي ص ٨٢.

١١٢

٥ ـ كتاب بعنوان (معضلة محمد).

وله عدة أبحاث حول القرآن وغيره منها :

٦ ـ نبذة عن النفس في القرآن ـ نشر هذا البحث في مجلة الساميات ١ ، ١٩٤٨ م.

التعريف بالكتاب :

صدر هذا الكتاب باللغة الفرنسية. ترجمه للعربية الأستاذ «رضا سعادة» وأشرف على الترجمة د. الأب فريد جبر. وحققه وراجع نصه الشيخ محمد على الزغبي. طبعة دار الكتاب اللبناني ـ بيروت ـ ط ١ لسنة ١٩٧٤ م.

وهو يقع في (١٧٩) صفحة من القطع المتوسط وهو في سبعة فصول :

الفصل الأول ـ :

وهو بعنوان : (المصحف بنيته وتكوينه):

تحدث «بلاشير» في هذا الفصل عن نشأة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في الجزيرة العربية ومقدار تأثره باليهودية والنصرانية ، ثم تحدث فيه عن جمع القرآن الكريم مقررا أن أول جمع تم في عهده ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذلك بتأثره باليهود ـ لأنه أحب أن يكون له كتاب خاص به كما لليهود كتاب ـ ثم تحدث عن الجمع الثاني في عهد «أبي بكر» ـ رضي الله عنه ـ والجمع الثالث في عهد الخليفة الثالث «عثمان بن عفان» ـ رضي الله عنه ـ.

ثم انتقل للحديث عن القراءات القرآنية ودورها في فهم النص القرآني. واعتراض بعض العلماء عليها زاعمين أنها تهدم قدسية النص القرآني. ثم تحدث عن موقف بعض الفرق الإسلامية من النص القرآني.

ثم تحدث بعد ذلك عن ترتيب الآيات والسور القرآنية في القرآن الكريم وتفسير القرآن إلى أجزاء ، زاعما أن القرآن فيه بلبلة فكرية وختم هذا الفصل بالثناء على «نولديكه» وتجربته في ترتيب المصحف ترتيبا زمنيا.

١١٣

الفصل الثاني ـ :

وعنوانه : (الرسالة القرآنية في مكة):

تعرض في هذا الفصل لأسلوب القرآن المكي ، والسور المكية وأن هذا الأسلوب كان متأثرا بشبح اليوم الآخر الذي كان يخيم على فكر الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهذه الفرية قد سبقه بها المستشرق «كازانوفا» ثم زعم «بلاشير» أن هذه القضية هي السبب في مجيء السور على نوعين :

الأول : سور قصيرة وهي بسيطة في إيحاءاتها ، وهي في إحدى عشرة سورة موزعة في المصحف.

الثاني : سور آياتها أطول في اثنتين وعشرين سورة تبتدئ بسورة الكهف وتنتهي بسورة النجم ، وهي مختلفة العناصر والأسلوب وقد ذكر أن كلا النوعين جاء لتثبيت العقيدة والتركيز عليها.

وقد لخص في نهاية الفصل أسلوب السور المكية زاعما أن القرآن في هذه الفترة كان مضطربا.

الفصل الثالث ـ :

وعنوانه : (رسالة القرآن في المدينة):

ذكر «بلاشير» أن الوحي في هذه الفترة قد تطور حتى أصبحت سوره تمتاز بالطول. وهي أربع وعشرون سورة.

ثم ختم الفصل ببعض القضايا الخاصة بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وببعض المشاكل الخاصة بالوحي كمعالجته للنظام القبلي ، وغير ذلك.

الفصل الرابع ـ :

وعنوانه : (الواقعة القرآنية وعلوم القرآن):

تحدث في هذا الفصل عن التنزيلات التي نزلت على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

١١٤

وبلغها للناس من انقلابات سياسية ، واجتماعية ، وتطورات فكرية وأخلاقية ، ونظرات علمية ودينية ، وما أدت هذه التنزيلات من تقدم حضاري وتمدن واضح في المجتمعات الإسلامية ، كما تحدث عن دور اللغة في هذا التمدن. ثم تعرض للأسلوب القرآني ودوره في إيجاد مذاهب تفسيرية كالتفسير النحوي لأهل البصرة وما نتج عن هذا الأسلوب من قراءات مختلفة.

ثم تحدث عن أسلوب القرآن المكي وما أحدثه من تفوق إبداعي في جانب الإعجاز القرآني ، والعلوم ذات العلاقة بالبلاغة كالاستعارة ، والمجاز ، وغيرهما. مما حدا بالتفسير أن يظهر بعد ذلك كعلم مستقل.

الفصل الخامس ـ :

وعنوانه : (التفسير القرآني ـ أصوله وأغراضه):

ذكر المؤلف في هذا الفصل أن بدايات هذا العلم كان من عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم تابع سيره ملازما للسلطة المرتبطة بهذا الوحي.

ثم تحدث عن الصعوبات التي كانت تواجههم لخدمة هذا العلم كعدم ثبوت الخط العربي الذي نتج عنه غموض في اللهجات ، وتعدد في القراءات سببت نشأة علم التفسير.

كما أنه ذكر أن من أسباب تطور هذا العلم تعدد الفرق الإسلامية وحرصها على دعم آرائها بالنصوص القرآنية وحمل شروحها لما يوافق آراءهم. مما أظهر نوعين من التفسير.

١ ـ التفسير اللفظي.

٢ ـ التفسير التأويلي.

ثم ذكر بعض مشاهير المفسرين ، وأهم كتب التفسير : كتفسير الإمام الطبري وهو التفسير بالمأثور.

١١٥

ثم ذكر أنه ظهر في النصف الثاني من القرن الحادي عشر ، تفسير غلب عليه الطريقة الكلامية بقيادة الإمام «الرازي» ـ رحمه‌الله ـ ثم انتشر بعد ذلك ألوان عدة من التفسير ، كالتفسير العقلي في مدرسة الشيخ «محمد عبده».

الفصل السادس ـ :

وعنوانه : (القرآن والسنة مصدر العقيدة والشريعة في الإسلام).

تكلم في هذا الفصل عن السنة ودورها في التعرف على سيرة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتاريخ نزول القرآن وتأثيره على مفهوم النسخ ، وفهم النص القرآني. كما تعرض لموقف بعض الفرق من النص القرآني كالجبرية ، والقدرية.

كما ذكر أن للسنة دورا في ظهور مدرسة التأويل بالحديث. ثم تحدث عن كون القرآن مصدرا للأحكام الشرعية كالزنا ، والخمر ، والربا ، والحرابة ، وغيرها.

ثم تحدث بعد ذلك عن مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن والسنة ، كالإجماع ، والقياس ، والاجتهاد.

ثم ختم الفصل بدور مدرسة «محمد عبده» بالرجوع للمصدرين الكتاب والسنة.

الفصل السابع ـ :

وعنوانه : (القرآن في الحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي):

تكلم في هذا الفصل عن مكانة القرآن في نفوس المسلمين وما له من تأثير عليهم ، ومقدار اعتناء المسلمين به بتحفيظه لأبنائهم ، وما عليه معلم القرآن في السابق وفي الوقت الحاضر من الاحترام والتعظيم عند المسلمين.

ثم تحدث عن تعامل المسلمين مع القرآن في عباداتهم كالصلاة المفروضة والنافلة. ثم تعرض لبعض استخدامات القرآن في شئون بعض المسلمين الخاصة كحرز يحميهم من السحر وغيره.

١١٦

ثم تحدث بعد ذلك عن هيئة القراء خلال تراتيلهم ، واعتناء المسلمين الزائد بالمصاحف حتى دعاهم ذلك لتسجيلها على جدران المساجد ، وتخصص بعض الخطاطين بنسخ المصحف. وتزيين المصاحف ببعض الألوان الذهبية ، ولزيادة عنايتهم به فتح له إذاعة خاصة تبثه عبر الأثير.

كما ختم الفصل في الحديث عن دور القرآن الكريم في حل مشاكل المسلمين السياسية والاجتماعية ، وغيرهما.

تقويم الكتاب وهدف المؤلف من تأليفه :

كتابات «بلاشير» إجمالا تتسم بالطعن الشديد في الإسلام والقرآن. فهذا الكتاب على ما فيه من معلومات ، وما بذل فيه من جهد منبعه الروح الغربية ، حمل في طياته مجموعة من الأخطاء أفقدت الكتاب كثيرا من قيمته. فقد زعم المؤلف في الفصل الأول أن القرآن مضطرب ، وفيه بلبلة فكرية. وهذا الزعم عين ما صرح به «جولد تسيهر» في مؤلفاته.

كما ركز المؤلف في دعواه بتأثر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خلال تأليفه القرآن بالبيئة التي نشأ فيها من يهودية ونصرانية وموروثات جاهلية.

ومما تابع فيه «بلاشير» «كازانوفا» خطأ دعواه في الفصل الثاني والثالث أن تركيز السور المكية على اليوم الآخر بهذا الأسلوب المتميز كان سببه شبح اليوم الآخر وأهواله الذي كان مخيما على فكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى غير ذلك من الأخطاء التي رددها هذا المؤلف في ثنايا صفحات كتابه.

والكتاب في فصوله الأخيرة أشبه ما يكون وصفيا للنقاط التي تعرض لها. والذي يدقق في الكتاب يجد وضوح تأثر المؤلف بدراسات السابقين له من المستشرقين ، أمثال «جولد تسيهر» و «كازانوفا» ، و «نولديكه» ، وغيرهم.

١١٧

المبحث الرابع

كتاب مقدمة القرآن

لنفس المؤلف

التعريف بالكتاب :

تقع هذه المقدمة في (٢٧٨) صفحة من القطع المتوسطة غير المقدمة والفهارس. طبعت هذه المقدمة بادئ الأمر مع ترجمته للقرآن الكريم ، ثم وضعها في مؤلف مستقل وزوده بفهارس تخدم الكتاب.

وكان صدورها في سنة ١٩٥٨ م في باريس. وقد اعتمد في كثير من معلوماته في هذه المقدمة على كتاب «تاريخ القرآن لنولديكة ، وشفالي وجسترشتر ، وبيرتزل ، زيادة على المصادر العربية نفسها والموضوعات الحديثة حول الموضوع.

وقد راجع هذه المقدمة صديقه «جان سوفاجيه» وقد جاء الكتاب في مقدمة وخمسة فصول ومجموعة من الفهارس.

المقدمة :

تحدث فيها «بلاشير» عن نظام نسخ الكلمات العربية ثم نظام الاختصارات في عمله. ثم ذكر المراجع القرآنية والعناصر الببليوجرافية لدراسة حياة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما ذكر قائمة بهذه المراجع.

الفصل الأول ـ :

وعنوانه : (بنية الكتاب المقدس) :

وهو في ثلاثة مباحث :

١١٨

المبحث الأول ـ :

بعنوان : (بنية الكتاب المقدس):

ذكر في هذا الفصل أن تحديد النص القرآني لا يكون إلا من طريق الروايات المنقولة عن الصحابة والتابعين.

ثم تحدث عن تاريخ القرآن الكريم والعوامل التي حددت هذا التاريخ كاستخدام نوع من الكتابة مغايرا للكتابة الأصلية ، وعدم جمع القرآن في عهد الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كتابة والاعتماد لفترة طويلة على الذاكرة في حفظ القرآن الكريم ، ثم تحدث بعد ذلك عن الكتابة العربية في القرن السادس الميلادي ومقدار تأثر مكة بها.

ثم ناقش سؤالا طرحه : هل كان يعرف محمد القراءة والكتابة؟ وعلاقة ذلك بكلمة «أمي» الذي وصف بها. ذاكرا موقف المستشرقين من هذه القضية. وتوصل إلى نتيجة فريدة في معنى «أمي» : أنه نبي للأمم؟ لا أنه لا يعرف القراءة والكتابة.

ثم تحدث في هذا الفصل كذلك عن الأداتين اللتين حفظ بهما رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ التنزيل وهما (الحفظ ـ المناقلة الشفوية ـ والكتابة) متعرضا خلاله لكتبة الوحي ، ومشككا في صحيفة فاطمة (أخت عمر بن الخطاب) ـ رضي الله عنهما ـ ومعرضا بقلة عدد الحفظة للقرآن الكريم.

ثم رجع وناقش قضية جمع القرآن الكريم في عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأن ذلك كان بتأثره باليهود. ومقدرا بعد ذلك أن الترتيب للآيات القرآنية كان لبعض الآيات دون غيرها.

ثم تناول قضية جمع القرآن الكريم من الصحف الخاصة إلى جمع «أبي بكر» ـ رضي الله عنهم ـ ومبينا نقاط الخلاف بينهما كترتيب للسور ، والاختلاف في رسم بعض الكلمات.

١١٩

ثم تحدث عن الجمع في عهد عثمان ـ رضي الله عنه ـ كما ذكر رأي «كازانوفا» وردد زعم «كازانوفا» (أن هذا الجمع كان أسطورة لا غير).

المبحث الثاني ـ :

وعنوانه : (تحسين كتابة مصحف عثمان) ـ رضي الله عنه ـ.

تناول في هذا الفصل التحسينات التي أعملت للقصور الموجود في النسخة العثمانية ـ على حد زعمه ـ ودور «الحجاج» في هذا التحسين. ونشوء القراءات وتأثرها بالحركات السياسية آنذاك.

وقد أشار في هذا الفصل لوجود بعض الصحف الخاصة في عهد «عبد الملك بن مروان» وواليه على العراق «الحجاج بن يوسف الثقفي».

المبحث الثالث ـ :

وعنوانه : (علم القراءات والتحديد النهائي للقرآن الكريم):

تناول في هذا الفصل القراءات القرآنية وأقسامها وعددها وطريقة أدائها وتلقيها ومقدار تأثيرها على النص القرآني ، ثم تحدث عن عدد القراء وأوضاعهم الاجتماعية والسياسية. ثم تحدث عن دور الطباعة في انتشار القرآن الكريم.

الفصل الثاني

وعنوانه وصف الكتاب المقدس

تناول في هذا الفصل شكل القرآن الكريم وتقسيماته ، وكتابته ولغته ، وأسلوبه ، والبسملة ، والحروف المقطعة.

أما في المبحث الثاني منه :

فقد تناول الطبعة المصرية للقرآن الكريم وكتابتها بالطريقة القديمة.

١٢٠

أما المبحث الثالث :

فتحدث فيه عن لغة القرآن الكريم ، وهل كل مفرداته عربية أم فيها غير العربي ، وتحدث عن سبب اختيار لغة قريش لتكون لغة القرآن الكريم ، ثم تناول نظرية «مولرز» وهي كون لغة القرآن «لغة الكويني» الشعرية القديمة أم لا؟ مقررا أنها جمعت بين لغة الشعر «الكويني» وبين لغة «نجد» التي كتبت بها ، ثم هاجم هذه النظرية وأنها بدلا ما تحل المشكلة غيرت وجهها ـ حسب زعمه ـ.

ثم في المبحث الرابع :

تناول أسلوب القرآن الكريم ، وكونه معجزا تحدى به محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ العرب فأعجزهم ، ثم تحدث عن موقف قريش وبعض الملاحدة كابن الراوندي ، وابن المعري ، وعيسى بن صبيح ، والمثنى ، والحلاج ، وغيرهم من هذا القرآن الكريم بمحاولاتهم الإتيان بمثله منكرين وجه الإعجاز الذي فيه زاعمين أنه لا يختلف عن أي كلام بشري.

ثم ختم هذا المبحث بالحديث فيه عن الوزن الشعري ، والسجع الموجود في آياته في كلا النوعين القرآن المكي والمدني.

الفصل الثالث ـ :

وعنوانه : (النقد المثار بواسطة النص المنزل في الكتاب المقدس):

تحدث في هذا الفصل عن الانتقادات التي وجهت للقرآن الكريم من قبل المعتزلة والخوارج والشيعة والأوربيين أنفسهم والمتمثلة حول سلامة النص القرآني من الزيادة والنقصان ، وملاحظاتهم على بعض كتبة الوحي من حيث الأمانة والدقة. والوسائل التي كتب عليها النص القرآني ومقدار قدرتها على حفظ النص القرآني.

ثم تحدث عن دور القراءات في إثارة الفوضى والاضطراب في النص القرآني.

١٢١

وكان أغرب ما في الفصل ذكره لتصور كل من : «ويدنيورج» ، و «جيير» و «جولد تسيهر» بإيجاد طبعة تلبي انتقادات الغرب للنص القرآني.

الفصل الرابع ـ :

وعنوانه : (المصادر المقدمة لتفسير المستشرقين من خلال بعض العلوم القرآنية):

والفصل في مبحثين :

المبحث الأول ـ :

مصادر لذكاء النص القرآني. وقد تحدث المؤلف فيه عن بعض هذه المصادر. كالقراءات الشرعية وغير الشرعية وغيرها.

كما تحدث عن التفسير الإسلامي نفسه على اختلاف أنواعه من تفسير بالمأثور ، وبالرأي المحمود منه وغير المحمود.

المبحث الثاني ـ :

وهو بعنوان : (المصادر والمناهج لإعادة ترتيب الكتاب المقدس حسب فترات نزوله):

تناول المؤلف في هذا المبحث الحديث عن أسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ ، وترتيب القرآن حسب التسلسل التاريخي ، وترتيب بعض المستشرقين للقرآن الكريم كترتيب «موير» و «سبرنجر» ، وترتيب المدرسة الألمانية وإمكانية استفادة هذا الترتيب من تطور رسالة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

الفصل الخامس :

وعنوانه : (ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأوربية):

تناول «بلاشير» في هذا الفصل ترجمات القرآن الكريم في العصر الوسيط ـ (الوسطى) منذ سنة ١٠٩٢ ـ ١١٥٦ م منذ محاولة قس كلوني «بيير لوفييرابل» باللغة اللاتينية.

١٢٢

ثم تناول الترجمات الحديثة منذ بداية القرن السابع عشر على يد الفرنسي «أندريه دي رير» (حوالي ١٥٨٠ م ـ ١٦٦٠ م) القنصل الفرنسي في مصر ودوره في تعميم كتاب الإسلام المقدس ـ حسب تعبيره ـ في الغرب وقد ظهرت ترجمته للقرآن سنة ١٦٤٧ م في باريس تحت عنوان «قرآن محمد» وقد لاقت هذه الترجمة حماسا كبيرا مما جعلها تترجم بعد ذلك لعدة لغات.

ثم ذكر عدة ترجمات صدرت بعدها كترجمة «جيرمان دي سيليزي» (١٦٥٠ ـ ١٦٦٥ م) وترجمة ماراتشي (١٦٩٨ م) بعنوان (نماذج لتصحيحات نصوص القرآن .. إلخ).

ثم تحدث بعد ذلك عن الترجمات المعاصرة منذ ترجمة «واهل» عام ١٨٢٨ م التي دفعت موضوع ترجمة القرآن الكريم للغات الأوربية قدما. فذكر ترجمة «أولمان» وترجمة «كازشرسكي» ، و «رودويل» سنة ١٨٦١ م و «جريجيل هال» ١٩٠١ م وغيرها كثير.

ثم تحدث بعد ذلك عن الاضطراب الذي يقع فيه غير المستعرب أثناء قراءته للنص القرآني ويعترف في هذا الموضوع أن من أسباب البلبلة والاضطراب عند المستعرب أن القارئ العادي من الغربيين لا يجد أمامه في الغرب إلا معلومات مبهمة عن الإسلام والفتوحات الإسلامية حتى يصل القارئ لنتيجة أن الترجمات تؤدي لضياع جمال الأسلوب القرآني الآخاذ للنفوس ، حيث تصبح الترجمة وكأنها نثر جاف تخلو من الروعة في الإيقاعات القرآنية. كما أن القارئ يتيه في ثنايا هذا النص المختلط بالمواعظ الأخلاقية وبالتشريعات التعبدية ، وبالأحكام القانونية وبالقصص التوراتية الإنجيلية ، مما يصعب على الغربي أن يصل للرابط بينها جميعا ، مما يدع القارئ الغربي يلقي هذا الكتاب جانبا ولا يواصل قراءته ويخرج بالنهاية بغير فكرة سليمة صحيحة عن الإسلام.

أما القارئ المتخصص في الأديان ومقارنتها وله معرفة بأحوال الشعوب ولغاتها فلا شك أن موقفه يكون مختلفا عن القارئ الغربي العادي ويصل لقناعة

١٢٣

بعدم كفاية الترجمات الغربية الموجودة للقرآن الكريم وعجزها على تلبية حاجاته في فهم الإسلام بعمق. ومن أجل تقديم القرآن الكريم للقارئ الغربي بشكل حي وبإيقاعه الأصلي ، متغاضين عن المظهر الفوضوي ، والتنقيح غير الواعي للتسلسل التاريخي ـ كما زعم ـ قام بإعادة ترتيب القرآن الكريم على التسلسل الزمني فجاءت عليها ترجمة «رودويل» ط ٢ لندن ١٨٧٦ م. وترجمة «د. بل» سنة ١٩٣٧ / ١٩٣٩ م وغيرها.

كل ذلك لتقريب فهم الإسلام للقارئ الغربي بعيدا عن الطريقة الإسلامية في عرضه.

تقويم الكتاب :

الذي يدقق في كتاب مقدمة القرآن ل «بلاشير» يجده من أشد الكتب عداء للإسلام ، مليئا بالافتراءات والتحليلات الخاطئة والجرأة ، والتخيلات الواهمة ، بعيدا عن المنهجية والتجرد العلمي.

ويحتاج منا جميعا للوقوف في وجهه وتبيين أخطائه والرد عليها بأسلوب علمي مقنع ، وإيصالها للقارئ الغربي ليقف بنفسه على مثل هذا النوع من الكتابة البعيدة عن روح البحث العلمي المتجرد ، ويرى مقدار التحامل عند الحديث عن الإسلام وأهله.

١٢٤

المبحث الخامس

كتاب مصادر الإسلام

لمؤلفه (كلير تسدال)

التعريف بالمؤلف :

لم أجد من ترجم لهذا المؤلف فيما توفر إليّ من كتب التراجم وأغلب من لم أجد لهم ترجمة بسبب أنهم ما زالوا على قيد الحياة فلم تكتب ترجمتهم في كتب التراجم.

التعريف بالكتاب :

جاء الكتاب في (٢١٦) صفحة من القطع المتوسط ، في ستة فصول ترجم الكتاب من الألمانية للإنكليزية السير «وليم موير» وطبع في الهند.

الفصل الأول ـ :

وعنوانه : (فيما قاله المجتهدون الأعلام وعلماء الإسلام العظام في حل هذا المعنى العظيم الأهمية):

تحدث المؤلف في هذا الفصل عن وجهة نظر المسلمين في مصدر القرآن الكريم ، واعتقادهم أنه منزل من الله سبحانه على رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كنزول التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود عليهم‌السلام.

الفصل الثاني ـ :

وعنوانه : (في البحث والنظر فيما ذهب إليه القائلون من أن بعض عقائد المسلمين ورسومهم وفرائضهم هي مأخوذة من مذاهب العرب في أيام الجاهلية وأن هذا هو أول مصادر الديانة الإسلامية):

حاول أن يثبت أن الجاهلية (والوثنية العربية) هي إحدى مصادر الإسلام

١٢٥

ذاكرا الدافع الذي جعل الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يبقي الموروثات القديمة في ديانته كاعتقادهم بإله واحد ، وكالختان ، وتقبيل الحجر الأسود. كما أنه حاول إثبات هذه الصلة بإتيانه ببعض الأبيات الشعرية رابطا إياها ببعض الآيات القرآنية زاعما أن هذه الأبيات هي مصدر هذه الآيات القرآنية.

الفصل الثالث ـ : وعنوانه : (في البحث فيما ذهب إليه بعض المعترضين من أن بعض التعاليم والقصص الواردة في القرآن أو الأحاديث هي مأخوذة من تفاسير اليهود الوهمية وأن بعض فرائض المسلمين الدينية مأخوذة من طريق الصابئين):

حاول المؤلف إثبات هذه المزاعم بالإتيان ببعض العبادات والشعائر والعقائد التي فيها التشابه بين الإسلام وبين اليهودية والصابئة مثل : الصلاة ، والاغتسال ، والاعتقاد بالألوهية ، والتشابه ببعض القصص الواردة عندهم والتي وردت في القرآن العظيم كقصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وقصة ولدي آدم قابيل وهابيل وقصة سليمان ـ عليه‌السلام ـ وغيرها من القصص.

كما استدل على التشابه بوجود بعض الكلمات المشتركة في القرآن وعندهم كلفظ «جهنم» حيث رد أصلها للغة الكلدانية والسورية.

الفصل الرابع ـ :

وعنوانه : (في النظر والبحث فيما ذهب إليه البعض من أن كثيرا مما ورد في القرآن ، وهو مأخوذ من حكايات وروايات بعض فرق النصارى المبتدعة العاطلة وآرائهم الباطلة):

وقد حاول المؤلف جهده أن يثبت ذلك بإيجاد بعض المتشابهات بين الإنجيل والقرآن مثل :

١ ـ بعض القصص كقصة أصحاب الكهف ، وقصة مريم وابنها عيسىعليهما‌السلام.

١٢٦

٢ ـ بعض قضايا متعلقة باليوم الآخر كالحساب ، والعذاب ، والجنة ، والنار ، وغيرها.

الفصل الخامس ـ :

وعنوانه : (في النظر والبحث فيما ذهب إليه المعترضون من أن بعض أركان القرآن والأحاديث أخذت من كتب أصحاب «زرادشت» والهنود القديمة):

واعتمد في هذا الفصل كذلك على بعض نقاط التشابه بين القرآن وهذه المذاهب.

١ ـ التشابه ببعض القصص مثل قصة المعراج ، وقصة خروج الشيطان من الجنة ، وغيرها.

٢ ـ التشابه ببعض العقائد المتعلقة باليوم الآخر وبغيره ، كالجنة والنار وصفه الحور العين والميزان والصراط ، وملك الموت ، والجن ، وغير ذلك.

٣ ـ التشابه في قضايا عامة كتبشير كل نبي بالنبي الذي يليه ، والابتداء باسم من أسماء الله في أول الكلام .. إلخ.

الفصل السادس ـ :

وعنوانه : (بخصوص الحنفاء وتأثيرهم على أفكار محمد وعلى تعاليمه):

واعتمد في هذا الفصل على التشابه بين ما كان يدين به الحنفاء قبل الإسلام وما جاء به الإسلام كالدعوة لعدم وأد البنات ، ورفض عبادة الأصنام ، وإقرار بالوحدانية لله سبحانه والدعوة لذلك ، ووعد المؤمنين بالجنة وتخويف الكفار من النار.

ثم وصف الذات الإلهية ببعض الأسماء الخاصة بها كالرحمن ، والرب ، والغفور. وغير ذلك من الأمور التي وقع فيها التشابه.

١٢٧

تقويم الكتاب :

هذا الكتاب من أشد الكتب حربا على الإسلام عامة والقرآن خاصة.

فقد نهج فيه المؤلف مسلك المنصرين الحاقدين على الإسلام وقد اعتمد على هذا الكتاب كثير من المستشرقين والمنصرين في أثناء افتراءاتهم ضد الإسلام.

والكتاب كما أشرت يحاول أن يجعل القرآن من تأليف محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حيث جمعه من ديانات ومذاهب مختلفة مدللا على دعواه ببعض وجوه التشابه بين الإسلام وبين هذه المذاهب والديانات.

ولخطورة هذا الكتاب خصصت له فصلا كاملا من الرسالة للرد على مفترياته حول المصادر المزعومة للإسلام وقرآنه العظيم. فيرجع إليه هناك.

والله الموفق للصواب والسداد.

١٢٨

المبحث السادس

كتاب جمع القرآن الكريم

لمؤلفه (جون بيرتون)

التعريف بالمؤلف :

لم أجد له ترجمة.

التعريف بالكتاب :

يقع الكتاب في (٢٥٩) صفحة من القطع الكبير عدا الفهارس وهو في جزءين وعشرة فصول ومقدمة فكل جزء في خمسة فصول. نشرت الكتاب وطبعته جامعة كمبردج ـ لندن.

ثم طبع في نيويورك ، وغيرها من البلدان. وكانت أول طباعة له سنة ١٩٧٧ م. وموضوعات الكتاب كالتالي :

الجزء الأول :

خصصه المؤلف عن النسخ في القرآن الكريم.

الفصل الأول ـ :

وعنوانه : (القرآن والعلوم الشرعية):

تحدث فيه المؤلف عن القرآن الكريم والأحكام الشرعية ومنزلة هذه الأحكام في الإسلام ، ومبينا أن القرآن والسنة من المصادر الرئيسية للأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات ، وغيرها.

ثم تعرض لاختلاف وجهات النظر في فهم هذه الأحكام مما أوجد عدة مذاهب فقهية يختلف كل واحد منها عن الآخر اختلافا كبيرا لا لقاء بعده.

١٢٩

الفصل الثاني ـ :

وعنوانه : (النسخ):

وذكر تحته النوع الأول من أنواع النسخ :

١ ـ نسخ الحكم والتلاوة :

ذكر أن العلماء المسلمين استخدموا لفظ «حذف» لمعنى النسخ بدلا من «أبطل» حتى لا يظن أن النسخ تم عن إهمال.

ثم ركز عند هذا على حدوث النسيان من محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لبعض الآيات القرآنية.

٢ ـ نسخ الحكم دون التلاوة :

اعتبر المؤلف أن هذا النوع من أكثر الأنواع التي تتفق مع معنى النسخ (الإبطال) ، وأن هذا النوع هو نسخ الأصوليين. ثم تعرض بعد ذلك لموقف بعض العلماء من النسخ هل وقع أم لم يقع؟ وهل السنة ناسخة للقرآن أم لا؟ كرأي الإمام الشافعي رحمه‌الله وغيره وذلك لإظهار التناقض في فهم النص القرآني الواحد من الأئمة ، يقصد بذلك آية النسخ (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ..) الآية (١).

وخلص من هذه النقطة كسابقتها أن القرآن غير مكتمل وأنه قد سقط منه بعض الآيات القرآنية.

الفصل الثالث ـ :

وعنوانه : (الخلفية لظهور النوع الثالث من النسخ):

وقد أرجع ظهور هذا النوع من النسخ لعدة أسباب وهي :

__________________

(١) سورة البقرة : ١٠٦.

١٣٠

١ ـ التفسير :

أشار أن بعض أنواع التفسير أظهرت نوعين من التفسير لمعنى النسخ.

وهما :

التفسير الموضوعي (الهالاخيكي).

التفسير القصصي (الهاجادي).

ومثل على التأثير اليهودي في هذه القضية بقضية رجم الزاني المحصن (الثيب).

٢ ـ الفقه :

ذكر في هذه النقطة أن الآيات القرآنية كانت قاصرة في بيان حد الزنا للثيب ، وأن المذكور كان في حق الزاني الأعزب فقط.

وأما نسخ آية الرجم من سورة الأحزاب فرد سببه للخلاف الذي كان عليه الفقهاء مع النص القرآني وصياغته. ثم ذكر مذهب «مكي بن أبي طالب» في النسخ وأنه جعله على ست مراتب. ثم بين اختلاف الفقهاء في مصدر حكم الزنا هل هو القرآن أو السنة.

الفصل الرابع ـ :

وعنوانه : (المصحف سجل غير كامل):

ذكر المؤلف الخلاف في حكم زنا الثيب (الرجم) ورد سببه لخلاف الأصوليين في كون السنة ناسخة للقرآن أم لا؟ ونسب إلى الإمام الطبري أنه كان يفرق بين المصحف والقرآن.

حيث كان يعتبر أن المصحف ما وقع فيه النسخ أما القرآن فلا يقع فيه نسخ وهو الأصل للمسلمين. كما أكد في هذا الفصل أن القرآن لم يكتمل ؛ لذا فدخول الاضطراب إليه وارد لزعمه أن الجمع تم بعد وفاة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

١٣١

الجزء الثاني ـ :

وعنوانه : (تاريخ جمع النصوص القرآنية):

تحدث في هذا الفصل عن مراحل الجمع وتاريخ ذلك.

الفصل الأول ـ :

أ ـ الجمع الأول :

أهم النقاط التي أثارها تحت هذه النقطة ما يلي :

١ ـ زعمه أن الرأى الإجماعي الحقيقي أن القرآن غير كامل.

٢ ـ عدم التطابق بين النسخ التي جمعها الأشخاص.

٣ ـ زعمه أن الإجماع على وجود صراع بين مصادر الفقه والقرآن والسنة وقد ذكر المؤلف بعض الروايات والشواهد التي تؤكد حججه مركزا فيها على أمرين :

أ ـ عجز النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على جمع النص القرآني وتحريره.

ب ـ عدم اكتمال النص القرآني.

ثم تحدث بعد ذلك عن أول من جمع القرآن. هل هو «أبو بكر» أم «عمر» أم «عثمان» .. إلخ.

ثم ناقش مسألة ترتيب المصحف وأنه أمر اجتهادي من الصحابة.

ثم تحدث عن وجود الآيتين اللتين في آخر سورة التوبة عند «خزيمة» وحده.

ب ـ الجمع الثاني :

ذكر أن الجمع جاء على مراحل :

(أولها في صحيفة ـ ثم في صحف ـ ثم في مصحف ـ ثم في لوحين).

١٣٢

ثم تحدث عن سبب الجمع العثماني واللجان التي قامت به ، ثم تحدث عن قراءات القرآن السبع واختلاف الصحابة فيها حتى في حضرة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأن مردها لهجات العرب المختلفة.

الفصل الثاني ـ :

وعنوانه : (جمع القرآن ـ نظرة عامة):

ذكر في هذا الفصل :

١ ـ أنه توصل خلال عملية النسخ :

أ ـ عدم وجود بعض الآيات التي كان يعتقد بوجودها.

وأنه توصل من هذا إلى :

١ ـ إسناد القرآن.

٢ ـ عدم اكتمال نص المصحف.

ثم ذكر أنواع النسخ :

وأشار للخلاف بين الفقه والقرآن بسبب تطور الفقه بعكس القرآن الكريم ـ على حد زعمه ـ مما أظهر أن مرونة القرآن كانت هزيلة وأشار للخلاف في نسخ السنة للقرآن وعدم جوازه. ثم أشار أن سبب عدم جمع الرسول للقرآن كان لأكثر من هدف منها :

١ ـ الرغبة في تيسير الرجوع إلى مصدر القرآن في المسائل المتفق عليها في الفقه ولكنها لم ترد في وثيقة القرآن (المصحف).

٢ ـ الحاجة إلى تبرير وجهات النظر الإقليمية حول بعض المسائل بإرجاعها إلى نسخ محلية مختلفة من القرآن ومعترف بها.

وذكر أن نظريات النسخ كانت تضغط على أحاديث الجمع ، وأن تأخير الجمع كان لتوقع نزول المزيد من القرآن الكريم مما سبب الاضطراب والشك في

١٣٣

النص القرآني وزاد هذا الاضطراب معارضة الفقه للنص ثم تكلم عن القراءات القرآنية وعلاقاتها بالخلافات الفقهية. وزعم أن جعل كل من القرآن والسنة كمصدرين مستقلين مرده للفقهاء المسلمين.

كما زعم أن الفقه كان يحاول دائما أن يتحرر من تركات القراءات القرآنية. ثم تحدث عن الإعجاز القرآني وتأثره باختلاف القراءات ثم تحدث عن القراءة بالمعنى وعدم إجازة بعض العلماء لذلك.

الفصل الثالث ـ :

وعنوانه : (إسناد القرآن):

تحدث في هذا الفصل عن الجمع في عهد الرسول هل كان أم لا؟ ثم اعتبار القرآن سجلا كاملا أو غير كامل.

ثم تحدث في هذا الفصل عن الروايات المتناقلة للمصاحف التي أرسلت للأمصار أيها أكثر موثوقية الكوفية ، أو البصرية ، الحجازية. وتحدث عن كيفية اختيار الرواية إذا حصل بين الروايات تعارض وذلك عن طريق دراسة الإسناد.

ثم تحدث عن تأثر روايات الجمع بروايات النسخ ، وبروايات الأحرف السبعة ، ثم تحدث عن اختيار زيد للجمع وإخفاء «عبد الله بن مسعود» المصحف وتمنعه من حرقه ثم ذكر ثلاثة عوامل أثرت على مناقشاتهم حول القرآن الكريم.

١ ـ تفسير بعض الآيات التي تدل أن الرسول قد نسي.

٢ ـ الصراع بين الفقه والقرآن.

٣ ـ إسناد القرآن ـ المصحف ـ وعدم موثوقيته وذلك باختيار زيد الذي كلف بجمعه مع أنه كان حديث عهد بالإسلام مما يدل على حداثة معلوماته عن القرآن والسنة وعدم أصالتها.

١٣٤

الفصل الرابع ـ :

وعنوانه : (فصل تواتر المصحف):

تكلم المؤلف في هذا الفصل عن الاختلاف بين المصاحف الخاصة والمصحف العثماني ، كالاختلاف في بعض السور من حيث الزيادة والنقص كزيادة «أبي بن كعب» ـ رضي الله عنه ـ سورتي القنوت والحفد في زعمه وإنقاص «عبد الله بن مسعود» ثلاث سور من مصحفه وهي الفاتحة والمعوذتين مما خلص من هذه المزاعم بأن القرآن غير متواتر.

وقد عرض لموقف بعض العلماء المسلمين واختلافهم فيما نسب «لابن مسعود» كموقف «ابن حزم» و «الإمام النووي» الذين نفوا هذا القول عن ابن مسعود. وموقف «ابن حجر» الذي ثبت نسبة هذا القول لابن مسعود. ثم ذكر موقف بعض الموفقين من العلماء بين الطائفتين النافين والمثبتين كابن الصباغ مثلا.

الفصل الخامس ـ :

وعنوانه : (استنتاجات عامة):

مما خلص إليه «بيرتون» من نتائج :

أن القرآن الكريم كمّ من الاضطراب والتناقض وعدم التماسك وأنها تمثل النتائج لعمليات طويلة من التطور التدريجي ، وأن الإضافات الخارجية والغربية والتحسين صيغت لمجموعة عريضة من الحاجات المتوالية.

ثم ذكر موقف مجموعة من العلماء الغربيين من الجمع أمثال : «نولديكه» و «شيفالي» وغيرهما.

ثم زعم أن بعض القراءات أضيفت لبعض كبار الصحابة لإنهاء الخلاف الحاصل في التفسير.

١٣٥

ثم ذكر أن نسبة الجمع لبعض كبار التابعين كان من أجل أن ينال إسناد القرآن طابع القدم والتواتر.

ثم ذكر الخلاف بين القرآن والفقه كمصدر للتشريع ، وتأثير النسخ على ذلك. ثم شكك في الأحاديث النبوية ، ثم ذكر أن الجمع كان بسبب المصاحف الخاصة التي كانت تظهر متعارضة في بعض الجوانب.

ثم تحدث عن اختيار عثمان لحرف واحد وجمع الناس عليه دون غيره ثم تحدث عن الفرق بين جمع أبي بكر ، وعمر وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ ثم تناول أسماء السور واختيارها ، والآيات وترتيبها. ثم تحدث أخيرا عن كتاب المصاحف «لأبي داود» وتعليق «آرثر جيفري» عليه وأن عمله يدعو للتشكيك في روايات هذا الأمر.

ثم شكك بعد ذلك في موثوقية القراءات ونسبها لعمل النحويين والصرفيين.

ومن أكبر الأخطاء في هذا الفصل كذلك أن اعتبر الحديث النبوي الشريف كأي حديث حياتي يحصل لشخص ما.

تقويم الكتاب :

هذا الكتاب لا شك أنه قد بذل فيه جهد كبير ، ولكنه لم يكن موفقا في كثير من فصوله.

فالكتاب بجملته يناقش قضيتين :

قضية الجمع للقرآن الكريم ، وقضية النسخ.

أما موضوع النسخ فأضفى عليه روح الفقهاء والأصوليين.

ومن الملاحظات التي يخرج منها قارئ الكتاب ما يلي :

١ ـ أنه جعل للفقهاء الدور الكبير في سبب الاختلاف في جمع القرآن

١٣٦

الكريم ، وفي النسخ ، وفي القراءات القرآنية والتفسير … إلخ ، بل تعدى الأمر إلى ما هو أكثر من ذلك أن جعلهم غالبا على نقيض مع القرآن الكريم. حتى أثروا في النص القرآني من حيث الزيادة والنقصان وتصرفوا تصرفا يخدم أغراضهم.

٢ ـ كان يخلص في كل فصل إلى أن القرآن مضطرب أو ناقص وفيه زيادة .. إلخ.

٣ ـ محاولة إظهار أن هناك صراعا ظاهرا من القرآن والسنة والفقه ، وصعوبة الجمع بينهما وما نتج عن ذلك من اضطراب في النص القرآني.

٤ ـ اعتماد المؤلف في بحوثه على من سبقه من المؤلفين الغربيين أمثال : جولد تسيهر ، نولديكه ، شيفالي ، براجشترستر .. وغيرهم.

فهذا الكتاب كما يلاحظه أي قارئ مليء بأخطاء علمية فادحة ، ويبدو واضحا في تأليفه عدم النزاهة العلمية وعدم التجرد من أخطاء من سبقوه في القضايا التي طرحها فكان مجترا لأقوال سابقيه وشبههم.

١٣٧

المبحث السابع

صلة القرآن باليهودية والمسيحية

لمؤلفه (د. فلهلم رودلف)

ترجمه عن الألمانية (عصام الدين حفني ناصف) ـ طبعة ـ دار الطليعة ـ بيروت ط ١ ، ١٩٧٤ م.

التعريف بالمؤلف :

لم أجد له ترجمة فيما رجعت له من كتب تراجم.

التعريف بالكتاب :

يقع الكتاب في (١٤٩) صفحة بستة فصول وخاتمة. جاءت كالتالي :

الفصل الأول ـ :

وعنوانه : (اليهودية والمسيحية في البلاد العربية قبل محمد):

تناول المؤلف في هذا الفصل وجود هاتين الديانتين في الجزيرة العربية ومقدار حظ أهلهما من العلم والمعرفة. فمع أنه نسب لهما قلة المعرفة والجهل أحيانا إلا أنه اعتبرهم أكثر علما وفهما من الوثنيين ومن بينهم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الذي تأثر ـ في زعمه ـ كثيرا بما عندهم من معرفة انعكست على قرآنه.

الفصل الثاني ـ :

وعنوانه : (كيف اقتبس محمد المواد اليهودية والمسيحية):

ناقش المؤلف في هذا الفصل طريقة تلقي الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ معرفتهم وثقافتهم. أكان بالقراءة في كتبهم أم بطريق السماع فحسب؟ لذا ناقش موضوع

١٣٨

أمية الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولكنه أكد أنه حتى لو كان يتقن القراءة والكتابة فإنه لن يستطيع أن يستفيد منها لعدم ترجمتها.

ثم ذكر بعض المقتبسات من القرآن الكريم وما يشابهها من العهد القديم ليؤكد أنه قد حصل للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ معرفة بما في التوراة بطريق السماع وهو ما يرجحه المؤلف.

ثم ذكر بعد ذلك مجموعة من الأمثلة القرآنية التي بينها تشابه مع العهدين القديم والجديد وأشار أن هذه الأمثلة قد وقع فيها أخطاء وتفاوت وأن مرجع ذلك يعود لسوء الفهم الذي يؤكد دعوى المؤلف أنه تلقاها مشافهة لا من مصدر مكتوب.

ثم أتى ببعض الأدلة القرآنية التي فيها الإنكار على من زعم أن محمدا تلقى الوحي من مصدر غير إلهي لكنه حملها على تأكيد (نظريته) في تلقيه لمعلومات الوحي من أقوال شفوية منها :

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ..)(١).

وكلمة (أمي) تعني عدم تعلم القراءة والكتابة.

وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً ..)(٢).

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)(٣).

مؤكدا دعواه بأن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان عنده الاستعداد والحرص على التعرف على المباحث الدينية ومما أفاده في ذلك وجوده في مكة التي أثرته بمجموعة من الفرص لتحقيق ذلك ـ على حد زعمه ـ.

__________________

(١) سورة الأعراف (١٥٧).

(٢) الفرقان (٤).

(٣) سورة النحل (١٠٣).

١٣٩

الفصل الثالث ـ :

وعنوانه : (ما ذا أخذ محمد من اليهودية والنصرانية):

أكد المؤلف أن أخذ محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يتركز على الأفكار الأساسية في الدينين العالميين الكبيرين اليهودية والنصرانية اللذين كانا معروفين معرفة تامة في كافة بلاد العرب ـ على حد زعمه ـ.

ثم ذكر الأفكار الرئيسية التي تنتظم دين محمد ـ على حد فهمه ـ وهي : البعث ـ فالمحاكمة ـ فالفردوس ـ وجهنم.

ذاكرا صلة هذه الأفكار بما هي عليه عند اليهود والنصارى. ثم ذكر بعض الكلمات المتشابهة بين الإسلام وهذين الدينين مثل : الله ، أحد ، روح ، إبليس.

زاعما أنها مأخوذة من مصدر يهودي أو نصراني. ثم ذكر أن أكثر القصص القرآني مصدره يهودي. وزعم أن بعض أسماء الأنبياء مثل : سليمان وإلياس ، ويونس ، منقولة عن مصدر نصراني.

ثم زعم أن ما طرأ على القصص في المدينة المنورة من تغيير بحيث أصبح نادرا يعود ذلك إلى أن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شعر بتفاوت بين ما يذكره من قصص وبين ما هو عند اليهود على وجه الدقة.

كما زعم أن كثيرا من الجوانب الأخلاقية والعبادية في الإسلام يعود لأصل يهودي أو نصراني كالوصايا العشر ، وأركان الإسلام الخمس ، وقواعد الطعام ، وغير ذلك.

الفصل الرابع ـ :

وعنوانه : (هل المسيحية هي التي دفعت محمدا الدفعة الحاسمة إلى الظهور):

أكد المؤلف أن المسيحية بتأثيرها البالغ على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دفعته للتنبؤ.

١٤٠

ثم ذكر في هذا الفصل كذلك بعض الأمثلة المتشابهة بين القرآن والإنجيل كقصة مريم وابنها عيسى عليه‌السلام ، وعذاب النار ، والمحاكمة العامة .. إلخ.

بعد ذلك ذكر تأثير الصابئة على الإسلام ذاكرا بعض الأمور المتشابهة بينهما.

كما ذكر الحنفاء وما أثرت به على الإسلام موضحا ذلك ببعض الأمثلة.

الفصل الخامس ـ :

وعنوانه : (نظرية جنوب بلاد العرب) ل «جريمه» :

ذكر وجهة نظر «جريمه» في كتابه (محمد) أن اليهودية لم يكن لها أثر فعال على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلا في العهد المدني وحيث قال :

أما الفترة الأولى فقد كانت أفكار محمد الدينية انعكاسا للتوحيد الذي في جنوب العرب. هذا التوحيد الخليط من الوثنية واليهودية والنصرانية. وقد كان وصول «جريمه» لهذه النتيجة عن طريق النقوش التي تم العثور عليها في جنوب الجزيرة العربية.

وقد قام المؤلف «رودلف» بنقد آراء «جريمة» واحدا بعد الآخر.

الفصل السادس ـ :

ما عرفه القرآن عن شخص عيسى ـ عليه‌السلام ـ وحياته وما خلف وراءه من أثر ، ثم ذكر الآيات التي تناولت هذا الموضوع وما طابقها أو خالفها في كتب الإنجيل. ليؤكد تأثر محمد بالأناجيل.

أنهى المؤلف كتابه بخاتمة :

ذكر في هذه الخاتمة أهم النتائج التي توصل لها مثل :

١ ـ تأثير اليهودية والنصرانية في محمد تأثيرا كبيرا.

١٤١

٢ ـ دفع المسيحية محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للعمل ثم علق على عقيدة القضاء والقدر عند المسلمين من حيث شمولها أو عدمه.

وقد بلغ ببعض المستشرقين الإسفاف ومنهم «سميث» لاعتباره الإسلام فرقة من فرق النصارى أو أنه مسيحية متهودة إلا أن المؤلف رجح كونه فرقة مستقلة ولكنها تأثرت كثيرا بالنصرانية.

تقويم الكتاب :

الذي يمعن النظر في هذا الكتاب يجده متحاملا وغير موضوعي ، ويجده فقد السمة الموضوعية العلمية. والمؤلف أقحم كثيرا من الأدلة في ثنايا ما قرره من نتائج مسبقا ليدلل على أن الإسلام فرقة تأثرت بالنصرانية واليهودية وخاصة النصرانية.

١٤٢

المبحث الثامن

كتاب المفردات الأجنبية في القرآن

لمؤلفه (آرثر جيفري)

تعريف بالمؤلف :

«آرثر جيفري» استرالي الجنسية عين أستاذا في الجامعة الأمريكية في بيروت ثم أستاذا في جامعة كولومبيا. ثم أستاذا للغات السامية في مدرسة اللغات الشرقية في القاهرة.

له عدة مؤلفات وعدة أبحاث عن الإسلام عامة وعن القرآن خاصة في مجال التحقيق والتأليف منها :

١ ـ تحقيق كتاب المصاحف لأبي داود السجستاني. وقد وضع له مقدمة باللغة الإنجليزية. طبعته مؤسسة دي خويه ج ١١ ليدن ١٩٧٣ م.

٢ ـ القرآن وهو عبارة عن موضوع عن (نصوص قرآنية) نشرها في مجلة العالم الإسلامي سنة ١٩٣٥ م ، وصحيفة الشرق الأوسط ١٩٤٧ م.

٣ ـ دراسة عن كتاب مختصر شواذ القراءات لابن خالويه ، نشرها في مجلة الدراسات الإسلامية ١٩٣٨ م.

٤ ـ أبو عبيد والقرآن ، موضوع نشره في مجلة العالم الإسلامي ١٩٣٨ م وغيرها.

تعريف بالكتاب :

نشر هذا الكتاب باللغة الإنجليزية من ضمن سلسلة جيكوادر الشرقية برقم (٧٩) وقد نشر بإشراف حكومة صاحب السمو مهراجا بارودا.

١٤٣

وكان المحرر العام للكتاب ب. باتا شاربا راجا رائنا جنانا رائنا. وكان نشره في القاهرة سنة ١٩٣٧ م.

وقد جاء الكتاب في تمهيد ومقدمة ثم موضوع الكتاب الرئيسي موزع على اللغات التي منها القرآن ثم ختمه بالفهارس.

التمهيد

ابتدأ «جيفري» الكتاب بتمهيد تحدث فيه المؤلف عن أهمية هذا الموضوع ذاكرا أن كثيرا من الدراسات التي قام بها كل من «هورفتز» وتلامذته ـ في جامعة فرانكفورت ـ وتورأندريا ، و «كارل اهرير» حول الأصول الإسلامية من خلال مناقشتهم للمفردات القرآنية. وقد ذكر المؤلف أن من أهمية هذا الموضوع أنه يبين تطور الفكر الإسلامي حول القرآن.

وقد ذكر أن هذه الدراسة عبارة عن تجميع لمصطلحات قرآنية دخلت القرآن ومصدرها لغات شتى ، كالفارسية ، والحبشية ، وغيرها ؛ بسبب التأثر بالغير نتيجة للاتصال التجاري والثقافي بين الجزيرة العربية وبلدان أصحاب هذه اللغات.

ثم ذكر بعد ذلك موقف العلماء من أصل هذه المفردات : فمن قائل : إنها عربية الأصل وتواردت عليها اللغات كالإمام الشافعي. ومنهم من اعتبرها غير عربية وإنما استخدمها العرب فاستعملها القرآن الكريم بعد ذلك وهو رأي الإمام السيوطي وغيره ، وقول بعض السلف كابن عباس ـ رضي الله عنه ـ.

وقد ذكر المؤلف أن الكتاب كان أربعة أضعاف حجمه الحالي ولكنه اختصره بسبب غلاء أسعار الطباعة إلى هذا الحجم والذي يؤدي الغرض بفهم القارئ للموضوع. وقد عقد المؤلف مقارنة بين الكتاب الأصلى والحالي معترفا بقصور عمله في هذا الموضوع. ومشيرا أنه لو قام به رجل آخر «كنولديكة» مثلا لجاء أدق وأوفى وأكثر فائدة وذلك لتمكن «نولديكه» من اللغات الشرقية.

١٤٤

وقد أشار إلى ترتيب فهرست الآيات كان حسب طبعة «فلوجل» لسهولة هذه الطريقة.

وختم تمهيده بالشكر للدارسين والمهتمين من المستشرقين والمشجعين لهم وعلى رأس هؤلاء صاحب السمو مهراجا بارودا بيارودا الذي ساعد على ظهور هذا الكتاب في القاهرة سنة ١٩٣٧ م.

المقدمة

زعم المؤلف في مقدمته أن الانطباع الذي يخرج به المرء عن القرآن الكريم الاضطراب المحير ، محاولا إثبات ذلك بزعمه أن كثيرا من المعتقدات والعادات الوثنية قد تسللت إلى القرآن مستشهدا بقول رودلف (أنه في فقرات عديدة من القرآن فإن الطلاء الإسلامي يستر بشكل رقيق للغاية أساسا وثنيا).

كما زعم أن الإنسان يلمس تأثير الديانات التوحيدية الأخرى على النصوص القرآنية.

ومن خلال هذه المصادر للقرآن الكريم كانت دراسته للمفردات الدينية والثقافية الأجنبية في القرآن الكريم ، ذاكرا أن مصدر هذه الدراسة هم الصحابة غالبا والرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خاصة ، مشيرا أن الصحابة كانوا مضطربين في تفسير هذه المفردات مما جعل المحدثين يشكون في معظم الروايات الواردة عنهم.

ثم ذكر آراء بعض العلماء في هذه المفردات.

فمن قائل : إنها عربية الأصل وهو رأي للإمام «الحسن البصري» و «الطبري» حيث اعتبراها مما تواردت عليها اللغات.

ومن قائل : إنها غير عربية البتة. ومن قائل : إنها كلمات عربية قديمة دخلت على العربية نتيجة للصلات التجارية وغيرها مع الدول الأخرى ، واستعملها العرب حتى صارت عربية بالاستعمال وهو رأي الإمام السيوطي.

ثم ذكر بعد ذلك من اهتم بهذا الجانب في القرآن الكريم من المستشرقين

١٤٥

(المفردات الأجنبية عنها) كما يحلو له تسميتها مثل «وييرز» في كتابه (المفردات الأجنبية).

ثم ذكر مصادر هذه المفردات من اللغات الأخرى الحبشية ، الفارسية ، الرومية ، والهندية ، والسريانية ، والعبرانية ، والنبطية ، والقبطية ، والتركية ، والزنجية ، والبربرية.

موضوع الكتاب :

بدأ في هذا العرض يذكر كل لغة والطريق التي انتقلت منها بعض مفردات هذه اللغة للعربية ، ويضرب أمثلة على ذلك مما ذكر في القرآن الكريم.

١ ـ الأثيوبية :

اعتبرها أوثق اللغات بالعربية وأن دخول بعض المفردات منها للعربية كان بسبب :

أ ـ الاتصال التجاري.

ب ـ إسلام بعض العبيد الأحباش.

ج ـ استعمار الحبشة لبعض أجزاء من الجزيرة العربية .. إلخ.

ومثالها : كمشكاة : أي الكوة.

٢ ـ الفارسية :

ذكر أن تأثيرها ببعض المفردات على العربية عامة والقرآن الكريم خاصة كان بسبب الاستعمار الفارسي لبعض أجزاء من الوطن العربي (كالحيرة) مثلا. وبسبب تردد بعض الشعراء على البلاط الفارسي مما سبب تأثرهم بهم ومثل على ذلك بكلمة «إستبرق» وهو الديباج الغليظ وغيرها.

٣ ـ الإغريقية :

ذكر من أسباب التأثر بلغتهم تردد بعض الشعراء على البلاط البيزنطي ، والاتصال التجاري والعسكري. ثم ذكر أن دخولها مباشرة للعربية كان قليلا

١٤٦

وأكثر ما دخل العربية منها عن طريق السريانية ومثل على ذلك بكلمة «رقيم» أي الكلب.

٤ ـ الهندية :

حمل معنى اللغة الهندية أنها لغة جنوب الجزيرة العربية ولكنها اندثرت مع البعثة المحمدية.

وقد ذكر المؤلف أن الرأي الراجح في ذلك أن هذه المفردات التي نسبت للهندية كان سبب النسبة عدم معرفة معانيها لذا نسبت لأصل بعيد كالهند. مثالها : «لغوب» أي إعياء.

٥ ـ السريانية :

ذكر المؤلف أن هذه اللغة كانت معروفة قديما وما زالت موجودة للآن في بعض المجتمعات المسيحية الشرقية يستخدمونها في طقوسهم الدينية في سوريا والعراق وفارس.

كما أن النفوذ المسيحي على شمال الجزيرة العربية والتبادل التجاري وتردد بعض الشعراء على تلك المناطق كامرئ القيس والمتلمس ، وعدي بن زيد ، والأعشى ، والنابغة ، وغيرهم على البلاد التي تعرف هذه اللغة كان له دور كبير في تأثر العربية بها ـ فمن هذا التأثير وجود الخط الكوفي العربي وهو معدل عن الخط السرياني ووجود نظام ضبط الكلمات بواسطة الإشارات حيث أخذ عن النظام النسطوري كالأعلام مثلا. ومثالها : «الطور» (١) الجبل.

٦ ـ العبرية :

ذكر المؤلف أن العبرية دخلت للعربية عن طريق وجود فئات من اليهود في الجزيرة العربية كيهود خيبر وبني قينقاع وبني النضير وذكر أن سبب أخذ

__________________

(١) كقوله تعالى في سورة البقرة آية (٦٣) : .. وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ …

١٤٧

بعض المفردات عنهم كان من أجل كسبهم لصف الإسلام وأن هذا كان قبل القطيعة ومثل على ذلك بكلمة «لينة» (١) يعني النخل.

٧ ـ النبطية :

ذكر المؤلف أن انتقال المفردات النبطية كان بسبب النفوذ الذي كانت باسطته المملكة النبطية في شمال فلسطين حتى دمشق منذ القرن السادس قبل الميلاد. قبل أن تحل العربية مكانها.

ومثالها : «إصري» (٢) عهدي.

٨ ـ القبطية :

ذكر المؤلف أن هذه اللغة كانت منتشرة في مصر كلغة للطقوس في المجتمعات المسيحية هناك. ومن هناك تم نقلها للجزيرة العربية وخاصة مع قدوم مارية القبطية كزوجة لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هدية من مقوقس مصر ـ ومثالها : «كلا لا وزر» (٣) أي ملجأ.

٩ ـ التركية :

ذكر المؤلف أن سبب نسبة بعض المفردات لهذه اللغة عدم معرفة معانيها ومثل عليها بكلمة «غساق» (٤) واستدل على أنها تركية الأصل بسبب وجودها في المعاجم التركية.

١٠ ـ الزنجية :

وذكر سبب نسبتها للزنجية عدم معرفة معانيها ومثل عليها بكلمتي «حصب» (٥) و «منسأة» (٦).

__________________

(١) كقوله تعالى في سورة الحشر آية (٥) : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً) …

(٢) كقوله تعالى في سورة آل عمران آية (٨١) : قالَ (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي).

(٣) انظر سورة القيامة (١١).

(٤) كقوله في سورة النبأ آية (٢٥) : .. (إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً).

(٥) كقوله تعالى في سورة الأنبياء آية (٩٨) : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ) …

(٦) كقوله تعالى في سورة سبأ آية (١٤) .. (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ).

١٤٨

١١ ـ لغة البربر : (أو لسان أهل المغرب):

ذكر المؤلف أن هذه اللغة هي لغة العوام في شمال إفريقية ، أما سبب تأثر العربية بها فعدم معرفة معانيها لا غير فنسبت لها.

تقويم الكتاب :

هذه خلاصة ما ورد في كتاب «آرثر جيفري» (المفردات الأجنبية في القرآن الكريم).

والكتاب مع ضخامة حجمه إلا أنه لم يأت بجديد سوى شكل الموضوع. فالمؤلف كان مجرد ناقل من بعض كتب المسلمين كالإتقان للسيوطي وبعض مؤلفات الإمام ابن قتيبة.

وهذا الرأي ـ وجود بعض المفردات غير العربية في القرآن ـ كان مطروقا منذ عهد الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وقد نسب مؤلف في هذا الموضوع لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ باسم (اللغات في القرآن).

ولكن الجديد في الأمر أن المؤلف حاول جهده للربط بين بعض المفردات القرآنية وبين اللغات التي ذكرها برباط تاريخي أو برباط جغرافي وكان إذا عجز لإيجاد سبب التأثر باللغة الأصل كان يذكر أن هذا كان بسبب عدم معرفة المسلمين لمعاني هذه المفردات مما جعلهم ينسبونها لمكان بعيد وهو توجيه غير مقنع.

وقد ذكر أربعة من هذه المصادر التي نسب لها بعض المفردات لهذا السبب : التركية ، والبربرية ، والزنجية ، والهندية.

والسر في تأليف مثل هذه الموضوعات عند المستشرقين لإثبات أن القرآن من تأليف محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جمعه من ثقافات ومعارف ولغات شتى بدافع مصلحة كسب بعض الأنصار كاليهود ، أو تأثرا بسبب المخالطة وهو شأن من يعيش مع قوم لفترة طويلة.

وستأتي مناقشة هذه الأقوال تفصيلا في مواطنها من الرسالة.

والله الموفق ..

١٤٩

المبحث التاسع

كتاب مقالة في الإسلام

لمؤلفه (جرجيس صال)

عربه عن الإنكليزية هاشم العربي. طبع سنة ١٨٩١ م

التعريف بالمؤلف :

هو المستشرق الإنكليزي مولدا ومنشأ «جرجيس صال». ولد في أواخر القرن السابع عشر الميلادي ، ومات سنة ألف وسبعمائة وست وثلاثين ، وله من العمر أربعون سنة ، كان من المشتغلين بعلم الفقه إلا أنه أولع بدرس لغات المشرق ولا سيما اللغة العربية وعلومها فبلغ منها مبلغا عظيما. وله بلسان قومه مصنفات في التاريخ واللغة ولكنه أكثر ما اشتهر بنقل القرآن إلى لسان الإنكليز وبما ألحق به من حواش تكشف الغطاء عن مبهمات النص القرآني انتقى أكثرها من كتب التفسير الإسلامي.

وأشهر مصنفاته «مقالة في الإسلام» التي سأخصها بالتعريف (١).

التعريف بالكتاب :

الكتاب «مقالة في الإسلام» كتاب باللغة الإنكليزية يقع في (٣٢١) صفحة ومتبوع بتذييل للثلاثة فصول الأولى للمعرب ، ومضاف إليه استدراكات مضافة إلى حواشي المؤلف.

يقع الكتاب في ثماني فصول وهي كالتالي :

__________________

(١) انظر ترجمته في كتابه «مقالة في الإسلام».

١٥٠

الفصل الأول ـ :

وعنوانه : (في عرب الجاهلية وتاريخهم وأديانهم وعلومهم وعاداتهم):

تحدث فيه عن اسم العرب منذ نشأتهم وبلادهم ثم تناول أديانهم ومعبوداتهم وعاداتهم وأخلاقهم وعلومهم.

الفصل الثاني ـ :

وعنوانه : (في البحث عما كانت عليه حال النصرانية واليهودية أيام ظهور محمد والطرق التي سلكها محمد لتأسيس دينه وما أعانه على ذلك من الشئون):

تناول المؤلف في هذا الفصل الكنائس التي كانت موجودة آنذاك واعتقاداتهم وتناول كذلك حالة الروم والفرس ، وتحدث عن محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومقدار معرفته بعقائدهم وزعم أن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان شديد الميل للنساء.

ثم تناول سيرة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكيفية انتشار الإسلام وقوته.

الفصل الثالث ـ :

وعنوانه : (في الكلام على القرآن وما تميز به عن غيره من الكتب وفي كيفية كتابته ونشره والغاية العامة المقصودة به).

تحدث في هذا الفصل عن اشتقاق لفظة القرآن ، وأسمائه ، وأقسامه ، وأسماء سوره ، ثم تعرض للبسملة في أول كل السور وتحدث عن لغة القرآن ، وأسلوبه ومحاكاته لأسلوب التوراة ، ثم تحدث عن غاية محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من هذا القرآن استخدام السيف لنشر الدعوة ، ثم تحدث عن فروض الإسلام وشعائره وأحكامه وأنها قابلة للتبديل. ثم تحدث عن التناقض في القرآن ومحاولة الخروج منه بالنسخ ، ثم تحدث عن الإعجاز في القرآن الكريم وعن المحكم والمتشابه ، وختمه بالحديث عن حكم ترجمته.

١٥١

الفصل الرابع ـ :

وعنوانه : (في الإسلام أي في تعاليم القرآن وأوامره المتعلقة بالإيمان وفروض الدين ـ أي قضاياه النظرية والعلمية ـ).

تحدث المؤلف في هذا الفصل عن أركان الإسلام وأركان الإيمان والتأثر فيها باليهود والصابئة وغيرهما. وتناول القبر والجن والشيطان وإحياء الإنسان مرة ثانية والتأثر في ذلك باليهود. ثم تناول موضوع النفخ ، ويوم الحساب ، والصراط ، وغيرها من الاعتقادات عند المسلمين التي تأثر بها النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من اليهود والمجوس وغيرهم.

ثم تناول الركن الثاني وهو الصلاة وتأثر المسلمين في صلاتهم بالطقوس اليهودية وغيرهم.

ثم تحدث عن الركن الثالث الزكاة والفرق بينها وبين الصدقات ومصارفها ومستحقيها وتأثرهم كذلك بها باليهود.

ثم تناول الركن الرابع الصيام وتأثره فيه باليهود كذلك. ثم تناول الركن الخامس وهو الحج وما فيه من وثنية وأن شرعه الحج لقومه كان إرضاء لهم ولكسبهم لدينه.

الفصل الخامس :

وعنوانه : (في بعض نواهي القرآن):

تحدث في هذا الفصل والفصلين اللذين بعده عن الأحكام والفروض الفرعية فابتدأ بالحديث عن المنهيات : كالخمر والميسر ، كما تحدث عن المحرمات من الأطعمة كالميتة ، ولحم الخنزير .. إلخ. ثم تحدث عن الربا وتحريمه اتباعا لليهود كما تحدث عن وأد البنات وتحريم هذه العادة الذميمة .. إلخ.

١٥٢

الفصل السادس :

وعنوانه : (في شرع القرآن المدني أي فيما شرعه في المعاملات):

تحدث المؤلف في هذا الفصل عن شرع المسلمين وأنه بني على الأوامر كاليهود تتناول تعدد الزوجات ، والطلاق ، والعدة ، ومقارنتها بما عند اليهود ، وعقوبة الزنا ، واعتزال النساء في الحيض ، والنكاح فيمن يجوز الزواج منهن ، ثم تحدث عن شرائع القرآن في المواريث ، والقتل ، والسرقة ، والجنايات ، ومقارنة ذلك بما عند اليهود. ثم تناول الجهاد في سبيل الله وملحقاته من فيء وغنائم.

الفصل السابع ـ :

وعنوانه : (في الأشهر التي حرمها القرآن وفي إفراز يوم الجمعة لله):

بين تحديد القرآن لعدد الشهور ب (١٢) شهرا ، وتحريم أربعة منها على ما كانت عليه بعض قبائل العرب. ثم إعطاء يوم الجمعة ميزة خاصة لعبادة الله عزوجل فيه ، ثم تعرض لأعياد المسلمين (الفطر ـ والأضحى).

الفصل الثامن ـ :

وعنوانه : (في فرق المسلمين الكبيرة وفي من ادعى النبوة في العرب على عهد محمد أو بعده):

تناول في هذا الفصل علم الكلام ، وعلم الفقه ، ثم تناول الأصول التي اختلف فيها المتكلمون ، وتعدد الفرق الإسلامية للاختلافات في القضايا العقائدية. ثم تناول المذاهب الفقهية الأربعة ومعرفا بأئمتها.

ثم تناول الفرق الأخرى معرفا بها وبما انفردت به من قضايا عقائدية كالجبائية والقدرية ، والجبرية ، والشيعة ، وفرقها .. معتمدا في ذلك على كتابي الإمام ابن حزم والشهرستاني في هذا الفصل ، ثم تناول المتنبئين كأمثال : طليحة ابن خويلد ، وسجاح بنت المنذر ، وغيرهما مما جاء بعدهم.

١٥٣

تذييل الفصل الأول ، والثاني والثالث وهو تذييل من عمل المعرب وهو مليء بالأخطاء والافتراءات على طريق أسياده من المستشرقين.

تقويم الكتاب :

يعتبر المؤلف من أكثر المستشرقين حقدا وخطرا على الإسلام ومن أكثرهم أخطاء في كثير من القضايا التي طرحها خاصة في كتابه أسرار القرآن وما كتبه عن القرآن في كتابه (مقالة في الإسلام).

حيث بذل جهده لربط عقائد الإسلام وشرائعه بالمذاهب والمعتقدات السماوية تارة وغير السماوية تارة أخرى.

أما الفصل الثامن والذي تحدث فيه عن الفرق الإسلامية فكانت أغلب مادته نقلا عن كتابي الملل والنحل للإمامين ابن حزم والشهرستاني.

١٥٤

المبحث العاشر

كتاب (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم)

تأليف الكاتب الفرنسي «موريس بوكاي»

دار الكندي ـ بيروت ـ لبنان

التعريف بالمؤلف :

لم أجد له ترجمة فيما رجعت له من مراجع :

التعريف بالكتاب :

يقع الكتاب في (٢١٧) صفحة ترجمه مجموعة من الدعاة بإشراف من (مجلة الفكر الإسلامي الصادرة عن دار الفتوى في الجمهورية اللبنانية سنة ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٨ م).

قدم فيه المؤلف دراسة للكتب المقدسة الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن باحثا عن درجة التوافق بينها وبين معطيات العلم الحديث وجاءت موضوعات الكتاب كالتالي :

١ ـ مدخل عرض فيه المؤلف بعض مواقف الغرب من الإسلام ومفاهيمهم الخاطئة عنه.

٢ ـ العهد القديم تناول فيه «بوكاي» المؤلف الحقيقي لها ـ وأصلها قبل أن تصبح أسفارا.

٣ ـ أسفار العهد القديم. ذكر المؤلف أنها مجموعة مؤلفات غير متساوية في الطول ومختلفة النوع كتبت خلال تسعة قرون بلغات عدة أخذا بالسماع.

١٥٥

٤ ـ ملاحظات في العهد القديم. وقد أشار المؤلف تحت هذا العنوان لقصور العهد القديم عن مجابهة معطيات المعارف المعاصرة وتناقضه أحيانا معها.

كما أثبت تناقضا بين النصوص نفسها كما حصل في تحديد عمر الإنسان قبل الطوفان. ومثل على المناقضة بينها وبين النظرة العلمية في قضية خلق العالم.

٥ ـ الطوفان. وقد أثبت المؤلف تحت هذا العنوان مستحيلات أوردها العهد القديم ، وروايات لا تتفق مع حقائق الأشياء. ويؤكد المؤلف أن لا غرابة في ذلك وخاصة أن سفر التكوين الذي وردت فيه القصة قد حرفت مرتين خلال ثلاثة قرون. ثم بين بعد ذلك موقف المسيحيين من هذه الأخطاء العلمية لنصوص التوراة وذكر أن بعضهم قد أدخلها في مؤلفاتهم ، وبعضهم دافع عنها بحجج غير مقبولة مما يؤكد تدخل الإنسان في النصوص التوراتية.

وذكر أن بعضهم اعترف بالخطإ ولكنه أوله مدافعا عن صاحبه أن ذلك يعود لاختلاف الأسلوب الأدبي بين كل كاتب وآخر. وقرر أن المسيحيين لم يقفوا على مثل هذه التناقضات بسبب عدم معرفتهم من الأناجيل والعهد القديم إلا مقاطع يرددونها في أوقات الصلوات لا غير.

ومن اطلع على التناقض حاول أن يبرره ولكنه بأسلوب واه هزيل.

٦ ـ الأناجيل الأربعة ـ مصادرها وتاريخها.

أكد في هذا الفصل أن الأناجيل الأربعة المنسوبة لمتى ولوقا ويوحنا ومرقص كتبت في عهد بعيد عن المسيح ، وأن بولس حرف كثيرا في نصوص هذه الأناجيل مع أنه كان متهما بالخيانة والعداوة لليهودية والمسيحية في وثائق ثابتة في حقه عند اليهود والنصارى.

وقد أثبت المؤلف تناقض هذه الأناجيل في بعض القضايا التي تناولتها من الناحية التاريخية والمنطقية كما أثبت مناقضتها لمنطق العلم في قضايا كثيرة ، واستحالتها وتضادها في كثير من الروايات وقد عقد لذلك مبحثا خاصا كروايات ظهور المسيح المبعوث من الموت.

١٥٦

٧ ـ القرآن والأحاديث والعلم الحديث.

أكد المؤلف أن القرآن الكريم أقرب إلى التوافق مع العلم الحديث منه إلى الاختلاف. وبين أن القرآن الكريم حث على العلم وتطويره حتى إن العلم كان توأم الدين لا ينفصلان وأن القرآن الكريم حوى العديد من النظرات عن أحداث طبيعية مع تفصيلات موضحة تبدو شديدة الاتفاق مع معطيات العلم الحديث وحقائقه ، وليست موجودة في التوراة ولا الإنجيل مما يؤكد أن هذا القرآن ليس له مصدر إلا مصدرا واحدا هو الله سبحانه وتعالى ، وأن كون محمد كاتبا له كما يزعم الغرب أمر مرفوض.

وتحت عنوان أصالة القرآن.

أثبت المؤلف أن نصوص القرآن الكريم ثبتت كما هي عليه الآن منذ زمن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعكس التوراة والإنجيل اللذين عدلا قبل أن يصلا إلينا أكثر من مرة. ثم تحدث عن الفرق بين القرآن والحديث النبوي الشريف الذي أخضع للنقد الدقيق ليخرج دقيقا ، ثم تكلم بعد ذلك عن جمع القرآن وعدد سوره وترتيبها.

ثم تحدث بعد ذلك عن موقف القرآن من التوراة من حيث التجانس والاختلاف في بعض الأخبار كخبر السموات والأرض ، وخلقهما مؤكدا أن أخبار الخلق في القرآن تدل أنه من الدقة مما يدل أنها خالية من أية تدخلات بشرية. ثم تحدث عن النظام الشمسي ، وعن علم الفلك في القرآن من نجوم وكواكب سيارة ، ومن التنظيم السماوي ، ووجود الأفلاك للقمر وللشمس ، وجريانها في الفضاء بحركة خاصة. ثم تحدث عن تعاقب الليل والنهار ، واتساع الكون وغزو الفضاء. ثم تحدث عن الأرض ، ودور المياه والبحار فيها ، والنتوء الأرضي وتركيب الأرض ، ثم تحدث عن الفضاء الأرضي والظل ، ثم تحدث عن عالم النبات والحيوان والتوازن السائد بينهما ، ثم تحدث عن التكاثر البشري في القرآن.

١٥٧

ثم عقد مقارنة بين روايات القرآن والتوراة في بعض الموضوعات التي اتفق ذكرها فيهما. ثم موازنة بين موقفهما من العلم الحديث.

ثم تحدث عن القرآن والأناجيل والمعارف الحديثة كذلك ، ثم تحدث عن الطوفان والروايات التي جاءت فيه في كل من التوراة والقرآن الكريم.

ثم تحدث عن خروج موسى عليه‌السلام وقومه من مصر كما هو في التوراة والقرآن الكريم.

ثم تحدث بعد ذلك عن فرعون ظالم اليهود ومن هو؟ وهل غرقه كان حقيقة كما في القرآن الكريم أم لا؟.

ثم تحدث بعد ذلك عن ابتلاءات اليهود في مصر ، مع تحديد زمن الخروج من مصر فرارا من ظلم فرعون الطاغية.

ثم أكد أن (رمسيس الثاني) هو فرعون الاضطهاد ، وأن (منفتاح) ابنه هو فرعون الخروج.

ثم تحدث عن المسلة (وهي الوثيقة الهيروغليفية) التي اكتشفت في طيبة في معبد مأتمي مظلم لفرعون. ثم تحدث بعد ذلك عن الكتابات المقدسة لموت فرعون زمن الخروج.

ثم بعد ذلك تحدث عن إخضاع جثة (منفتاح) المحنط في المومياء الملكية في المتحف المصري في القاهرة للفحص العلمي الدقيق على يد العالم (إليوت سميث) سنة ١٩١٢ م وعلى يد المؤلف نفسه سنة ١٩٧٥ م الذي فحص أجزاء من جسد فرعون وأخذ له بعض الصور التي تؤكد صحة الكتابات المقدسة في القرآن الكريم.

ثم عقد مبحثا بعنوان : القرآن والعلم الحديث :

تكلم فيه عن القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وكونهما مصدرين للشريعة والعقيدة الإسلامية وعلاقتهما بالأمور العلمية الدنيوية مما زاد تأكيد أن

١٥٨

القرآن الكريم وحي مكتوب لا شك فيه معصوم من كل خطأ علمي ، بعكس الحديث النبوي الشريف فيها فقد يخطئ وقد يصيب عملا بقول محمد نفسه مما يؤكد على استقلالية القرآن ككلام لله سبحانه ، وأن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ صادق فيما نقله عن ربه عزوجل.

ثم ختم كتابه بخاتمة عامة :

أكد فيها أن الكتابات الموجودة في الغرب اليوم عن الكتب المقدسة الثلاثة : التوراة ، والإنجيل ، والقرآن ، لا تتناسب مع الواقع أبدا. مبينا فيها أن التوراة كانت عبارة عن مجموعة من الأعمال الأدبية تمت خلال تسعة قرون تقريبا تغيرت عناصرها في مجرى القرون بأيدي الناس فهي كفسيفساء لا انسجام فيها.

أما الأناجيل الأربعة فهي كلمات كاتبوه غير المعاصرين للمسيح عليه‌السلام ولا المشاهدين لأفعاله مما تناقلته الجماعات اليهودية والمسيحية المختلفة عن حياة عيسى العامة عليه‌السلام سواء كانت روايات شفوية أو مكتوبة ؛ لذا ظهر في كلا الكتابين تضادات وتناقضات بسبب ميول كل كاتب بعكس الوحي القرآني الذي نزل في عشرين عاما مما مكن للمسلمين من حفظه ثم تسجيله كتابة ومحمد على قيد الحياة ـ عليه الصلاة والسلام ـ وما تبع ذلك من تدقيق بإشراف الخليفة عثمان رضي الله عنه ـ مما جعله بعيدا عن التناقض في نصوصه ومتفقا تماما مع المعطيات العلمية الحديثة مما يستحيل على رجل كمحمد أن يكتبها من ذاته مما يجعل للقرآن أصالة فريدة بين الكتب السماوية الأخرى.

تقويم الكتاب :

هذا الكتاب بحق يعتبر كتاب العصر فهو يعتبر أفضل كتاب كتبه غربي عن الإسلام وأنصف فيه القرآن الكريم من غبن الغربيين له.

وهو كتاب دقيق في دراسته عن الكتب السماوية الثلاثة : التوراة والإنجيل والقرآن. وقد دل هذا الكتاب على رجاحة عقل الكاتب وعمق فكره ، ودل على صدق تحليله وموضوعيته وتجرده عن الهوى والدوافع الشخصية والحمية

١٥٩

الجاهلية التي تسيطر على أدمغة كتاب الغرب إذا كتبوا عن القرآن الكريم. وحقا فإن هذا الكتاب لا يستغني عنه أي طالب للحقيقة عن الكتب السماوية الثلاث ليعرف الدين الحق.

فالكاتب أكد في كتابه أن القرآن الكريم وحي من الله خالص وأن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هو رسول الله حقا وليس له فيه إلا مجرد النقل فهو الكتاب الفصل بالنسبة لكثير من المعتقدات الدينية.

كما أثبت المؤلف فيه أن القرآن الكريم في جميع ما ورد فيه من إشارات إلى قضايا علمية في كل المجالات الإنسانية والكونية كان متفقا مع معطيات العلم الحديث ، كما سبق إلى العديد من تلك الإشارات التي تقدم بها على العلم الذي لم يمكنه الاعتراض عليه اعتراضا مقبولا وكل ذلك مسند بأدلة ووثائق لا مجال معها للشك.

١٦٠

المبحث الحادي عشر

كتاب (مذاهب التفسير الإسلامي)

لمؤلفه (جولد تسيهر)

التعريف بالمؤلف :

«أجنتس جولد تسيهر» ولد سنة (١٨٥٠ م) بمدينة اشتول فيسنبرج في بلاد المجر من أسرة يهودية. قضى السنين الأولى من سنوات دراسته في بودابست ، ثم ذهب إلى برلين سنة (١٨٦٩ م) فظل بها سنة ، ثم انتقل بعدها إلى جامعة ليبتسك حيث حصل على الدكتوراة في الدراسات الشرقية سنة ١٨٧٠ م بإشراف فليشر. ثم عاد بعد إكمال دراسته إلى بودابست فعين فيها مدرسا مساعدا في جامعتها سنة ١٨٧٢ م.

ثم أرسلته وزارة المعارف المجرية في بعثة دراسية إلى الخارج فاشتغل طوال سنة في فيينا وفي ليدن ، وارتحل بعدها إلى الشرق سنة ١٨٧٣ م ، فأقام بالقاهرة مدة حضر فيها بعض الدروس في الأزهر ثم ذهب إلى سوريا وفلسطين التقى في هذه الرحلة بالشيخ طاهر الجزائري في سوريا ، واستمرت مدة مكوثه في الدول العربية قرابة عشر سنين مما جعله يبرز كأستاذ في الساميات ؛ فعلى إثر ذلك انتخب عضوا مراسلا للأكاديمية المجرية سنة ١٨٧١ م ، ثم عضوا عاملا ١٨٩٢ م ورئيسا لأحد أقسامها في سنة ١٩٠٧ م وخلال هذه المدة سنة ١٨٩٤ م عين أستاذا للغات السامية.

ومنذ ذلك الحين لا يكاد يغادر وطنه ، بل ولا مدينة بودابست إلا لكي يشترك في مؤتمرات المستشرقين ، أو لإلقاء محاضرات في الجامعات الأجنبية استجابة لدعوتها إياه. مات سنة ١٩٢١ م في مدينة بودابست.

١٦١

من أشهر مؤلفاته في القضايا الإسلامية :

١ ـ (الظاهرية مذهبهم وتاريخهم) ظهر سنة ١٨٨٤ :

والكتاب مقدمة في الفقه عامة وإن كان في ظاهره لدراسة هذا المذهب المندرس.

٢ ـ دراسات إسلامية ظهر الجزء الأول منه سنة ١٨٨٩ م والجزء الثاني في سنة ١٨٩٠ م :

والكتاب دراسات حول الحديث النبوي الشريف من حيث تاريخه وتطوره وقد تناول في الجزء الأول (علاقة الوثنية مع الإسلام) ثم تناول في قسم آخر من هذا الجزء (تاريخ تقديس الأولياء في الإسلام وطبيعة هذا التقديس).

٣ ـ محاضرات في الإسلام : وهو كتاب (العقيدة والشريعة) طبع في مدينة هيدلبرج ١٩١٠ م. وقد فند أخطاءه ورد عليه ردا مسهبا أستاذنا الشيخ محمد الغزالي.

٤ ـ اتجاهات تفسير القرآن عند المسلمين : طبع في مدينة ليدن ١٩٢٠ م. وهناك كثير من الكتب الأخرى والأبحاث صرفنا النظر عن ذكرها خوف الإطالة.

التعريف بالكتاب :

يقع هذا الكتاب في (٣٩٦) صفحة عدا الفهارس.

وقد ألف «جولد تسيهر» كتابه (المذاهب الإسلامية في التفسير) تلبية لطلب إحدى اللجان العاملة في حقل التنصير.

فقام بنقله للعربية د. علي حسن عبد القادر ولكن طبعته للكتاب جاءت غير تامة. مما حدا بالدكتور عبد الحليم النجار بترجمة الكتاب كاملا وتعليقه على بعض القضايا الواردة في الكتاب وجاءت مختصرة وغير مستوفاة. وقد طبع الكتاب عدة طبعات وكانت آخرها طبعة دار اقرأ سنة ١٤٠٣ ه‍.

١٦٢

محتوى الكتاب :

قسم المؤلف كتابه إلى ستة فصول :

الفصل الأول :

وعنوانه : (المرحلة الأولى في التفسير):

تحدث المؤلف في هذا الفصل عن تاريخ تكون النص القرآني وعما فيه من اختلاف في القراءات ، وعن الأسباب التي ترجع لها هذه الاختلافات.

وقد وقع المؤلف في أخطاء كثيرة في هذا الفصل دعت الشيخ «عبد الفتاح القاضي» ليتتبع ما يتعلق بالقراءات من شبهات أثارها المؤلف ورد عليها بكتابه (القراءات في نظر المستشرقين).

وكذلك فقد رد على جولد تسيهر أكثر من عالم مختص بالقراءات فيما وقع فيه من أخطاء.

الفصل الثاني :

وعنوانه : (التفسير بالمأثور):

تحدث في هذا الفصل عن التفسير بالمأثور ورجاله وكتبه مركزا على دخول الإسرائيليات لهذا اللون من التفسير ، ومركزا كذلك على تحرج بعض الصحابة من تفسيرهم لكتاب الله سبحانه وقد كان يلقي شكوكا حول رجالات هذا النوع من التفسير كابن عباس ، ومجاهد بن جبر ، وعلي بن أبي طلحة مصورا تناقضهم في الآية الواحدة على أكثر من قول وقد ركز في بحثه على ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وحاول النيل من قدرته اللغوية ، ثم تناول تفسير الطبري وحاول زعزعة الثقة به زاعما أنه حوى المتناقض من الآراء في الآية الواحدة ، كما ذكر أنه مكثر في الأخذ من الإسرائيليات ..

١٦٣

الفصل الثالث :

وعنوانه : (التفسير في ضوء العقيدة «مذهب أهل الرأي»):

ناقش المؤلف في هذا الفصل مشروعية هذا النوع من التفسير وتوقف بعض الصحابة والتابعين من القول في القرآن بآرائهم.

وقد ركز في هذا الفصل على المعتزلة مادحا لهم في أنهم يمثلون أصحاب الفكر الحر ، والاتجاه العقلاني المحمود في التفسير ـ في رأيه ـ واعتبر نواة هذا اللون من التفسير ظهر على لسان مجاهد بن جبر من التابعين ونقلها في تفسيره الإمام الطبري. ثم تناول بعض كتب المعتزلة مثل كتاب الغرر والدرر «أمالي المرتضى» وكتاب (الكشاف) للإمام الزمخشري ، مركزا على مذهبه الاعتزالي وتسخير تفسيره له ، ثم ذكر تعقبات ابن المنير وغيره له.

ثم ذكر موقف المعتزلة من القضايا العقدية واعتبارهم العقل معيار الحقائق الدينية ؛ مما دعاهم لرد بعض الغيبيات كعدم إيمانهم بالسحر والكهانة والجن وكرامات الأولياء ، وتأويلهم آيات الصفات.

وقد ربط بين مذهبهم ومذهب بعض الفرق المسيحية في العقيدة.

الفصل الرابع :

وعنوانه : (التفسير في ضوء التصوف):

تناول في هذا الفصل الصوفيين وبعض الفلاسفة وموقفهم من تفسير القرآن الكريم.

ركز في هذا الفصل على تفسير الصوفية والفلاسفة للقرآن الكريم عن طريق التأويل والرمز وبجعل الآيات لها ظاهرا وباطنا.

وكان تناوله في هذا الفصل منصبا على غلاة الصوفية ومذاهبهم الإلحادية كابن عربي ، والحلاج ، وغيرهم وبعض الفلاسفة كإخوان الصفا وابن سينا ، رابطا بينهم وبين تعاليم أفلاطون اليوناني وبين تعاليم فيلون من اليهود.

١٦٤

وأهم القضايا التي ناقشها في هذا الفصل :

١ ـ تفسير القرآن تفسيرا إشاريا.

٢ ـ موقف الغزالي من هذا اللون من التفسير.

٣ ـ تأويلهم بعض العبادات وبعض الآيات القرآنية وبعض القصص كقصة الفيل لتوافق هذا اللون من التفسير.

٤ ـ ربطهم بين الحروف والأعداد على منهج الباطنية والبابية فيها.

٥ ـ تعرضه لمذاهبهم المنحرفة كالجلال والجمال الإلهيين اللذين دعواهم لمذهب الفناء والحلول والاتحاد والعشق الإلهي الذي يقولون به.

الفصل الخامس :

وعنوانه : (التفسير في ضوء الفرق الدينية):

تناول المؤلف في هذا الفصل مذهب الشيعة والخوارج من تفسير القرآن الكريم ؛ فأهم القضايا التي عرضها في هذا الفصل ما يلي :

١ ـ محاولة تصويب كل طائفة عقائدها وتفاسيرها من القرآن الكريم. ومتعرضا للخلاف بينهم وبين أهل السنة.

٢ ـ قدح الشيعة في سلامة النص العثماني للقرآن الكريم كاتهام النص بالنقصان ، ومحاولة شيعة بغداد سنة ٣٩٨ ه‍ نشر نص للقرآن الكريم خاص بهم حيث تم حرقه.

٣ ـ ترتيب القرآن ترتيبا زمنيا من قبل الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ وعقبة بن عامر ترتيبا يخالف ترتيب المصحف العثماني.

٤ ـ محاولة إثبات وجود نسخ من مصاحف خاصة ببعض الصحابة ، في أماكن متعددة مع إثبات مخالفتها للنص العثماني.

١٦٥

٥ ـ تعرض لمنهج الشيعة في التفسير واعتبارهم : تفسير الأئمة من آل البيت أرفع مصادر التفسير.

ضرورة انتهاء أسانيد التفسير عندهم إلى واحد من أهل البيت أو أحد الأئمة.

ابتداعهم قراءات قرآنية خاصة بهم لتوافق مذهبهم.

اختلاق آيات موافقة لمذهبهم ووضعها في بعض السور. وادعاء وجود سور خاصة بهم غير سور القرآن الحالية.

حملهم بعض صفات الذم وبعض المبهمات في القرآن على بعض الصحابة للتشنيع عليهم مثل : تفسيرهم المغضوب عليهم والضالين في سورة الفاتحة بالأمويين.

استخدامهم أسلوب الرمز والكناية وحمله على بعض الصحابة.

تأويلهم الآيات القرآنية لخدمة مذهبهم وعقائدهم.

كون الشيعة محضن بعض الفرق المغالية كالإسماعيلية ، ولبعض الفرق الباطنية المنحرفة كالبابية وغيرها.

أما بالنسبة للخوارج فكانت وقفته معهم في قضايا محدودة منها :

ـ نشأتهم. ـ الإشارة إليهم في القرآن.

ـ محاولة إيجاد إشارات قرآنية تصوب أفعالهم وحربهم للإمام علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وتصويب قتله على يد ابن ملجم وتبرر خروجهم بعد ذلك من بين المسلمين كفرقة مستقلة.

وكان جل غاية «جولد تسيهر» أن يثبت أن القرآن مضطرب وهو ما زعمه في أول كتابه. فيه خلل تنسيقي وتجميعي للنصوص من عند أهل الإسلام أنفسهم وكذلك محاولة برهنته أن التفسير في المرحلة الأولى خاصة وضع كعمل مذهبي يخدم صالح الفرق والطوائف الإسلامية المختلفة.

١٦٦

الفصل السادس :

وعنوانه : (التفسير في ضوء التمدن الإسلامي):

ركز المؤلف هذا الفصل على الإجابة على سؤال طرحه وهو :

هل الإسلام وحياة الحضارة في التمدن الحديث ضدان على طرفي نقيض غير قابلين لتسوية أو توفيق؟

فذكر أن خير من يمثل الإجابة عن سؤاله فئتان :

الأولى : نشأت في الهند بقيادة مؤسسها سيد أمير علي ، وأحمد خان بهادر.

والثانية : نشأت في مصر وهي بقيادة الشيخ جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده.

وقد سمى «جولد تسيهر» أصحاب هذا الاتجاه (بالمعتزلة المحدثين).

وأهم القضايا التي ناقشها «جولد تسيهر» في هذا الفصل ما يلي :

أ ـ عرض لأفكار المدرسة الهندية المتلخصة فيما يلي :

١ ـ أن الإسلام يشجع الحضارة بشرط التحرر في فهمه وترك الجمود.

٢ ـ أحكام المعاملات عندهم ليست خالدة بل يراعى فيها الزمن.

٣ ـ عدم أخذهم بالحديث النبوي الشريف.

٤ ـ إنكارهم لحجية الإجماع.

٥ ـ إخراج هذه الطائفة (الهندية) القرآن مترجما للإنجليزية على الترتيب الزمني.

٦ ـ تأليف أحمد خان بهادر تفسيرا للقرآن اتجه فيه لإثبات النسخ.

ب ـ أما أهم القضايا التى عرضها في المدرسة المصرية :

١٦٧

١ ـ حاول «جولد تسيهر» أن يوازن ويقارن بينها وبين المدرسة الهندية.

٢ ـ نشاط كل من الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده السياسي والديني ومتعرضا لأهم أفكارهم التي تبنوها ودافعوا عنها والتي منها :

أ ـ أن الإسلام دين عالمي صالح لجميع الشعوب والأزمان وملابسات الحضارة.

ب ـ أن الإسلام لا ينافي المدنية الحديثة إلا في بعض المسائل كالربا.

ج ـ انحطاط المسلمين في نظر أصحاب هذه المدرسة عائد لجمودهم على المذاهب الأربعة. لذا فيجب عندهم الرجوع للكتاب والسنة مباشرة ولعمل السابقين من المسلمين فحاربوا التقليد وفتحوا باب الاجتهاد.

ـ محاربتهم للبدع والخرافات وتقديس الأولياء مما جعلهم قريبي النهج من المذهب الوهابي ـ حسب تعبيره ـ.

ـ تأثرهم بكتب ابن تيمية وابن القيم ، وبالغزالي في بعض النواحي.

د ـ دعوتهم لفكرة المؤتمر الإسلامي.

ه ـ مقاومتهم لحملات المنصرين المسيحيين.

و ـ ثم تناول بعد ذلك لمنهج الشيخ محمد عبده في تفسير القرآن منها :

١ ـ مراعاة الفواصل في القرآن لا تجيز عنده تقديم ما حقه التأخير.

٢ ـ القرآن لا يحتوي على ما يعارض العلم.

٣ ـ بيان سنن العمران الثابتة في القرآن.

٤ ـ علاقة القرآن بعلم الطبيعيات ، وعلوم الكون ، والفنون وعلوم الصناعات.

٥ ـ تسخير الآراء الأوربية لخدمة منهجه في التفسير.

١٦٨

٦ ـ تأويلهم بعض الآيات خلاف الفهم الإسلامي كتفسير الجن بالميكروبات.

٣ ـ ثم ذكر المؤلف موقف هذه المدرسة من بعض القضايا الإسلامية :

كتعدد الزوجات ، المساواة الأدبية بين الرجل والمرأة ، الإسلام الحقيقي دين العقل.

ولخطورة هذا الكتاب وما حوته فصوله من مادة فقد وقفت معه طويلا في الباب الأخير من الرسالة باب التفسير ووقفت معه كذلك وقفات في موقفه من القراءات القرآنية وغيرها من المواطن التي يرجع إليها في مواطنها من الرسالة.

١٦٩

المبحث الثاني عشر

كتاب المصادر وطرق لتفسير الكتاب المقدس

لمؤلفه (ج. فانسبرف)

التعريف بالمؤلف :

لم أجد له ترجمة.

التعريف بالكتاب :

هذا الكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات تدور حول مصادر التفسير للقرآن الكريم وأنواعه وطرقه ، وقد تطرق المؤلف في الكتاب لثلاث قضايا أساسية هي : النص القرآني ـ النبوة ـ اللغة العربية.

وموضوع الكتاب الأساسي تطور التفسير القرآني ، وقد وضع المؤلف عناوين فصوله التي هي ألوان من التفسير عند المسلمين بأسماء يهودية كتسمية التفسير القصصي بالتفسير الهاجادي .. إلخ.

وقد جاء الكتاب في مقدمة وخمسة فصول. وقد ألف هذا الكتاب من ضمن سلسلة الدراسات الشرقية في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن التي أوفدت المؤلف في إجازة علمية لاسطنبول لتأليف هذا الكتاب الذي جاء بعنوان دراسات قرآنية والذي وضعت مسوداته سنة ١٩٧٢ م. وقد تحملت الجامعة نفقات نشره. وقامت على طباعته دار جامعة أكسفورد للطباعة والنشر ، وقرأه وعلق عليه «سيمون هو بكنز» أحد طلاب المؤلف.

١٧٠

وقد جاءت فصول الكتاب على الإيجاز كما يلي :

الفصل الأول :

وعنوانه : (التنزيل) :

أ ـ الوثيقة.

ب ـ تركيبها.

الفصل الثاني :

وعنوانه : (رمز استشارات النبوة).

الفصل الثالث :

وعنوانه : (أصول اللغة العربية الكلاسيكية).

الفصل الرابع :

وعنوانه : (مبادئ التفسير ـ ألوانه).

الفصل الخامس :

وعنوانه : (المجاز والاستعارة والبيان).

ثم ختمه بقائمة فهارس لتخدم الكتاب.

مقدمة الكتاب :

ذكر المؤلف في مقدمته أن الكتاب عبارة عن مجموعة مقالات ثم ذكر أن الاختلاف في كون القرآن كتابا مقدسا أمر لا مبرر له. واعتبره وثيقة للوحي قابلة للتحليل بواسطة الأدوات والأساليب المستخدمة في نقد الكتب السماوية.

ولكنه ذكر أن الذي منع من ذلك الصعوبات العقائدية. وأنماط الكتابة القديمة. ولكن مع هذا فهو سيقوم بدراسته مبتدئا بجانب العقيدة وأنه سيدرس موضوع التوحيد الإسلامي من خلال تقسيم ثلاثي لمكوناته الأساسية.

١٧١

١ ـ الوثيقة (النص القرآني).

٢ ـ النبوة.

٣ ـ اللغة الدينية.

والمؤلف كان يأمل أن تكون هذه الدراسة مدخلا لدراسته لمادة (تطور التفسير القرآني).

وقد تحدث المؤلف في هذا الفصل عن دور البيئة في التأثير على نشوء الديانات الكبرى الثلاث : اليهودية ، والنصرانية ، والإسلام. ودور هذه الوثيقة في إبراز مجتمع ديني ثم ذكر الوظائف العامة للكتاب المقدس وقسمها إلى أربعة وظائف مرتبة حسب الأهمية وحسب الترتيب الزمني في الظهور.

١ ـ وظائف جدلية.

٢ ـ وظائف مرتبطة بالطقوس.

٣ ـ وظائف تعليمية تهذيبية.

٤ ـ وظائف تشريعية.

ثم ذكر أنواع التفسير التي طرقها وربط أسماءها بمسميات يهودية مثل :

١ ـ التفسير الهاجادي (القصصي).

٢ ـ التفسير الهالاخيكي (الموضوعي).

٣ ـ التفسير المازورتيكي (اللغوي).

ثم ذكر بعد ذلك الجهة التي أوفدته لتركيا للقيام بهذا المؤلف وهي مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. وقد تحملت عنه كامل نفقاته ونفقات نشره ، ثم ذكر من علق عليه.

١٧٢

الفصل الأول :

وعنوانه : (التنزيل):

المبحث الأول : الوثيقة :

تحدث في هذا المبحث عن أول نشأة وثيقة التنزيل بانفصالها عن الكلام النبوي واستقلالها وأخذها شكل الشرعية معتمدا في تجميعها على مجموعة مصاحف الصحابة التي كانت كأشكال من المخطوطات التي جمع منها النص القرآني. ثم ذكر دور عنصر التجميع والمواءمة في جعل النص متماسكا تارة وغير مترابط تارة أخرى خاصة في جانب القصص. ومثل على ذلك بسورة يوسف ـ عليه‌السلام ـ التي وصفها بأنها غير واضحة ، والتي يلمع فيها بين فترة وأخرى إضافة بعض الروايات لإظهارها بشكل أكثر تماسكا وهي نظرية التكميلات البديلة عند «بل» وقد ذكر أن ألوان التفسير المختلفة هي التي كانت تغطي على هذا الخلل ثم ذكر بعض الأفكار التي كانت تعالجها الآيات القرآنية واختلافها عن الأفكار في المادة القصصية ، ثم مثل على ذلك بعدة أمثلة كقصة سليمان ـ عليه‌السلام ـ وفكرة الثواب والعقاب .. إلخ ومحاولة ربطها ببعض المصادر غير الإسلامية.

ثم تحدث عن مصادر بعض النصوص القرآنية وأنها مستمدة من النصوص التوراتية الإنجيلية كاستخدام لفظ عاد ، إبراهيم ، ثمود ، أو من مصدر وثني كاستخدام أيام العرب. كما أجهد المؤلف نفسه بإثبات التحريف في القرآن الكريم ومعتبرا مادة التفسير نمطا من أنماط الأدب العربي ، وأنه معدل من مواد الأدب العربي وانعكاس لبعض أساليب كانت معروفة في عصره كأسلوب الكهان مثلا ، ثم تناول الاختلاف الحاصل في النص القرآني نتيجة القراءات القرآنية وأن فيه لغات غير عربية ثم حاول إثبات أن القرآن محاكاة لغيره من الكتب في اللغة وغير ذلك.

ثم زعم المؤلف أن الإنجيل أفضل من القرآن من ناحية النحو والصرف إلى غير ذلك من الافتراءات.

١٧٣

المبحث الثاني : تركيب التنزيل أو نظمه :

ذكر المؤلف في هذا المبحث أن القرآن عبارة عن نمط من الأنماط الأدبية المستقرة. وبالمقارنة بينه وبين التوراة نجد نوعا من المحاكاة لكنها لا تؤدي في النهاية إلى توافق تام ثم ذكر نزول القرآن على مرحلتين :

المرحلة الأولى : إلى السماء الدنيا.

المرحلة الثانية : إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

ثم ذكر أغراض المرحلة الثانية وتتلخص في :

١ ـ الدلالة على كون محمد نبيا.

٢ ـ احتواء القرآن على ناسخ ومنسوخ.

٣ ـ تحول العرب من الوثنية للإسلام هو الذي أدى إلى نزول القرآن حسب الحاجة والظروف.

وبعد هذا توصل أن القرآن كان بتأليف رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم حاول التشكيك في سلامة النص القرآني وذلك لعدم الترابط بين فقراته ، وكثرة ما فيه من التكرار وزعم المؤلف أن المجاز في القرآن طراز بدائي وأن سبب أسلوبه البياني البلاغي بسبب التأليف والتركيب الشفاهي للنص وأن الأسلوب القرآني استخدم كثيرا الأساليب التي كانت موجودة في بيئته كالاستعارة ، ولغة الشعر التقليدية.

وقد هاجم المؤلف عثمان ـ رضي الله عنه ـ لحرقه مصاحف الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ.

الفصل الثاني :

وعنوانه : (رموز وإشارات النبوة):

تحدث المؤلف في هذا الفصل عن عالمية الدعوة الإسلامية ، واحتواء القرآن للغات أخرى ، ثم تحدث بعد ذلك عما سبق مقدمات الوحي الرؤيا الصادقة ثم

١٧٤

أسهب بعد ذلك في الحديث عن الإعجاز القرآني وبعض المذاهب فيه كقولهم :

١ ـ إن إعجاز القرآن كان بصرف الناس عن الإتيان بمثله وإن الإعجاز كان بما حواه من أخبار عن الغيب.

٢ ـ وإن الإعجاز كان بما امتاز به نظمه من براعة التأليف وحسن النظم ، وبراعة شكله اللغوي.

كما ذكر أن بعضهم حاول تقويم الكتاب من الناحية الأخلاقية وإظهار تميز هذا الجانب على الجانب الجمالي السابق الذكر.

ثم عقد فصلا قارن فيه بين الإعجاز في القرآن الكريم وبين الكتب المقدسة السابقة.

الفصل الثالث :

وعنوانه : (أصول اللغة العربية الكلاسيكية):

عقد هذا الفصل عن اللغة العربية التي تكونت منها مادة القرآن الكريم ، وما زودت به هذه اللغة القرآن من استعارات وتمثيل ومجاز وتشبيهات ، وتنوع في الأساليب ، وفي الإيقاعات الشعرية التي كانت موجودة مما جعل القرآن الكريم يرقى إلى حد أعجز الخلق عن الإتيان بمثله.

وقد اعتبر «فانسبرف» اللغة العربية لغة مقدسة لاستخدامها لخدمة التنزيل (خاصة) والإسلام عموما.

الفصل الرابع :

وعنوانه : (مبادئ التفسير):

تحدث المؤلف في هذا الفصل عن الإسلام ، وصلته بالقرآن ، والنبي ، واللغة المقدسة كعوامل ارتبط بها خلال فترة نموه وتطوره.

ثم تحدث عن أنواع التفسير وتطورها في خلال عدة مراحل ووضع لدراسته

١٧٥

معايير خاصة به مراعيا في ذلك أسلوب كل تفسير ووظيفته مما أدى لظهور ألوان من التفسير منها :

١ ـ التفسير الهاجادي (القصصي التلمودي).

٢ ـ التفسير الهالاخيكي (الموضوعي).

٣ ـ التفسير المازورتيكي (اللغوي).

٤ ـ التفسير البياني البلاغي.

٥ ـ التفسير المجازي الاستعاري.

ثم ذكر أن هذه الأنواع تتداخل وأن الأربعة الأولى منها يمكن أن ترتب زمنيا وأن كثيرا من هذه الأنواع دخلها الانتخاب والاختيار والتنظيم لوجود الروايات التفسيرية المختلفة المتعارضة.

وقد وضع لدراسته هذه نقاطا راعاها في هذه الأنواع التفسيرية منها :

١ ـ القراءات المختلفة.

٢ ـ الشعر.

٣ ـ التفسير على أساس المفردات.

٤ ـ التفسير على أساس النحو والصرف.

٥ ـ التفسير البياني.

٦ ـ الإسهاب أو الإطناب.

٧ ـ قياس التمثيل أو التشابه الجزئي.

٨ ـ النسخ.

٩ ـ الظروف الخاصة بالتنزيل.

١٠ ـ المماثلة أو المطابقة.

١١ ـ الحديث النبوي.

١٢ ـ الحكاية النادرة.

١٧٦

ثم بعد ذلك تحدث عن ألوان التفسير التي سبق ذكرها. فابتدأ بالحديث عن :

١ ـ التفسير التلمودي (القصصي):

فذكر أن بداية نشأته كان على يد التابعي «مقاتل بن سليمان» وأنه غلب عليه الموضوعية ولكنه اعتنى كذلك بالتفسير القصصي وضرب على ذلك ذكره لقصة قريش وطرحها الأسئلة الثلاثة على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لتعجيزه واختبار صدقه. ولا شك أن هذه القصة عليها طابع الروايات الإسرائيلية حيث هي صادرة عن اليهود ، ثم ذكر أن مقاتلا ـ رحمه‌الله ـ من هذه القصة اعتنى بما يلي :

١ ـ بأسباب النزول.

٢ ـ توضيحه المعاني من اللغة.

٣ ـ اهتمامه بالتفسير الموضوعي.

٤ ـ طرح أسئلة متوقعة والإجابة عليها.

٥ ـ التكرار.

٦ ـ عدم وجود أدوات الربط.

٧ ـ توجيه الحوار.

٨ ـ تكراره لوحدات معينة صغرى كان يحدد توزيعها حسب طبيعة النص القرآني لكنها يمكن أن تعتبر شيئا ثابتا في البنية الشاملة للنص وهذه العبارات كانت تعتبر ركيزة للتفسير الهاجادي ، والتفسير الموضوعي اللغوي.

٢ ـ التفسير التأويلي ناقشه تحت عنوان (الحاجة إلى التفسير)

وأهم ما جاء فيه ما يلي :

قال المؤلف : [ظهرت الحاجة إلى الطريقة الهامشية في عمل المفسرين الهاجاديين وقد وصفها «فيرس» بأنها التفسير التطبيقي (الخالص) إلا أن المؤلف ركز على أن المصطلحات التفسيرية مرتبطة بالروايات اليهودية وكذلك الحروف المقطعة في أوائل السور مأخوذة من سفر الرؤيا ، وأن النقد البلاغي البياني الذي

١٧٧

ظهر في نهاية القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) كان مأخوذا من الأدب الوثني. وأن تفسير القرآن بظاهر وباطن كان تبعا لتفسير التوراة. وذكر أن نقطة الانطلاق لجميع أنواع التفسير كان من علومه الثلاثة المحكم ، والمتشابه ، والمنسوخ المذكور في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)(١) وأن هذه الأنواع موجودة في اليهودية].

ثم تحدث بعد ذلك لدراسة الفرق بين التفسير والتأويل وأن أهم ما يفرق بينهما أن التفسير يعتمد الرواية أما التأويل فلا يعتمدها.

وقد ذكر في هذا الفصل أنه مما يلاحظ على أسلوب التفسير الهاجادي :

١ ـ التفسيرات المباشرة.

٢ ـ عدم الإسناد.

ثم ناقش مجموعة من الكتب وأسلوب أصحابها فيها أمثال :

١ ـ رسالة في الفصاحة لابن المقفع.

٢ ـ رسالة في القدر وهي تنسب للحسن البصري.

٣ ـ رسالة لمقاتل ذكرها أبو الحسن الملطي في كتابه (التنبيه والرد).

٣ ـ التفسير الهالاخيكي (الموضوعي):

اعتنى هذا النوع من التفسير بتتبع فكرة معينة ، أو موضوع معين فيستطرد في ذلك ومثل على ذلك بتتبع «مقاتل بن سليمان» لموضوع الجهاد في حوالي (٥٠٠) آية. وقد ذكر أن هذا القسم يتألف من (١٨) فقرة تحتوي على (٢٩) آية عالج فيها ستة أفكار رئيسية :

١ ـ الغرض الإلهي الذي من أجله أوجب القتال مثل سورة (٢) آية (٢١٦).

__________________

(١) سورة آل عمران (٧).

١٧٨

٢ ـ الثواب نتيجة للقتال في سبيل الله ٦١ : ٤.

٣ ـ الوفاء بعهد الله ٩ : ١١١.

٤ ـ الاستشهاد وجزاؤه ٢ : ١٥٤.

٥ ـ التأييد الإلهي ضد العدو ٨ : ١٥ ـ ١٦.

٦ ـ توزيع الغنائم ٨ : ٤١.

ولكن مناقشة «مقاتل» للموضوع كانت غير منهجية وطريقته غير مكتملة وذلك لخدمة بعض الأمور المهمة كبعض المسائل التشريعية المرتبطة بموضوع الجهاد مثل : الأمان ، والالتزام بالعهود وقد ناقش مقاتل في ثنايا هذا الموضوع موضوعات أخرى كالصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والعمرة ، والمظالم ، وغير ذلك.

٤ ـ التفسير المازورتيكي (اللغوي):

عرف المازورة باللغة القرآنية أو المفردة القرآنية وهي أحد مكونات التفسير اللغوي. عالج المؤلف هذا اللون من التفسير من خلال ثلاثة عناصر :

١ ـ التفسير اللفظي المعجمي.

٢ ـ التحليل النحوي الصرفي.

٣ ـ ومن خلال عدد من القراءات المختلفة والمتفق عليها ، وذكر أن تفصيل ذلك كان يتطلب أداتين تفسيريتين هما :

١ ـ القياس النصي.

٢ ـ الإسهاب والإطناب والشرح إلى جانب تقديم الشواهد والأدلة من الشعر العربي.

ثم ذكر بعض الحروف الزوائد على المصحف العثماني مثل كلمة (صالحة) في سورة الكهف في قوله تعالى : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ

١٧٩

[صالحة](غَصْباً)(١) ونسبها لأبي بن كعب ؛ لإثبات وجود مصاحف مخالفة للنسخة العثمانية وتشير إلى التطور التاريخي لأدب المصاحف. وقد أشار إلى أن بعضهم اعتبرها شرحا تفسيريا فحسب ، أو قراءة شاذة ثم استطرد بعدها في الحديث عن أنواع القراءات (متواتر ، مشهور ، آحاد ، شاذ) وعلى عددها (سبع ، عشر ، أربع عشرة).

ثم تحدث عن المتشابهات وظهورها نتيجة هذا اللون من التفسير وذلك بتحديد وتعيين المعاني المتجانسة والمتعددة والمترادفة.

وذكر موقف الكسائي منها واعتبر مقارنة المتشابهات تعكس مقدار إدراك المازوريتيين ، وضرب على ذلك بعض الأمثلة.

كما أنه ذكر أن أحدث محاولة لتحليل المعجم اللغوي للكتاب المقدس للمسلمين تستند إلى دراسات خاصة بتطور الألفاظ كما حاول المؤلف أن يشكك في مسائل : «نافع بن الأزرق» التي كانت تمثل شروحات معجمية ـ كما سماها المؤلف ـ ثم تحدث عن أهمية الشعر لتغذية هذا اللون من التفسير ، ثم نقل أمر التعريب الذي تواردت عليه اللغات أو نقل للعربية من غيرها ذاكرا كتاب (اللغات في القرآن) المنسوب لابن عباس.

كما ذكر اهتمام السلف بتعريب القرآن ثم تحدث عن الانتقال من الحصيلة التقليدية إلى طريقة منهجية جذرية على يد السجستاني وابن قتيبة. ثم ذكر أن الأكثر أهمية بالنسبة للمازورة القرآنية من القراءات المختلفة والشرح المعجمي التحليلي النحوي الصرفي ، والتحليل النبوي اللذين يمثلهما المبدأ التفسيري حول التقدير (المجاز) ثم ذكر من اهتم بالمجاز كأبي عبيدة في كتابه (مجاز القرآن).

ثم ساق بعض الأمثلة على المجاز متعرضا لموضوع سلامة القرآن من النقص وأن «أبا عبيدة» كان له إسهام طيب في إظهار عدم الاضطراب في النص في

__________________

(١) سورة الكهف (٧٩).

١٨٠

بيان سبب بناء الجمل على هذه الشاكلة ، وتفسير مواضع الحذف واستخدام أسلوب الدوران حول المعنى (المجاز).

وقد ذكر المؤلف أن هذا العلم استفاد كثيرا من القراءات المختلفة كتفسيرات النصوص.

ثم ذكر المؤلف بعد ذلك عناصر التفسير المازوريتي :

١ ـ القراءات المختلفة.

٢ ـ الشرح المعجمي والنحوي الصرفي.

٣ ـ التناظر.

٤ ـ الدوران حول المعنى.

٥ ـ الشواهد الشعرية.

واعتبر أن ما زاد عن هذه العناصر تعتبر عناصر توثيقية لا غير. ثم ذكر الموضوعات التي يعالجها التفسير المازوريتي مثل :

البنية ، الصرف ، الزمن ، الوصل والعدد ، والتخصيص والتعيين.

كما ذكر الغرض الأساسي في القياس المازوريتي أنه الإصرار على وحدة مفهوم التنزيل الأساسي فكان نمطا استنتاجيا يرتكز على عمليتين :

١ ـ المقارنة المعجمية بين النصوص والمحافظة الإطنابية (نحوية أو صرفية) ، واعتمادها على الإسناد.

وقد ذكر أن استخدام (المازوريتية) أحيانا لم يكن صريحا ، ومثاله : إشارة البيضاوي للروايات عن زكريا ـ عليه‌السلام ـ في شرح الآية (ثَلاثَ لَيالٍ) إلى العبارة المكملة «ثلاثة أيام» و «أن ذكر الليالي هنا والأيام في آل عمران للدلالة على أنه استمر عليه المنع من كلام الناس والتجرد للذكر والشكر ثلاثة أيام ولياليهن.

١٨١

ومراعاة القياس المازوريتي يؤكد وحدة مفهوم التنزيل القرآني وهذا القياس يتركز في عمليتين :

أ ـ بالمقارنة المعجمية بين النصوص.

ب ـ المحافظة الإطنابية (نحوية وصرفية).

ومثل على هذا بكتاب (الوجوه والنظائر) أو الاسم البديل له كتاب (تفسير وجوه القرآن) مقاتل بن سليمان كما أنه اعتبر تفسير مقاتل تفسيرا لغويا.

ونقل بعض الأمثلة من علم الوجوه والنظائر ككلمة وحي وأنها على خمس معان وهي:

١ ـ القرآن.

٢ ـ الإلهام.

٣ ـ الكتاب.

٤ ـ أمر.

٥ ـ القول.

وهو ما يسمى علم الوجوه والنظائر ومثل لهذا النوع بتفسير مقاتل الذي يسميه (تفسير وجوه القرآن). وذكر أن أسلوب مقاتل كان يظهر تناقضا بين القرآن والسنة المطهرة. ثم تحدث عن موقف الإمام الشافعي من هذا النوع من التفسير ثم تحدث بعد ذلك عن نزول القرآن الكريم إما ابتداء وهو ما سماه خبر النزول أو عقب حادثة وهو ما سماه سبب النزول مرجحا أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.

ثم تعرض في هذا الفصل لأسلوب كل من الإمام البخاري ومسلم والترمذي مرجحا الأسلوب الهاجادي على تفسيراتهم.

ثم تعرض لعلم النسخ وموقف اليهود منه ومثل لهذا العلم بمجموعة من كتب النسخ ككتاب هبة الله بن سلامة ، وكتاب النحاس ، وكتاب أبي عبيد ، وكتاب عبد القادر البغدادي.

ثم ذكر موقف بعض الغربيين من النسخ أمثال «بيرتون» الذي ذكر أن أنواع النسخ تحوي أفكارا متناقضة والتي كانت فيما بعد أساسا لتكوين القانون الإسلامي.

١٨٢

الفصل الخامس :

وعنوانه : (المجاز والاستعارة والبيان):

بين المؤلف في هذا الفصل الغرض من وجودها في التفسير حيث ذكر أن وجود الاستعارة في لغة القرآن الكريم كان تعبيرا عن الورع والتقوى بنفس القدر الذي تعبر فيه عن التقدير الجمالي وكانت الصورة الأولية لهذا الورع والتقوى هي حذف المجاز الذي يتضمن نسبة الصفات البشرية لله سبحانه بواسطة المفسر. ثم ذكر بعض من اعتنى بالمجاز «كالشريف المرتضى» (ت ٤٣٦ ه‍ / ١٠٤٤ م) في أماليه (مجاله) حيث حاول في كتابه إظهار الأهلية الخاصة للغة العربية ، والمجاز أسلوب عربي مبني على حب الاختصار وطرح فضول الكلام ومثال ذلك قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١) ، وقد ذكر أن ممن دافع عن وجود المجاز في القرآن الكريم ابن قتيبة ـ رحمه‌الله ـ وكانت دراسته نقلا للمجاز من أسلوب تفسيري لأسلوب قرآني جمالي.

وممن عالج هذا الجانب كذلك الفراء ، أبو عبيد ، وعبد القاهر الجرجاني تحت عناوين مختلفة مثل الاستعارة ـ القلب ـ الحذف ـ التكرار ـ والحشو ـ والكناية المرسلة ، وغيرها ومثل على ذلك.

وقد اعتبر المؤلف أن هذه الأشياء ساهمت في تطوير التفسير البياني. ثم ذكر بعد ذلك ثلاثة عناصر اعتنى بها التحليل البياني وهي تنتمي إليه.

١ ـ اللعن كمنطوق إلهي وصرفها كمسألة فرضية تصويرية.

٢ ـ مسائل بيانية مثل التقرير ، والتعجب ، والتوبيخ.

٣ ـ أوامر منعية كالتهديد ، والتعذيب ، والإباحة.

ثم ذكر أن هذه الأغراض نتج عنها وجوه إعجازية قرآنية بديعة والتي تبناها

__________________

(١) سورة يوسف : ٨٢.

١٨٣

الجرجاني ، والباقلاني وبعض الكلاميين والمنظرين من المتأخرين أمثال ابن أبي الأصبع (ت ٦٥٤ ه‍) ، والخطيب القزويني والجاحظ وابن المعتز وغيرهم.

والمؤلف قد اعتبر مصدر كل هذه الألوان البيانية الأدب الوثني ـ حسب تسميته ـ.

ثم ختم المؤلف الفصل بربط هذه المعاني بالرمزية في التفسير عند أهل الفرق الباطنية كالمعتزلة والشيعة وغلاة المتصوفة وغيرهم ممن نهج هذا النهج.

تقويم الكتاب :

يعتبر الكتاب جديدا في بحثه وأسلوبه وخاصة أنه تناول عدة كتب بعضها ما زال مخطوطا ولكن مما يلحظ على الكتاب :

١ ـ محاولة صبغ بعض ألوان التفسير التي تناولها بالصبغة اليهودية وبعضها بالصبغة الوثنية ، حتى إنه غير بعض الأسماء وأطلق عليها أسماء يهودية وعمل جهده لإثبات هذه الصبغة ـ كتسمية التفسير القصصي بالهاجادي والتفسير الموضوعي بالهالاخيكي ، والتفسير اللغوي بالمازوريتي .. إلخ.

٢ ـ محاولته إثبات عدم سلامة النص القرآني وتناقضه بما عرضه في القراءات الشاذة وغيرها. إلى غير ذلك من الشبه التي كان من الواجب أن يتحراها أمثال هذا المؤلف الذي خط لنفسه منهجا علميا ـ وفرغ من أجل ذلك من قبل جامعته لهذه الدراسة ولكنها روح العداء ما انفكت عنه وعن أمثاله وتأثره بكتابة من سبقه من غير المنهجيين والحاقدين على الإسلام أمثال «جولد تسيهر» وغيره واضح بين.

١٨٤

المبحث الثالث عشر

كتاب (تاريخ النص القرآني)

لمؤلفه (تيودور نولديكه)

التعريف بالمؤلف :

يعد «نولديكه» شيخ المستشرقين الألمان بغير مدافع ، وقد أتاح له نشاطه الدائب ، واطلاعه الواسع على الآداب اليونانية ، وإتقانه لثلاث من اللغات السامية (العربية ، والسريانية ، والعبرية) أن يظهر بهذه المكانة ليس فقط بين المستشرقين الألمان بل بين المستشرقين جميعا.

ولد تيودور نولديكه في الثاني من مارس ١٨٣٦ م بمدينة هاربورج كانت دراسته الثانوية في مدينة لنجن وأكمل دراسته الجامعية في جامعة جيتنجن فحصل على الدكتوراة في ١٨٥٦ م برسالة عن (تاريخ القرآن) وهو أشهر كتبه. خرج من ألمانيا للاتصال ببعض المستشرقين أمثال «دوزي» و «ينبول» و «دي فريس» ، و «كونن» ، واستفاد من سفره لكل من فينا ، وليدن ، وانجلترا ، بالاطلاع على كثير من المخطوطات العربية الثمينة.

عمل مساعدا لأمين مكتبتي برلين ، وجامعة جيتنجن من سنة (١٨٦٠ ـ ١٨٦٢) ثم عمل سنة ١٨٦١ م معيدا في جامعة جيتنجن الشهيرة خلال عمله في مكتبة جيتنجن ، ثم أستاذا للغات السامية عام ١٨٦٤ ـ ١٨٧٢ م في جامعة كيل ، ثم أستاذا في جامعة إشتراسبورج عام ١٨٧٢ ـ ١٩٢٠ م. أحيل للتقاعد سنة ١٩٠٦ ، وتوفي سنة ١٩٣٠ م ، عن عمر ناهز الرابعة والتسعين (١).

__________________

(١) انظر موسوعة المستشرقين ص ٤١٧ ـ ٤٢٠.

١٨٥

التعريف بالكتاب :

يعتبر كتاب (تاريخ القرآن) ل «تيودور نولديكه» من أهم الكتب في ميدان البحث في الدراسات القرآنية ، يقع الكتاب في ثلاثة أجزاء كبار تقارب تسعمائة صفحة.

كانت بداية عمله لهذا الكتاب بحثا قدمه لنيل رسالة الدكتوراة الأولى في عام (١٨٦٥ م). وقد ذكر «عبد الرحمن بدوي» ، «ورودي بارت» أنها كانت بعنوان (تاريخ القرآن) أما «عقيقي» فيقول إنها كانت بعنوان (أصل وتركيب سور القرآن) من جامعة جبتنجن في ألمانيا. وبعد عامين في سنة ١٨٥٨ م أعلنت أكاديمية باريس قسم (مجمع الكتابات والآداب) عن جائزة لبحث يكتب في هذا الموضوع فتقدم له «نولديكه» وتقاسم هو و «أسبرنجر» و «ميكيله أماري» الظفر بالجائزة التي ضوعفت حتى نال كل واحد منهم من الثلاثة مبلغ (١٣٣٣) فرنك فرنسي.

وبعد ذلك بعامين آخرين (١٨٦٠ م) نشر «نولديكه» ترجمة ألمانية لرسالته (وكانت رسالته باللاتينية) وكانت بعنوان (تاريخ القرآن) وهذه الطبعة توسع «نولديكه» فيها جدا فيما بعد بالتعاون مع تلميذه أشفالي. وبعد رجوعه لكثير من المصادر والمراجع. ثم ظهرت مجلدات في عام ١٩٠٩ ، ١٩١٩ ، ١٩٣٨. ونهض بتعديل الجزءين الأولين المستشرق «فريدرش شفاللي» فلما مات قام «جوتهلف برجشتستير» بالعمل في الجزء الثالث ولكنه مات قبل أن يفرغ منه فأكمله «أوتو برتس» وأخرجه بعنوان (تاريخ النص القرآني) وبهذا تم الكتاب بشكله الحالي.

أجزاء الكتاب الثلاثة :

تناول المؤلف في الجزء الأول : الوحي ومظاهره ذاكرا أن ظاهرة الوحي كانت نتيجة انفعالات طاغية كانت تسيطر على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم تناول في هذا الجزء مصادر القرآن الكريم ذاكرا بعض الادعاءات التي تزعمها غيره من

١٨٦

المستشرقين أن مصدره البيئة التي كان يعيشها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأهل الكتاب واليهود فتأثر بهم بشكل أخص.

ثم تناول في هذا الجزء أسلوب القرآن الكريم دارسا سوره من ناحية الأسلوب والمضمون ومقسما القرآن الكريم لقسمين :

ـ سور مكية يغلب عليها الفقرات الخيالية الشعرية ـ على حد زعمه ـ.

ـ وسور مدنية تغلب عليها أسلوب النثر المطول.

وقسم السور المكية لثلاث فترات.

الجزء الثاني : جمع القرآن الكريم :

تناول المؤلف في هذا الجزء جمع القرآن الكريم والمسائل المتعلقة به ومن القضايا البارزة التي تناولها المؤلف في هذا الجزء ما يلي :

حفظ القرآن الكريم في عهد محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم تناول حفظة القرآن الكريم وجامعيه.

الجمع الأول : جمع زيد بن ثابت : ثم شكل هذا الجمع ومحتوياته.

الجمع الثاني : ما قبل عثمان ، شخصية الجامعين ومجموعاتهم.

ثم تناول بعد ذلك موقف الشيعة من نص القرآن الكريم وعلاقة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مع اليهود والنصارى.

ثم بين موقف النصارى من حقيقة الوحي ونزول القرآن الكريم ثم تناول الصفة المتميزة لتفسير المسلمين للقرآن الكريم ، ثم تناول سبب النزول ، وزعم أن الشعر كان مرجعا تاريخيا للقرآن الكريم.

ثم ختم هذا الجزء بإضافات وتصحيحات من «أوجيست فيشر».

الجزء الثالث : القراءات والرسم القرآني :

ابتدأ هذا الجزء بمقدمة للمراجع «أوتو برتزل» ثم تناول في الفصل الأول

١٨٧

منه النص الساكن زاعما أن هناك أخطاء في النصوص العثمانية ، واختلاف بين النسخ العثمانية وطريقة ضبط الكتابة القرآنية على الوسائل الأولية كالجلود وورق البردي.

أما الفصل الثاني فتناول فيه المؤلف القراءة وأنواعها مبدأ التواتر فيها ، وتنوعها إلى سبع ، عشر ، أربع عشرة قراءة.

ثم تحدث عن خواص القراءات الصحيحة ، واختلافها ومصادرها.

ثم تناول الرسم القرآني ، وطبيعة هذا الرسم وأنواع هذه الخطوط والفواصل بين الآيات وعناوين السور.

ثم ختمها بالحديث عن الطبعات الحديثة للقرآن الكريم.

وما ذكرته عن هذا الكتاب الضخم مجرد إشارات وسبب ذلك لعدم إمكانية ترجمته لضخامته ، ولتعذر من يقوم بهذه المهمة.

والكتاب مليء بالشبهات التي اجترها من بعده المستشرقون والتي تناولتها بالرد خلال بحثي (١).

__________________

(١) للمزيد من المعلومات انظر موسوعة المستشرقين عبد الرحمن بدوي ص ٤١٧ ـ ٤٢٠ والدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ص ٢٥ ـ ٢٧.

والمستشرقون ٢ / ٣٧٩ ـ ٣٨٢.

١٨٨

الفصل الثاني

مستشرقون كتبوا حول القرآن الكريم

من خلال مؤلفاتهم

المبحث الأول

كتاب عقائد الإسلام ـ لمؤلفه هرمان شتيجلكر

المبحث الثاني

كتاب تاريخ الأدب العربي ـ لمؤلفه كارل بروكلمان

المبحث الثالث

كتاب تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية ـ لمؤلفه ميرسيا الياد

المبحث الرابع

كتاب محمد والقرآن ـ تاريخ النبي العربي ودعوته ـ لمؤلفه رودي بارت

المبحث الخامس

كتاب الإسلام والعرب ـ لمؤلفه روم لاندو

المبحث السادس

كتاب حضارة العرب ـ لمؤلفه جوستاف لوبون

المبحث السابع

أسماء مجموعة من مؤلفات المستشرقين حول القرآن الكريم وعلومه

١٨٩
١٩٠

الفصل الثاني

وعنوانه (مستشرقون كتبوا حول

القرآن الكريم من خلال مؤلفاتهم)

هذا نوع آخر من كتابات المستشرقين حول الإسلام والقرآن الكريم وما له صلة بالثقافة العربية ولغة العرب وحضارتهم .. إلخ. فهذه الكتابات بتنوعها لم تترك التعرض للإسلام وكتابه ونبيه عليه الصلاة والسلام فوددت أن أعرف القارئ على الأسلوب الذي ينتهجه المستشرقون في مثل هذه الكتب وكان الغرض تعريفا عاما بالمؤلف والكتاب باختصار أشد من كتب الفصل الأول مركزا الضوء على ما له صلة ببحثي فحسب.

وقد تناولت في هذا الفصل ستة كتب.

١٩١

المبحث الأول

(كتاب عقائد الإسلام)

لمؤلفه «هرمان اشتيجلكر»

مستشرق ألماني الأصل معاصر ، على ما يبدو أنه من رجال الدين المسيحي. أجرى دراسات هذا الكتاب لسنوات طويلة بلغت ثلاثين سنة (١) من جانب الكنيسة.

الكتاب : هدفه ومنهجه :

عنوانه : (عقائد الإسلام) صدر هذا الكتاب في عام ١٩٦٢ م.

وقد ذكر المؤلف أنه أراد بتأليفه لهذا الكتاب أن يعرض عقائد الإسلام كما يراها المسلم بعين عقيدته.

اعتمد المؤلف ـ كما يقول ـ في عرضه لعقائد الإسلام على ما كتبه رجال العقيدة المسلمين القدامى منهم والمحدثون وكان يعرض نظريات الفرق الإسلامية كالأشاعرة ، والمعتزلة ، والاتجاهات الدينية الحديثة ، ويورد على ذلك في غالب الأحيان آيات قرآنية ، ويتبعها بما يتعلق بها من تفسير (٢).

محتويات الكتاب :

يشتمل الكتاب على (٨٣٤) صفحة من القطع الكبيرة عدا ٣٤ صفحة أخرى في أول الكتاب مرقمة بالأرقام الرومانية وينقسم الكتاب إلى فقرات مرقمة على التوالي يصل عددها إلى ١٤٩٨ فقرة. وقد أورد المؤلف الفهرست التفصيلي

__________________

(١) الإسلام في الفكر الغربي ـ زقزوق ـ دار القلم ـ الكويت ص ٢١ ـ ٢٢.

(٢) نفس المرجع ص ٢٢ ـ ٢٣.

١٩٢

للكتاب في عشرين صفحة. سنكتفي هنا ـ على وجه الإجمال ـ بذكر الموضوعات الرئيسية لمضمون الكتاب الذي يتضمن قسمين رئيسيين هما : الإلهيات والنبوات.

أما المسائل التمهيدية تحدث فيها المؤلف بعد المقدمة عن عدة أمور كالنشأة التاريخية لهذا الموضوع.

قسم الإلهيات : وهو قسم لأبواب رئيسية تتناول :

أ ـ صفات الله.

ب ـ أفعال الله.

ج ـ أسماء الله.

أما قسم النبوات : فيتحدث فيه المؤلف عن النبوة بوجه عام وعن الأنبياء بالتفصيل ، ثم تحدث بعد ذلك عن : العقيدة والخطيئة ، والنفس والروح ، والأولياء والكرامات ، والملائكة ، والجن ، وإبليس ، والبعث ، والدار الآخرة ، والموت ، وأحوالهم حتى البعث ، وعلامات الساعة ، والبعث والحساب .. إلخ.

وفي نهاية الكتاب كلمة ختامية للمؤلف ، وكذلك فهرست للأعلام والموضوعات ولم يخصص قائمة لأسماء مراجع الكتاب (١)

جوانب تعرض لها المؤلف لها علاقة بالقرآن الكريم

١ ـ النص القرآني :

ذكر المؤلف عن النص القرآني مبينا ميزته على التوراة والإنجيل بقوله : [يلاحظ هنا أن النص القرآني لا نظير له في وحدته إزاء نص العهد الجديد والعهد القديم أيضا](٢).

٢ ـ قصة الغرانيق :

حاول المؤلف كغيره من المستشرقين نسبة الاضطراب للنص القرآني من حيث

__________________

(١) المرجع السابق ص ٢٢ ـ ٢٤.

(٢) نفس المرجع ص ٢٨.

١٩٣

الزيادة والنقصان بعرضه لقصة الغرانيق وبزعمه أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقع في الشرك بالله. قال المؤلف : إن النبي أضاف إلى قول القرآن «أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، إنهن الغرانيق العلا. وإن شفاعتهن لترتجى» ويقول المؤلف : إن النبي قد رجع في اليوم التالي عن هذه الإضافة وقال : إنها من الشيطان ووضع مكانها قوله : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى)(١).

ويعلق المؤلف على ذلك قائلا : (لقد أمكن اتهام محمد بطبيعة الحال ـ بناء على هذه الواقعة ـ بأنه قد خرج ـ على الأقل لوقت قصير ـ عن خطه المستقيم في الاعتقاد بإله واحد ، وأنه لهذا قد ارتكب إثما عظيما) (٢).

أما تعليقنا على هذه القصة فسيأتي في موطنه من الرسالة ـ إن شاء الله تعالى ـ.

٣ ـ القرآن وصلب المسيح (عليه‌السلام):

يقول المؤلف في هذه القضية : (إن تبرير ما يدعيه القرآن من بطلان أخبار الإنجيل بشأن صلب المسيح ليست سهلة بالنسبة للمسلم … فالمسلمون هنا يقفون أمام جدار قوي لا يمكن هدمه ولا تسلقه ولا بد من التغلب عليه إذا أريد الإتيان بدليل على عدم وجود إثبات تاريخي على موت المسيح مصلوبا ..).

ويبين المؤلف بعد ذلك : (إلى أي مدى لا ينبغي للمسلمين ـ في رأيه ـ أن يجرءوا على مهاجمة الآثار والأخبار المسيحية المروية ، وذلك لأن دينهم (أي دين المسلمين) مبني على أخبار ومأثورات مروية) (٣).

والمؤلف ينسى الفرق الشاسع بين القرآن والسنة والإنجيل من حيث ثبوت كل منها. فالقرآن الكريم حفظ وسيحفظ إلى يوم القيامة.

__________________

(١) سورة النجم : ٢١.

(٢) المرجع السابق ص ٤٠ ـ ٤١.

(٣) نفس المرجع ص ٥٠.

١٩٤

قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١).

والسنة كذلك فالمحدثون الثقات بذلوا جهدهم لإثبات أسانيدها على الوجه الموثوق به لإثبات صحتها. الأمر الذي ليس له نظير على الإطلاق في أخبار الإنجيل ورواياته حيث أصابه التغيير والتبديل والتحريف من أهله بما استحفظوه على كتابهم قال تعالى : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ)(٢). والأناجيل عدة بما خطته أيدي الحواريين بعد عشرات السنين على رفع عيسى عليه‌السلام. ولم تحظ بالإسناد والتثبت كما كان ذلك في روايات السنة المطهرة.

لغة القرآن الكريم :

يقول المؤلف : (إن هناك من يرى أن لغة القرآن في ذاتها ليست شيئا غير عادي على الإطلاق ، إذ إنها لا تتميز عن لغة الأدب الدنيوي بعصمة يقينية.

وهذا الأمر يجده المرء في عدم اتفاق أصحاب النبي فيما بينهم على تبعية بعض فقرات معينة للقرآن ، فابن مسعود ـ مثلا ـ يرى أن سورة الفاتحة والمعوذتين ليست من القرآن ، رغم أن هذه السور تعد من أشهر المشهورات) (٣).

وهذه القضية قد علقت عليها في مواطنها من الرسالة.

ملاحظة عامة على الكتاب :

تعرض المؤلف في كتابه لشخصية محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في حوالي ثمانين صفحة معتمدا فيها على الأخبار والأحاديث الضعيفة والموضوعة أو بعرض الأخبار الثابتة بطريقة تعطي غير المراد ، أو إيراد نصوص وأقوال مشكوك فيها ، أو آراء من كتب من المحدثين التي لا يعتد بها.

__________________

(١) سورة الحجر : ٩.

(٢) سورة المائدة : ٤٤.

(٣) نفس المرجع ص ٥١.

١٩٥

والمؤلف لم يذكر أسماء المراجع ، ولا أسماء المؤلفين الذين اقتبس من كتاباتهم واعتمد عليها ؛ لذا فهذا الكتاب لا يعد بهذا العمل علميا منهجيا سليما (١).

__________________

(١) نفس المرجع ص ٤٩ (بتصرف).

١٩٦

المبحث الثاني

كتاب (تاريخ الأدب العربي)

لمؤلفه (كارل بروكلمان)

التعريف بالمؤلف :

ولد «كارل بروكلمان» في ١٧ سبتمبر ١٨٦٨ م في مدينة روستوك بألمانيا كان أبوه تاجرا. درس في المدرسة الثانوية في روستوك ومنها بدأت تظهر ميوله إلى الدراسات الشرقية ، فدرس عدة لغات لها علاقة بالشرق : (كالعربية ، والعبرية ، والسريانية) وهو ما زال طالبا في الثانوي. تلقى «بروكلمان» علوما عدة لها علاقة بالشرقيات على أكثر من مستشرق منهم «فليبي» الذي درس عليه العربية والحبشية في اشتراسبورج ثم الأستاذ «بريتوريوس» الذي تلقى عنه العلوم الشرقية في جامعة (برسلاو) لمدة فصلين دراسيين.

ثم حضر «روس فرينكل» في اللغات الشرقية ، ثم «هلبرنت» في اللغات الهندية الجرمانية. ثم حضر دروس «نولديكه» و «هوبشمن» في اشتراسبورج في اللغة السريانية والأرمنية ، ودروس «ج. دومشمن» في اللغة المصرية القديمة.

وفي سنة ١٨٨٩ ـ ١٨٩٠ م حصل على الدكتوراة في دراسته عن العلاقة بين كتاب (الكامل في التاريخ) لابن الأثير وكتاب (أخبار الرسل والملوك للطبري).

وفي سنة ١٨٩٠ م عين مدرسا في المدرسة البروتستنتية في اشتراسبورج أولا تحت التمرين ، وبعد ذلك مدرسا مساعدا.

وفي سنة ١٨٩٢ م انتقل إلى براسلا وحصل على دكتوراة التأهيل للتدريس

١٩٧

الجامعي ، وقد ألف بروكلمان (المعجم السرياني) الذي صدر سنة ١٨٩٥ م الذي يعتبر أفضل معجم لليوم.

ثم جاء تأليفه لكتاب (تاريخ الأدب العربي) الذي سأعرف به في الصفحات القادمة.

وفي سنة ١٩٠٠ أصبح مدرسا للغة العربية في (معهد اللغات الشرقية) في برلين وفي نفس العام أصبح أستاذا مساعدا في جامعة (برسلاو) وفي سنة ١٩٠٣ أصبح أستاذا ذا كرسي في جامعة كينجزبرج وبقي في هذا المنصب إلى سنة ١٩١٠ م وقد صدر له في هذه الفترة كتاب بعنوان (موجز النحو المقارن للغات السامية).

ثم انتقل لجامعة هله أستاذا ما بين سنة ١٩١٠ م ـ ١٩٢٢ م واعتنى «بروكلمان» باللغة التركية وألف فيها كتابه (كنز اللغة التركية الوسطى تبعا لديوان لغات الترك لمحمود الكاشغري).

وكتاب (نحو اللغة التركية الشرقية الوارد في اللغات المكتوبة الإسلامية في آسيا الوسطى ما بين سنة ١٩٥١ ـ ١٩٥٤ م).

وفي سنة ١٩٣٢ م انتخب مديرا لجامعة برسلاو وتخلى عن المنصب في سنة ١٩٣٣ م لكنه بقي أستاذا فيها ، وفي سنة ١٩٣٥ م تقاعد ، وفي سنة ١٩٣٧ م انتقل لمدينة هله ليستفيد من مكتبة (الجمعية الشرقية الألمانية) لمواصلة الكتابة في كتابه (تاريخ الأدب العربي). وفي سنة ١٩٤٥ م عمل محافظا للمكتبة المذكورة. وفي سنة ١٩٤٧ م عين أستاذا شرفيا ألقى فيها مجموعة من المحاضرات في لغات متعددة كالتركية ، والحبشية ، والقبطية ، والسريانية وغيرها. وفي سنة ١٩٥٣ م تقاعد للمرة الثانية ولكنه واصل التدريس ، وفي سنة ١٩٥٤ م أصيب بنزلة برد توفي بعدها عن عمر يناهز الثمانين عاما (١).

__________________

(١) انظر موسوعة المستشرقين ـ عبد الرحمن بدوي ص ٥٧ ـ ٦٦.

١٩٨

تعريف بالكتاب :

يقع الكتاب في ستة أجزاء تتحدث في علوم العرب وآدابهم في مختلف أزمنتهم وأمكنتهم وفنونهم منذ نشأتها إلى العصر الراهن. وقد سبق «بروكلمان» في هذه المحاولة المستشرق النمساوي «يوسف هامر بورجستاك» في كتاب له في سبعة أجزاء والذي نشره في فينا سنة ١٨٥٠ م ، ثم صنف بعده في نفس الموضوع تقريبا الإنجليزي «أربتنوت» سنة ١٨٩٠ م وكتابه يتسم بالإيجاز المخل. وكتب أكثر من واحد في نفس الموضوع كتابة أقل جودة وشمولا ودقة من كتابة «بروكلمان» الذي أصدر طبعته الأولى لكتابه في مدينة فايمر بألمانيا سنة ١٨٩٨ م. وبعد كتاب «بروكلمان» أخذت كتب الأدب العربي تصدر تباعا في الشرق والغرب والتي تأثرت بمنهجه. والترجمة جاءت للكتاب الأصلي وملاحقه في الطبعتين الأولى والثانية وللزيادات والتصحيحات التي كتبها نفس المؤلف باللغة العربية.

والمترجم للكتاب هو د. عبد الحليم ود / رمضان عبد التواب ود. السيد يعقوب بكر لصالح جامعة الدول العربية ـ المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ـ طبعة دار المعارف ـ مصر.

وفصول الكتاب كما يلي :

الجزء الأول :

تحدث فيه المؤلف عن أدب اللغة العربية من أول نشأته إلى سقوط الأمويين سنة ١٣٢ ه‍ / ٧٥٠ م.

الجزء الثاني :

تحدث فيه المؤلف عن الأدب العربي الإسلامي في عصر النهضة العربية منذ سنة ٧٥٠ م ـ إلى ١٠٠٠ م.

١٩٩

الجزء الثالث :

من تاريخ الأدب العربي وهو من الباب الخامس إلى نهاية الباب السابع.

أما الباب الخامس فقد تحدث فيه عن التاريخ وأهم ما جاء فيه :

أ ـ سيرة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

ب ـ تاريخ المدائن.

ج ـ تاريخ العرب القديم.

د ـ تاريخ الأمم والدول.

ه ـ تاريخ الحضارة والثقافة.

و ـ تاريخ مصر وشمالي إفريقية.

ز ـ تاريخ اليمن.

وتحدث في الباب السادس عن أدب السمر وكتب الثقافة العامة.

وتناول في الباب السابع عن علم الحديث.

أما الباب الثامن فتناول فيه علم الفقه.

الجزء الرابع :

تحدث في هذا الكتاب من الباب الثامن ـ الثامن عشر عن علوم القرآن ، القراءات ، وتفسير القرآن ، وتحدث فيه عن العقائد ، والتصوف ، والفلسفة ، والرياضيات ، وعلم الفلك ، والتنجيم ، والجغرافيا ، والطب ، والموسوعات.

ملاحظة :

وقع خطأ من حيث الباب الثامن عن علوم القرآن ينبغي أن يكون التاسع.

الجزء الخامس :

تناول المؤلف في الكتاب الثاني من الأدب العربي الإسلامي القسم الثاني من عصر ما بعد الفترة القديمة للأدب الإسلامي من نحو سنة ٤٠٠ ه‍ / ١٠١٠ م إلى نحو سنة ٦٥٦ ه‍ / ١٢٥٨ م حيث تناول فيه الشعر ، والنثر الفني ، والبلاغة ، وعلم اللغة.

٢٠٠

الجزء السادس والأخير من الكتاب :

تحدث فيه عن التاريخ.

السير المفردة ، تواريخ الدول ، تواريخ الرجال وكتب الأنساب ، تواريخ المدن والأمصار ، تواريخ الخلفاء وتواريخ العالم ، تواريخ الأنبياء.

ثم تحدث عن أدب السمر في النثر ، ثم علم الحديث والفقه.

والذي يهمنا من هذا الكتاب ما تناوله المؤلف في الباب الثاني من الجزء الأول عن عصر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

الفصل الأول منه :

حيث تحدث فيه عن محمد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من ص ١٣٤ ـ ١٣٦.

الفصل الثاني :

الذي تناول فيه القرآن الكريم من ص ١٣٧ ـ ١٤٤.

وقد وضع في هذين الفصلين كل سمومه فمن الأخطاء التي جاءت فيهما :

١ ـ زعم المؤلف أن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ استخدم في دعوته أساليب الكاهن.

٢ ـ وزعم أنه كانت تصيبه غيبوبة وأن ما كان يصدر عنه فيها كان ينسبه لجبريل ـ عليه‌السلام ـ.

٣ ـ زعم أنه استخدم أسلوب الدعوة النصرانية وذلك لمعرفته بها عن طريق المبشرين النساطرة.

معتمدا في هذا الفصل على مؤلفات «نولديكه» و «شبرنجر» و «موير» و «كريل» و «جريمه» ، مما كان سببا في أخطائه القاتلة وكاتب مثل «بروكلمان» كان ينبغي أن يرجع بنفسه لكتب التاريخ الإسلامي وينصف فيها

٢٠١

رسولنا محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا أن يكون مجرد ناقل فقط. وقد رددت على هذه المفتريات خلال الرسالة.

أما أخطاء الفصل الثاني :

١ ـ أن القرآن ثمرة غيبوبته واستغراقه وهي شبيهة بسجع الكهان والتي حفت بقصص من العهد القديم من الهاجادة.

٢ ـ نقل أقوال من جعل القرآن شعرا. ونقل قول «أندريه» أن محمدا تأثر في القرآن بالمبشرين العرب النصارى الذين كانوا في جنوبي الجزيرة.

٣ ـ زعم أن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واجه صعوبة في توزيع القرآن على سور لأن القرآن جمع من قطع مختلفة كانت في الأصل مستقلة.

٤ ـ القرآن المدني وإن احتفظ بقافية السجع إلا أنه تحول إلى نثر خالص.

٥ ـ رجح كون بعض القرآن جمع في عهد الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولكنه جمع كله بعد وفاته.

٦ ـ نقل شك «شيفللي» من أن الجامع للقرآن كان أبو بكر كما شكك في أن تكون معركة اليمامة السبب في هذا الجمع.

واعتمد المؤلف كذلك في هذا الفصل على بعض المستشرقين في كتاباتهم عن القرآن أمثال «نولديكه» و «جيفري» و «برجشتراستر» و «برتزل» وغيرهم. وقد تناولت هذه الشبه بالرد في ثنايا الرسالة.

كما تناول «بروكلمان» في الجزء الرابع من كتابه المؤلفات في علوم القرآن من قراءات ، وتفسير للقرآن ، وكان فيها مجرد معرف لها ولم يقع فيها في أخطاء تذكر إلا الشبهة المنسوبة للإمام «أحمد بن حنبل» من اعتباره علم التفسير علما لا أصل له. تفسرها بأنه غير موثوق فيه.

وقد علقت عليها في موطنها من الرسالة.

٢٠٢

المبحث الثالث

كتاب (تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية)

لمؤلفه (ميرسيا الياد)

ترجمة المحامي / عبد الهادي عباس

تعريف بالمؤلف :

هو أحد مؤرخي الأديان ومدرسي هذه المادة في جامعة (بوخارست) منذ ١٩٣٣ إلى ١٩٣٨ م ومدرسة الدراسات العليا في جامعة (شيكاغو) منذ ١٩٤٦ م و ١٩٤٨ وحتى ١٩٥٦ م.

تعريف بالكتاب :

الكتاب بحثه مختص في تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية منذ العصور الحجرية ليومنا هذا والكتاب باللغة الفرنسية وقد ترجم إلى العربية يقع في ثلاثة أجزاء بحوالي (١٢٣٧) صفحة مع الفهارس وحواشي الكتاب.

قام المؤلف بتقسيمه لفصول والفصول لفقرات ، مزودة برقم وعنوان صغير كان أول صدور له سنة ١٩٨٣ وطبع باللغة العربية بعد ترجمته طبعة أولى في دار دمشق سنة ١٩٨٦ ـ ١٩٨٧ م.

أهم ما تناول في الجزء الأول من الكتاب ديانات أهالي العصور الحجرية القديم منها والجديد ، ثم تناول ديانات ما بين النهرين ، ومصر ، والهند ، والديانات الإغريقية ، والإيرانية ، والديانات اليهودية.

أما الجزء الثاني فأهم ما فيه : تناوله لديانات الصين القديمة والرومانية من الأصول حتى قضية الباشنال (١٨٦ ق. م).

٢٠٣

وتناول السلت ، والجرمن ، وتاريخ البوذية ، ثم الهندوسية ، وتكلم مرة ثانية عن اليهودية في طورها الثاني ، والإيرانية كذلك ، ثم تحدث عن الديانة المسيحية.

أما الجزء الثالث فأهم ما جاء فيه :

حديثه عن ديانات أورسيا القديمة ، والكنائس المسيحية حتى الأزمنة الأيقونية ، (من القرن ٨ ـ ٩) ، ثم تحدث عن الإسلام منذ بدايته إلى توسعه وانتشاره وتفرقه بين الفرق المتعددة من سنية وشيعة ، وغيرها. ثم تحدث فيه عن الكاثولوكية الغربية حتى «جواشيم دي فلور» وعن اليهودية والتمرد لباركوبا حتى الحصيديين.

ثم تناول الحركات الدينية في أوربا من القرون الوسطى لعشية الإصلاح وختمه بالحديث عن الديانات التبيتية.

نظرة المؤلف للإسلام والقرآن :

تحدث المؤلف عن الإسلام وكتابه القرآن والفرق الإسلامية في الفصل الثالث والثلاثين بعنوان محمد وانطلاقة الإسلام. والفصل الخامس والثلاثون وهو بعنوان علوم دينية وروحانية إسلامية.

في الفصل الثالث والثلاثين تحدث عن حياة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبداية نزول الوحي إليه وهجرة أتباعه للحبشة وهجرته للمدينة زاعما أنه تأثر بالمسيحيين واليهود الذين كانوا موجودين في مكة والمدينة ، وركز على قصة الغرانيق المكذوبة وتراجع الرسول عنها. ثم عرض لبعض العقائد والتصورات الإسلامية ثم تحدث عن رسالة القرآن واعتبرها من عبقرية الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الدينية وأنه تأثر بها بالمسيحية واليهودية ذاكرا موقف القرآن من مريم وعيسى عليهما‌السلام من قصة صلبه ذاكرا صورة بعض العبادات والشعائر في الإسلام.

أما الفصل الخامس والثلاثون فإنه تحدث فيه عن الفرق الإسلامية : المعتزلة والشيعة والفرق التي انبثقت منها كالإسماعيلية وتحدث عن الصوفية وبعض غلاتها

٢٠٤

كالحلاج وبعض الفلاسفة كابن سينا وغيره.

ثم تناول تفسيرهم الباطني للإسلام.

تقويم الكتاب :

يعتبر هذا الكتاب من أوسع الكتب في بابه وهو عبارة عن مجموعة من المحاضرات التي ألقاها المؤلف لطلبته الجامعيين في كل من جامعتي شيكاغو وبوخارست. ومع أن المتوقع كان منه أن يتوسع خلال حديثه عن الإسلام عامة والقرآن خاصة إذا قورن ببعض الديانات الأخرى ولكنه لحاجة في نفسه توسع في حديثه عن الفرق الإسلامية وما تفرع منها من الفرق خاصة الشيعة والصوفية والفلاسفة.

وعلى كل فالكتاب أخطاؤه محدودة إذا قورن بغيره من كتب الغربيين.

٢٠٥

المبحث الرابع

كتاب (محمد والقرآن ـ تاريخ النبي العربي ودعوته) (١)

لمؤلفه (رودي بارت)

تعريف بالمؤلف :

«رودي بارت» أستاذ علوم الاستشراق في جامعة توبنجن بألمانيا الغربية وهو أحد مشاهير المستشرقين الألمان المعاصرين.

عكف سنوات طويلة على ترجمة القرآن الكريم وقد صدرت ترجمته ما بين عام ١٩٦٣ ـ ١٩٦٦ م ، وله بحوث أخرى في أدب المغازي وفي قصص الهوى في الأدب العربي القديم وفي الرواية الشعبية المصرية (سيف بن ذي يزن) ، وله بحوث في الثقافة الإسلامية في العصر الوسيط ، وفي صلة الإسلام بالثقافة اليونانية وآخر كتبه والتي ترجمت إلى اللغة العربية بعنوان «الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية».

منهج المؤلف وهدفه من الكتاب :

كان سبب تأليف المؤلف لهذا الكتاب تعريف الدارس الغربي بحقيقة الإسلام فتحدث فيه عن موضوع «نشأة الإسلام» واعتمد في عرضه ومناقشته لهذا الموضوع على القرآن واجتهاده الخاص في تفسير نصوصه وعلى كتب الحديث والتاريخ كما اعتمد على بحوث المستشرقين.

وقد ذكر المؤلف أن البحث المنهجي الجاد لما في القرآن والحديث وغيرهما من المراجع الأخرى لا يمكن أن يقود إلا إلى معارف تقريبية لا كاملة.

__________________

(١) هذه الدراسة اقتبسناها من كتاب أستاذنا د. حمدي زقزوق في كتابه الإسلام في الفكر الغربي.

٢٠٦

لذا اعتمد المؤلف على دراسات المستشرقين أما الموضوعات الجزئية في الكتاب فقد تخيرها المؤلف ـ على ما يبدو ـ حسب أهميتها بالنسبة في دعم الرأي الذي يذهب إليه فيما يتعلق بنشأة الإسلام كما يلاحظ أن الكتاب يحتوي على نقاط معينة في نقد محمد والقرآن تتخذ مركز الصدارة في العرض ، وتتكرر في أبواب مختلفة.

ويعرض بعض التضمينات والافتراضات وكأنها نتائج مؤكدة وهذا أمر لا يمكن تبريره علميا.

محتويات الكتاب :

صدر الكتاب في عام ١٩٥٧ م وأعيد طبعه سنة ١٩٦٦ م عن دار النشر لمشهورة (كولهامر) ضمن سلسلة كتب أربان وهي سلسلة علمية مشهورة واسعة الانتشار.

يقع الكتاب في (١٦٠) صفحة ، يشتمل على أحد عشر قسما أو بابا رئيسيا مقسمة بدورها إلى فصول صغيرة ، بالإضافة إلى تمهيد في أول الكتاب ، وملحق في نهايته ، وقائمة بأسماء المراجع ومواضع الأسانيد من النقاط المهمة التي أثارها المؤلف :

المرحلة الأولى : لحياة النبي محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتجربته مع الوحي ووعيه للرسالة ، وتحدث عن مضمون الوحي في المرحلة الأولى وعن؟؟ تصوره للعقيدة ، وعن سنواته الأخيرة … إلخ.

الجوانب السلبية في الكتاب :

الكتاب رغم مضمونه فجوهره مقصور على الحديث عن التأثير اليهودي والمسيحي على نشأة الإسلام ، ومحاولة البرهنة على ذلك في التمهيد وفصول الكتاب على حد سواء.

وقد ركز المؤلف على هذه المزاعم أكثر في الفصل الذي عقده بعنوان (التبشير المسيحي).

٢٠٧

وقد بذل المؤلف جهده للتشكيك في المصدر الرباني للقرآن الكريم ، وقد ساق مزاعم وتخمينات وافتراضات وادعاءات لم تكن أحسن حظا ممن سبقه في التهافت والسقوط.

فمثلا : زعم أن الصلاة التي جاء بها محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانت ولا تزال متأثرة بأشكال العبادة في كل من المسيحية واليهودية العبريتين حيث كانت هذه الأشكال معروفة لدي العرب عن طريق الرهبان المسيحيين والنساك.

وقد وضحت هذه الشبهة ورددت عليها في فصل المصادر.

كما ركز المؤلف على موضوع الكتاب الرئيسي وهو قصة التطور في نشأة الإسلام من مراحله الأولى كما في السور الأولى إلى ما هو عليه (١) اليوم حيث عقد فصلا لهذه القضية بعنوان (الآلهة العربية القديمة) ولكنه سرعان ما يناقض نفسه حينما يعتبر الإسلام دينا قرين المسيحية واليهودية ، وكما يعترف لمحمد بالشخصية الدينية الحقيقية.

الجوانب الإيجابية في الكتاب :

مع قلة هذه الجوانب في الكتاب إلا أنه في نهاية الأمر يتناقض في بعضها.

ـ مدحه بين الحين والحين للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتدينه العميق والاعتراف بنبوته وهذا من مواطن التناقض مع نفسه.

ـ بيانه أن هدف محمد في تعاليمه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إيقاظ الناس مما كانوا فيه من فراغ فكري ، واعتداد ساذج بالذات ، وهدايتهم إلى اتجاه ديني حقا ، وجديد تماما.

وأن هذا الهدف بقي يلازمه في بداية دعوته وبعد انتصاراته الحاسمة وقد أكد على وعي محمد لرسالته وقوته في توضيحه لها.

__________________

(١) نفس المرجع السابق ص ٧٣.

٢٠٨

هذه الآراء مع أن المؤلف كان يعرضها بحرارة واقتناع إلا أنها لا تتفق عما عرضه عن نشأة الإسلام والوحي الذي أنزل على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعن تجربته الأولى مع الوحي والرسالة المحمدية وعن مضمون الوحي في المرحلة الأولى ، وعن الاعتقاد في إله خالق قادر والنزاع مع اليهود وعن شخص النبي محمد .. وبعد ذلك يأتي بملحق يتضمن المراجع ومواضع الأسانيد تلك من أهم النقاط التي تناولها المؤلف.

٢٠٩

المبحث الخامس

كتاب (الإسلام والعرب)

لمؤلفه (روم لاندو)

تعريف بالمؤلف :

«روم لاندو» هو أستاذ الدراسات الإسلامية والدراسات الشرقية بشمال إفريقية في جامعة الهادي بكالفورنيا.

تعريف بالكتاب :

يقع الكتاب في (٣٨٧) صفحة مع الفهارس والمقدمة.

ترجم الكتاب من الإنكليزية للعربية الأستاذ منير البعلبكي وطبعته دار العلم للملايين ـ بيروت.

والكتاب من الكتب المختصرة في تاريخ العرب والحضارة الإسلامية كتبه المؤلف بناء على رغبة طلابه في الدراسات العليا في الجامعة المذكورة.

والكتاب من أقرب الكتب للإنصاف. وفيه يظهر المؤلف إعجابا بالعرب وبمآثرهم.

حذف المترجم الفصل الأخير من الكتاب وهو بعنوان (مشكلات العالم الغربي الحاضر) لاختلافه مع المؤلف في وجهات النظر. وهذا أمر لا يجوز في عالم البحث العلمي وحرية الكلمة.

وقد جاءت موضوعات الكتاب كالتالي :

المقدمة.

٢١٠

الفصل الأول :

وعنوانه : (بلاد العرب قبل الإسلام).

الفصل الثاني :

وعنوانه : (الرسول والقرآن والإسلام) :

وهو الفصل الذي يهمنا وقد وقع المؤلف فيه في أخطاء كثيرة ذكر في هذا الفصل نبذة عن حياة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم عن بداية الوحي ، وزعم أنه كان نوعا من أنواع الصرع وأن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يعتبر مصلحا اجتماعيا ، حارب النظام القبلي واعتبر المؤلف الحجر الأسود من بقايا الوثنية في الإسلام.

ثم تحدث فيه عن تدوين القرآن الكريم ، وترتيبه ، وترجمته ، ثم زعم أن الإسلام تأثر بالوثنية حيث اقتبس منها مجموعة من العادات والأعراف كما تأثر بالمسيحية واليهودية في جوانب كثيرة ـ على حد زعمه ـ.

وقد بين ميزة الإسلام أنه دين عملي ، كما تحدث عن النصرانية وميزتها ووجوب اتباعها.

الفصل الثالث :

وعنوانه : (الخلفاء الراشدون والأمويون والعباسيون).

الفصل الرابع :

وعنوانه : (من الخلافة إلى نهاية العهد العثماني).

الفصل الخامس :

وعنوانه : (الحروب الصليبية).

الفصل السادس :

وعنوانه : (المغرب ـ مراكش ، الجزائر ، تونس).

٢١١

الفصل السابع :

وعنوانه : (أسبانية الإسلامية).

الفصل الثامن :

وعنوانه : (الشريعة).

تحدث في هذا الفصل عن القوانين الإسلامية ونشأتها وتطورها منذ عهد الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ زاعما أن الإسلام ضم الأعراف التجارية التي كانت موجودة في مكة للشريعة الإسلامية.

كما زعم أن كثيرا من هذه القوانين استمدت من القوانين الطقسية اليهودية والفارسية واليونانية.

ثم تحدث بعد ذلك عن الحديث النبوي الشريف وعن كونه مصدرا للشريعة الإسلامية. ثم تحدث عن المذاهب الفقهية ، وأقسام الحكم ، وبعض ما حرمه الإسلام ، وغير ذلك.

الفصل التاسع :

وعنوانه : (الفلسفة).

وتناول فيه تاريخها وأشهر رجالها وبعض مؤلفاتهم.

الفصل العاشر :

وعنوانه : (العلوم).

تحدث المؤلف في هذا الفصل عن الرياضيات والفلك وإسهامات العرب في ذلك ، وعن الجغرافية وعلم وضع الخرائط وتقدمهم فيها ، والطب وأشهر الأطباء العرب والكيمياء والفيزياء ، ودور «أبي علي الحسن بن الهيثم البصري» في دحضه لنظريات إقليدس وبطليموس البصرية .. ثم تناول علم النبات والزراعة والبستنة.

٢١٢

الفصل الحادي عشر :

وعنوانه : (الأدب).

حيث اعتبره من أوسع الحقول التي درست الحياة العربية والمؤسسات العربية ، وأظهرتها بثوبها اللائق بها ، كما أظهرت أخلاق العرب وعاداتهم بأسلوب بديع ومظهر تأثير القرآن على النثر الأدبي ذاكرا ألوانا من الأدب متعددة الجوانب وبعض المشاهير من الأدباء.

الفصل الثاني عشر :

وعنوانه : (الفنون) :

اعتبر العرب قاصرين في هذا الجانب خاصة الفن التشكيكي ؛ لاعتبارهم اللغة أداة التعبير الرئيسية عن عبقرية العرب الإبداعية كما ذكر أن العرب حرموا الفن التشبيهي كذلك ونادرا ما استخدموا الرسم الذاتي ذاكرا أن من أهم الفنون الباقية للعرب فن العمارة وفن الزخرفة العربي ، والكتابة على الجدران ، وما كان للخزف الإسلامي من أهمية في إنجاح هذا الجانب من الفن ، وغير ذلك من الأمور الفنية التي أشار لها المؤلف في هذا الفصل كما أشار لبعض الصناعات التي عرفها المسلمون.

وكان المؤلف ينهى كل فصل ببعض المراحل للفصل وبجدول كروفولوجي ملخصة للفصل ، ثم ختم الكتاب بمجموعة من الفهارس للمراجع ، والأعلام ، والأماكن ، والموضوعات.

تقويم الكتاب :

الكتاب يعتبر من أفضل الكتب المختصرة في تاريخ العرب والحضارة العربية والإسلامية مع ما لنا عليه من ملاحظات وقع فيها المؤلف أشرنا لبعضها في الصفحات السابقة التي في جانب القرآن الكريم.

وعلى كل فالكاتب كانت تظهر منه بين الفينة والفينة على نطاق محدود روحه الغربية العامة والنصرانية الخاصة ولكنه أمر طيب أن يكتب كاتب غربي لبني جنسه كتابات تظهر للعرب بعض المآثر والمزايا التي أخفاها غيره ، بل وشوهوا كثيرا منها وسرقوا بعضها ونسبوها لبني جنسهم.

٢١٣

المبحث السادس

كتاب (حضارة العرب)

لمؤلفه (جوستاف لوبون)

التعريف بالمؤلف :

ولم أجد له ترجمة فيما بين يدي من كتب التراجم.

التعريف بالكتاب :

يقع كتاب (حضارة العرب) في (٧٣٦) صفحة سوى الفهارس وهو في ستة أبواب ، نقله للعربية الأستاذ عادل زعيتر وقد طبع الكتاب عدة طبعات كانت الطبعة الأولى في سنة ١٣٦٤ ه‍ ـ ١٩٤٥ م ، والثانية في سنة ١٣٦٧ ـ ١٩٤٨ م ، والطبعة الثالثة في سنة ١٣٩٩ ه‍ ـ ١٩٧٩ م وقد طبعتها دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ لبنان.

والكتاب جاء كالتالي :

مقدمتان : الأولى للمترجم والثانية للمؤلف.

ثم جاء الباب الأول وهو بعنوان (البيئة والعرق) وتحته ثلاثة فصول

الفصل الأول :

وعنوانه : (بلاد العرب) :

الفصل الثاني :

وعنوانه : (العرب) :

٢١٤

الفصل الثالث :

وعنوانه : (العرب قبل ظهور محمد).

الباب الثاني :

وعنوانه : (مصادر قوة العرب) وتحته ثلاثة فصول :

الفصل الأول :

وعنوانه : (محمد نشوء الدولة العربية).

الفصل الثاني :

وعنوانه : (القرآن).

الفصل الثالث :

وعنوانه : (فتوح العرب).

الباب الثالث :

وعنوانه : (دولة العرب) وتحته ثمانية فصول :

الفصل الأول :

وعنوانه : (العرب في سوريا).

الفصل الثاني :

وعنوانه : (العرب في بغداد).

الفصل الثالث :

وعنوانه : (العرب في بلاد فارس والهند).

الفصل الرابع :

وعنوانه : (العرب في مصر).

٢١٥

الفصل الخامس :

وعنوانه : (العرب في إفريقية الشمالية).

الفصل السادس :

وعنوانه : (العرب في أسبانيا).

الفصل السابع :

وعنوانه : (العرب في صقلية وإيطالية وفرنسه).

الفصل الثامن :

وعنوانه : (اصطراع النصرانية والإسلام ـ الحروب الصليبية).

الباب الرابع :

وعنوانه : (طبائع العرب ونظمهم) وتحته خمسة فصول وهي :

الفصل الأول :

وعنوانه : (أهل البدو وأهل الأرياف العرب).

الفصل الثاني :

وعنوانه : (عرب المدن ، طبائعهم وعاداتهم).

الفصل الثالث :

وعنوانه : (نظم العرب السياسية والاجتماعية).

الفصل الرابع :

وعنوانه : (المرأة في الشرق).

الفصل الخامس :

وعنوانه : (الدين والأخلاق).

٢١٦

الباب الخامس :

وعنوانه : (حضارة العرب) وتحته عشرة فصول وهي :

الفصل الأول :

وعنوانه : (مصادر معارف العرب ـ تعليمهم ومناهجهم).

الفصل الثاني :

وعنوانه : (اللغة والفلسفة والآداب والتاريخ).

الفصل الثالث :

وعنوانه : (الرياضيات وعلم الفلك).

الفصل الرابع :

وعنوانه : (العلوم الجغرافية).

الفصل الخامس :

وعنوانه : (الفيزياء وتطبيقاتها).

الفصل السادس :

وعنوانه : (العلوم الطبيعية والطبية).

الفصل السابع :

وعنوانه : (الفنون العربية ـ الرسم والحفر والفنون الصناعية).

الفصل الثامن :

وعنوانه : (فن عمارة العرب).

الفصل التاسع :

وعنوانه : (تجارة العرب ـ صلاتهم بمختلف الأمم).

٢١٧

الفصل العاشر :

وعنوانه : (تمدين العرب لأوربة ـ تأثيرهم في الشرق والغرب).

الباب السادس :

وعنوانه : (انحطاط حضارة العرب) وتحته فصلان :

الفصل الأول :

وعنوانه : (ورثة العرب ـ تأثير الأوربيين في الشرق).

الفصل الثاني :

وعنوانه : (أسباب عظمة العرب وانحطاطهم ـ حال الإسلام الحاضرة).

وما يهمنا من هذا الكتاب هما الفصلان الأول والثاني من الباب الثاني ففي الفصل الأول من الباب الثاني تناول المؤلف فتوة سيدنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتحت هذه النقطة زعم أن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تلقى علم التوراة من الراهب النسطوري (بحيرى) في بصرى سورية.

ثم تحدث بعد ذلك عن رسالة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعن حياة محمد بعد الهجرة ، وكانت أخطاؤه تحت النقطة الأخيرة شنيعة ، منها : أنه زعم أن ضعف محمد الوحيد كان في حبه الطارئ للنساء فتعرض لقصته مع «زينب بنت جحش» المكذوبة ثم زعم أن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان مصابا بالصرع وإن لم يقطع بذلك ولكنه اعتبره من فصيلة المتهوسين من الناحية العلمية كأكثر مؤسسي الديانات.

أما الفصل الثاني من هذا الباب فتناول فيه الحديث عن القرآن الكريم من حيث خلاصة القرآن. ومن أخطائه تحت هذه النقطة : زعمه أن القرآن قليل الارتباط ، وأنه عاطل من الترتيب ، مفكك السياق كثيرا وأعاد السبب في ذلك لأن نزوله كان متفرقا حسب مقتضيات الزمن وبسبب جمعه بعد وفاته حيث

٢١٨

اختار خليفته الرابع على حد زعمه (أي عثمان) قبول نص واحد من بين عدة نصوص كانت قد نزلت عليه (يقصد الأحرف السبعة).

وقد زعم المؤلف أن الرسول أخذ هذا القرآن من الأديان الأخرى.

ثم تحدث في هذا الفصل عن سر انتشار الإسلام سريعا بين الناس وأعاد ذلك للتوحيد المحض الذي يدعو له الإسلام ورد في هذا الفصل على من زعم أن انتشاره كان بسبب تحلل محمد وبطشه أو أنه انتشر بسبب استعمال السيف في رقاب الناس وأثبت أنه انتشر بالدعوة وحدها.

وفي النهاية وصم الإسلام بالجبرية كغيره من الغربيين ولكنه فسرها بقوله (إن الجبرية الشرقية هي نوع من التسليم الهادي الذي يعلم به الإنسان كي يخضع لحكم القدر من غير تبرم وملاومة).

(وتسليم مثل هذا هو وليد مزاج أكثر منه وليد عقيدة. والعرب كانوا جبريين بمزاجهم قبل ظهور محمد ولم يكن لجبريتهم تأثير في ارتقائهم كما أنها لو لم تؤد إلى انحطاطهم) وأكد أن هذا النوع من الجبرية يستند إليه كثير من مفكري الغرب في العصر الحاضر.

تقويم الكتاب :

هذا الكتاب وبحجمه الضخم يعتبر من أفضل ما ألف عن العرب وتاريخ حضارتهم حيث حاول المؤلف أن يثبت ما كان للعرب من فضل وتأثير على الحضارة الغربية والمدنية الحديثة. ولكن مع هذا لم يخل من بعض الأخطاء كالتي أشرت لها في جانب حياة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والإسلام والقرآن سواء كانت كرأي يراه المؤلف كجبرية الإسلام أو كأقوال يعرضها بلفظة (قبل) وما شابهها.

وقد رددت على هذه النقاط في مواطنها من الرسالة.

٢١٩

المبحث السابع

أسماء مجموعة من مؤلفات المستشرقين

حول القرآن الكريم وعلومه

والآن سأذكر أسماء مجموعة من مؤلفات المستشرقين حول القرآن الكريم وعلومه سردا وباختصار من باب الفائدة ولما لها من صلة بموضوع الرسالة.

١ ـ آيات من القرآن.

بقلم المستشرقة الإيطالية : فرجينيا فاكا. فلورنسا ١٩٤٣ م.

٢ ـ إبراهيم في القرآن.

بقلم المستشرق الهولندي : فان جنيب ، مجلة العالم الإسلامي ١٩١٢ م.

٣ ـ الاتجاه الحديث لتفسير القرآن بمصر.

بقلم جاك جومييه ، ١٩٥٤ م.

٤ ـ الإتقان في علوم القرآن : لجلال الدين السيوطي ، تحقيق المستشرق النمساوي : سبرنجر (١٨١٣ م ـ ١٨٩٣ م).

٥ ـ أخبار المتوكل بخلق القرآن.

بقلم الفونس منغنا (١٨٨١ م ـ ١٩٣٧ م) متنا وترجمة إنكليزية ، مانشستر ١٩٢٢ م.

٦ ـ أسرار التأويل وأنوار التنزيل ، للبيضاوي.

تحقيق المستشرق الألماني : فرايتاج (١٧٨٨ م ـ ١٨٦١ م) ليبنريج عام ١٨٤٥ م.

٧ ـ الأسماء والأعلام اليهودية في القرآن ـ مشتقاتها.

بقلم المستشرق الألماني يوزف هوروفيتش (١٨٣١ م ـ ١٨٧٤ م).

٢٢٠

٨ ـ الأسماء والأعلام في القرآن.

نفس المؤلف (١٨٧٤ ـ ١٩٣١) (د. ت).

٩ ـ إشارات إلى صيغ تشريعية عربية قديمة في القرآن.

بقلم : يوزف كورت زولنرنك ، نشر عام ١٩٣٤ م.

١٠ ـ إشارات قرآنية إلى الثقافة المادية للعرب الأقدمين.

بقلم : اليونوره هونز ، نشر عام (١٩٣٩ م).

١١ ـ اشتقاق لفظ القرآن.

بقلم المستشرق الألماني : يوزف هورد فيتش (د. ت).

١٢ ـ الإعجاز في القرآن.

بقلم : روبسون ، صحيفة جمعية جلاسجو ١٩٢٩ م.

١٣ ـ بحوث جديدة في نظم القرآن وتفسيره.

بقلم المستشرق الإنكليزي هوشفيلد ، لندن ، ١٩٠٢ م.

١٤ ـ بيان القرآن.

بقلم : ه. و. سفانتون ، ١٩١٩ م.

١٥ ـ تاريخ القرآن.

بقلم : المستشرق الفرنسي بوتيه (١٨٠٠ ـ ١٨٨٣ م) باريس ١٩٠٤ م.

١٦ ـ تحقيق كتاب المحتسب ، لابن جني.

منشورات المجمع العلمي البافاري ، ميونيخ ١٩٣٣ م.

١٧ ـ ترجمة القرآن إلى اللاتينية (١١٤١ م ـ ١١٤٣ م).

قام بها : روبرت الرتيني ، هرمان الدلماشي الألماني ، راهب أسباني غربي ١٨٨٠ ـ ترجمة القرآن إلى اللاتينية.

نشر : بيليا ندد ، بال ، سويسرا ١٥٤٣ م.

٢٢١

١٨ ـ ترجمة القرآن إلى الألمانية.

بقلم : شنيجر النورمبرجي ١٦١٦ م.

١٩ ـ ترجمة القرآن إلى الفرنسية.

بقلم : سيورد وريز ، باريس ١٦٧٤ م.

٢٠ ـ ترجمة القرآن إلى الإنكليزية.

بقلم : الكسندروس قسيس كاريبررك ، لندن ١٦٤٩ م.

٢١ ـ ترجمة القرآن إلى الإنكليزية.

بقلم : جورج سيل (١٦٩٧ ـ ١٧٣٦ م).

٢٢ ـ ترجمة القرآن إلى الإيطالية.

بقلم : ماراتشي باودوري (١٦١٢ ـ ١٧٠٠) ، ١٦٩٨ م.

٢٣ ـ ترجمة القرآن إلى الروسية.

صدرت في سنت بطبرسبرج ١٧٧٦ م.

٢٤ ـ ترجمة القرآن إلى السويدية.

بقلم : المستشرق السويدي ثورنبرج (١٨٠٧ ـ ١٨٧٧ م) لوند ١٨٧٤ م.

٢٥ ـ ترجمة القرآن جزئيا إلى الأسبانية.

بقلم : المستشرق السويدي سترستين (١٨٦٦ ـ ١٩٥٣ م).

مجلة العالم الشرقي ١٩١١ م.

٢٦ ـ ترجمة القرآن إلى لغة الاسبرانتو.

بقلم : خالد شلدريك ، ١٩١٤.

٢٧ ـ ترجمة القرآن جزئيا إلى الدانماركية.

بقلم : المستشرق الدانماركي بول ، كوبنهاكن ، ١٩٢١ م.

٢٢٢

٢٨ ـ ترجمة القرآن إلى التشيكية.

بقلم : ى. ر. نيكل براغ ، ١٩٣٤ م.

٢٩ ـ ترجمة القرآن إلى الهولندية.

بقلم : المستشرق الهولندي كرامرز (١٨٩١ م ـ ١٩٥١ م).

امستردام ـ بروكسل ١٩٥٦ م.

٣٠ ـ ترجمة القرآن إلى الهندية.

بقلم : المستشرق الهولندي فت (١٨١٤ ـ ١٨٩٥ م) (د. ت).

٣١ ـ ترجمة القرآن.

أ. ج أربري الإنجليزي المتعصب ضد الإسلام والمسلمين صدرت هذه الترجمة عام ١٩٥٠ م. (١).

٣٢ ـ التطور التأريخي للقرآن.

بقلم : المستشرق الإنكليزي أدوارد سل ، مدراس ١٨٩٨ م.

٣٣ ـ تفسير القرآن.

بقلم الأستاذ فيشر ، نشر الدراسات الشرقية لنولديكة ١٩٠٦ م.

٣٤ ـ تفسير القرآن.

بقلم ريتشارد هارتمان ، مجلة الدراسات الشرقية ١٩٢٤ م.

٣٥ ـ تفصيل آيات القرآن الكريم.

تأليف : جول لابوم ، مع استدراكه : إدوارد موتييه ، الطبعة العربية ، دار الكتاب العربي ، بيروت ١٩٦٩ م.

٣٦ ـ تلاوة القرآن في دمشق والجزائر.

بقلم : جان كانتينو (١٨٩٩ ـ ١٩٥٦ م).

__________________

(١) الفكر الإسلامي الحديث ص ٥٥٢.

٢٢٣

بمعاونة باريس ، حوليات معهد الدراسات الشرقية ، باريس ، ١٩٤٢ ـ ١٩٤٧ م.

٣٧ ـ توافق القرآن والإنجيل.

مؤلفه : بوستل ج. صدر ١٥٤٣ م (١).

٣٨ ـ دراسة آي من القرآن.

بقلم الأب لاثور ، مجلة الحضارة الكاثولوكية ١٩٤٥ م.

٣٩ ـ دراسة عن القرآن.

بقلم : باطر ، نشرها : نيكل ، صحيفة الجمعية الشرقية الأمريكية ١٩٣٦ م.

٤٠ ـ دراسة عن مختصر شواذ القراءات.

لابن خالويه ، تحقيق : المستشرق الأمريكي : آرثر جفري ، مجلة الدراسات الإسلامية ١٩٣٨ م.

٤١ ـ دليل القرآنية.

تأليف المستشرق الألماني مالير (١٨٥٧ ـ ١٩٤٥ م) الطبعة الثانية ، باريس ١٩٢٥ م.

٤٢ ـ السامريون في القرآن.

بقلم المستشرق الفرنسي جوزيف هاليفي (١٨٧٣ ـ ١٩١٧ م) المجلة الآسيوية ١٩٠٨ م.

٤٣ ـ سحر الآيات القرآنية.

بقلم : كرستنس ، ١٩٢٠ م.

٤٤ ـ شرح المعتزلة للقرآن.

بقلم : المستشرق الإيطالي جويدي ١٨٨٦ ـ ١٩٤٦ م.

__________________

(١) المستشرقون ١ / ١٥٨.

٢٢٤

٤٥ ـ الشرع في القرآن.

بقلم : ي. ريخلين (د. ت).

٤٦ ـ صحائف القرآن.

بقلم المستشرق الأمريكي كورما رازومي (١٨٧٧ ـ ١٩٤٧) م.

نشرة المتحف الفني بوسطن ، ١٩٢٠ م.

٤٧ ـ الصلاة في القرآن.

بقلم : جوتين ، نيويورك ١٩٥٥ م.

٤٨ ـ طابع الإنجيل في القرآن.

بقلم : وو لكر ، باسلي ، ١٩٣١ م.

٤٩ ـ الطب في القرآن.

بقلم : أوبتز ١٩٠٦ م.

٥٠ ـ طريقة كتابة القرآن في سمرقند.

بقلم : المستشرق الأمريكي أرثر جفري بمعاونة لسون الصحيفة الأمريكية الشرقية ، ١٩٤٢ م.

٥١ ـ أبو عبيدة والقرآن.

بقلم : نفس المؤلف ، عالم الإسلام ، ١٩٣٨ م.

٥٢ ـ عدد آيات القرآن.

بقلم : شبيتالو ، ١٩٢٥ م.

بقلم : الأستاذ هلموت ريتر ، بحث في مجلة الإسلام الألمانية ١٩٢٨ م ٥٣ ـ عناصر من الهجادة في قصص القرآن.

بقلم : شابيرو ، ليبزيج ، ١٩٠٧ م.

٥٤ ـ عناصر نصرانية في القرآن.

بقلم : أرنس.

٢٢٥

٥٥ ـ عناصر يهودية في مصطلحات القرآن الدينية.

بقلم : المستشرق المجري بيرنات هيللر (١٨٥٧ ـ ١٩٤٣ م).

نشر عام ١٩٢٨ م.

٥٦ ـ عيسى في القرآن.

بقلم : أدولف جروهمان ، الصحيفة الشرقية ، فينا ، ١٩١٤ م.

٥٧ ـ فضائل القرآن وآدابه.

لأبي عبيد القاسم بن سلام ، تحقيق بريتزل (د. ت).

٥٨ ـ فهرست أدب القرآن.

بقلم المستشرق الإنكليزي ستوري ، كمبردج ١٩٣٠ م.

٥٩ ـ فهرست تفسير الطبري.

بقلم : المستشرق الألماني هوسلاتير ، ستراسبورج ١٩١٢ م.

٦٠ ـ القانون في القرآن.

بقلم : دلفين ، نشر عام ١٩٢٧ ـ ١٩٣٤ م.

٦١ ـ القرآن.

بقلم : ياكوب بارت (١٨٥١ ـ ١٩١٤ م) مجلة الإسلام ١٩١٥ ـ ١٩١٦.

٦٢ ـ القرآن.

بقلم : الأستاذ فلهاوزن (١٨٤٤ ـ ١٩١٨ م) المجلة الشرقية الألمانية ١٩١٣.

٦٣ ـ القرآن.

بقلم : المستشرق الألماني كاله (ولد ١٨٧٥ م) صحيفة دراسات الشرق الأدبي ١٩٤٩ م.

٢٢٦

٦٤ ـ القرآن.

بقلم : الأستاذ شبيتالر (١٩١٠ م) دراسات تشودي ١٩٥٤ م.

٦٥ ـ القرآن.

بقلم المستشرق الأمريكي آرثر جفري ، عالم الإسلام ١٩٢٤ م.

٦٦ ـ القرآن.

نفس المؤلف ، الصحيفة الأمريكية للغات والآداب السامية ١٩٢٤ م.

٦٧ ـ القرآن بلهجة مكة الشعبية.

بقلم : المستشرق النمساوي كارل فولليرس (١٨٥٧ ـ ١٩٠٩ م).

٦٨ ـ القرآن الرسمي بالنظر إلى قراءة أهل مصر.

بقلم : المستشرق الألماني تيودور نولديكه ، المجلد العشرين من مجلة الإسلام.

٦٩ ـ القرآن في الإسلام.

بقلم : المستشرق الهولندي آيتما (ولد ١٩١٠ م) نشر عام ١٩٥٢ م.

٧٠ ـ القرآن مفسرا.

بقلم : المستشرق الإنكليزي أ. ج أربري (ولد ١٩٠٥ م) نيويورك ١٩٥٥ م لندن ١٩٥٩ م.

٧١ ـ القرآن والعربية.

بقلم : المستشرق الألماني كاله (ولد ١٨٧٥ م) ذكرى جولد تسيهر ، ١٩٤٨ م.

٧٢ ـ قراءة زيد بن علي.

بقلم : المستشرق الأمريكي آرثر جفري : مجلة الدراسات الشرقية ١٩٣٧ ـ ١٩٠٤ م.

٢٢٧

٧٣ ـ قصص القرآن.

بقلم : المستشرق المجري بيرنات هيللر (١٨٥٧ ـ ١٩٤٣ م) عالم الإسلام ١٩٣٤ م.

٧٤ ـ قصة أهل الكهف في القرآن.

نفس المؤلف نشر عام ١٩٠٧ م.

٧٥ ـ كتاب المصاحف للسجستاني.

تحقيق المستشرق الأمريكي آرثر جفري ، مؤسسة دي خويه ، ١٩٣٧ م.

٧٦ ـ كسب واكتسب ومعناها المجازي في القرآن.

بقلم : بولنيشي ، مجلة الدراسات الشرقية ١٩٥٥ م.

٧٧ ـ الكشاف.

لجاد الله الزمخشري ، تحقيق المستشرق الإنكليزي وليم ناسوليز (١٨٢٥ ـ ١٨٨٩ م) حققه خلال أربع سنوات (١٨٥٦ ـ ١٨٥٩ م).

٧٨ ـ الكلمات الأجنبية في القرآن.

رسالة دكتورا للمستشرق الألماني فرانكيل (١٨٥٥ ـ ١٩٠٩ م) ليدن ١٨٧٨ م.

٧٩ ـ المئون في بعض أجزاء القرآن.

بقلم الأستاذ : د. ستيل ، مجلة الجمعية الآسيوية ١٩٢١ م.

٨٠ ـ المتشابه في القرآن.

بقلم : الأستاذ : ريتشارد بل ، مجلة العالم الإسلامي ١٩٢٨ م.

٨١ ـ مجادلة المشركين في القرآن.

بقلم الأستاذ : أنتجها تسن (سنة ١٩٤٣ م).

٨٢ ـ محمد والقرآن.

بقلم : المستشرق الهولندي فت (١٨١٤ م ـ ١٨٩٥ م) خمس دراسات في مجلة الدليل ١٨٤٥ م الهولندية.

٢٢٨

٨٣ ـ محمد والقرآن.

مؤلفه بارتيملي ، سن هيلر الكاتب السياسي له عدة أبحاث عن الأديان (١).

٨٤ ـ مدخل تاريخي نقدي إلى القرآن.

بقلم : المستشرق الألماني جوستاف فايل (١٨٥٨ ـ ١٨٨٩ م).

٨٥ ـ مصادر تاريخ القرآن.

بقلم : آرثر جيفري ـ صدر بالإنجليزية.

٨٦ ـ مصطلحات القرآن.

بقلم : المستشرق الروسي كاشتاليفا (١٨٩٧ ـ ١٩٣٩ م) نشر عام ١٩٢٨ م.

٨٧ ـ معاني القرآن.

لابن منظور ، تحقيق المستشرق الألماني بريتزل ، مجلة إسلاميكا.

٨٨ ـ معجم قراء القرآن وتراجمهم.

بقلم المستشرق الألماني براجشترسر ، نشر عام ١٩١٢ م.

٨٩ ـ مفردات القرآن.

بقلم : المستشرق الأمريكي ثواري ، مجلة عالم الإسلام ١٩٣٩ م.

٩٠ ـ مقدمتان في علوم القرآن.

لابن عطية ومؤلف مجهول.

تحقيق المستشرق الأمريكي آرثر جفري ، مؤسسة دي غويه ١٩٣٧ م.

٩١ ـ مواد لدراسة تأريخ نص القرآن.

بقلم : المستشرق الأمريكي آرثر جفري ، ليدن ، ١٩٣٧ م.

__________________

(١) المستشرقون ١ / ١٨٣.

٢٢٩

٩٢ ـ نبذة عن النفس في القرآن.

بقلم : المستشرق الفرنسي بلاشير (١٩٠٠ م) مجلة الساميات ، ١٩٤٨ م.

٩٣ ـ النبوة في القرآن.

بقلم : المستشرق الألماني هوفيتش (١٨٧٤ م ـ ١٩٣١ م).

٩٤ ـ مذهب الطبيعة الواحدة النصراني في القرآن.

بقلم : المستشرق الألماني بومشتارك ، مجلة الشرق المسيحي ١٩٥٣ م.

٩٥ ـ مراجع القرآن وعلومه.

بقلم المستشرق الألماني بريتزل (د. ت).

٩٦ ـ المشتبه في القرآن.

للكسائي تحقيق المستشرق الألماني بريتزل (١٨٩٣ ـ ١٩٤١ م) (د. ت).

٩٧ ـ مشروع لاستعمال أسلوب النقد في نشر القرآن.

بقلم المستشرق براجشترسر ، نشر عام ١٩٣٠ م.

٩٨ ـ مصادر القصص الإسلامية في القرآن وقصص الأنبياء.

بقلم : سايدر سكاي ، باريس ١٩٣٢.

٩٩ ـ مصادر القصص الكتاني في القرآن.

بقلم : سباير ، نشر عام ١٩٣٩ م.

١٠٠ ـ نجوم الفرقان في أطراف القرآن.

بقلم : المستشرق الألماني جوستاف فلوجل (١٨٠٢ ـ ١٨٧٠ م).

طبع لأول مرة في ليبزيج ١٨٤٢ م.

١٠١ ـ نشأة الإنسان كما في القرآن.

بقلم : فرانكل ، براغ ١٩٣٠ م.

٢٣٠

١٠٢ ـ النصرانية واليهودية في القرآن.

بقلم : المستشرق الألماني بومشتارك ، مجلة الإسلام ١٩٢٧ م.

١٠٣ ـ نصوص ماراتشي من القرآن.

بقلم : المستشرق الإيطالي كارلونلينو ، لنشاي ، ١٩٣٢ م.

١٠٤ ـ منتخبات من القرآن.

لنفس المؤلف ـ طبعة ليبزج ١٨٩٣ م.

١٠٥ ـ نصوص من القرآن.

بقلم : المستشرق الأمريكي آرثر جفري ، عالم الإسلام ١٩٣٥ م.

١٠٦ ـ نصوص من القرآن مترجمة من أربع لغات.

بقلم : أندراي أكولوتوس (١٦٥٤ ـ ١٧٠٤ م) برلين ١٧٠١ م.

١٠٧ ـ نصيب القرآن من الحياة اليومية بمصر.

بقلم : جاك جومييه ، مجلة الآداب العربية ، تونس ١٩٥٢ م.

١٠٨ ـ النمو التاريخي في القرآن.

بقلم : أدوارد سل ، مدراس ، ١٨٩٨ م.

الخلاصة :

هذه مجموعتان من الكتب التي تناولتها في هذا الباب وملحق بمؤلفات حول القرآن وعلومه للمستشرقين ففي الفصل الأول منه ذكرت بعض الكتب التي تخصصت في الحديث عن القرآن الكريم أو بعض علومه.

أما الفصل الثاني تعرضت فيه لبعض الكتب التي تعرضت للقرآن الكريم من خلال بعض فصولها.

وكان هدفي من هذا الباب أن أعرف القارئ للمباحث والقضايا التي اهتم المستشرقون بالحديث عنها في مؤلفاتهم عن الإسلام العظيم وأسلوبهم في الحديث

٢٣١

عنها ، والروح التي سادت مؤلفاتهم ليكون القارئ على بصيرة من أمره في مثل هذه المؤلفات.

ولا شك أن مؤلفاتهم من الكثرة بمكان بحيث إنني لو أردت الاستطراد في هذا الموضوع لطال الخطب ولخرجت الرسالة عن موضوعها الأصلي التي أنا بصدده.

ولما أصبح اتجاه حركة الاستشراق اتجاها علميا ترعاه المؤسسات الجامعية وغيرها ، أكثر المستشرقون من التأليف في كل لون من علوم الشرق عامة والإسلام خاصة ، لذا أحببت أن أطلع القارئ على أسماء مجموعة منها ذات علاقة بالدراسات القرآنية على وجه الخصوص جعلتها في ملحق خاص واكتفيت لها بالسرد فقط لدواعي الاختصار.

٢٣٢

الباب الثاني

آراء المستشرقين حول القرآن الكريم ومناقشتها

٢٣٣
٢٣٤

الباب الثاني

آراء المستشرقين حول القرآن الكريم ومناقشتها

الفصل الأول

شبهات المستشرقين حول مصادر القرآن الكريم

الفصل الثاني

شبهاتهم حول نص القرآن الكريم

الفصل الثالث

جمع القرآن الكريم وشبههم حوله

الفصل الرابع

شكل القرآن الكريم ومضمونه وشبههم حوله

الفصل الخامس

القراءات القرآنية وشبه المستشرقين حولها

الفصل السادس

الأسلوب القرآني وشبه المستشرقين حوله

الفصل السابع

إعجاز القرآن الكريم وشبهات المستشرقين عليه

٢٣٥
٢٣٦

الفصل الأول

شبهات المستشرقين حول مصادر القرآن الكريم

المبحث الأول

زعمهم أن الوسط الوثني مصدر من مصادر القرآن الكريم

المبحث الثاني

زعمهم أن الحنفاء مصدر من مصادر القرآن الكريم

المبحث الثالث

زعمهم أن الصابئة مصدر من مصادر القرآن الكريم

المبحث الرابع

زعمهم أن الزرادشتية والهندية القديمة مصدر من مصادر القرآن الكريم

المبحث الخامس

زعمهم أن النصرانية مصدر من مصادر القرآن الكريم

لمبحث السادس

زعمهم أن اليهودية مصدر من مصادر القرآن الكريم

٢٣٧
٢٣٨

الباب الثاني

آراء المستشرقين حول القرآن الكريم ومناقشتها

الفصل الأول :

وعنوانه : (شبهات المستشرقين حول مصادر القرآن الكريم):

نظر لأن القرآن الكريم هو المصدر الأول والأساسي في شرائع الإسلام وفي رسالة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لذا وجه المستشرقون كل طاقاتهم لإثارة الشبهات حول مصدر هذا الكتاب العظيم وقد اختلفت آراؤهم ونظرياتهم في ذلك.

لذا قلما كتب مستشرق عن الإسلام ولم يذكر للإسلام مصدرا بشريا : كزعمهم أن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان تلميذا لليهود والنصارى وأن القرآن صورة تلمودية وصلت إلى محمد بطريقة ما ، وضعوا لها عدة افتراضات منها :

أ ـ أن اليهودية والنصرانية لم تكونا مجهولتين في بلاد العرب.

ب ـ زعمهم أن مكة المكرمة عرفت اليهودية والنصرانية بحكم كونها مستقرا للاتجار بين جنوب بلاد العرب وشمالها حيث كان لهما أكبر الأثر على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

ج ـ زعمهم أن من العرب الجاهليين من كان يعرف أفكارا يهودية أو نصرانية «كأمية بن أبي الصلت» و «ورقة بن نوفل» وغيرهما حيث كان لهم تأثير كبير على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

كما زعم بعضهم أن الإسلام كان وليد بيئة الوثنية حيث تأثر بكل ما فيها من عناصر.

٢٣٩

وبعضهم زعم أن الحنفاء كانوا أصحاب الفضل عليه لذا ما تعدى بأفكاره أفكارهم ولا بدعوته ما دعوا إليه.

وبعضهم زعم أن الإسلام كان خليطا من ديانات شتى كالمجوسية والهندية القديمة ، والزرادشتية والمصرية القديمة وغيرها.

وخلال استعراضنا لما زعموا من مصادر سنفند إن شاء الله تعالى ما استندوا إليه من أدلة لإظهار بطلان ادعاءاتهم وإثبات أن هذا الكتاب إلهي المصدر وما كان لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من يد فيه إلا التبليغ عن الله عزوجل.

١ ـ المصدر الأول :

زعمهم أن الوسط الوثني مصدر من مصادر القرآن الكريم :

تحتوي هذه الشبهة على مجموعة من الفقرات منها :

قولهم أن محمدا استقى معلوماته التي وضعها في القرآن من البيئة التي عاش فيها بدليل التشابه.

١ ـ التشابه الموجود في العقائد والشعائر التعبدية ، والعادات ـ (حيث استدل منها المستشرقون على أن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ استقاها من البيئة التي عاش فيها) (١) وبين ما كان سائدا في الوسط الوثني الذي عاش فيه.

٢ ـ (وكذلك التشابه الموجود بين مقاطع من الشعر الجاهلي وبعض الآيات القرآنية. حيث زعموا منها كذلك أن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ استقاها من وسطه الوثني ووضعها في القرآن الكريم) (٢).

الرد :

لما شاءت الإرادة الإلهية أن تعمر مكة وتصبح أم القرى أمر الله سبحانه

__________________

(١) انظر كتاب مصادر الإسلام لتسدال ص ٦ وما بعدها ، ومقدمة القرآن لريتشارد بل ص ٩ ، وكتاب مدخل القرآن للأستاذ دراز ص ١٢٩ وما بعدها.

(٢) انظر مصادر الإسلام لتسدال ص ٩.

٢٤٠

نبيه إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بالتوجه إليها وبناء أول بيت لله عزوجل في الأرض فيها ليؤمه الناس للعبادة والطاعة ففعل عليه‌السلام بمساعدة ابنه إسماعيل عليه‌السلام الذي قدم مع أمه «هاجر» ونزلا موضع زمزم اليوم.

ولما استقر المقام بإسماعيل في مكة تزوج وكثر نسله فيها حتى ملئوها وضاقت بهم ووقعت بينهم الحروب والعداوات وأخرج بعضهم بعضا فتفسحوا في البلاد (١) لالتماس العيش.

وبعد فترة دخلت الوثنية ديارهم وكان ذلك بسبب أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرا من حجارة الحرم ، فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة تعظيما للحرم وصبابة بمكة.

وهكذا استبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره من عبادة الأوثان وصاروا كمن سبقهم من الأمم .. وبقي فيهم بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام يتنسكون بها ، من ذلك : تعظيم البيت ، والطواف به ، والحج والعمرة والوقوف على عرفة ، ومزدلفة ، وهدي البدن ، والإهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم فيه ما ليس منه.

وكان أول من غير دين إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام ونصب الأوثان ، وسيب السائبة ، وبحر البحيرة ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحام ، عمرو بن لحي. ثم انتشرت عبادة الأصنام وصارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب حتى بلغ بهم الجهل أنه حين غلبت خزاعة على البيت ونفت جرهم عن مكة ، جعلت العرب عمرو بن لحي (٢) ربا لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة ، لأنه كان يطعم الناس ويكسو في الموسم ، وقيل : إن أمره وأمر ولده دام على مكة ثلاثمائة سنة (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ١٥٢.

(٢) انظر كتاب أخبار مكة ١ / ١١٦ ، وسيرة ابن هشام وعليها حاشية الروض الأنف ١ / ١٠١.

(٣) انظر الروض الأنف ١ / ١٠٢.

٢٤١

وهكذا ابتعد العرب عن دين إبراهيم عليه‌السلام فدخل الشرك في عقائدهم وعباداتهم وصرفوا ما ينبغي أن يكون لله سبحانه لأصنامهم وأوثانهم وساءت الأخلاق ، وانتشرت المفاسد ، وانتهكت المحارم ، وتركت الفرائض والسنن ، وانتشرت البدع والخرافات ، ومع هذا بقي قلة من الناس يبحثون عن الحقيقة وهم الحنفاء.

فلما بعث الله محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أراد من قومه أن يعودوا لدين إبراهيم عليه‌السلام قبل التحريف والتغيير فدعاهم لعبادة الله وحده وترك ما سواه ، وصرف كل الأمور إليه دون وسائط ، وطلب منهم أن يزكوا نفوسهم بأداء الواجبات وترك المنكرات وبالابتعاد عن مفاسد الأخلاق فأبوا أن يطيعوه ـ إلا من رحم ـ بل نابذوه العداء وعذبوه وأصحابه ، وأخرجوهم وقاتلوهم ولكن حقق الله ما أراد من نصره لرسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ عليهم.

وخير من صور ما كان عليه أهل الجاهلية من فساد في العقيدة والأخلاق والسلوك والقيم «جعفر بن أبي طالب» ، وأم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنهما ـ موضحين الفرق بين الجاهلية والإسلام.

قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة ردا على افتراءات السفيرين اللذين أرسلتهما قريش لإرجاع المهاجرين من الحبشة لمكة :

[.. أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيئ الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، ـ وعدد عليه أمور الإسلام ـ فصدقنا به واتبعناه على ما جاء به من الله فعبدنا الله وحده

٢٤٢

لا نشرك به شيئا ، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا ..](١).

أما ما جاء في انحطاط الأخلاق فصورته السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ.

[.. إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء :

فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها.

ونكاح آخر : كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يستبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه ، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.

ونكاح آخر : يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ، ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم لقد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يافلان تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل.

ونكاح رابع : يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما ، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه ، لا يمتنع من ذلك. فلما بعث محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم](٢).

هذا هو الوسط الوثني بما فيه من خير وشر الذي اعتبره المستشرقون مصدرا

__________________

(١) انظر البداية والنهاية لابن كثير ٣ / ٧٣ ـ ٧٤ ، والكامل في التاريخ لابن الأثير ٢ / ٥٥.

(٢) انظر صحيح البخاري ٦ / ١٣٢ باب ٣٦ من قال : لا نكاح إلا بولي.

٢٤٣

من مصادر الإسلام والناظر فيه بتجرد يرى أن هذا الوسط لا يصلح أبدا لما توهموه. كيف لا ومصدر القرآن الوحيد هو الله عزوجل.

من خلال هذه النصوص يستدل على أن العرب كان فيهم بقايا من دين إبراهيم عليه‌السلام وبقايا من أخلاق الإسلام ، وأمور أقرها الإسلام وحض عليها. لذا فنحن لا نستغرب أن توجد عندهم مثل هذه البقايا تحت ركام الجاهلية والشرك.

والآن سنقف وقفات مع شبهات هؤلاء المستشرقين التي دعتهم لمثل هذه الدعوى الباطنية ونرد عليها بما يفتح الله علينا.

الشبهات :

زعموا أن الإسلام جاء وفي الوسط الذي ابتدأ فيه مجموعة من العقائد والأخلاق نقاها وجدد الدعوة إليها لذا فالإسلام صورة من صور الجاهلية واجترار لها والوثنية أحد مصادره الرئيسية.

الشبهة الأولى :

قالوا : مما دعا إليه الإسلام الوحدانية وكان ذلك بتأثير الوسط الوثني الذي نشأ فيه الإسلام (١).

قلت : نحن لا ننكر أن الوحدانية أمر أصيل وجذورها التاريخية تصل لأقدم عصر وجد فيه إنسان على سطح الأرض فآدم عليه‌السلام أنزل بالتوحيد والدعوة لعبادة الله وحده دون سواه ، ونبذ الشرك بأنواعه ، وتكررت هذه الدعوة على ألسنة كل الرسل بين أقوامهم كما ذكر ذلك القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)(٢).

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام لتسدال ص ٦.

(٢) سورة الأنبياء (٢٥).

٢٤٤

وقد نقل إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما‌السلام ـ هذه الدعوة إلى أرض الجزيرة ، ولكن مع تقادم العهد نسي العرب نصيبا مما ذكروا به فطمسوا معالم التوحيد بالشرك والخير بالشر فجاءت دعوة المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لتذكيرهم بدعوة أبينا إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ والتوجه في سائر الأعمال لله الواحد الأحد ونبذ عبادة الأصنام والشرك بكل أنواعه.

فدعوة المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للوحدانية لم يكن بتأثير الوسط الوثني كما زعم المستشرقون بل هي صدى للدعوة الأولى دعوة إبراهيم عليه‌السلام ، لأن أصلهما واحد. والتاريخ يشهد بذلك. والناظر في التوراة والإنجيل والقرآن وأي كتاب سماوي آخر يجد أن هذه الدعوة متكررة على لسان كافة أنبياء الله. فلا غرابة إذن من تجديد الدعوة لها في الإسلام على لسان رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والقرآن الكريم مليء بالآيات القرآنية الداعية لتوحيد الله سبحانه وتعالى ، منها : قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ)(١) وقوله تعالى : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)(٢).

وكذلك وضح القرآن هذه القضية في دعوة إبراهيم عليه‌السلام كما أنه كان داعية إلى هذا التوحيد. قال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٣).

الشبهة الثانية :

زعموا أن هناك تشابها بين الإسلام والوسط الجاهلي الذي نشأ فيه في جانب الشعائر التعبدية كالحج مثلا بما فيه من طواف وتقبيل للحجر الأسود وسعي

__________________

(١) سورة البينة : (٥).

(٢) سورة النحل : (٥١).

(٣) سورة النحل : (١٢٠).

٢٤٥

بين الصفا والمروة ، وغير ذلك من شعائر الحج (١).

الجواب :

ذكرت في المقدمة أن الجزيرة العربية نبتت فيها دعوة إبراهيم وابنه إسماعيل ـ عليهما‌السلام ـ ولكن العرب هم الذين غيروها بالشركيات والوثنيات ومع هذا فإنه بقي في هذا الوسط الوثني شيء من تلك الديانة الحنيفية.

كما أن الشرائع الإلهية التي نزلت على إبراهيم وإسماعيل ومحمد ـ عليهم‌السلام ـ أصلها واحد وهي منزلة من عند الله عزوجل لأنهم جميعا رسله لأقوامهم فالصلاة والصيام والزكاة والحج وسائر العبادات مما شرعه الله عزوجل في كل الديانات سواء ديانة إبراهيم أو ديانة محمد أو غيرهما من أنبياء الله عليهم‌السلام. فإذا حصل تشابه في مثل هذه الجوانب بين الديانات السماوية مع اختلاف في الهيئات والأوقات والأماكن فهو أمر طبيعي قال تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ ..)(٢).

ويشهد لما قلت ما جاء على ألسنة المستشرقين في دائرة المعارف الإسلامية حيث قالوا : (ولم يك هذا الحج إلى عرفات أمرا اختص به العرب فالحج إلى معبد من المعابد عادة سامية قديمة جعلت حتى في الأجزاء القديمة من أسفار موسى الخمس فرضا يجب أداؤه فقد ورد في سفر الخروج الإصحاح الرابع والثلاثين (ثلاث مرات في السنة يظهر جميع ذكورك أمام السيد الرب إله إسرائيل) (٣).

فالمسلمون يقفون في حجهم على جبل عرفات ، واليهود يقفون في حجهم على جبل سيناء ، والنصارى يحجون إلى بيت المقدس في فلسطين فهل يعني هذا أن الديانات الثلاث أخذن شعيرة الحج من الوسط الجاهلي الوثني! والمستشرقون يعرفون أن اليهودية والنصرانية سابقة للوثنية في الجزيرة العربية فلا يبقى إلا أن

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام ص ٨٠٦ ، ومقدمة القرآن بل ص ٩.

(٢) سورة الحج : (٦٧).

(٣) دائرة المعارف الإسلامية ٧ / ٣٠٥ ، وانظر الكتاب المقدس ص ١٤٥.

٢٤٦

يكون المصدر لكل ذلك هو الله عزوجل.

والجاهليون لم يكونوا مقتصرين في حجهم بالطواف ببيت واحد بل كان لهم بيوت أخرى يطوفون بها كبيت ذي الخلصة (١).

روى البخاري في صحيحه : عن جرير بن عبد الله قال : [كان في الجاهلية بيت يقال له ذو الخلصة ، وكان يقال له الكعبة اليمانية ، أو الكعبة الشامية ، فقال لي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هل أنت مريحي من ذي الخلصة ، قال : فنفرت إليه في خمسين ومائة فارس من أحمس قال : فكسرناه وقتلنا من وجدنا عنده فأتيناه فأخبرناه فدعا لنا ولأحمس](٢).

وقد ذكر كذلك عن معبد في الشمال (٣). فلا غرابة إذا إذا جاء الإسلام بنسك كالحج. فأصل هذه الشرائع والمناسك هو الوحي فقط وأي تبديل أو طمس لها فمرده أمر الجاهلية فحسب. والإسلام ما جاء إلا ليحيي هذه المناسك التي شرعها الله عزوجل ، لذا بينها وفصلها ليبرز محاسن الإسلام في هذه المناسك والشعائر.

وفي الحج الإسلامي مقاصد عظيمة منها : توجه العباد إلى عبادة الله الواحد الديان ، وتذكيرهم بيوم الحشر الأكبر ، ولتكون فريضة الحج وشرائعه مدرسة تربوية مكتملة الجوانب ضمن صرح الإسلام العظيم ، فأين هذا التشابه المزعوم وأين هذه التشريعات التي تسمو بالعواطف الإنسانية النبيلة من تلك المظاهر الوثنية المنحطة ، فلا شك أنه لا يلتبس أمر التفريق بين الشريعتين شريعة الجاهلية وشريعة الإسلام على ذي عقل ، وإن برزت في بعض الصور والخطوط العامة وكأنها مستقاة من دين إبراهيم عليه‌السلام.

__________________

(١) بيت من مروة بيضاء ، منقوش عليها كهيئة التاج. كان سدنتها من أمامة من باهلة كاللات والعزى ، كان يطلق على هذا المعبد الكعبة اليمانية أو الشامية.

(٢) انظر صحيح البخاري ٤ / ٢٣٢ كتاب مناقب الأنصار.

(٣) انظر دائرة المعارف الإسلامية ٧ / ٣٠٥.

٢٤٧

وما شعيرة الحج في الإسلام إلا صورة عن شعيرة الحج التي أداها إبراهيم عليه‌السلام والتي يجمعهما التوحيد الخالص لله عزوجل ، وخلع كل الشركيات التي أدخلتها الجاهلية الوثنية لحج إبراهيم عليه‌السلام كما حصل في إدخالهم الشرك في التلبية وهي قولهم :

(لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك) (١) ، وكاستئذانهم بالوقوف في جبل عرفة من الغوث بن مر وولده من بعده (٢) ، وكعدم دفعهم من عرفة إلا إذا دفع رجل من صوفة ولا رميهم إلا إذا رمى رجل من صوفة (٣) كذلك وكابتداعهم أمر الحمس وغير ذلك من الأمور.

وهكذا ما من تغيير لحج إبراهيم عليه‌السلام إلا وجاء الإسلام ليعيده لما كان عليه.

وهكذا يظهر جليا أن أصل الحج وغيره من العبادات من السماء بأمر وتعليم من الله عزوجل لنبيه محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا من الوسط الوثني المزعوم عند المستشرقين ، وما كان عند الجاهلية باق من شعائر ومناسك هو من بقايا دين إبراهيم عليه‌السلام الذي جاء الإسلام ليحييه ويعيده.

وكذلك فإن الحج ليس مصدره من اليهودية كما زعم «دوزي» (٤) حيث ظهر من عرضي السابق أن الحج عند الجميع من مسلمين ويهود ونصارى وغيرهم مصدره ديانة إبراهيم عليه‌السلام.

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ١ / ١٠١.

(٢) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٢٣٠.

(٣) انظر سيرة ابن هشام ١ / ١٤٣. الغوث بن مر كانت أمه من جرهم وكانت لا تلد فنذرت لله إن هي ولدت رجلا أن تصدق به على الكعبة عبدا لها يخدمها ويقوم عليها فولدت الغوث فكان يقوم مع أخواله هو الأول على خدمتها والغوث هو الذي كان يجيز للناس في الجاهلية النزول من عرفة ثم تولى هذه الإجازة من بعده حتى انقرضوا. وكان سبب تسميتهم بصوفة لأن أمه كانت تربط شعره بصوفة. (هذا كلام شيخي مناع خلال جلسة المناقشة).

(٤) انظر دائرة المعارف الإسلامية ٧ / ٣١٠.

٢٤٨

أما بالنسبة لتقبيل الحجر الأسود وهل هو من بقايا الوثنية؟.

قلت : فالإسلام دين التوحيد وقد دعا له من أول يوم ولم يكن يرضى بالأوثان والشركيات بل حاربها وطمسها فلو كان الحجر الأسود واحدا من بقايا الوثنية كما زعم المستشرقون لما أبقاه الإسلام.

فالحجر الأسود لم يكن في يوم من الأيام صنما من أصنام العرب ولا من أوثانهم ولم يقدسوه في يوم من الأيام فهل يعقل يترك الوثنيون عبادته وتقديسه ويفعله المسلمون!!!.

أما سر احترام هذا الحجر لأنه من بقايا بناء إبراهيم للكعبة المشرفة حتى إن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أظهر الدافع لتقبيل هذا الحجر أنه الاقتداء بسنة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حيث جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال : «إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولو لا أني رأيت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قبلك ما قبلتك» ثم قال : «فما لنا والرمل إنما كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم الله ثم قال : شيء صنعه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلا نحب أن نتركه»(١).

فالتقبيل إذن أمر تعبدي خالص لله سبحانه وتعالى وإن جهلنا سر ذلك التقبيل فهو من سنن الطواف بالبيت فكثير من العبادات تخفى أسرارها والمسلم مكلف بأدائها.

وشتان بين التوجه تعظيما قلبيا لحجر أو شجر أو مخلوق ما على سبيل العبادة ، وبين أداء عبادة لله سبحانه وتعالى وحده وطاعة له دون سواه إيمانا واحتسابا في زمن معين وبصفة معينة وفي مكان معين.

والنكتة في مقالة عمر ـ رضي الله عنه ـ هذه لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين كانوا ألفوا عبادة الحجر وتعظيمها رجاء نفعها وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها ، وكان العهد قريبا بذلك لذا بين أنه حجر مخلوق كباقي

__________________

(١) انظر صحيح البخاري ٢ / ١٦٠ كتاب الحج باب ٥٠ / ٥٧.

٢٤٩

المخلوقات التي لا تضر ولا تنفع لأن الضرر والنفع بيد الله سبحانه وحده دون سواه (١).

وما حذر منه وقع به المستشرقون في يومنا هذا حيث ظنوا أن هذا الفعل هو من بقايا الوثنية.

والمسلمون اليوم كلهم يتوجهون في صلواتهم إلى الكعبة المشرفة جاعليها قبلة لهم ولا يوجد مسلم واحد صحيح العقيدة يعتقد أنه بهذا التوجه يعبد الكعبة. بل حتى أقل من ذلك فقد نهينا عن الحلف والقسم بالكعبة بل نقسم بربها سبحانه لأن القسم بالشيء لون من ألوان تعظيمه والتعظيم لا يكون إلا لله سبحانه. كما أن بعض مناسك الحج ترمز لأشياء معينة ، فلبس الأبيض لباس الإحرام فيه تذكير بالكفن الذي يكفن به الإنسان ساعة موته ، وخلع للدنيا والإقبال على الآخرة. والوقوف في عرفات فيه تذكير بيوم الحشر الأكبر ، ورمي الحجارة فيه التذكير لمواقف كيد الشيطان للإنسان كما حصل منه مع سيدنا إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ولا يمنع أن يكون تقبيل الحجر من هذا القبيل بالرمز لما كان عليه هذا الحجر أول نزوله من الجنة للأرض أشد بياضا من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٢) حيث فيه إشارة إلى أن الخطايا إذا أثرت في الحجر الصلد فتأثيرها في القلب أشد وذلك ليترك الناس المعاصي ويتوجهوا إلى الله بالطاعات.

وتقبيل الحجر الأسود سنة من سنن الطواف فعلها الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتفعله لفعله لأنه لا يفعل إلا ما أمر به من الله عزوجل وما شرعه له ، ونحن مأمورون بالاقتداء به وهو القائل ـ عليه الصلاة والسلام ـ يوم النحر وهو يرمي على راحلته : (لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) (٣).

__________________

(١) الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ١٢ / ٣٨.

(٢) انظر الفتح الرباني مع مختصر شرحه بلوغ الأماني ١٢ / ٢٦.

(٣) انظر صحيح مسلم ٢ / ٩٤٣ كتاب الحج حديث رقم (٣١٠).

٢٥٠

فهل بقي بعد هذا البيان شبهة إلا في أذهان خربة ونفوس حاقدة على الإسلام وأهله تزعم أن استلام الحجر وتقبيله من بقايا الوثنية التي أبقاها محمد في تشريعاته.

وزعم «سال» أن مما أخذ الإسلام من موروثات الجاهلية الاعتقاد بالجن مما يدل على أن الإسلام صورة عن الجاهلية (١).

الجواب :

عرف العلماء الجن : بأنها أجسام هوائية وهبها الله قدرة على التشكل بأشكال مختلفة ، منهم من يظهر على شكل حيوانات متنوعة ، لهم عقول وأفهام ومقدرة على الأعمال الشاقة ، يأكلون ويشربون ويتناكحون ويتناسلون … وهم خلاف الإنس.

وعرفها بعض العلماء : بأنها حيوان ناري شفاف الجرم (٢).

ووجودهم حقيقة ثابتة لا ينكرها أو يشك بها عاقل فليس عدم رؤيتها دليل على إنكارهم لها ، فكم من أشياء حول الإنسان وهو لا يراها ، كالهواء والإشعاعات ، والجاذبية الأرضية ، والتيار الكهربائي ، والمجالات المغناطيسية ، والموجات الصوتية ، إلى غير ذلك من الموجودات غير المرئية.

فمذهب أهل السنة والجماعة وأهل الكتاب ، ومشركو العرب ، وجمهور الكنعانيين واليونانيين والرومان والهنود القدماء الإقرار بوجود الجن.

ولم ينكر وجودهم إلا أكثر الفلاسفة وجماعة من القدرية والمعتزلة والجهمية ، وكافة الزنادقة قديما وحديثا (٣).

__________________

(١) مذاهب التفسير الإسلامي ـ جولد تسيهر ١٦٥.

(٢) حقيقة الجن والشياطين ـ محمد السيدابي ـ دار الحارث السودان / ط ١ ، ١٤٠٧ ه‍ ١٩٨٧ م ص ٩.

(٣) عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة ـ عبد الكريم عبيدات ، طبعة دار ابن تيمية ـ الرياض ص ٩٢ وما بعدها.

٢٥١

والتصور السليم للجن وحقيقتهم عند المسلمين فحسب. أما بقية من يعترفون بوجودهم فقد انحرفت تصوراتهم فيهم.

فمنهم من اعتبرهم شركاء لله في الخلق والتدبير فعبدوهم كالزنادقة ، وهو مذهب المجوس واليونانيين والرومان ، ومنهم من اعتبر أن لهم سلطانا في الأرض وأنهم يعلمون الغيب ، وأن بينهم وبين الله أخوة كمشركي العرب. ومنهم من اعتبر بينهم وبين الله نسبا كاليهود. ومنهم من اعتبر الشيطان رئيس رتبة من الأرواح النجسة وأنه إله في الأرض وذلك كالنصارى. ومنهم من قسم الشياطين لأخيار وأشرار ولكنه اعتبر أن الأخيار همهم الرقص للآلهة أما الأشرار فهم للإفساد في الأرض وهكذا من تصورات حادت عن الصواب وتلوثت بروح الوثنية تارة والخرافة والأساطير تارة أخرى.

فالاعتراف بوجود الجن أمر قديم ، واعتقاد متوارث وليس منشؤه من الوسط الجاهلي كما تصوره «جولد تسيهر» وإنما هو اعتقاد قديم بين أصحاب الديانات السماوية وغيرها وكان دور الإسلام أن أمره وقومه حسب التصور الإلهي السليم البعيد عن الانحراف والخرافة. وقد أقر وجودهم النقل والعقل ، فهذا يظهر زيف دعوى المستشرقين الذين يحاولون عبثا أن يجعلوا من مصادر الإسلام الوسط الجاهلي.

الشبهة الثالثة :

استند المستشرقون في دعواهم على أن هناك تشابها بين الإسلام والوسط الوثني كذلك في بعض العادات كالزواج والختان وغيرهما (١).

قلت : كان للعرب عادات تأصلت فيهم فلما جاء الإسلام فما وجده منها موافقا لشرعه أقره وشجعه ، وما كان منها مخالفا لشرع الله ودينه فقد أبطله وحاربه.

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام لتسدال ص ٨.

٢٥٢

فالزواج سنة فطرية وأساس قويم للاجتماع البشري ونشوء الكيانات فالأسرة المكونة من الزوجين وما يتصل بهما هي اللبنة الأولى في تكوين الصرح الاجتماعي.

فأصل الاجتماع البشري الثابت في الديانات السماوية هو نكاح الرجل للمرأة وانفراد الرجل بزوجته وعدم مشاركة أحد له فيها وهذا أمر تقره الفطر السوية ، وتقتضيه المجتمعات القويمة لما في ذلك من حفاظ على الدين والخلق والنسل من الاختلاط.

وقد حرص الإسلام حرصا شديدا في تشريعاته التفصيلية الدقيقة على إبقاء الأنساب نظيفة معينة معروفة إلى من تنسب إليه ؛ لذا حارب بشدة كل عادة تدعو إلى اختلاط الأنساب ببعضها وإلى إشاعة الفاحشة وإيجاد الفوضى الجنسية في المجتمعات كل ذلك ليبقى المجتمع الإسلامي مجتمعا ربانيا ترفرف عليه ظلال المودة وتقوى الله عزوجل. ووفر الإسلام لهذا المجتمع المقومات التي تساعده للقيام لهذه المهمة بشرائعه الكاملة الشاملة التفصيلية في الزواج والتناسل والحفاظ على سلامة المجتمع من الانحرافات الخلقية.

لذا ما كان من عادات العرب في الزواج وغيره موافقا لروح الإسلام وتشريعاته فقد أقرها الإسلام وحض عليها وما جاء منها مخالفا للإسلام في روحه وشرعه كنكاح الجاهلية الذي وصف في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أو عدم الزواج من امرأة المتبني ، أو نكاح أكثر من أربع نساء كل ذلك أبطله الإسلام وحاربه لما فيه من أضرار خلقية وفوضى اجتماعية.

هذا شأن الإسلام في كل تشريعاته التقويم والتقييم للخلق الفاضل النبيل وإحياء كل ما يوافق شرع الله ويلائم الفطرة السوية ومحاربة الانحرافات والرذيلة في كل صورها.

هذا هو الإسلام صورة فريدة وليس صورة معكوسة من المجتمع الوثني كما يزعم المستشرقون الذين يجهلون حقيقة الإسلام وروحه وشرعه. هذا بالنسبة

٢٥٣

لما يتعلق بالزواج.

أما ما يتعلق بالختان فصورته كذلك غير واضحة عند المستشرقين فالختان كذلك سنة فطرية وأمر شرعي في كل الديانات السماوية التي سلمت من التبديل والتحريف والتغيير.

فالختان : هو موضع القطع من الذكر ، وموضع القطع من نواة الجارية (١) ، وهذه المادة ترجع للغة السامية القديمة وهي في العبرية بلفظ (عرل) (٢) والختان فيه فوائد كثيرة تعود على الإنسان المختون.

ومما يدل على أنها سنة فطرية ما جاء في حديث المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الذي رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ (الفطرة خمس : الاختتان ، والاستحداد ، وقص الشارب ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط) (٣).

أما ما يدل على قدمها في الديانات منذ إبراهيم عليه‌السلام ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ (اختتن إبراهيم عليه‌السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم) (٤).

وقد ذكرت التوراة أن الختان هو العهد بين الرب وبين إبراهيم وذريته ، ومن يترك الختان ينكث العهد ، كما ذكرت أن إبراهيم ختن وهو ابن تسع وتسعين. وقد تعاهد الأنبياء وأتباعهم من بعده هذه السنة فقد انتشرت في بني إسرائيل (٥) حتى اعتبروا أن من لم يفعلها قد ارتكب عارا. فيشوع مثلا لم يترك الخارجين من مصر قلفا بل ختنهم جميعا ليخلصهم من هذا العار وقد ذكرت التوراة أمر الختان في سفر يشوع الإصحاح الخامس فقرة ١ ـ ٩ [وفي ذلك

__________________

(١) انظر مادة (ختن) في لسان العرب ـ معجم مقاييس اللغة لابن فارس ٢ / ٢٤٥.

(٢) انظر دائرة المعارف الإسلامية ٨ / ٢١٥.

(٣) انظر صحيح مسلم كتاب الطهارة حديث (٥٠) ج ١ / ٢٢١.

(٤) انظر صحيح البخاري ٤ / ١١١ كتاب الأنبياء وباب ٨ وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً.

(٥) انظر الكتاب المقدس ص ٢٤ ـ ٢٥. سفر التكوين الإصحاح ١٧.

٢٥٤

الوقت قال الرب : يشوع اصنع لنفسك سكاكين من صوان وعد فاختن بني إسرائيل ثانية. فصنع يشوع سكاكين من صوان وختن بني إسرائيل في تل القلف](١).

وقد جاء ذكر ختان بني إسرائيل وأن تركه عار في سفر التكوين الإصحاح الرابع والثلاثين (٢).

والختان كذلك موجود في النصرانية قبل تبديلها وإدخال ما ليس فيها من قبل بولس الذي مسخها وأدخل فيها الوثنية والفلسفة الإغريقية. فقد جاء في العهد الجديد في إنجيل لوقا الإصحاح الثاني الفقرة ٢١ [ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع كما تسمى من الملاك قبل أن حبل به في البطن](٣).

كما أن الختان كان منتشرا في أمم أخرى قديمة كالمصريين والعرب ، وأهل أروم ، وموآب ، وبني عمون (٤).

وهكذا نرى من خلال هذه النصوص أن الختان سنة فطرية في أمم الأرض قديما وسنة مشروعة لأهل الأديان السماوية جميعا وفي ذلك رد كاف على هذه الفرية التي أشاعها المستشرقون.

وزعم بعض المستشرقين أمثال «تسدال» و «شيخو» و «شبرنجر» أن من مصادر القرآن الكريم الشعر الجاهلي. فقد توافقت بعض الآيات القرآنية مع مقاطع من شعر أمية بن أبي الصلت وامرئ القيس مما دل في زعمهم أن القرآن الكريم قد اقتبس من قصائد الشعراء الجاهليين كالمعلقات (٥).

__________________

(١) انظر الكتاب المقدس ص ٢٤٣.

(٢) انظر الكتاب المقدس (العهد القديم ص ٥٥ ـ ٥٧.

(٣) انظر الكتاب المقدس (العهد الجديد) إنجيل لوقا ص ٩٣.

(٤) انظر الكتاب المقدس (العهد القديم) سفر أرميا الإصحاح التاسع فقرة ٢٥.

(٥) انظر مصادر الإسلام ص ٨ ـ ١٠ ، وتاريخ القرآن لنولدكة ١ / ١٩ ومعجم الشعراء الجاهليين والمخضرمين ص ١٥٢.

٢٥٥

قلت : بالرجوع إلى ما جمع من شعر ابن أبي الصلت في تاريخ الأدب العربي ؛ لاحظنا أن النصارى من العرب والمستشرقين مثل الأب «شيخو» و «كافنتسكي» قد عنوا بجمع هذا اللون من الشعر الديني أكثر من سواهم حتى إن «كافنتسكي» كتب رسالته للدكتوراة في جمع مثل هذا اللون من الشعر ليظهر العلاقة بين القرآن وبين شعر أمية وقد أشار لأخذ القرآن من شعر أمية (١) ابن أبي الصلت كذلك «كلمنت هاوث» كما أشار تسدال لهذه الموافقة بين القرآن وشعر امرئ القيس في كتابه مصادر الإسلام واعتبره مصدرا من مصادر الإسلام وذلك لموافقة الأبيات لبعض التراكيب القرآنية في سورة القمر والملك وغيرهما وهذه هي أبيات أمية المقصودة بالتوافق :

ويوم موعدهم أن يحشروا زمرا

يوم التغابن إذ لا ينفع الحذر

مستوسقين مع الداعي كأنهم 

رجل الجراد زفته الريح منتشر

وأبرزوا بصعيد مستو جرز

وأنزل والميزان والزبر

فمنهم فرح راض بمبعثه 

وآخرون عصوا مأواهم سقر

يقول خزانها ما كان عندكم 

ألم يكن جاءكم من ربكم نذر

قالوا : بلى فتبعنا فتية بطروا

وعزنا طول هذا العيش والعمر

وأما أبيات امرئ القيس التي ذكرها «تسدال» متوافقة مع آيات من سورة القمر فهي :

دنت الساعة وانشق القمر

عن غزال صاد قلبي ونفر

أحور قد حرت في أوصافه 

ناعس الطرف بعينه حور

مر يوم العيد في زينته 

فرماني فتعاطى فعقر

بسهام من لحاظ فاتك 

فتركني كهشيم المحتظر

__________________

(١) انظر معجم الشعراء الجاهليين والمخضرمين ص ١٥٢ ، تاريخ القرآن لنولدكة ١ / ١٩.

٢٥٦

وأضيف لها أبيات أخرى :

وأقبل والعشاق من خلفه 

كأنهم من حدب ينسلون 

وجاء يوم العيد في زينته 

لمثل ذا فليعمل العاملون 

أما الآيات التي وافقتها بزعمهم في بعض الألفاظ والتراكيب فهي :

١ ـ قوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ)(١).

٢ ـ وقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً)(٢).

٣ ـ وقوله تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى)(٣).

٤ ـ وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ)(٤).

إن قضية التلفيق في الشعر ونسبتها للقدماء من الشعراء أمر لا يستطيع أحد إنكاره وقد فعل هذا حماد الراوية وخلف الأحمر (٥) فما الذي يمنع أن يكون هذا الشعر ملفقا على العصر الجاهلي وعلى شعرائه كامرئ القيس وأمية بن أبي الصلت وهذا ما أرجحه. ومن عنده دليل تاريخي أن هذا الشعر ثابت لهما فليثبته.

والرد على هذه الفرية من جوانب :

__________________

(١) سورة القمر : (٦ ـ ٧).

(٢) سورة الكهف : (٧ ـ ٨).

(٣) سورة الملك : (٨ ـ ٩).

(٤) سورة الأنبياء : (٩٦).

(٥) انظر المزهر في علوم اللغة وأنواعها ١ / ص ١٠٦ ـ ١٠٧ ، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ٥ / ١٦٣.

٢٥٧

بالنسبة لأمية بن أبي الصلت عاش في عصر نزول الوحي في الطائف وكان من الحنفاء في الجاهلية ممن قرأ الكتب المتقدمة من كتب الله عزوجل ورغب عن عبادة الأوثان ، وكان يخبر بأن نبيا يبعث قد أظل زمانه ويؤمل أن يكون هو ذاك النبي فلما بلغه خروج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كفر حسدا. ولما أنشد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شعره قال : «آمن لسانه وكفر قلبه» وكان يحكي في شعره قصص الأنبياء ، وأفكارا تتعلق بأمور الآخرة كالميزان ، والجنة والنار .. إلخ. وكان يأتي بألفاظ وأفكار لا تعارضها العرب يأخذها من الكتب المتقدمة ، وبأحاديث يأخذها من أحاديث أهل الكتاب (١).

والأفكار التي أتى بها أمية في هذه الأبيات من هذا القبيل وصف للناس وأحوالهم في اليوم الآخر ووصف لما فيه من ميزان وحشر وصراط وجنة ونار وتبشير للمؤمنين وتبكيت للمجرمين ، وكلها صور من موقف الحساب والجزاء يوم القيامة وقد اشتملت عليها الكتب السماوية السابقة التي اطلع عليها.

فتوافقها مع العبارات القرآنية كتوافق أفكار ومصطلحات مع التوراة والإنجيل مع الفوارق في اللغة والأسلوب.

ثم إن أمية بن أبي الصلت من المعروف أنه كان معاصرا لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما سبق ذكره وعاش واستمر في قرض الشعر طوال ما يقرب من ثماني سنوات بعد هجرة المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حيث توفي سنة (٩ ه‍) (٢) ومن هنا نشعر بالتشابه بين شعر أمية والقرآن الكريم ، لذا يكون من التعسف الادعاء بأن هذا الشعر كان سابقا للقرآن من الناحية التاريخية .. وأضيف أن أمية لم يدع الأصالة ولا الإلهام بل إنه كثيرا ما عبر عن خيبة أمله وأسفه في هذا الشأن. مما يحملنا على الاعتقاد بأنه اندفع إلى التقليد بروح المنافسة (٣) والذي يزيدني جزما أن أمية

__________________

(١) انظر الشعر والشعراء ص ٢٢٧.

(٢) معجم الشعراء الجاهليين والمخضرمين ص ١٥٢.

(٣) انظر مدخل إلى القرآن الكريم ص ١٤٣ ـ ١٤٤.

٢٥٨

هو المقتبس من القرآن ما قاله الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي [أن أمية يأخذ في شعره الكوني والديني من أساليب القرآن ومعانيه وروحه كما في قوله من قصيدة :

عند ذي العرش يعرضون عليه 

يعلم الجهر والكلام الخفيا

يوم نأتيه وهو رب رحيم 

إنه كان وعده مأتيا

يوم نأتيه مثل ما قال فردا

لم يذر فيه راشدا وغويا

أسعد سعادة أنا أرجو

أم مهان بما كسبت شيئا

رب كلا حتمته وأرد النار

كتابا حتمته مقضيا

ولأمية قصائد أخرى عليها الطابع القرآني كقصيدته في حادثة الفيل وقصة إرسال الله موسى وهارون عليهما‌السلام إلى فرعون وغيرهما من القصص.

وأنا لا أشك في سعة ثقافة أمية لنهله من النصرانية حتى عده بعضهم من شعرائها فقصد القصائد في القصص الإنجيلي كقصيدته في قصة مريم وابنها عيسى عليهما‌السلام. ولنهله من اليهودية حتى عد من روادها الذين قصدوا لها حيث نظم قصائد كثيرة في القصص التوراتي. فهذا كله يجعلنا نزداد جزما أن أمية كما أخذ من التوراة والإنجيل أخذ من القرآن لا العكس](١).

كما أن كثيرا من الأشعار المنسوبة إليه محل ريبة كما ذكر ذلك أكثر من واحد. حيث صنعها غيره ونسبوها له ؛ لمعرفتهم بطبيعة شعر أمية. ولتأخذ طابع الأقدمية والأصالة.

وقد ذكر الريبة في بعض أشعار الجاهليين وإلصاق بعض الأشعار لهم مع أنهم لم يقولوها بعض المستشرقين أمثال «تيودور نولديكه» و «ديفيد صمويل رجليوث» و «ه. الفرت» و «أ. بروينلش» و «أجنتس جولد تسيهر» و «أوجست أشبرنجر» و «ف. كرنكسوف» ، وغيرهم.

__________________

(١) انظر الشعراء الجاهليون ص ٩٥ ـ ١١٦ (بتصرف).

٢٥٩

وأنا أقول إنه قد حصل مثل هذا من حماد الراوية ، وخلف الأحمر ، ولكنه ليس بالقدر الذي يسقط كل الشعر الجاهلي لأن الشعر يعتبر من أسس فهم النص القرآني لنزوله بلغة هؤلاء الجاهليين.

وهذا هو أساس تركيز المستشرقين على هذه القضية باعتبار هذا الشعر أساسا للقرآن ومصدرا من مصادره.

والملاحظ من دراساتهم المستفيضة لهذا الجانب ومع حرصهم عليه لم يجمعوا إلا أبياتا معدودة.

ثم هناك أمر آخر يرد عليهم فريتهم وهو أن خصوم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانوا دائما على يقظة لأقل ثغرة يجدونها ليوجهوا من خلالها ضربتهم ضد الإسلام ويحولوه إلى سخرة واستهزاء ، ألم يكن من الأيسر لهؤلاء ، أن يضعوا يد الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على مسروقاته المفضوحة من شعر أمية وامرئ القيس وغيرهما هذا الشعر الذي لم يكن قد جف مداده بعد ـ بدلا من أن يوجهوا حججهم في كل اتجاه ، وأن يلجئوا إلى كل افتراض وافتراء ، حتى وصل بهم الأمر إلى حد وصم الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالجنون تارة وبالسحر تارة أخرى إلى غير ذلك لتفسير ظاهرة الوحي.

والقرآن الكريم كان أساس الإنتاج الأدبي في عصر نزوله والعصور التالية لذلك.

والشاعر دائما كما هو معروف همه جمال القالب الشعري بغض النظر عن المصدر الذي يأخذ منه خاماته ، وهذا ما ثبت من شعر أمية بصفة خاصة الذي كان يأخذ من عدة مصادر وهذا ما لاحظه «هوارت» على أمية حيث قال عنه : كان أمية إذا وصف النار قد أسلوب التوراة ، وإذا وصف الجنة استخدم عبارات القرآن ، وإذا نظم قصص التاريخ الديني لجأ أحيانا إلى الأسطورة الشعبية وإلى ما يشبه الأساطير الميثولوجية أي (الأساطير الإلهية اليونانية. حيث يتمثل

٢٦٠

الشخص أحيانا في صورة إنسان أو حيوان أو نبات) (١).

كما أن المشابهة بين لفظة أو لفظتين مع اختلاف دلالتها ليست دليلا على الاقتباس والأخذ كما هو في أبيات امرئ القيس المزعوم نسبتها له.

والملاحظ أن هذه الأبيات لم تثبت تاريخيا لامرئ القيس إلا عند المستشرقين أنفسهم.

والأبيات المزعومة تتحدث عن وصف الحبيبة الموعودة باللقاء وفيها يتغزل الشاعر بمحبوبته فقصده من (الساعة) ساعة موعد اللقاء ، ويقصد (بانشقاق القمر) ظهور وجه محبوبته من وسط سواد شعرها أو ظلام الليل. ويقصد ب (فتعاطى فعقر) أن سهام العيون ولحاظ النظر أصابته فجرحته وجعلته (كهشيم المحتظر) بينما نجد أن القرآن الكريم استعمل هذه الكلمات في الحديث عن الكون ومصيره ، وعن معجزة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الباهرة في انشقاق القمر عند ما طلبت قريش منه ذلك (٢).

أما عبارة (فتعاطى فعقر) القرآنية فقد وردت في سياق الحديث عن الفاسق الشقي من قوم صالح الذي انطلق لعقر ناقة نبي الله صالح ـ عليه‌السلام ـ والتي سبق أن طلبوها منه ليدلل على صدق دعوته ونبوته.

والآيات كما وردت في سورة القمر قال تعالى : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ)(٣).

فلو سلمنا صحة نسبة هذه الأبيات لامرئ القيس فوجود هذه الألفاظ المستعملة في غير ما استعملت له في القرآن الكريم لا يقتضي الأخذ والاقتباس.

__________________

(١) انظر مدخل إلى القرآن ص ١٤٣ ـ ١٤٤ (بتصرف).

(٢) انظر حادثة انشقاق القمر في مسند الإمام أحمد ١ / ٣٧٧ وغيره من كتب السنة.

(٣) سورة القمر : (٢٧ ـ ٣١).

٢٦١

فالقرآن الكريم قد نزل بلغات العرب وأساليبهم والقرآن عربي وأسلوبه عربي وقد استعملت هذه الألفاظ قبل نزول القرآن وبعده ولم يدّع أحد من معاصريه أن القرآن مقتبس من شعر الشعراء أو خطب الخطباء أو كلام الكهان مع معرفتهم بكل ذلك. ولو ثبت شيء من ذلك لرفعت قريش عقيرتها بإبطال دعوى محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بل شهدت بعكس هذا.

قال ضماد بن ثعلبة الأزدي لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (لقد سمعت قول الكهنة ، وقول السحرة ، وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ، ولقد بلغن ناعوس البحر) (١).

وقول عتبة بن ربيعة في القرآن لقريش بعد مناظرته رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ [.. فلما جلسوا إليه قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائي أني والله قد سمعت قولا ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ولا الكهانة ، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ..](٢).

قال دراز : إن أدنى الألقاب إلى القرآن في خيال العرب أنه شعر ، لأنها وجدت في توقيعه هزة لا تجد شيئا منها إلا في الشعر. ومع هذا :

فالقرآن الكريم ليس بأنغام الموسيقى ولا بأوزان الشعر لأنك ستجد فيه شيئا آخر لا تجده في الموسيقى ولا في الشعر.

ذلك لأنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هي تتحد الأوزان فيها بيتا بيتا ، وشطرا شطرا ، وتسمع القطعة من الموسيقى فإذا هي تتشابه أهواؤها وتذهب مذهبا متقاربا. فلا يلبث سمعك أن يمجها ، وطبعك أن يملها ، إذا أعيدت وكررت عليك بتوقيع واحد. بينما أنت من القرآن أبدا في لحن متنوع متجدد ،

__________________

(١) انظر صحيح مسلم. كتاب الجمعة ٢ / ٥٩٣ حديث ٤٦.

(٢)؟؟

٢٦٢

تنتقل فيه بين أسباب وأوتار وفواصل على أوضاع مختلفة يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء. فلا يعروك منه على كثرة ترداده ملالة ولا سأم ، بل لا تفتأ تطلب منه المزيد.

هذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن الكريم لا يخفى على أحد ممن يسمع القرآن الكريم ، حتى الذين لا يعرفون لغة العرب فكيف يخفى على العرب أنفسهم؟ (١).

هذا هو اعتراف أهل الفصاحة والبلاغة والشعر أن القرآن ليس بشعر ولا يشبهه فهل بلغ بالمستشرقين أن أصبحوا أكثر من أهل العربية فصاحة وبلاغة وقدرة على وقوفهم على ما هو شعر مما هو قرآن؟ أم هو الجهل الفاضح والحقد الدفين؟ يستدرجون به عقول بعض السذج ليكبروهم ويعظموهم ويظنون أنهم أتوا بما لم تأت به الأوائل.

٢ ـ المصدر الثاني :

الحنفاء :

ذهب بعض المستشرقين ومنهم «تسدال» و «مستر كانون سل» (٢) وغيرهما إلى أن الحنيفية ورجالها قبل البعثة المحمدية هم أحد مصادر القرآن الكريم بدليل وجود توافق وتشابه بين أحكام القرآن وهداياته وبين ما كان يدعو إليه الحنفاء مثل :

١ ـ الدعوة لإفراد الله بوحدانيته سبحانه وتعالى.

٢ ـ رفض عبادة الأصنام.

٣ ـ الوعد بالجنان.

٤ ـ الوعيد بالعقاب في جهنم.

__________________

(١) انظر النبأ العظيم ، دراز ، ص ١٠٢ ، ١٠٣ (بتصرف).

(٢) انظر مصادر الإسلام ص ١٩٨ وما بعدها ، وكتاب حياة محمد ص ٥٦ ـ ٥٧.

٢٦٣

٥ ـ اختصاص المولى تعالى بأسماء منها : الرحمن ، الرب ، الغفور ٦ ـ منع وأد البنات.

٧ ـ الإقرار بالبعث والنشور والحشر والحساب .. إلخ.

وقد زعم «شبرنجر» أن أفكار محمد لا تخرج عن الأفكار التي كان يدعو إليها زيد بن عمرو بن نفيل (١) أحد هؤلاء الحنفاء.

قلت : من أجل هذا ركز المستشرقون في أبحاثهم على أصل كلمة «حنف» وما يشتق منها كحنيف ، وحنفاء. وهل هي عربية الأصل أم عبرية؟ أم كنعانية آرامية؟ وعلى معانيها : هل هي بمعنى كافر؟ أو مشرك؟ أو تدل على الراهب النصراني إلى غير ذلك من المعاني التي ذكروها لهذه الكلمة. وزيادة في اهتمامهم بهذه الكلمة كتبوا فيها أبحاثا وكتابات مختلفة (٢).

وهذه الكلمة من (الحاء والنون والفاء) عربية الأصل وهي بمعنى الميل يقال للذي يمشي على ظهور قدميه أحنف ، والأصح أن الحنف اعوجاج في الرجل إلى الداخل والحنيف : المائل إلى الدين المستقيم قال الله تعالى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً)(٣) والأصل هو هذا ، ثم اتسع في تفسيره فقيل : الحنيف الناسك ، ويقال : هو المختون ، ويقال : هو المستقيم الطريقة ، ويقال : هو يتحنف أي يتحرى أقوم الطرق (٤) فالحنيف إذن الصحيح الميل إلى الإسلام والثابت عليه والدين الحنيف الإسلام ، والحنيفية ملة الإسلام وفي الحديث «أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة» (٥).

فالحنفاء : مجموعة من الناس متفرقين مالوا عن الوثنية وعن عبادة الأصنام إلى التوحيد ، إذن فلم يكن هؤلاء على رأى واحد ولا طائفة واحدة تسير على

__________________

(١) انظر تاريخ القرآن ١ / ١٨.

(٢) انظر دائرة المعارف الإسلامية ٨ / ١٢٤ ـ ١٣٠.

(٣) سورة آل عمران آية (٦٧).

(٤) معجم مقاييس اللغة ٢ / ١١٠ ـ ١١١.

(٥) انظر صحيح البخاري ١ / ١٥ كتاب الإيمان ـ باب ٢٩ الدين يسر.

٢٦٤

شريعة واحدة ثابتة ، وإنما هم نفر من قبائل شتى ظهروا في مناطق مختلفة اتفقت فكرتهم في رفض عبادة الأصنام وفي الدعوة إلى الإصلاح.

وكان ظهورهم في أماكن مختلفة ومتباعدة في زمن واحد فظهروا في اليمن متأثرين بمبادئ التوحيد التي حملتها إليهم اليهودية والنصرانية. وظهروا في مصر على يد «أخناتون» الذي كان داعية التوحيد عندهم. وظهروا في بلاد فارس على يد «زرادشت» بعد مولد إبراهيم عليه‌السلام بنفس الدعوة. وظهروا في الجزيرة العربية امتدادا لدعوة أبينا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما‌السلام ، فبقوا محافظين على شيء من تراث إبراهيم عليه‌السلام من دعوة للوحدانية ، ونبذ لعبادة الأصنام ، والإقرار بالبعث والنشور ، والحشر وتبشير المؤمنين بالجنة ، وتخويف الكافرين من النار ، والابتعاد عن الخمر ، ووأد البنات ، وسيّئ الأخلاق.

وخير من وضح عقيدتهم «القس بن ساعدة» حيث وقف يوما في عكاظ خطيبا فقال : [… كلا بل هو إله واحد ، ليس بمولود ولا والد ، أعاد وأبدى ، وأمات واحيا ، وخلق الذكر والأنثى ، رب الآخرة والأولى. أما بعد : فيا معشر إياد ، أين ثمود وعاد؟ وأين الآباء والأجداد؟ وأين العليل والعواد؟ كل له معاد يقسم قس بن ساعدة برب العباد ، وساطح المهاد ، لتحشرن على الانفراد ، في يوم التناد ، إذ نفخ في الصور ، ونقر في الناقور ، وأشرقت الأرض ، ووعظ الواعظ ، فانتبذ القانط والصبر اللاحظ ، فويل لمن صدف عن الحق الأشهر ، والنور الأزهر ، والعرض الأكبر ، في يوم الفصل ، وميزان العدل ، إذا حكم القدير ، وشهد النذير ، وبعد النصير ، وظهر التقصير ، ففريق في الجنة وفريق في السعير ..](١).

وكانوا يستدلون على هذه الوحدانية بالعلاقات الكونية وإطالة التأمل والتفكر موضحين أنفتهم عن ديانة قومهم.

__________________

(١) البداية والنهاية ٢ / ٢٣٣ ـ ٢٣٣.

٢٦٥

حيث قال قس بن ساعدة في سوق عكاظ يوما كذلك مبينا هذا الأمر :

[يا معشر الناس اجتمعوا فكل من فات فات ، وكل شيء آت آت ، ليل داج ، وسماء ذات أبراج ، وبحر عجاج ، نجوم تزهر ، وجبال مرسية ، وأنهار مجرية ، إن في السماء لخبرا ، وإن في الأرض لعبرا ، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون ، أرضوا بالإقامة فأقاموا ، أم تركوا فناموا ، أقسم قس بالله قسما لا ريب فيه ، أن لله دينا هو أرضى من دينكم هذا ..](١).

والذي يؤكد أنهم كانوا على دين إبراهيم ومحافظين على بقايا شرعه ما حصل من زيد بن عمرو بن نفيل كما حدثت بذلك أسماء بنت أبي بكر قالت :

«لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول : يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح منكم على دين إبراهيم غيري» (٢).

أما عباداتهم فقد ذكر أنه كان لهم صلاة فيها سجود. وذكر أنهم كانوا يعظمون الكعبة حيث قال زيد : اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلم ثم يسجد على راحلته ، وكان يصلي إلى الكعبة وكان زيد «يحيي الموؤدة ولا يأكل الميتة» (٣).

وهؤلاء الحنفاء كانوا حريصين أن يصلوا لدين إبراهيم عليه‌السلام ، وكانوا على يقين أن الله سيبعث من يجدد أمر دين إبراهيم عليه‌السلام (٤) فاختاروا في ذلك كثيرا وأجهدوا أنفسهم في الوصول لذلك ، فساحوا في البلاد يلتمسون ما عند أهل الكتاب والملل لعلهم يجدون بغيتهم ، لذا فتنصر بعضهم كورقة بن نوفل ، وعثمان بن حويرث ، وعبيد الله بن جحش ، وتهود آخرون.

فبانتقالهم للنصرانية واليهودية يكونوا قد تركوا الحنيفية. أما من هداه الله

__________________

(١) نفس المرجع ٢ / ٢٣٠.

(٢) نفس المرجع ٢ / ٢٣٧.

(٣) نفس المرجع السابق ٢ / ٢٣٨.

(٤) الوحي المحمدي ٢ / ٩٦ ـ ٩٨.

٢٦٦

منهم للإسلام فأسلم فيكون قد أصاب الحنيفية الحقة كزيد بن عمرو بن نفيل وأبي قيس بن الأسلت وعبيد الله بن جحش الذي أسلم بعد تنصره ومات على الحنيفية الأولى ، ومنهم كذلك قس بن ساعدة الذي ذكر أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سمعه في سوق عكاظ يخطب وقد مات قبل بعثة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (١).

وهؤلاء جميعا كانوا يبحثون عن دين كالإسلام ويبشرون بنبيه ويتمنون لو يدركوه فينصروه ويسلموا معه كما وضح ذلك (قس بن ساعدة) وورقة بن نوفل.

أما ما استوهمه المستشرقون أن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم تتعد أفكاره أفكار هؤلاء الحنفاء ، ودعوته لم تتعد ما دعوا إليه ، فهذا ناتج عن جهلهم بحقيقة الإسلام وتاريخ نبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ. فالمعروف من سيرة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه لم يجلس لأحد من هؤلاء الحنفاء جلسة تعلم وإنما كان لقاؤه لهم لقاء عابرا وكانوا هم بحاجة لمن يبصرهم ويرشدهم للدين الذي يرضاه الله عزوجل. وأنا لا أنكر أنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لاقى بعضهم على جمل له أورق وذلك قبل البعثة وهو يخطب ويخبر بقرب بعثة نبي أظل زمانه وقد تمنى لو يدركه فيسلم معه وينصره وقد بشر من ينصره بالجنة وخوف من يخالفه بالنار. كما لاقاه ورقة بن نوفل مرتين لمدة قصيرة : فالأولى منهما كانت بطلب من السيدة خديجة ـ رضي الله عنها ـ وبحضورها معه لتستوضح له من ورقة عن حقيقة ما رآه من أمر الوحي. والمرة الثانية لقيه ورقة في الطريق وقبل رأس رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأخبره أنه نبي هذه الأمة وتمنى لو يدركه وينصره يوم يخرجه قومه.

وهؤلاء الحنفاء كانوا في حيرة من أمرهم يبحثون عمن يوصلهم لدينه الذي يرضاه لهم أي دين إبراهيم عليه‌السلام.

__________________

(١) ضعف المحدثون هذه الرواية ، وحكم عليها ابن الجوزي بالوضع والاختلاق ذكر ذلك الأستاذ أبو شهبة ، انظر المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة ص ٩٦.

٢٦٧

والناظر بأدنى تأمل في القرآن الكريم وما أتى به هؤلاء الحنفاء يرى البون الشاسع بينهما يرى بساطة ما دعوا إليه ويرى مقابله قرآنا معجزا في لغته وأسلوبه قد عجز العرب جميعا عن مضاهاته مع فصاحتهم وطلاقة ألسنتهم.

ويرى قرآنا معجزا في تشريعاته صغرت أمامه كل التشريعات البشرية ، ويرى قرآنا معجزا في وضوح عقيدته وتكاملها وصدق نبوءته فيما أخبر عنه من غيبيات ، وحقائق علمية ثابتة تحققت في حياته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبعد مماته ، كما أنه من المعروف أن هذا القرآن بقي يتنزل بعد موت هؤلاء الحنفاء حسب ما تقتضيه الحاجة والمصلحة فمن أين يا ترى هذه الاستمرارية له؟.

ثم إن هؤلاء الحنفاء كانوا هم أنفسهم يخبرون الناس بقرب بعثة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكانوا يطلبون من الناس أن يتبعوه ولا يخالفوه ويتمنوا لو يدركوه فيسلموا معه وينصروه ، فلو كانوا هم الأصل لدعوته ولتعليمه لقاموا بالدعوة لذلك بأنفسهم وتصدروا أمر الرسالة ، ونسبوا لأنفسهم هذا الشرف العظيم بل قد تشرفت نفوس بعضهم واشرأبت أعناقهم لهذا الفضل «كأمية بن أبي الصلت» الذي لبس المسوح وترهب طمعا به ولكن الله سبحانه يؤتي فضله من يشاء من خلقه والله ذو الفضل العظيم.

وهذا يدل على فقدهم لهذا الشيء ، وفاقد الشيء لا يعطيه.

أما كون الإسلام التقى مع دعوة الحنفاء في بعض ما صرحوا به واعتقدوه فلا غرابة في ذلك لأن ما عندهم بقايا لدين إبراهيم عليه‌السلام والإسلام كلاهما من مصدر واحد وهو الوحي الإلهي. فمن هذا القبيل جاء الاتفاق بينهما بالدعوة إلى وحدانية الله سبحانه وتعالى ، ومحاربة الشرك بأنواعه ، وخلع عبادة الأصنام ، والأوثان بأشكالها والدعوة للأخلاق الفاضلة ، ومحاربة الفساد والرذيلة.

لكن كل ذلك كان في الإسلام أتم وأكمل وأشمل.

والإسلام ما جاء ليهدم كل ما وجده في طريقه ، لا بل ما كان منه موافقا للإسلام أبقاه ودعمه وأحياه ووضح هذا المعنى قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (بعثت لأتمم

٢٦٨

مكارم الأخلاق) (١) وهذا المبدأ الذي جعل الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يحضر حلف الفضول في دار عبد الله بن جدعان قبل بعثته لأنه يتمشى مع فطرته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويلائم ما نشأه الله عليه سبحانه. ومنه كان عليه الصلاة والسلام يثني على صاحب الخلق النبيل حتى لو كان مشركا كثنائه على حاتم الطائي لكرمه. وما كان منه مخالفا له فحاربه لمحاربته للشر وللخلق الهابط كمحاربته التعري حول البيت أثناء الطواف لعدم ملاءمته حرمة المكان ولمخالفته للفطرة السوية ولأنه تأباه النفس الأبية الزكية (٢) هذه هي نقطة اللقاء بين الإسلام والحنيفية لا كما يفهم المستشرقون.

ومن هنا يتبين الفرق بين نبوة كاملة تامة ، وشرع متكامل ، وقرآن معجز عظيم وبين بقايا دين طمس نوره بين حطام الجاهلية وأو حال الشرك والوثنية ، فالقرآن بما حواه من لغة رفيعة المستوى ، وأسلوب محكم بديع وبما فيه من فصاحة وبلاغة خارقة ، وحكم بالغة ، وأمثال محكمة ، وذكر لأحوال الماضين من أنبياء وأمم وأنباء المستقبل ، وعلاقة الإنسان بخالقه وعلاقته بغيره ، والتشريع العظيم الشأن الذي صار موضوع بحث الأئمة المجتهدين ، والعلماء الأعلام لا يكون مصدره اجتماع «زيد بن عمرو» برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مصادفة في حراء أو في الطريق (٣) ولكنها الرسالة التي بعث بها أكرم رسول وهو محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من عند الله عزوجل. فوافق نوره بقايا النور الإلهي الضارب في أعماق التاريخ لإبراهيم عليه‌السلام والذي حمل مشعله ركب الأنبياء الكرام من ذريته ، وتعهده الصالحون من أقوامهم ، أمثال هؤلاء الحنفاء الذين كانوا يتمنون أن يدركوه وينالوا من شرف الإسلام العظيم كما نال ذلك منهم أبو قيس بن الأسلت في المدينة المنورة وغيره.

__________________

(١) الموطأ للإمام مالك بن أنس ٢ / ٩٠٤ كتاب حسن الخلق باب ١ حديث رقم ٨ وهو بلفظ (حسن) بدلا من (مكارم).

(٢) انظر سيرة بن هشام ١ / ١٤٢ ، وانظر رد مفتريات على الإسلام ، د / عبد الجليل شلبي ص ٨٠.

(٣) حياة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) محمد رشيد رضا ص ٥٦ ـ ٥٧.

٢٦٩

وبهذا يسقط المصدر الثاني المزعوم للإسلام من قبل هؤلاء المستشرقين.

والحمد لله رب العالمين ..

٣ ـ المصدر الثالث :

اعتبر المستشرقون الصابئة مصدرا من مصادر القرآن الكريم وذلك للتشابه بينها وبين ما جاء في القرآن من عقائد وعبادات ونسك حيث قالوا : إن التأثير من الصابئة انتقل لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عبر الوسط الوثني الذي عاش فيه محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأخذ منه كثيرا من طقوسه الدينية ممثلا في (١) :

١ ـ التشابه بين الصابئة والإسلام في الصلاة.

٢ ـ التشابه في الصوم وارتقاب انتهائه وارتقاب الأعياد ببعض الكواكب.

٣ ـ التشابه في الحج والتلبية وتقديم القرابين.

وقد زعموا أن اسم الصابئة مشتق من الأصل العبري «ص بء» أي غطس ثم أسقطت العين وهو يدل على المعمدانيين الذين يمارسون شعيرة التعميد أو الغطاس (٢).

قلت : كلمة الصابئة أصلها عربي لا كما زعم المستشرقون فهي من مادة صبأ يصبأ صبأ وصبوءا وصبؤ يصبؤ صبأ وصبوءا كلاهما : خرج من دين إلى دين آخر كما تصبأ النجوم أي تخرج من مطالعها.

والعرب كانت تسمي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الصابئ ، لأنه خرج من دين قريش إلى الإسلام ، ويسمون من يدخل في دين الإسلام مصبوا من هذا القبيل لأنهم كانوا لا يهمزون (٣).

أما الصابئة : لما مالوا عن سنن الحق وزاغوا عن نهج الأنبياء سموا بهذا

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام ص ١١ ـ ١٢ ، وانظر المدخل إلى القرآن الكريم ص ١٣٢ ـ ١٣٣.

(٢) انظر دائرة المعارف الإسلامية ج ١٤ / ص ٨٩.

(٣) لسان العرب ٢ / ٣٩٩.

٢٧٠

الاسم (١) وبعضهم رجح أن أصلها من «سبح» لأن ديانة الصابئة تشترط القرب من الماء وتجعله المطهر الأول ، فلا زواج عندهم ولا صلاة ولا صيام ولا حياة إلا به.

أما المستشرقون فيرجحون أنها من العبرية «ص بء» بمعنى غطس. والصابئة من أكثر الفرق صعوبة في الحكم عليها حيث إنها تلتقي مع كثير من الديانات السماوية وغير السماوية سواء في العقائد أو في العبادات أو غير ذلك ومن أجل هذا اختلفت أحكام الناس عليهم من القديم وعلى ما كان وجودهم.

١ ـ فمن قائل : أنهم قوم لا دين لهم بين اليهود والمجوس كانوا في العراق وهو مروي عن مجاهد وأبي نجيح والحسن وغيرهم.

٢ ـ ومن قائل : هم أهل دين من الأديان كانوا بجزيرة العرب يقولون لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا هذه الكلمة وهو مروي عن ابن زيد.

٣ ـ ومن قائل : هم عبدة الملائكة يصلون إلى القبلة ويصلون الخمس ويقرءون الزبور وهو عن زياد بن أبيه وبعضهم قال : بل قبلتهم من مهب الشمال وبعضهم قال : بل إلى مهب الجنوب (٢).

٤ ـ ومن قائل : هم فرقة من أهم الكتاب يقرءون الزبور وهو مروي عن أبي العالية(٣).

٥ ـ ومن قائل : أنهم قوم يزعمون أنهم على دين نوح عليه‌السلام ، بكذبهم.

٦ ـ ومن قائل : الصابئون قوم يشبه دينهم دين النصارى إلا أن قبلتهم.

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ٢ / ٧٦.

(٢) انظر لسان العرب ٢ / ٣٩٩.

(٣) انظر تفسير الطبري ٢ / ١٤٧ (الأقوال الأربعة الأولى من تفسير الإمام الطبري).

٢٧١

نحو الجنوب (١).

٧ ـ ومن قائل : هم قوم على دين صابئ بن شيث بن آدم (٢) وبعضهم زاد أنهم كانوا يؤمنون بنبوة هرمس أي إدريس عليه‌السلام (٣).

وذكري لهذه الأقوال يوضح مدى اختلاف الناس في هذه الفرقة وحيرتهم فيها.

فمن قال : إنهم وثنيون فذلك لعبادتهم الأصنام والكواكب والملائكة وتقديمهم القرابين لها.

ومن قال : هم من اليهود فذلك لموافقتهم اليهود في طريقة الذبح وحرق القرابين.

ومن قال : هم فرقة من النصارى فلالتقائهم معهم في التعميد في الماء ولتعظيمهم يوم الأحد. ولاتفاقهم معهم في بعض الأعياد.

ومن اتهم المسلمين بأخذهم منهم كالمستشرقين وذلك لما يجمع بينهما من صلاة وتوجه للقبلة ، وصيام وارتقاب انتهائه بأحد الكواكب ، وحج وتلبية على حد زعمهم ، واختلافهم بالحكم عليهم كذلك لكونهم فرق متعددة أشهرها :

١ ـ المندائيون وهم أصحاب الروحانيات وهي فرقة يهودية نصرانية تمارس شعيرة التعميد ، وتعظم يوم الأحد (٤).

٢ ـ الحورانيون : الكلدانيون وهي فرقة وثنية تؤمن بالكواكب السبعة وتقدم لها القرابين وهم الذين أرسل فيهم إبراهيم عليه‌السلام في العراق وحاججهم في عبادتهم للنجوم وقصته معهم في القرآن الكريم مشهورة.

__________________

(١) لسان العرب ٢ / ٣٩٩.

(٢) المصباح المنير ١ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

(٣) الصابئون ص ١٤٤.

(٤) منهج إبراهيم عليه‌السلام في الدعوة إلى الله في ضوء القرآن / لمحمد الدريعي لسنة ١٤٠٢ / ١٤٠٣ ه‍ (رسالة جامعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية).

٢٧٢

وأنا أرجح أن هذه الفرقة هي التي كانت في بابل في العراق وأرسل لهم سيدنا إبراهيم عليه‌السلام وحاججهم بعبادتهم للنجوم واعتقاداتهم بها أنها تضر وتنفع ، وفي تقديمهم القرابين لها.

ومن هذا الباب يكون لهذه الفرقة كتاب أو شبهة كتاب على الأقل لوجود فيهم بعض الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام والحج .. إلخ مما هو موجود في الإسلام مع الاختلاف في كيفية هذه العبادات وأوقاتها والناحية التي يتوجهون بها للصلاة.

ولا شك أنها كبقية الأديان دخلها التحريف والتبديل.

لذا سأركز في ردودي على المستشرقين من خلال عبادات هذه الفرقة لما فيها من تشابه ظاهري مع العبادات في الإسلام.

أقول وبالله التوفيق :

الشبهة الأولى : التشابه بين الصابئة والإسلام في الصلاة :

قلت : بعد رجوعي لما كتب عن الصابئة وجدت أن الباحثين اختلفوا في عدد صلواتهم فقد ذكر «تسدال» أنها سبع (١) وذكر الأستاذان : «عبد الفتاح الزهيري وفريد المنصور» أنها كانت خمسا وبعد توصية النبي يحيى ـ عليه‌السلام ـ صارت ثلاثا (٢).

أما كيفية صلاتهم فهي تختلف عن صلاتنا ـ المسلمين ـ فصلاتهم الأولى : قبل طلوع الشمس بنصف ساعة أو أقل ؛ لتنقضي مع طلوع الشمس وهي ثمان ركعات وثلاث سجدات في كل ركعة.

والصلاة الثانية : انقضاؤها مع زوال الشمس ، وهي خمس ركعات وثلاث سجدات في كل ركعة.

__________________

(١) مصادر الإسلام ص ١٢.

(٢) الموجز في تاريخ الصابئة ص ١٠٢.

٢٧٣

والصلاة الثالثة : مثل الثانية ، وانقضاؤها يكون عند غروب الشمس وصلواتهم النافلة التي هي بمنزلة الوتر في لزومه للمسلمين ثلاث صلوات كل يوم.

الأولى : في الساعة الثانية من النهار ، والثانية : في الساعة التاسعة من النهار ، والثالثة : في الساعة الثالثة من الليل.

ولا صلاة عندهم إلا على طهور (١).

وصلاتهم فيها وقوف وركوع وجلوس على الأرض من غير سجود بمجموعة من الأدعية والأذكار وباللغة المندائية ، وبالتوجه فيها لحران بالعراق على أصح الأقوال (٢).

والصلاة بحد ذاتها أمر فطري ومطلب شرعي في كل الديانات السماوية وكون وجود صلاة عند الطرفين أمر طبيعي لا غرابة فيه على اعتبار أنهم أهل الكتاب أو لهم شبهة كتاب.

كما أنه بينت أن صلاتهم على خلاف صلاة المسلمين في أوقاتها وهيئاتها. فصلاتنا خمس مرات في اليوم والليلة وهي بقيام وركوع وسجود وجلوس وقراءة قرآن وبمجموعة من الأذكار والأدعية. بعكس صلاتهم في كثير من هذه الأمور.

لذا ما زعمه «تسدال» من مصدرية الصابئة للإسلام استنادا لمثل هذه الشبهة زعم باطل ينقصه الدليل ، ويرده الواقع. وهو أمر تلبيسي لا أكثر ولم يخل دين من الأديان من وجود شعائر تعبدية وعلى رأسها الصلاة كاليهودية والنصرانية ..

الشبهة الثانية :

التشابه في الصوم وارتقاب انتهائه ، وارتقاب الأعياد ببعض الكواكب.

__________________

(١) انظر الفهرست لابن النديم ص ٤٤٢ ـ ٤٤٣.

(٢) الموجز في تاريخ الصابئة ص ١٠٢.

٢٧٤

سبق أن أشرت أنه لا يوجد دين من الأديان السماوية إلا وفيها ألوان من العبادة ، والصوم واحد من تلك العبادات المشتركة بين الديانات السماوية.

فالصوم عبادة عرفت من القدم فقد كانت عند قدماء البابليين والآشوريين والمصريين ، وهذا ما أشارت له الآية القرآنية وهي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١).

والصوم من العبادات التي عرفتها الصابئة الحرانيون (٢) وهي عندهم ثلاثين ليلة من الليل إلى شروق الشمس (٣) (أولها لثمان مضين من اجتماع آذار ، وتسعة أخر أولها لتسع بقين من اجتماع كانون الأول ، وسبعة أيام أخر أولها لثمان مضين من شباط وهي أعظمها ، ولهم تنفل من صيامهم ، وهو ستة عشر وسبعة عشر وعشرون يوما).

أما الصابئة المندائيون الحاليون يحرمون الصيام في طقوسهم الدينية ويرون أنه من باب تحريم ما أحله الله ، وإن كانوا يتظاهرون به في أول رمضان من كل سنة مجاراة لمجاوريهم من المسلمين كما كان يفعل ذلك أبو إسحاق الصابئي مع الشريف الرضي.

ونجدهم يمتنعون عن أكل اللحوم المباحة لهم (٣٦) يوما ، متفرقة على طول السنة ، على نحو امتناع النصارى عنها (٤).

فالناظر بعين فاحصة مقارنا بين الصيام عند الصابئة وعند المسلمين يجد أن الاجتماع والاتفاق كان في كلمة الصوم لا غير أما في الحقيقة والصورة فهما مختلفان تماما.

فصيامهم ليلا بينما صيام المسلمين نهارا.

__________________

(١) سورة البقرة آية (١٨٣).

(٢) الصابئون ـ الحسنى ص ٨٧ ـ ٨٨.

(٣) مصادر الإسلام ـ لتسدال ص ١٢.

(٤) الصابئون ـ الحسنى ص ٨٧ ـ ٨٨.

٢٧٥

وصيامهم متفرق بينما صيام المسلمين شهر كامل.

وهو ليس عند كل فرقهم بل عند الحورانيين منهم أما المندائيون فيحرمونه كما ذكرت.

وكذلك عندهم صيام يشبه صيام النصارى لمدة (٣٦) يوما يمتنعون فيها عن أكل اللحوم المباحة.

ثم هناك الاختلاف في وقت الصيام بين الفريقين.

أبعد كل هذه الملاحظات على وجه المقارنة بين صيام أهل الملتين يبقى دليل مع «تسدال» وغيره ليزعم أن الإسلام أخذ منهم عبادة الصيام بل قد أثبت التاريخ أن الأيام التي كانوا يصومونها وفيها وجه شبه مع وقت الصيام عند المسلمين ما كانت من الصابئة إلا لمجاراة المسلمين الذين كانوا يملكون السلطة والتي كان يفقدها الصابئون.

فعبادة الصيام عندنا ـ المسلمين ـ عبادة فيها سمو روحي وترفع عن عالم الشهوة سواء كانت في الفرج أم البطن.

وفيها تقوية لعلاقة المسلم بخالقه سبحانه ، وفيها طريقة تربية في مدرسة الصبر على الجوع والحرمان والشعور بالغير ، إلى غير ذلك من المعاني السامية الرفيعة.

وأعيد للأذهان مرة أخرى أن التشريعات الإسلامية في العبادات وغيرها ما زالت غضة طرية كما أنزلها الله سبحانه وتعالى على قلب محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يدخلها التحريف أو التشويه أو التبديل كما دخل تشريعات الأمم الأخرى ، ومنها عادات الصابئة على اعتبار ما أشرت إليه سابقا أنهم أهل دين سماوي أو كتاب منزل (١) وبهذا تبطل الشبهة الثالثة التي استدل بها «تسدال».

__________________

(١) انظر تعليقنا السابق ص ١٨٨ ـ ١٨٩.

٢٧٦

شبهة ارتقابهم الأعياد عن طريق النجوم :

قلت : كان «تسدال» جعل مناط هذه الشبهة أن الصابئة تثبت أعيادهم بمراقبة خمسة نجوم في السماء وهي : (الجدي ، الزهرة ، زحل ، القمر ، والشمس).

وكذلك المسلمون تثبت أعيادهم بمراقبة أحد هذه الخمسة وهو القمر عند ما (يكون هلالا).

قلت : المعروف أن التقويم لأمم الأرض قديم جدا ، وهو إما شمسي وإما هلالي. والناس قد انقسمت عاداتهم في شهرهم وسنتهم القسمة العقلية. وذلك أن كل واحد من الشهر والسنة إما أن يكونا عدديين ، أو طبيعيين ، والسنة عددية ، أو بالعكس.

فالذين يعدونهما : فهؤلاء يجعلون الشهر ثلاثين يوما ، والسنة اثنى عشر شهرا. والذين يجعلونهما طبيعيين يجعلون الشهر قمريا ، والسنة شمسية.

ومنهم الذين جعلوا السنة طبيعية ، والشهر عدديا ، فهذا حساب الروم ، والسريانيين والقبط ونحوهم من الصابئين والمشركين. ممن يعد شهر كانون ونحوه عددا ويعتبر السنة الشمسية بسير الشمس.

أما اعتبار الشهر طبيعيا ، والسنة عددية فهو سنة المسلمين ومن وافقهم (١).

فالتقويم عند اليهود وعند المسلمين قمريا ، إلا أن اليهود يعتبرونه باجتماع القرصين ، أما النصارى فتجعل صيامها وسائر أعيادها دائرة على السنة الشمسية ، وتجعل سائر أعيادها دائرة على السنة الشمسية بحسب الحوادث التي كانت للمسيح عليه‌السلام.

__________________

(١) انظر تفصيل ذلك في كتاب الصابئين حرانيين ومندائيين ـ لرشدي عليان.

٢٧٧

وكذلك المجوس والصابئة وغيرهم من المشركين فتقويمهم بجعل السنة طبيعية والشهر عدديا ، أما ما جاءت به الشريعة الإسلامية هو أكملها وأحسنها وأبينها وأصحها وأبعدها من الاضطراب ؛ لأن رؤية الهلال أمر مشهور مرئي يدرك بالأبصار ، فلا يضل أحد عن دينه ، ولا يشغله مراعاته عن شيء من مصالحه ، ولا يدخل بسببه فيما لا يعنيه ، ولا يكون طريقا إلى التلبيس في دين الله كما يفعل بعض علماء أهل الملل بمللهم.

وما عليه الإسلام هو الأصل لكل الشرائع السابقة إلا أن أتباعها بدلوا كاليهود وعلقوا أحكامها باجتماع القرصين (الشمس والقمر) فإن اجتماعهما الذي هو تحاذيهما الكائن قبل الهلال هو أمر خفي لا يعرف إلا بحساب ينفرد به بعض الناس مع تعب وتضييع زمان كثير ، واشتغال عما يعني الناس ، وما لا بد له منه ، وربما وقع فيه الغلط والاختلاف.

وكذلك كما عند بعض الناس أن يحسبوا بمحاذاة الشمس للبرج الفلاني أو الفلاني فلا يعرف كذلك إلا بحساب فيه كلفة وشغل عن غيره مع قلة جدواه.

ومن هنا يظهر أن أفضل المواقيت ما كان متعلقا بالهلال كما عليه المسلمون أما الحول فلم يكن له حد ظاهر في السماء فكان لا بد فيه من الحساب والعدد وتكون السنة مطابقة للشهور التي عددها موافق لعدد البروج التي تكمل بدور الشمس فيها سنة شمسية اثنا عشر شهرا بعددها. وإذا دار القمر فيها كمل دورته السنوية وبهذا كله يتبين معنى قوله تعالى : (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ)(١) فإن عدد شهور السنة وعدد السنة بعد السنة إنما أصله بتقدير القمر منازل وكذلك معرفة الحساب فإن حساب بعض الشهور لما يقع فيه من الآجال ونحوها إنما يكون بالهلال. وكذلك قوله تعالى : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ)(٢).

__________________

(١) سورة يونس آية (٥) قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ. ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

(٢) سورة البقرة آية (١٨٩).

٢٧٨

وما دخل على أهل الكتاب والصابئين والمجوس وغيرهم من الاضطراب والحرج والمفاسد دخل عليهم ذلك من جهة المتفلسفة الصابئة (١).

وهكذا يلاحظ أن ضبط العبادات والأحكام بشيء من الكواكب أمر عليه كل الأمم منذ القديم وليس السير فيه على سنة الصابئة وإلا لكانت الصابئة مصدر المعرفة بهذا الباب لكل الأمم وهذا مردود.

ومن هنا تسقط هذه الشبهة كذلك.

ولله الحمد والمنة.

الشبهة الثالثة : التشابه في الحج والتلبية ، وتقديم القرابين :

قلت : بعد رجوعي لما كتب عن الصابئة لم أجد هناك تفسيرا حول هذه الشعيرة إلا أني وجدت أنه كان عندهم حج وكان عندهم تقديم القرابين للآلهة المزعومة عندهم.

أما الحج فهو عبادة موجودة في أهل الأديان وغيرهم وممتدة جذوره لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ الذي أذن في الناس بالحج فلبى نداءه كل من حج لبيت الله الحرام وسيلبيه كل من سيحج قال تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ* وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)(٢).

وقد وضحت دائرة معارف المستشرقين أن الحج لم يكن خاصا بالعرب دون غيرهم من الأمم ، بل كان كذلك عند اليهود والنصارى وبعض الوثنيين (٣)

__________________

(١) انظر مجموع فتاوي الإمام ابن تيمية رحمه‌الله ٢٥ / ١٣٤ ـ ١٤٢.

(٢) سورة الحج آية (٢٦ ـ ٢٧).

(٣) انظر دائرة المعارف الإسلامية ٧ / ٣٠٥.

٢٧٩

وقد فصلت هذا الأمر ورددت عليه في الشبهة الثانية من المصدر الأول فيرجع إليه.

ولكني أريد أن أوضح هنا أمرا مهما وهو أن المعروف أن الحج عند المسلمين يتم في مكة المكرمة وطوافهم بالكعبة وما يقدمونه من قرابين (الهدي) هو لله سبحانه خالصا دون سواه. وقد رخص الأكل منها.

أما عند الصابئة فحجهم يتم بحران بالعراق وليس حول الكعبة (١) وقبلتهم الثابت بشأنها أنها قبل الشمال باتجاه النجم القطبي ؛ وذلك لثبوته في محله وعدم تحركه (٢).

أما بالنسبة لقرابينهم فكانت تذبح لآلهتهم المزعومة من الكواكب كذبحهم للزهرة ولزحل .. إلى غير ذلك.

وكانت سنّتهم في قرابينهم أن تحرق تماما ، ولا يؤكل منها شيء ، وكان بعضهم يقول إذا قرب باسم الباري كانت دلالة القربان ردته لأنه عندهم تعدى إلى أمر عظيم وترك ما هو دونه لما جعله متوسطا في التدبير والذي يذبح للقربان الذكور دون الإناث. ومن يقدم القربان لا يدخل الهياكل ذلك اليوم.

وللقربان أربعة أوقات في الشهر : الاجتماع ، والاستقبال ، وسبعة عشر وثمانية وعشرون (٣).

في حين أن القربان في الإسلام لا يقبل إلا إذا ذبح لله تعالى ويحرم أكله إذا ذكر عليه غير اسمه سبحانه ، كما أنه يذبح في أي وقت من أوقات السنة ، سواء كانت الذبائح ذكورا أم إناثا. ولا يمنع ذبح القربان من دخول أماكن العبادة في الإسلام. والذبيحة عندنا لا تحرق بل تؤكل ولا حرج في ذلك ومن هنا يظهر

__________________

(١) انظر مدخل القرآن الكريم ص ١٣٣ نقلا عن كتاب ج. سال (ملاحظات تاريخية ونقدية عن الإسلام ص ٣٠ ـ ٣١ ، ودائرة المعارف الإسلامية باللغة الفرنسية (مادة صبأ).

(٢) انظر الموجز في تاريخ الصابئة ص ٣٦ ، والفهرست لابن النديم ص ٤٤٢.

(٣) انظر الفهرست لابن النديم ص ٤٤٣.

٢٨٠

الفرق في حج المسلمين ، وفي قرابينهم عن الصابئة لا كما يزعم المستشرقون.

والإسلام يخالف الصابئة ليس في هذا الجانب فقط ، بل في أمور كثيرة منها :

* عليهم الغسل وتغيير الثياب بسبب الجنابة ومس الطامث ويعتزلها البتة. أما عندنا فيغتسل ولا تغير الثياب إذا كانت الملابس طاهرة ، ولا غسل لمن مس طامثا فنجاستها ليست في يدها. ولا يعتزل عندنا منها ، إلا موضع الولد وقت طمثها.

* كما أنهم لا يأكلون الجزور ويفرطون في كراهيته والمسلمون يأكلونه ولا يكرهونه. ويتركون الختان وعندنا سنة ثابتة في حق كل مسلم.

* وفريضة الذكر والأنثى في الميراث عندهم واحدة أما عندنا فللذكر مثل حظ الأنثيين.

* وعندهم لاطلاق إلا ببينة عن فاحشة ظاهرة ، ولا تراجع عندهم المطلقة وعندنا جواز الطلاق لحاجته ، وله مراجعة مطلقته.

* وعندهم لا يجمع بين امرأتين ولا يطأهن إلا لطلب الولد. وعندنا يجمع بين أربعة لطلب الولد ولغيره من الاعتبارات الشرعية ، وغير ذلك من الأمور التي تخالف الصابئة فيه الإسلام.

ومن هنا يظهر الفرق الكبير بين الإسلام وبين الصابئة في الاعتقادات والعبادات والأحكام والسلوك وغير ذلك كثير (١).

والأمر واضح ولا شبهة فيه إلا في رءوس المستشرقين القاصدين تشويه الإسلام بكل سبيل. ولكن الله يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

وبهذا نكون قد رددنا على الشبهة الثالثة وسقطت قوائمها ونكون بها قد أكملنا الرد على المستشرقين في مصدرهم المزعوم الثالث للإسلام العظيم وقرآنه

__________________

(١) انظر الفهرست لابن النديم ص ٤٤٣ ـ ٤٤٤.

٢٨١

الكريم ، وظهر بطلان دعواهم وبان الحق وعلا.

ولله الحمد والمنة.

٤ ـ المصدر الرابع :

الزرادشتية والهندية القديمة :

زعم «تسدال» أن كثيرا من المطالب الواردة في القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية تطابق مطابقة غريبة لما ورد في كتب الزرادشتية والهندية القديمة فينتج من ذلك أننا ملزمون ـ على حد تعبيره ـ أن نسلم أن الزرداشتية كانت مصدرا من المصادر التي اتخذت بعضا منها الديانة الإسلامية.

قلت : الزرادشتية : هم أصحاب زرادشت بن بورشب الذي ظهر في زمان «كشتاسف بن لهراسب» وقد كانت ولادة زرادشت سنة ٦٦٠ ق. م وقتل من الطورانيين في سنة ٥٨٣ ق. م.

زعم الزرداشتيون أنه كان لهم أنبياء وملوك أولهم «كيومرث» وكان أول من ملك الأرض. وجاء بعده «أوشهنج بن فراول» ونزل أرض الهند وبعده جاء «طهمورث» الذي ظهرت الصابئة في أول سنة من ملكه. والديانة في فارس كديانات جيرانهم مزيج من ديانة الهند وسومر وشور ولكن كان لها طابعها الخاص بها. ويدعي الفرس أن زرادشت نبي وكتابه المقدس هو «أوستا» أي المعرفة. وقد شرحه زرادشت في كتابه (الزند) ثم شرح التفسير بكتاب (بازند) وقد جاءت الزرادشتية تمحيصا للمجوسية مما جعلها تلتقي مع الأديان السماوية في كثير من القضايا العقدية والأحكام ، وغير ذلك. وهذا ما جعلها والهندية القديمة تلتقي مع الإسلام في بعض القضايا لأن لهم مصدرا سماويا أو تأثرا بالأديان السماوية.

إن النقاط التي أوردها «تسدال» يمكن تقسيمها إلى مجموعتين :

٢٨٢

أ ـ المجموعة الأولى من الشبهات :

ما ورد لها أصل في القرآن والسنة الصحيحة مثل :

قضية المعراج والجنة والنار ، وملك الموت ، والصراط ، وعزازيل (الشيطان) والافتتاح بالبسملة ، والصلوات الخمس ، وشهادة كل نبي لمن يأتي بعده.

والمجموعة الثانية من الشبهات :

لم يرد لها أصل من القرآن الكريم ولا في السنة النبوية الشريفة ووردت في الزرادشتية فحسب.

الرد على شبهات المجموعة الأولى جملة :

إن جميع الديانات السماوية لم تخل من ذكر هذه الأمور الغيبية ، ومن تكريم بعض الأنبياء بالمعجزات التي فيها خرق العادات على أيديهم ، كما ألزموا ببعض الفرائض. فإذا اشتملت بعض الديانات السماوية على مثل هذه الأمور ووافقت ما ورد في القرآن والسنة الصحيحة فتكون هذه القضايا من الأمور التي لم تتناولها أيدي التحريف والتبديل في الديانات السابقة المنسوخة.

فإن ورد شيء منها في كتب الزرادشتية فيمكن أن تكون هذه الزرادشتية من هذه الملل التي كان أصلها وحيا سماويا ثم حرفها أصحابها كما حرفوا التوراة والإنجيل. ولهذا أثبتت أبحاث العالم الألماني الدكتور «ميللر» الذي كانت له اليد الطولى في حل رموز اللغة السنسكريتية بالهند (أن الناس كانوا في أقدم عهودهم على التوحيد الخالص ، وأن الوثنية عرضت عليهم بفعل رؤسائهم الوثنيين) (١).

وقد أشار أبو محمد ابن حزم إلى التبديل والتحريف الذي وقع في الزرادشتية

__________________

(١) النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلامية للمهندس أحمد عبد الوهاب ، مكتبة وهبة ١٤٠٠ ه‍ ـ ١٩٧٩ م ص ١٠ ـ ١١.

٢٨٣

حيث قال : [وبالجملة فكل كتاب وشريعة كانا مقصورين على رجال من أهلها ، وكانا محظرين على من سواهما : فالتبديل والتحريف مضمون فيهما وكتاب المجوس وشريعتهم إنما كان طول مدة دولتهم عند «المؤبذ» وعند ثلاثة وعشرين هربذا لكل هربذ سفر قد أفرد به وحده لا يشاركه فيه غيره من الهرابذة ولا من غيرهم ولا يباح بشيء من ذلك لأحد سواهم ثم دخل فيه الخرم بإحراق الإسكندر لكتابهم أيام غلبته لدارا بن دارا. وهم مقرون بلا خلاف بينهم أنه ذهب منه مقدار الثلث ذكر ذلك بشير الناسك وغيره من علمائهم](١).

وقد نقل عن عمر بن الخطاب أنه عد الزرادشتية أهل كتاب وعاملهم على هذا الأساس (٢) ذكر سفيان قال : (سمعت عمر قال : كنت جالسا مع جابر بن زيد ، وعمرو بن أوس فحدثهما بحاله سنة سبعين سنة حج مصعب ابن الزبير بأهل البصرة عند درج زمزم قال : كنت كاتبا «لجزء بن معاوية» عم الأحنف ، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل مدته بسنة ، فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن ابن عوف أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخذها من مجوس هجر) (٣) والمعروف أن الجزية لا تؤخذ إلا من كتابي.

وممن قال كذلك أنهم من أهل الكتاب علي بن أبي طالب وحذيفة ـ رضي الله عنهما ـ وسعيد بن المسيب ، وقتادة ، وأبو ثور ، وجمهور أصحاب أهل الظاهر.

وقد أشار لهذا المعنى أبو الحسن الندوي بقوله : [إن بقايا الأخلاق والفضائل والمثل العليا الباقية في هذا العالم اليوم لا بد من إرجاعها بصورة أو بأخرى إلى ديانة سماوية موحى بها](٤).

__________________

(١) الفصل في الملل والأهواء ١ / ٩٢.

(٢) الديانات والعقائد ١ / ٢٥٢.

(٣) انظر صحيح البخاري ٤ / ٦٢ كتاب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب.

(٤) كتاب النبوة والأنبياء في ضوء القرآن ـ لأبي الحسن الندوي ـ دار القلم دمشق ص ٤٢.

٢٨٤

وقد رجح المسعودي في تاريخه أن يكون زرادشت نبي المجوس وقد نقل عنه أنه بشّر بالنبي محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (لا تمسكوا به إلا أن يجيئكم صاحب الجمل الأحمر) (١).

كما وتبنى هذا الرأي ، د / حامد عبد القادر في كتابه (زرادشت نبي قدامى الإيرانيين) (٢).

وقد ذكر ابن حزم أن كثيرا من المسلمين اعتبروا زرداشت نبيا ثم قال : [ليست النبوة بمدفوعة قبل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لمن صحت عنه معجزة ، قال الله عزوجل : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ)(٣)](٤).

وحتى لو فرضنا أنها لم تكن ديانة سماوية فلا بد أن تكون قد تأثرت بأكثر من دين. فقد تأثرت بالمجوسية لأنها جاءت لتنقيتها مما دخلها من فساد ، كما تأثرت بعقيدة الطورانيين لأن زرادشت عاش بينهم زمنا بشرهم فيه بدينه ، كما تأثروا باليهودية لأن الزرادشتية عاصرت بعثة نبي الله موسى ـ عليه‌السلام ـ (٥) كما تأثرت بالهندية للحوار واجتماعهما في عبادة الإله «مترا» كما تأثرت بالنصرانية وببعض الفرق الإسلامية وذلك لطول المدة التي استمرتها الزرادشتية.

والمعروف أن ما دخل الزرادشتية من انحراف وفساد مرده لبقايا المجوسية وتأثيرها عليها.

والملاحظ أن ما دعت إليه الزرادشتية قد سبقتها به المصرية القديمة والهندية القديمة من موت وبعث وحساب وميزان وجنة أو نار وغير ذلك (٦).

__________________

(١) انظر الأديان في القرآن ص ٨٠ ـ ٨٢.

(٢) انظر الأديان في القرآن ص ٨٠ ـ ٨٢.

(٣) سورة فاطر آية (٢٤).

(٤) انظر الفصل في الملل والنحل ١ / ٩١.

(٥) انظر كتاب النبوة والأنبياء في ضوء القرآن ص ٤٢.

(٦) كتاب «الله» للعقاد ص ٨٦.

٢٨٥

فالذي يرجح عندي أن الزرادشتية سواء كانت في صورتها القديمة أو بعد تغيرها وانحرافها عن طريقها الأول قد تأثرت بعدة ديانات سماوية.

أما ما ذكره «تسدال» من نقاط مشابهة كما ورد في القرآن وهي عند الزرادشتية كقصة المعراج. فهذه القصة لم تذكر عندهم في كتب يصح الاعتماد عليها. وإن وجد مثل ذلك فعلى اعتبار أن أصل هذه الديانة سماوي أو تأثرت بما هو سماوي ولا مانع أن تتكرر مثل هذه الحادثة في عدة ديانات لوحدة المصدر. وهذا شبيه بما توافق وقوعه في التوراة والإنجيل والقرآن كالجنة والنار والميزان وغير ذلك فلا ضرورة أن يكون بعضهم أخذ من بعض وإنما ذلك بابتداء الوحي لكل نبي على حدة. وأما الاتفاق بين الإسلام والزرادشتية في شأن الجنة والنار ، وملك الموت ، والشيطان ، والصراط. فهذا أمر ذكرته كل الديانات السماوية لوحدة المصدر كما سبق وبينت. إلا أني أود أن أوضح أمرا وهو أني قد وجدت «تسدال» ذكر أن خروج عزازيل (الشيطان) كان من النار ونسب موطن ذلك في الإسلام لبعض الكتب الإسلامية كقصص الأنبياء للثعلبي وبعد رجوعي للكتاب المذكور لم أجد ما ذكره ووجدت ما عنده هو ما عند المسلمين جميعا. وأن خروجه كان مع آدم وحواء ـ عليهما‌السلام ـ من الجنة.

و «تسدال» نسب ذلك لبعض كتب الزرادشتية ولا ندري أهذا ثابت في كتبهم أو خطأ في الترجمة لها.

أما بالنسبة للبسملة والتوافق بين الإسلام والزرادشتية على مثلها. فهو أمر عام عند كل شعوب الأرض أن تبدأ مراسلاتهم باسم السلطة أو الجهة الحاكمة للبلد ولله المثل الأعلى فإذا ابتدأ كتابه بذلك وجاءت رسائل الأنبياء في الزرادشتية مفتتحة ببسملة فهذا لا غرابة فيه ، كما أنه ليس من الضرورة أن يكون هذا دليلا على أخذ الإسلام من الزرادشتية لمثل هذه الشبهة.

أما شهادة الأنبياء لبعضهم بعضا وتبشير السابق باللاحق فهي فكرة عامة في كل الديانات السماوية بأخذ النبي الميثاق على أمته أن يؤمنوا بالأنبياء الذين

٢٨٦

سبقوه ويناصروا النبي الذي سيأتي بعده وقد جاء ذكر ذلك على لسان موسى وعيسى بمحمد عليهم‌السلام وهي آخر وصايا موسى عليه‌السلام كما جاء في سفر التثنية في الإصحاح ٣٣ فقرة ٢ : [قال : جاء الرب من سيناء (أي موسى عليه‌السلام) وأشرق من ساعير (أي عيسى عليه‌السلام) واستعلن من جبل فاران (أي مكة والمقصود بذلك محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ومعه ألوف الأطهار ..](١).

هذه آخر وصية صدرت من موسى ـ عليه‌السلام ـ يخبرهم فيها بالرسولين العظيمين اللذين سيأتيان من بعده وأوصاهم أن يؤمنوا بهما لأنهما يحملان نفس الشريعة التي أتى بها موسى ـ عليه‌السلام ـ.

كما صرح القرآن بمثل هذه الوصية صراحة بقوله تعالى :

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)(٢).

كما أنه نقل عن زرادشت نفسه أنه بشر بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حيث قال : «تمسكوا به إلى أن يجيئكم صاحب الجمل الأحمر» (٣).

فهذا الأمر إذن سنة في الأنبياء ومن لهم كتب من السماء أن يبشر السابق باللاحق لأن دعواتهم متوافقة وتدعو لأمر واحد وهو إفراد الله بالوحدانية وعدم الإشراك به في عبادته.

بهذا البيان تسقط شبهة «تسدال» وأمثاله ممن يحاولون تشويه الحقائق الناصعة بإلقاء سحب من دخان الشكوك.

__________________

(١) انظر الكتاب المقدس ص ٣٣٤.

(٢) سورة الصف آية (٦).

(٣) الأديان في القرآن ص ٨٢.

٢٨٧

ب ـ المجموعة الثانية من الشبهات :

شبهات لم يرد لها أصل في القرآن الكريم ولا في السنة الصحيحة ووردت في الزرادشتية ونسبها «تسدال» للإسلام من خلال بعض كتب المسلمين التي لا تراعي في قصصها وموضوعاتها الصحة والدقة كالمواهب الدينية ، وروضة الأحباب.

من ذلك : ما أورده «تسدال» من خلق الكائنات من نور سيدنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

و «تسدال» اعتمد في هذه القضية الغيبية على الكتابين الآنف ذكرهما. وهي قضية انتقال هذا النور المحمدي إلى آمنة بنت وهب. ثم ربط بين هذا الأمر وبين ما ورد في كتب الزرادشتية ك «الأوستا» حيث ذكرت أن هذا النور كان من جهة «جمشيد» وهو آدم عليه‌السلام ولما سقط في الزلل انتقل النور منه إلى أفضل أولاده بالتتابع](١) إلى أن حل بآمنة بنت وهب بزواجها من عبد الله ابن عبد المطلب والد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

هذا الحديث الذي استند إليه صاحبا الكتابين السابقين لا يصح ولم أجد أحدا صوبه بل قد حكم الإمام ابن تيمية ـ رحمه‌الله تعالى ـ على هذا الحديث وأمثاله بالكذب حيث قال : [.. وكذلك ما ذكر من أن الله قبض من نور وجهه قبضة ونظر إليها فعرقت ودلفت فخلق من كل قطرة نبيا ، وأن القبضة كانت هي النبي محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأنه بقي كوكب دري فهذا كذب باتفاق أهل المعرفة بحديثه.

وقال أيضا : وكذلك ما يشبه هذا مثل أحاديث يذكرها «شيرويه الديلمي» في كتابه (الفردوس) ويذكرها ابن حمويه في حقائقه مثل كتاب (المحبوب) ونحو ذلك ما يذكرون أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان كوكبا ، أو أن العالم

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام ص ١٩٠.

٢٨٨

كله خلق منه ، أو أنه كان موجودا قبل أن يخلق أبوه .. إلخ.

قال : فكل ذلك كذب مفترى باتفاق أهل العلم بسيرته] ا. ه.

وقد ذكر الإمام السيوطي ـ رحمه‌الله ـ في كتابه (شرح المواقف) قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (أول ما خلق الله نوري) فعلق عليه الأستاذ صبحي السامرائي قائلا : هذا الحديث لا يصح ، لعله من كلام أصحاب وحدة الوجود ، أو بعض الجهال والمخرفة وقد ذكر أنه بذل جهده لتخريج الحديث فلم يجده في كتب الموضوعات والعلل وذكر بعدها تعليق الإمام ابن تيمية السابق الذكر (١).

إذن هذا الحديث وأمثاله كلها أحاديث لا يصح الاعتماد عليها ولا جعلها عمدة في قضية غيبية كهذه لضعفها ووضعها ومن هنا تسقط هذه الشبهة التي استند إليها «تسدال» حيث اتخذها كدليل يستند به على أخذ الإسلام من الزرادشتية.

وبعد هذا الرد الإجمالي على شبه المجموعتين اللتين استدل بهما «تسدال» على أخذ الإسلام من الزرادشتية تسقط شبهة المصدرية ويظهر الله الحق ويرد كيد هؤلاء المستشرقين.

٥ ـ المصدر الخامس :

النصرانية :

زعم «تسدال» أن النصرانية كانت أحد المصادر التي أخذ منها محمد وأدخلها في قرآنه مع أن مصادر النصرانية هذه لم تكن موثوقة بل كانت لفرق شاذة لها أساطير غريبة وكان يظن أنها الإنجيل (٢).

__________________

(١) انظر كتاب شرح المواقف للإمام السيوطي ص ٣٢ ـ ٣٣.

(٢) انظر مصادر الإسلام تسدال ـ الفصل الرابع ص ١٠١ ، وما بعدها ، وتاريخ القرآن نولدكه ج ١ ، ص ٧ وما بعدها.

ـ ومذاهب التفسير الإسلامي ـ جولد تسيهر ص ١٧١ الذي اعتبر الإسلام مزيجا من مذهبي الانتخاب والمزج (من اليهودية والنصرانية وديانة الفرس وما بعدها).

٢٨٩

واستشهد «تسدال» على ذلك ببعض القصص وببعض القضايا الأخرى.

أ ـ من القضايا التي ذكرها «تسدال» :

١ ـ قصة أصحاب الكهف.

٢ ـ قصة مريم عليها‌السلام.

٣ ـ قصة طفولة المسيح عليه‌السلام وما جاء به من معجزات ذكرها القرآن وأنكرها «تسدال» مثل :

أ ـ كلام عيسى في المهد.

ب ـ صنعه من الطين طيرا ثم يكون طيرا بإذن الله.

ج ـ قصة المائدة.

د ـ صلب عيسى عليه‌السلام حيث نفاه القرآن الكريم في حين قد أثبته الكتاب المقدس.

ه ـ نزول عيسى عليه‌السلام في آخر الزمان.

ب ـ القضايا الأخرى :

١ ـ التبشير بمقدم سيدنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

٢ ـ قصة خلق آدم من تراب الأرض.

٣ ـ الميزان.

٤ ـ الأعراف.

٥ ـ زعمه أن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخذ من الإنجيل آية وحديثا سأذكرهما فيما بعد.

قلت : سيكون ردي إن شاء الله تعالى على هذه الشبهات على قسمين :

القسم الأول : ـ ما توافق وروده في القرآن والإنجيل معا.

القسم الثاني : ـ ما تفرد بذكره القرآن الكريم.

٢٩٠

أ ـ القسم الأول : ما توافق وروده في القرآن الكريم والإنجيل معا :

القصص :

١ ـ قصة أصحاب الكهف :

ذكر «تسدال» أن هذه القصة موجودة في كتاب لاتيني اسمه (كتاب الشهداء) وأن أصلها إغريقي وأنها لم ترد في المصادر النصرانية الموثوق (١) بها كما أنكر هذه القصة «ماسينيون» والمؤرخ «ادوارد جيبون» في كتابه (سقوط روما وانحطاطها) واعتبروها من قبيل الخرافة (٢).

قلت : عرف علماؤنا القرآن الكريم بأنه كلام الله المنزل على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بلفظه ومعناه ، المعجز بتلاوته ، والمنقول إلينا بالتواتر (٣).

وهذا التعريف له دلالته في وصف القرآن الكريم. فكل ما ورد فيه من قصص وأخبار وأحكام وعقائد وغيرها قاله الله سبحانه يقينا وأوحى به على قلب محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

والقصة القرآنية كما هو معروف تمتاز بالصدق والواقعية والدعوة للتوحيد وللهدايات الربانية.

وقد جاء ذكر كثير من هذا القصص بشكل أو بآخر في الكتب القديمة ولم يستطع علم التاريخ الحديث أن يبطل واحدة من هذه القصص بإقامة أدلة على عكس ما ذكره القرآن الكريم بل قد عجز عن التوصل إلى معرفة خفايا كثير منها.

أما زعم «تسدال» أن القرآن اعتمد في مصدريته على النصرانية للتشابه بين القصة القرآنية وما ورد في بعض الكتب النصرانية فهو باطل لعدة أمور :

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام ص ١٠١ وما بعدها.

(٢) انظر نفس المصدر فصل النصرانية كمصدر وهو الفصل الرابع من الكتاب.

(٣) الوحي والقرآن الكريم ص ٣٣.

٢٩١

١ ـ أن ما ذكره «تسدال» أن هذه القصة موجودة في بعض الكتب التي يدعمها دليل على وجودها ، ووقوعها ، فهذا مردود ذلك لأن القصة كانت معروفة في الوسط اليهودي والذي يدل على ذلك ما ورد في السؤالات التي اقترحتها اليهود على القرشيين أن يسألوها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لاختبار صدقه فأخبروهم أن يسألوه على ثلاثة أشياء عن الروح ، وعن الرجل الطواف في الأرض حتى بلغ قرنيها ، وعن فتية ذهبوا في غابر الزمان. وسيأتي بعد قليل ذكر الرواية وقد ذكرت هذه القصص الثلاث في سورة الكهف ، هذا يدل على أن لهذه القصة أصلا كما أن عدم ذكرها في كتب خاصة يريدها «تسدال» لا ينفيها.

٢ ـ القرآن الكريم كله صدق مطابق للواقع. وهذه القصة مما كان معروفا عند اليهود في عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حيث أوعزوا لنفر من قريش منهم النضر ابن الحارث وعقبة بن أبي معيط وغيرهما أن يسألوا محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن ثلاثة أمور لا يعلمها إلا نبي مرسل : (عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؟ ، وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه؟ وعن الروح ما هي؟) فقالوا لهم بعد ذلك : فإذا أخبركم فاتبعوه فإنه نبي وإن لم يفعل ، فهو رجل متقول.

ثم جاءه الله عزوجل بسورة الكهف ، وخبره عما سألوه عنه من أمر الفتية ، والرجل الطواف والروح (١).

فلو كانت هذه القصة غير صحيحة لما اقترحتها يهود ولاعترضوا عليها عند ما سمعوها منه. ولأظهروا بطلانها. فعند ما سمعوها ولم يعترضوا عليها دل ذلك على صدقها وبطلان زعم «تسدال» و «ماسينيون» و «جيبون».

أما حجتهم بعدم ذكرها في الكتاب المقدس فليس بدليل لهم لأن هذا الكتاب دخله الزيادة والنقصان ، والتحريف ، والتبديل ، وما فيه من اضطراب يزعزع الثقة فيه كما هو حال رسائل بولس مع الأناجيل الأربعة.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٣٢٢.

٢٩٢

وقد اعترف بعض النصارى بهذا التحريف وألقاه على عاتق اليهود ومن هؤلاء «مرقيون» وهو هرطوقي في نظر الكنيسة ، عاش في القرن الثاني الميلادي مقتنعا بأن اليهود قد حرفوا إنجيل المسيح الأصلى ولذلك كان لا يعترف بأناجيل متى ومرقس ويوحنا ، وبكل ما يعتبره من تحريف اليهود في إنجيل لوقا.

وكان المانويون يقولون حسب شهادة «أوغسطنيوس» : أن العهد الجديد محرف.

وقد قال الفيلسوف «سلسيوس» في القرن الثاني الميلادي : أن بعض المؤمنين مثلهم في ذلك مثل السكارى الذين يصل بهم الأمر إلى ضرب نفوسهم بأيديهم ، قد غيروا نص الإنجيل الأصلي ثلاث مرات أو أربع أو أكثر من ذلك وحرفوه ، ليتمكنوا من التصدي لاعتراضات النقاد كما أن خصوم النصارى من الوثنيين قد اتهموهم بتغيير النص الأصلي للإنجيل وتبديله قبل أن نتهمهم نحن بذلك (١).

فهذا مما يدل على أن ما ورد في الأناجيل ليس بحجة. وعدم وجود شيء فيها لا يدل على عدم وجوده ولا على عدم حصوله في الواقع وتكرر القصة في ديانتين أو أكثر. فذلك لوحدة المصدر ولأن القصص في الديانات السماوية يتكرر ذكره لمصلحة الناس آنذاك وتأييدا لنبي تلك الفترة وإذا كان «تسدال» صادقا فليثبت عكس ما أثبته القرآن الكريم.

ويجب أن يعرف «تسدال» أن الأنبياء معصومون من الكذب وما أخبروا به كله حق وصدق وقد شهد التاريخ وعلم الآثار على صدق ما أخبر به سيدنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

فالمصادر النصرانية قد ذكرت هذه القصة وأنها موجودة في كتب معتمدة لا كما زعم «تسدال» قال الأستاذ «محمد تيسير ظبيان» في كتابه (أهل

__________________

(١) انظر الفكر الإسلامي في الرد على النصارى إلى نهاية القرن الرابع / العاشر ص ٤١٣ ـ ٤١٤.

٢٩٣

الكهف) : [لدى مراجعة المصادر المسيحية القديمة والحديثة تبين أن أول من كتب قصة أصحاب الكهف بالسريانية هو «جيمس الساروغي» وكان كاهنا لمقاطعة ساروغ في العراق ، وقد ولد سنة ٤٥٢ م ومات سنة ٥١٨ م أي بعد وفاة الأمبراطور «اثيودوسيس الثاني» المعروف بالأصفر.

وقد نقلت القصة عنه إلى اللغة اللاتينية بعناية «غريغوري» حوالي القرن السادس الميلادي كما تشير إلى ذلك موسوعة : (Chamfeus Of.Tours).

ويقول المرحوم رفيق الدجاني عالم الآثار الأردني ، والذي كان له اليد الطولى في حفريات الكهف أنه (أي الساروغي) عاصر الأمبراطور «جستينوس الأول» الذي حكم من سنة (٥١٨ م إلى ٥٢٧ م) وفي زمانه بنيت الصومعة فوق الكهف كما ثبت ذلك بالمكتشفات الأثرية التي عثر عليها كنقوده التي وجدت عند قواعد البنيان.

وقد نقلت هذه القصة من السريانية إلى اليونانية واللاتينية والحبشية والهندية والفارسية ثم إلى العربية وإليها استند المفسرون والمؤرخون المسلمون في سرد تفاصيل هذه القصة.

وجاء في دائرة المعارف للأخلاق والديانات تعقيبا على هذه القصة :

(إن قصة النائمين السبعة من أكبر القصص التي تروى عن القديسين من حيث المتعة العقلية ، والذيوع في الآفاق).

ومما يذكر أن ذكرى هؤلاء الفتية حفظت في اجتماعات العشاء الرباني في الشرق المسيحي.

وأخبرني أحد رجال الكهنوت في عمان أن لديهم صلاة خاصة تحمل اسم «الرقيم» نسبة إلى جبل الرقيم الذي يوجد فيه الكهف) (١).

__________________

(١) انظر كتاب أهل الكهف ص ٢٨ ـ ٢٩.

٢٩٤

ومما يدحض هذه الاتهامات والأباطيل اكتشاف معالم الكهف والعثور على قرائن وأدلة وبينات تاريخية وأثرية حيث تؤيد ما ورد في القرآن الكريم أعظم اكتشاف تاريخي وأثري في القرن العشرين حيث أظهرت المعجزة القرآنية الكبرى بإخبار عن غيب ينكره أمثال «تسدال» وزمرته والأدلة والشواهد على حصول هذه القصة كثيرة وهو أمر يتجاهله الكثير من النصارى اليوم.

وهذه القصة كما ذكرت في الكتب الصحيحة المعتمدة ذكرت كذلك في كتب الأساطير كما أشار لذلك الأستاذ «سيد قطب» والأستاذ «رابح لطفي جمعة» (١).

واختلاف قصة أصحاب الكهف في القرآن عنها في الكتاب المقدس أمر طبيعي لتحريف كتبهم ونقصانها في كثير من الأمور وهذا لم يحصل في القرآن الكريم من فضل الله عزوجل لذا قال تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(٢) وكتبهم أثبتت حدوثها في القرن الثالث الميلادي كما أشرت وهذا يدل على أنها حدثت واشتهرت في كتبهم التاريخية ومواعظهم الدينية. فمن البديهي عدم وجودها في كتابهم المقدس اليوم.

ومثل هذه القصة تستحق أن تخلد لأنها تعرض نموذجا للإيمان في النفوس المؤمنة واستعلائها على الحياة الدنيا وزينتها ولما فيها من مثال للحياة والموت والبعث حتى لو أنكر هذا «تسدال» و «ماسنيون» والمؤرخ «أدوارد جيبون» وغيرهم.

القصة الثانية التي استدل بها «تسدال» :

٢ ـ قصة مريم عليها‌السلام (٣) :

أنكر «تسدال» قصة مريم عليها‌السلام أن تكون وردت بهذا الشكل

__________________

(١) انظر في ظلال القرآن ٤ / ٢٢٦٠ ـ ٢٢٦١ ، وانظر القرآن والمستشرقون ص ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٢) سورة النمل آية (٧٦).

(٣) مريم بنت عمران بن ماتان بن يعاقيم وموسى وهارون ابنا عمران من قاهت بن لاوى بن يعقوب كما في تاريخ المسعودي ١ / ٦٢ ـ ٤٨.

٢٩٥

في كتب النصرانية المعتمدة واعتبرها خرافية وهمية لا تصح ـ حسب زعمه ـ وحجته في ذلك عدة شبه في ذهنه :

١ ـ أن ولادتها لعيسى (وصف في القرآن على شكل أشبه ما يكون بأسطورة «ميلاد بده» عند الهنود حيث ولد «بده» من عذراء لم يمسها رجال).

٢ ـ ذكر خدمتها للهيكل مع أن هذا لا يجوز في حق النساء ـ على حد زعمه ـ.

٣ ـ ذكر القرآن أنها أخت هارون أخي موسى ـ على حد فهمه ـ واعتبر هذا من الخطأ التاريخي في القرآن الكريم للفارق الكبير بينهما.

قلت : هذه القصة من الشهرة والانتشار والبداهة في الوسط المسيحي بمكان حتى إن فرقة البربرانية منهم ألهوها وابنها عيسى عليهما‌السلام (١) نظرا لولادتها لابنها بطريقة خارقة للعادة. وقد أشار القرآن الكريم لقضية تأليههم لهما عليهما‌السلام.

أما زعم «تسدال» أن القصة غير موجودة في الكتاب المقدس ورده لها بناء على ذلك فهذا يرده ما ورد في إنجيل لوقا ونصه : [وبعد تلك الأيام حبلت اليصابات (٢) امرأته (أي زكريا عليه‌السلام) وأخفت نفسها خمسة أشهر قائلة : هكذا قد فعل بي الرب في الأيام التي فيها نظر إلى لينزع عاري بين الناس ، وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة الجليل اسمها (ناصرة) إلى عذراء محظوية لرجل من بيت داود اسمه يوسف ، واسم العذراء مريم فدخل إليها الملاك ، وقال : سلام لك أيتها المنعم عليها ، الرب معك ، مباركة أنت في النساء. فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية.

__________________

(١) انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل ١ / ٤٧.

(٢) اليصابات : هي زوج زكريا عليه‌السلام وهي خالة مريم عليها‌السلام.

٢٩٦

فقال لها الملاك : لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسميه يسوع هذا يكون عظيما وابن العلى يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية](١).

أما إنجيل برنابا فكان أكثر وضوحا من إنجيل لوقا حيث جاء ذكر قصة مريم عليها‌السلام وحملها لابنها عيسى عليه‌السلام قائلا : [لقد بعث الله في هذه الأيام الأخيرة بالملاك جبريل إلى عذراء تدعى مريم من نسل داود من سبط يهوذا بينما كانت هذه العذراء العائشة بكل طهر بدون أدنى ذنب المنزهة عن اللوم المثابرة على الصلاة والصوم يوما ما وحدها وإذا بالملاك جبريل قد دخل مخدعها وسلم عليها قائلا : ليكن الله معك يا مريم ، فارتاعت العذراء من ظهور الملاك. ولكن الملاك سكن روعها قائلا : لا تخافي يا مريم لأنك قد نلت نعمة من لدن الله الذي اختارك لتكوني أم نبي يبعثه إلى شعب إسرائيل ليسلكوا في شرائعه بإخلاص ، فأجابت العذراء وكيف ألد بنين وأنا لا أعرف رجلا؟ فأجاب الملاك : يا مريم إن الله الذي صنع الإنسان من غير إنسان ، لقادر أن يخلق منه إنسانا من غير أب ، لأنه لا محال عنده. فأجابت مريم : إني لعالمة أن الله قدير فلتكن مشيئته. فقال الملاك : كوني حاملا بالنبي الذي ستدعينه يسوع عيسى فامنعيه الخمر والمسكر وكل لحم نجس لأن الطفل قدوس الله «مبارك» فانحنت مريم بضعة قائلة : ها أنا ذا أمة الله فليكن بحسب كلمتك فانصرف الملاك .. إلخ](٢).

هذان نصان من إنجيلين أحدهما يعترف به «تسدال» وهو إنجيل «لوقا» وآخر لا يعترف به وهو إنجيل «برنابا» ولكن النصين يؤيدان ما جاء في القرآن الكريم مما أنكره «تسدال» واستغربه ، وعده من قبيل الأسطورة والخرافة وذلك لعدم تصوره لقدرة الله سبحانه وتعالى. والنصارى عقيدتهم قائمة على هذه

__________________

(١) انظر انجيل لوقا الإصحاح ١ ، فقرة ٢٦ ـ ٣٨.

(٢) إنجيل برنابا ـ الفصل الأول ـ بشرى جبريل للعذراء مريم بولادة المسيح فقرة ١ ـ ١٦ ص ٣٩.

٢٩٧

المعجزة حيث يعتقدون أن أقنوم الابن التحم بعيسى في بطن أمه. وتفصيل هذا الاعتقاد أن النصارى يعتقدون أن الله تبارك وتعالى عاقب آدم وذريته بجهنم من أجل خطيئة آدم في الأكل من الشجرة ، ثم إنه حن عليهم بخروجهم من النار بأن بعث ولده فالتحم في بطن مريم بجسد عيسى (فصار إنسانا وإلها : إنسانا من جوهر أمه وإلها من جوهر أبيه ثم ما أمكنه من خروج آدم وذريته من النار إلا بموته. وبه يفدي جميع الخلق من الشيطان) (١).

هذه عقيدة النصارى مع فسادها الشديد تثبت ما في القرآن الكريم من خلق عيسى عليه‌السلام من غير أب.

فالله القادر سبحانه وتعالى خلق عيسى عليه‌السلام من أم بلا أب ، في حين خلق آدم عليه‌السلام بلا أب ولا أم بكلمة الله النافذة (كن) مع أن التوراة ذكرت كذلك خلق آدم عليه‌السلام من التراب. وينبغي أن يؤمن بهذا كل النصارى ومن بينهم «تسدال» وخلق آدم أصعب في المقياس البشري من خلق عيسى عليه‌السلام. ولكن شتان بين قدرة الخالق والمخلوق فالقصة إذن حقيقة وواقعية لا كما زعم «تسدال» أنها خرافية وهي في الإنجيل المعتمد عندهم لا كما زعم أنها فقط ذكرت في كتاب (التاريخ القبطي للعذراء).

إلا أن الفرق بين الروايتين في الأسلوب المعجز واضح وسأذكر القصة كما وردت في القرآن الكريم (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا. قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا. قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا. فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا. فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا. فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ

__________________

(١) تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب ـ للميورقي ص ١٤٩.

٢٩٨

جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً. فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ. قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا. يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا. ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)(١).

إذن فقصة ميلاد عيسى ـ عليه‌السلام ـ المذكورة في القرآن الكريم موجودة في الإنجيل بأصولها وأحداثها البارزة فكيف يتسنى ل «تسدال» أن يتوهم أن القصة خرافية ، وأنها مأخوذة من قصة خرافية عند الهنود وهي قصة (ميلاد بده) وكيف يسمح لنفسه أن يطمس نور هذه الحقائق الواضحة الجلية ويحرفها قصدا.

أما رده القصة وحكمه عليها بالبطلان لذكر خدمتها للهيكل :

فأنا أقول أن أصل الخدمة في أماكن العبادة في الديانات الثلاث هي للرجال ، ولكن هذا لا يمنع إذا قامت بعض النساء بمثل هذا العمل فقد حصل في الإسلام أن امرأة كانت تعتني بمسجد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تقمه وتقوم بخدمته فلما ماتت دعا لها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالرحمة (٢).

كما أن الإنجيل ذكر خدمة «حنة أم مريم» للهيكل ، والنص كما في الإنجيل

__________________

(١) سورة مريم (١٦ ـ ٣٦.

(٢) مسند الإمام أحمد ٢ / ٣٥٣ ، ٣٨٨ ، وغيره من كتب السنن.

٢٩٩

لوقا [وكانت نبية حنة بنت فنوئيل من سبط أشير وهي متقدمة في أيام كثيرة قد عاشت مع زوج سبع سنين بعد بكوريتها وهي أرملة ، وثمانين سنة لا تفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلا ونهارا](١).

فالله سبحانه علم إخلاص حنة امراة عمران القوامة الصوامة في ندائها لربها بأن يتقبل نذرها الذي نذرته لربها طالبة بأن يرزقها ولدا ذكرا ليقوم على خدمة الهيكل بيت الله المقدس فلما قدر الله سبحانه الوليدة أنثى تحسرت «حنة» على ذلك ولكن الله سبحانه بسابق علمه وتقديره يعلم أن هذه الأنثى سيكون لها شأن عظيم أعظم من شأن الذكور.

ستأتي بآية دالة على عظمة الله سبحانه وقدرته في الخلق بإنجاب نبي رسول من أولي العزم دون أن يمسها أحد من البشر.

وكأن الله سبحانه قال لها : (أنت يا «حنة» تريدين ذكرا بمفهومك وفاء لنذرك ، خادما لبيته المقدس وأنا وهبت لك أنثى سأعطي البشرية بها خادما للعقيدة الإلهية بدلا من خدمته لبيته ، وبها تتحقق آية على طلاقة قدرة الله الإلهية) (٢).

فبهذا توضح شبهته هذه ويثبت ما جاء به القرآن فهو الحق المبين.

أما الأمر الثالث الذي دعا «تسدال» يحكم على القصة بالخرافة ويعتبرها خطأ قرآنيا تاريخيا ، وذلك لأن القرآن سماها بأخت هارون ظنا منه أنه هارون أخو موسى بن عمران والفترة الزمنية الطويلة بينهما لا تسمح بذلك لأنها تقدر بخمسة عشر قرنا.

قلت : وجه العلماء المسلمون هذا الأمر على عدة وجوه :

١ ـ أن هارون المذكور رجل صالح من بني إسرائيل ينسب إليه كل من

__________________

(١) انظر الكتاب المقدس ، إنجيل لوقا ـ الإصحاح ٢ ، فقرة ٣٦ ـ ٣٧.

(٢) انظر كتاب مريم والمسيح ص ١٤.

٣٠٠

عرف بالصلاح والمراد أنك كنت في الزهد كهارون. فما الذي صيرك لهذا.

وهذا قول قتادة ، وكعب ، وابن زيد والمغيرة بن شعبة (١).

٢ ـ أن هارون هو أخو موسى بن عمران كليم الله عليه‌السلام. إذ كانت من أعقابه. وإنما قيل أخت هارون كما يقال : يا أخا همدان ، ويا أخا العرب أي يا واحدا منهم.

٣ ـ أنه كان رجلا مشهورا بالفسق ، فنسبت إليه بمعنى التشبيه لا بمعنى النسبة.

٤ ـ أنه كان لها أخ يسمى هارون ، من صلحاء بني إسرائيل فذكرت به والراجح هو القول الثاني لما جاء عن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه هارون أخو موسى قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لعلي بن أبي طالب عند ما أخره في المدينة : (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى)(٢).

ولما جاء في إنجيل برنابا [كان في أيام هيرودس ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا من فرقة أبيا وامرأته من بنات هارون واسمها اليصابات وكان كلاهما بارين أمام الله ساكنين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم](٣).

فهذه الرواية في إنجيل برنابا توضح أن امرأة زكريا (اليصابات) كانت من نسل هارون أخي موسى عليهما‌السلام.

ومعلوم أن اليصابات وحنة كانتا أختين أما زكريا فهو زوج خالة مريم عليها‌السلام.

وبالتالي فتكون نسبت مريم إلى جدها الأعلى هارون عليه‌السلام ، وقولهم

__________________

(١) التفسير الكبير للإمام الرازي ٢١ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

(٢) انظر الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني ٢ / ٥٠١.

(٣) انظر إنجيل برنابا الإصحاح الأول.

٣٠١

هذا من باب التشنيع عليها كيف تكون من سلالة الأنبياء وتحمل من غير أن يكون لها زوج؟ فليس الموضوع خطأ تاريخيا كما زعم «تسدال» ولكنه الأسلوب القرآني المعجز الذي لا يدركه المستشرقون.

ب ـ القسم الثاني : ما انفرد بذكره القرآن الكريم.

أ ـ القضايا التي ذكرها القرآن الكريم أو السنة النبوية ولم ترد عندهم في الكتاب المقدس وأنكرها «تسدال» من أجل ذلك :

أ ـ كلام عيسى ـ عليه‌السلام ـ في المهد.

ب ـ صنعه من الطين طيرا فيكون طيرا بإذن الله تعالى.

ج ـ قصة المائدة.

د ـ عدم صلب المسيح عليه‌السلام.

ه ـ رجوع عيسى عليه‌السلام آخر الزمان.

ب ـ قضايا أخرى :

١ ـ التبشير برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

٢ ـ قصة خلق آدم عليه‌السلام من تراب.

٣ ـ الميزان.

٤ ـ الأعراف.

٥ ـ التوافق في معنى آية وحديث بين القرآن والإنجيل.

بالنسبة لهذه النقاط عقد «تسدال» المقارنة فيها بين القرآن والكتاب المقدس ولما وجدها وردت في القرآن فقط ولم ترد في الإنجيل ، أنكرها.

قلت : القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي حفظه الله تعالى من التحريف والتبديل ، والزيادة والنقصان ، قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١).

__________________

(١) سورة الحجر آية (٩).

٣٠٢

فهذه الآية العظيمة جاءت ردا على «تسدال» وزمرته من السابقين من كفار قريش واللاحقين ممن جاء بعدهم كأمثال هؤلاء المستشرقين القائلين : إنه من صنع محمد وأن فيه اضطرابا وخللا فالله سبحانه بعلو شأنه ذكر أنه نزل هذا القرآن من لدنه على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بواسطة أمين الوحي جبريل عليه‌السلام. ونسب حفظه في الماضي والمستقبل لنفسه سبحانه ليسلم من الزيادة والنقصان والتحريف والتبديل ، وجعله معجزا مباينا لكلام البشر بحيث لا يخفى تغيير نظمه على أهل اللسان بخلاف الكتب المتقدمة فإنه لم يتول حفظها ، وإنما استحفظها الربانيون والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغيا قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ. يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ..) الآية (١).

لذا أصبح بين أيديهم أكثر من توراة وأكثر من إنجيل.

فتوراة السومريين مثلا غيرها عن العهد القديم. كما أن الأناجيل مئات وتناقضها واضح وبين لكل من اطلع عليها. كما أنه قد اختفى كثير منها كإنجيل الطفولة والولادة ومريم ، وإنجيل السبعين وإنجيل مرقيون ، وإنجيل ريصان ، وإنجيل التذكرة ، وإنجيل سيرين ، وأنكر بعضها ونسب صنعه للمسلمين كما هو الحال مع «إنجيل برنابا» وبقي من بين هذه المئات من الأناجيل أربعة وهي إنجيل متى ، ويوحنا ، ومرقص ، وإنجيل لوقا.

ولكنها كغيرها لم تسلم فدخل محتواها مبالغات وأوهام وتزيين وسجلوا فيها كل ما سمعوه من روايات ومسموعات ونقولات وتوهمات (٢) سببتها الظروف التي مرت فيها النصرانية.

ويعتبر النصارى اليوم كل ما عدا هذه الأربعة منحولا ودخيلا ومزورا وقد أشار لهذا بولس في رسالته لأهل غلاطية [إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعا

__________________

(١) سورة المائدة آية (٤٤).

(٢) انظر القرآن والمبشرون ص ٥٩.

٣٠٣

عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر ليس هو آخر غير أنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحولوا إنجيل المسيح](١).

والذي نعتقده أن ما ورد في القرآن مما أثاره «تسدال» كقصة كلام عيسى عليه‌السلام في المهد وغيره مما لم يرد في الأناجيل المتداولة اليوم ، أو مما لم يرد فيها بصراحة قطعية قد ورد في النسخة الأصلية من الإنجيل من قراطيس وأناجيل كانت متداولة في أيدي النصارى أو بعض فرقهم ، وضاعت ، أو أبيدت فيما ضاع أو أبيد.

والآيات القرآنية كانت تتلى جهرة على الناس ، ويسمعها كثير من النصارى كما حصل مع [النجاشي وبطارقته حين سمعوها من المسلمين المهاجرين لديارهم فبكى النجاشي حتى أخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى بللوا مصاحفهم ، حين سمعوا ما تلي عليهم من الحق الموافق لما عندهم. وأكد هذا النجاشي حين قال لمن حوله : (إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة)](٢).

وكما سمعه وفد نصارى نجران حين قابلوا وسألوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عما أرادوا ثم دعاهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للإسلام وتلا عليهم القرآن فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره (٣).

فإذا خلت الأناجيل اليوم من مثل هذه الأمور التي ذكرها القرآن فقد ذكرتها أناجيل أخرى لم يعتمدها النصارى اليوم أو كتب سير وتواريخ صحيحة.

ومن هذه الأناجيل التي اندثرت وذكرتها ، إنجيل الطفولة العربي الذي نص عليها بقوله : (تكلم في المهد صبيا ، وحين كان له سنة واحدة قال لأمه : يا مريم أنا يسوع ابن الله الذي ولدتني كما بشرك جبريل الملك ، وإني أرسلني لخلاص العالم).

__________________

(١) الكتاب المقدس ـ رسالة بولس لأهل غلاطية ـ الإصحاح الأول : (٦ ـ ٧.

(٢) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٣٦٠.

(٣) انظر سيرة ابن هشام ٢ / ٣٢.

٣٠٤

كما أن بعض المصادر اليهودية أشارت لعيسى الكلام في المهد حيث جاء عندهم (أخذ الرضيع في المشي فخطا سبع خطوات إلى الأمام وسبع خطوات إلى الخلف وتكلم كما يتكلم الكهل ثم ذهب لينام في مهده بكل تعقل) وإن عد بعضهم هذا من الأساطير.

فإذا أخذنا بعين الاعتبار تاريخ الأناجيل وتدوينها والظروف التي مرت بها وأثرت عليها أدركنا أن ما ذكره القرآن الكريم هو العمدة والمعول عليه ، فما وافقه من الأناجيل أو الكتب النصرانية يكون صحيحا ، وما خالف القرآن منها يكون قد دخله التحريف والتبديل ، والزيادة والنقص. والمسلمون قد انعقد إجماعهم على قيام عيسى بعدد من المعجزات ، منها ما جرى لها ذكر في القرآن فاعتبر المسلمون أن الاعتقاد بها ملزم ومنها ما عرفوه من المصادر المسيحية فلم يدفعوها في الغالب كما لم يدافعوا عنها. وكما أن القرآن ـ مثله في ذلك مثل أناجيل الطفولة ـ لا يميز بين المعجزات التي حققها عيسى قبل البعثة وبين المعجزات التي حققها زمن الدعوة فإن المصادر لا تقوم كذلك بهذا التمييز وتضعها جميعا في نفس المستوى.

ومن هذه المعجزات التي ذكرها القرآن ولم تذكرها المصادر النصرانية المعتمدة عندهم اليوم (١).

أ ـ كلام عيسى ـ عليه‌السلام ـ في المهد :

زعم «تسدال» أن هذه القصة مكذوبة مأخوذة من الأقباط وحصل عليها محمد عن طريق مارية القبطية. أما كلام عيسى فقد تم بعد سن الثلاثين من عمره ـ عليه‌السلام ـ على حد زعم تسدال ـ وكلامه كان لشجرة التين عند ما لم يجد عليها ثمرا في الوقت الذي يجب أن تكون مثمرة فخاطبها (لا يكن منك ثمر بعد إلى الأبد) (٢) فيبست التينة في الحال. هذا هو سبب توهم محمد لكلام

__________________

(١) انظر الفكر الإسلامي في الرد على النصارى ص ٢٦٨ ـ ٢٦٩.

(٢) إنجيل متى ـ الإصحاح الحادي والعشرون فقرة ١٩.

٣٠٥

عيسى ـ عليه‌السلام ـ في المهد (١).

قلت : إن ما زعمه «تسدال» من تعلم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من مارية القبطية أم ابنه إبراهيم جهل منه وذلك لأن مارية سرية رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أهديت له سنة سبع من الهجرة والمعروف أن سورة مريم قد نزلت قبل قدومها حيث قرأت على النجاشي أثناء هجرة المسلمين للحبشة.

ولم يعلم تاريخيا أن مارية كانت عالمة بالنصرانية ولا عندها اهتمام بنشر تعاليم النصرانية بل إن الله سبحانه شرح صدرها للإسلام وأسلمت من أول أمرها (٢).

أما صرف الكلام في المهد لشجرة التين فهذا أمر لا يقول به عاقل حيث كلامه بعد الثلاثين أمر ليس فيه خلاف وخطابه لشجرة التين أمر شهده بعض تلاميذه كما في نفس الإنجيل وهو من جملة معجزاته المشهودة والكثيرة.

أما أمر كلامه في المهد الذي أنكره «تسدال» فهو حقيقة لا توهم. ومن يعرف حقيقة النصرانية ، وولعها الشديد بالدعاوي التي ترى أنها في صالح فرية تأليه المسيح ـ عليه‌السلام ـ من يعرف ذلك يستغرب إهمال كتب النصارى التي بين أيديهم اليوم الواقعة مثل واقعة كلامه ـ عليه‌السلام ـ في المهد يوم أن برأ ساحة أمه البتول الطاهرة مما رماها به المفترون يوم أن أكرمها الله سبحانه بأن تكون أما لأحد أولي العزم من الرسل ، ويوم أن اصطفاها وطهرها على نساء العالمين ، ورفع ذكرها وأعلى مقامها في الملأ الأعلى وفي جنات النعيم.

إن النصارى يصرون على أن يجعلوا من رسول الله عيسى ـ عليه‌السلام ـ إلها أو ابن إله ، وهم لا يدخرون وسعا لإثبات ذلك حتى وإن اصطدم مع البداهة ، وعارض كل منطق أو حجة. فلما ذا إذا لم تذكر واقعة حديثه في المهد

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام لتسدال ص ١٢٤.

(٢) انظر الإصابة في تمييز الصحابة ٤ / ٣٩١.

٣٠٦

في أناجيلهم المزعومة. إذا ما رجعنا إلى قضية لا تحتمل التضارب والخلاف ، فقد رأينا كيف اختلفت الأناجيل في نسب عيسى ـ عليه‌السلام ـ الذي اختاروه له ، ثم تخبطوا فيه بشكل لا يترك أي مجال للشك في حقيقة أن هذه الكتب لا يمكن أن تكون وحيا ولا كلام رسول من الرسل. والتي لا يمكن الاعتماد عليها في مجال العقائد. وبالتالي يتبين أن إسقاطها خبرا من الأخبار ، وإهمالها قضية من القضايا مهما بلغت أهميتها ليس بالأمر المستبعد وقد يقع ذلك لمجرد طبيعة هذا النوع من المراجع ، أو لسبب يبيته كتابها ولأمر يقدرونه وحساب يحسبونه.

وعلى ضوء هذه المقدمة التي ذكرتها يمكن أن يعلل وجود قضايا ذكرها القرآن الكريم ولم تذكرها كتب النصرانية ككلامه ـ عليه‌السلام ـ في المهد ونعلل كثيرا منها :

١ ـ أن الأناجيل قد كتبت في وقت كان اليهود والرومان يضطهدون فيه أتباع المسيح ـ عليه‌السلام ـ ويلاحقونهم بالأذى ، وكانوا يطلقون ألسنتهم في المسيح وأمه وفي المعجزات التي وقعت منه ويتهمونه بأبشع التهم وأشنعها فليس معقولا ـ والأمر كذلك ـ أن يفتح كتاب الأناجيل جبهة جديدة للعرب بينهم وبين اليهود والرومان ، وأن يلقوا إلى النار المشبوبة وقودا جديدا يزيدها ضراما ولهيبا ، ويزيد اليهود سفاهة فيه ، وتطاولا عليه ، وتكذيبا له ـ عليه‌السلام ـ.

٢ ـ إذا علمنا أن كلام المسيح ـ عليه‌السلام ـ في المهد ، كان للحظة عابرة ولم يكن معجزة مستمرة تعيش بين الناس أمدا طويلا ، وأنه إنما حدث للحظات أطفأ بها ثورة عامرة قامت على أمه الصديقة الطاهرة ـ رضي الله عنها ـ رماها فيها قومها بأسوإ فرية ، فبرأها الله على لسان ابنها وهو في مهده ، وإذا علمنا أن هذا المولود عاد إلى طبيعته كطفل له كل ما للأطفال من الحاجات ، ويفعل كل ما يفعل الأطفال ـ ليس إلا ـ فإذا ما أضفنا إلى ذلك كله قلة الذين سمعوه فالمتصور أن الذين كانوا حولها في تلك الحال ما هم إلا نفر من ذويها ، مهما كثر عددهم ، فلن يزيدوا عن أن يكونوا مجموعة ممن يهمهم أمرها ، وفي ضوء ظروف كالتي وصفناها آنفا فهم إذا ما خبروا عن هذا الذي كان من

٣٠٧

الطفل ، ثم حضر المرتاب إليه ليسمع ما يصدق الخبر وجد الطفل لا حول له ولا قوة وهو في مهده وهكذا كان هذا سببا من أسباب صمتهم عن ذكر نطقه ـ عليه‌السلام ـ في المهد فلما كان وقت كتابة الأناجيل كانت تلك الحادثة قد ضاعت في طوفان الأحداث التي اتصلت بحياة المسيح ـ عليه‌السلام ـ والتي انتهت كما هو معلوم بمطاردته لقتله لو لا أن نجاه الله سبحانه وتعالى (١) وقد ذكر القرآن الكريم كلام عيسى ـ عليه‌السلام ـ في المهد بقوله : (.. فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي (٢) إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا. يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا. وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)(٢).

كما ذكرت الأحاديث النبوية الصحيحة كلام عيسى عليه‌السلام في المهد.

ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى ، ثم ذكر قصة جريج ، وقصة المرأة من بني إسرائيل التي تمنت أن يكون ولدها مثل ذي الشارة فقالت : اللهم اجعل ابني مثله ، فترك ثديها وأقبل على الراكب فقال : اللهم لا تجعلني مثله. ثم أقبل على ثديها يمصه .. ثم مر بأمة : فقالت [أي أمه] : اللهم لا تجعل ابني مثل هذه فترك ثديها فقال : اللهم اجعلني مثلها فقالت : لم ذاك فقال : الراكب جبار من الجبابرة ، وهذه الأمة يقولون سرقت ، زنت ، ولم تفعل) (٣).

وروى ابن عباس أن من تكلم في المهد أربعة وهم صغار :

__________________

(١) انظر رسالة (ميلاد عيسى عليه‌السلام) لزميلي مسعود الغامدي ص ٥١٦ ـ ٥١٩. وانظر المسيح في القرآن والإنجيل عبد الكريم الخطيب ص.

(٢) سورة مريم : (٢٦ ـ ٣٣).

(٣) انظر صحيح البخاري كتاب الأنبياء ٦ / ٤٧٦.

٣٠٨

(.. ابن ماشطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى بن مريم عليه‌السلام(١).

ومشاركة عيسى ـ عليه‌السلام ـ في الكلام اثنين أو ثلاثة يدل على إمكانية حصول مثل هذا الأمر لحصوله في فترات مختلفة وأماكن مختلفة.

وغير ممتنع عندنا أن يكمل تعالى عقل الصبي في حال صغره ويبلغه في الفصل مبلغ الأنبياء ، كما لا يمتنع أن يخلق تعالى البشر في الابتداء كامل العقل كما فعله تعالى في خلق آدم عليه‌السلام (٢).

كما أن المصادر التاريخية أشارت إلى كلام عيسى ـ عليه‌السلام ـ كما أشارت لكلام حصل لغيره في مرحلة طفولته (٣).

ب ـ صنعه من الطين طيرا فيكون طيرا بإذن الله تعالى :

زعم «تسدال» أن هذه القصة وصلت لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من كتاب يوناني ساقط اسمه «بشارة توما الإسرائيلي» (٤).

قلت : تشير كتب السير والتفسير أن عيسى عليه‌السلام ظهرت عليه القدرة منذ كان في الكتاب صبيا لا كالصبيان. وتحقق على يديه في هذه الفترة ثلاث معجزات :

١ ـ خلقه من الطين طيرا بإذن الله تعالى.

٢ ـ إخبار الغلمان بما في بيوتهم.

٣ ـ مسخهم خنازير (٥).

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٢ / ١٩٣.

(٢) انظر الفكر الإسلامي في الرد على النصارى ص ٢٧٣ نقلا عن المغني في العراب والتوحيد والعدل.

(٣) انظر الكامل في التاريخ ١ / ١٧٧.

(٤) انظر مصادر الإسلام ص ١٢٦.

(٥) انظر سيرة ابن هشام ١ / ١٨٩ ، ٢٢٤ ، ٢٣٢ ، وانظر الفكر الإسلامي في الرد على النصارى ص ٢٧٤.

٣٠٩

والقصة أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ جلس يوما مع غلمان من الكتاب فأخذ طينا ثم قال : أجعل لكم هذا الطين طيرا. قالوا : وتستطيع ذلك قال : نعم. بإذن ربي. ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطير نفخ فيه ثم قال كن طائرا بإذن الله. فخرج يطير بين كفيه. فخرج الغلمان بذلك من أمره فذكروه لمعلمهم فأفشوه في الناس وترعرع ..) (١).

والمسلمون لا ينكرون ولا يستغربون مثل هذه الآيات كما وقع في ذلك النصارى لأنهم مؤمنون بالله وقدرته ورسله وما يسرّ لهم من معجزات فعيسى ـ عليه‌السلام ـ رسول من الله عزوجل وأيد بمثل هذه المعجزات دلالة على صدقه ، والمعجزات خارجة عن نواميس البشر المعروفة عندهم دالة على صدقه في البلاغ عن ربه ، والمنكر عليه أن يأتي بمثلها وإلا فليسلم.

وعدم ثباتها عندهم ، عهدته على مصادرهم التي دخلها النقصان والزيادة والتحريف والتبديل أما كتابنا الذي ينطق بالحق فقد حفظ من كل ذلك كما سبق أن بينت.

وخلق عيسى من الطين طيرا لا يوصله لأن يكون إلها كما ظنت النصارى وصرح بذلك قساوستهم وذلك لأن هناك فروقا بين خلق الخالق والمخلوق : ـ ١ ـ أن صنعة البشر حين يخلق ، فإنما يخلق من موجود ، أما الله تعالى فحين يخلق فإنما يخلق من عدم ، وهذا ما حصل مع عيسى ـ عليه‌السلام ـ.

٢ ـ الله تعالى حين يخلق يعطي خلقه سرا لا يستطيع البشر إعطاءه لما يخلقونه ، يعطيه سر الحياة التي بها النمو والتكاثر (٢) وعيسى ـ عليه‌السلام ـ كان يخلق بإذن الله الذي هو صاحب هذا السر وهذا ما نص عليه القرآن الكريم والله يمنح نعمه وإفضاله لمن شاء من خلقه.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٣ / ٢٧٥ ، وإنجيل الطفولة العربي ـ ١١٠ نقلا عن مصادر الإسلام ص ١٢٥.

(٢) مريم والمسيح ص ٤٦.

٣١٠

فعيسى ـ عليه‌السلام ـ لما كان يشكل ويصنع من الطين طيرا كان هذا الطير يبقى جامدا على حاله حتى يدب الله سبحانه فيه الحياة ويكون طيرا بإذن الله تعالى.

وإيراد القرآن لمثل هذه المعجزات التي لعيسى ـ عليه‌السلام ـ شبيهة بإحيائه الأموات والذي هو وارد عندهم في الإنجيل في أكثر من مكان ولأكثر من واحد لدليل على صدق هذا الكتاب وما جاء فيه وحفظه من أن يمس بأي تغيير أو تبديل.

وخلق الطير من الطين فيكون طيرا بإذن الله تعالى لا يبعد كثيرا عن إحيائه لمن سلب سر الحياة فيعود حيا مرة ثانية فكلاهما إحياء لميت (١).

والأمر ليس بهذه الدرجة من الغرابة كما يتصور المستشرقون فأي إنسان يستطيع أن يشكل طيرا من الطين ، لكن المعجزة في بقية الآية (فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ)(٢) تعالى فليس كل واحد بعد ذلك ينفخ فيما شكله فيكون طيرا بإذن الله تعالى لكنها خاصية لرسل الله عليهم‌السلام.

وإذا استغرب «تسدال» مثل هذا العمل فقد وقع لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ مثله في بعض الحيوانات حيث شقها نصفين كالأربعة من الطير التي ذكرها القرآن فعادت كما كانت (٣). وإن كان في العهد القديم الأمر إشارة لهذا فقط دون تمام القصة (٤).

وقد اعترف بهذه المعجزة القس «فندر» أحد علماء النصرانية الذين كانوا في الهند مشتغلين بالجرح والطعن في الإسلام في كتابه (ميزان الحق) حيث استدل بها على ألوهية المسيح لأن صفة الخلق من صفات الله تعالى وحده (٥) وقد

__________________

(١) انظر إنجيل متى الإصحاح (١٩) فقرة ١٨ ـ ٣٦.

(٢) سورة آل عمران (٤٩).

(٣) سورة البقرة : (٢٦٠).

(٤) انظر الكتاب المقدس ـ سفر التكوين الإصحاح الخامس عشر فقرة ١١ ، وما بعدها.

(٥) انظر أدلة اليقين. ص ٣٦٢ ـ ٣٦٣.

٣١١

بينت الفرق بين خلق الخالق والمخلوق.

فالعجيب من أحوال هؤلاء المستشرقين والمبشرين على السواء أنهم إذا أرادوا أن يطعنوا في القرآن أنكروا مثل هذه المعجزات ، وإذا أرادوا إثبات شيء منها لصالحهم أتوا بهذه المعجزات مسلمين لها ولصحتها ليدعموا بذلك آراءهم!!.

ج ـ قصة المائدة :

زعم «تسدال» أن منشأ وأصل حكاية المائدة في القرآن عدم فهم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للقصة من الكتاب المقدس وتوهمه العشاء الرباني بأنه المائدة (١).

قلت : لقد طابق القرآن ما جاء في الأناجيل في نسخه الأصلية الصحيحة مثل : تطهير البرص ، وإحياء الموتى ، وإعطاء بصر للعميان ، لكنه خالف في أمر المائدة حيث قال تعالى : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ. قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)(٢).

والمسلمون لا يصرفون القرآن الكريم وما جاء فيه لمقتضى ما ورد في الكتاب المقدس الذي لم يسلم من التغيير كما بينت.

لذا ما جاء في كتاب الله سبحانه هو الحق من نزول هذه المائدة من السماء حقيقة وليست هي رؤيا «بطرس» التي ذكرها «تسدال» (٣).

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام ص ١٢٨ ـ ١٣٠.

(٢) سورة المائدة آية : ١١٢ ـ ١١٥.

(٣) مصادر الإسلام ص ١٢٩ ، وانظر الرؤيا في أعمال الرسل ـ الإصحاح العاشر فقره ٩ ـ ١٦.

٣١٢

وليست وهما وهمه المسلمون وخطأ فهموه ولكنه نور الله من كتابه استرشدوه. ونصها كما في كتاب الله سبحانه : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ..) ولا شك أن بعض المسلمين قد فهم من الآيات أنها لم تنزل إما :

١ ـ لأنهم فهموا أنها مثل ضربه الله تعالى لخلقه نهاهم به عن مسألة نبي الله الآيات.

٢ ـ أو أن القوم لما قيل لهم : (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)(١) استعفوا منها فلم تنزل (٢).

والصحيح الذي عليه جمهور المسلمين وأئمتهم أنها قد نزلت (٣) ولكنهم اختلفوا في كيفية ذلك وما كان عليها من طعام.

أما إنكار النصارى أمر المائدة ذلك لأنها قادمة من القرآن الكريم وهذه المعجزة كغيرها من المعجزات مما أيد الله سبحانه بها عيسى ـ عليه‌السلام ـ والمعجزات كلها من قبل الله سبحانه وآيات إلهية تحصل بقدرته وحده سبحانه تجري على يد النبي وإجراؤها على يد العبد في معرض التشريف والتقريب هداية لقوم وإضلالا لآخرين ، وهذا لا يلزم أن يكون الذي ظهر على يديه شيء من هذه المعجزات إلها ، كما زعمت النصارى.

والنصارى ينكرون هذه المعجزة مع اعترافهم بما هو أكبر منها وهي معجزة إحيائه للموتى ـ عليه‌السلام ـ (٤).

كما أنهم ذكروا أكثر من مائدة بورك فيها الطعام على يدي عيسى ـ عليه

__________________

(١) سورة المائدة آية ١١٢ ـ ١١٥.

(٢) الفكر الإسلامي في الرد على النصارى ص ٢٧٥.

(٣) تفسير أبي السعود ٣ / ٩٩.

(٤) انظر إنجيل مرقص الإصحاح السادس فقرة (٢٥ ـ ٢٨).

٣١٣

السلام ـ كإطعامه خمسة آلاف شخص بخمسة أرغفة وسمكتين (١).

ثم ذكروا نزول هذه المائدة من السماء بناء على دعاء بطرس حيث نزل إناء مثل ملاءة عظيمة مربوطة أطرافه ومدلاة على الأرض وكان في المائدة كل دواب الأرض والوحوش والزحافات وطيور السماء وطلب منه أن يذبح ويأكل ما شاء ثم ارتفع الإناء إلى السماء. ولكنهم اعتبروها رؤيا رآها بطرس لا حقيقة (٢).

وهذا يشير أن ما ذكره القرآن صحيحا وله أصل.

أما التغيير والتبديل والتحريف والزيادة والنقصان عهدته على هذه الأناجيل التي لعبت فيها أيدي الكتبة وعامل الوقت بتغيير صورتها. والنصارى في جملتهم لا يألون جهدا في تكذيب نبينا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقرآنه وهي القاعدة التي بنوا عليها أمر دينهم وقد صرح بذلك أحد كبار النصرانية في القرن السابع وأكده كثير من المستشرقين والمبشرين في القرن العشرين.

سأل الإمام الرازي هذا النصراني : [.. ألا أخبرتني عن قاعدة أساس دينك ..].

قال النصراني : قاعدة ديننا مبنية على تكذيب محمد والعمل على عداوته حتى لو وجد في عصرنا لقتلناه أنجس قتلة ، ولو أظفرنا الله بملوك أمته وعلمائهم وأئمتهم لتقربنا إلى الله تعالى بذبحهم وسلخ جلودهم ، وجلود عبّادهم وزهادهم ، وسائر صلحائهم. ولو وقع بأيدينا كل كتاب لهم من الكتب التي يسمونها بالعلم والحكمة والمعرفة ، وكتب التفسير والحديث ، وصحف القرآن لمزقنا الجميع وألقيناها في سنادس البول والغائط ، ونحن فمتى لم نعتقد أن فعل ذلك من أعظم

__________________

(١) انظر إنجيل متى الإصحاح ١٤ فقرة ٣ ـ ٢٢ ، ومرقص الإصحاح ٦ فقرة ٣١ ـ ٤٤ ولوقا الإصحاح ٩ فقرة ١٠ ـ ١٧ ، ويوحنا الإصحاح ٦ فقرة ٥ ـ ١.

(٢) انظر أعمال الرسل الإصحاح العاشر فقرة ٩ ـ ١٦.

٣١٤

العبادات وأفضل القربات لم يصح لنا دين النصرانية ، ولا نتحقق بشيء منه ، كل ذلك لتغالينا في ديننا ، ولاعتقادنا صحته وسقم غيره ..](١).

ومن هنا يظهر سبب إخفاء بعض الحقائق القرآنية التي وردت في القرآن الكريم ولم ترد في الكتب السابقة كالكتاب المقدس.

د ـ عقيدة صلب عيسى ـ عليه‌السلام ـ وعقيدة الفداء :

حيث نفاه القرآن الكريم وأثبتته كتب النصارى المعتمدة.

زعم «تسدال» أن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخذ هذا المذهب من أشياع وأتباع «باسيليديس» ومريديه الذي كان يعلمهم مثل هذه البدعة ـ على حد زعمه ـ وفي ذلك يكون محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قد خالف جميع تعاليم الأنبياء والحواريين في ذلك لأنه لا بد أن المسيح الموعود به يبذل حياته الكريمة الثمينة ويكفر كفارة تامة كاملة عن خطايا جميع النوع الإنساني. وشهد الحواريون أنهم كانوا حاضرين وشاهدوا بأعينهم مخلصهم مصلوبا (٢).

هذا ما ذكره «تسدال» في أمر هذه الشبهة.

قلت : إن النهاية المأساوية لحياة المسيح ، وعلى نحو غير منتظر بالنسبة إلى المسيح عند اليهود ، كانت نقطة الانطلاق لعملية تأويلية واسعة النطاق سعت إلى تبرير كل الأحداث في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته عليه‌السلام ؛ لهذا السبب ارتبط الاعتقاد بأن تعرض عيسى ـ عليه‌السلام ـ لهذا الموت الشنيع بصلبه كان رغبة منه في فداء الجنس البشري من الخطيئة التي ارتكبها آدم بعصيانه لله سبحانه بأكله من الشجرة التي نهي عن الأكل منها لذا تم الاعتقاد بألوهيته وفي علاقته الفريدة بالله ووجد هذا الإيمان صيغته النهائية في قانون نيقية (SymboleDenicee) الذي نص على أنه (من أجل خلاصنا نزل من السماء

__________________

(١) مناظرة في الرد على النصارى ص ٥١ ـ ٥٢.

(٢) انظر مصادر الإسلام ص ١٣٢ ـ ١٣٣.

٣١٥

وتجسد من روح القدس ومن مريم البتول وصار إنسانا .. وأخذ وصلب وقتل أمام «بيلاطس» ومات ودفن وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب ، وصعد إلى السماء وجلس على يمين أبيه ، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء) (١).

هذه هي فلسفة عقيدة الصلب والفداء في النصرانية والعجيب أن النصارى لم تجمع على قضية عندهم كما أجمعوا على قضية الصلب والفداء.

والقرآن الكريم آخذ اليهود على كفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) ثم بين كذب هذه الدعوى بقوله سبحانه : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)(٢).

ووضح أنه ما قتل ولا صلب بأيد يهودية ولا غيرها عليه‌السلام ببيان أن الله سبحانه قد تاب على أبينا آدم عليه‌السلام قال تعالى في ذلك : (.. وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى)(٣).

هذا من جهة. وأنه لا معنى لإرث أبنائه خطيئة لم يرتكبوها ومن جهة أخرى حيث قال سبحانه : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(٤).

وبناء على عقيدتهم وتصورهم للذات الإلهية اختلفوا في الصلب والقتل : (فزعمت النسطورية أن الصلب وقع على المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته. وزعم أكثر الملكانية أن الصلب وقع على المسيح بكماله ، والمسيح هو اللاهوت والناسوت.

وزعم أكثر اليعقوبية أن الصلب والقتل وقعا في الجوهر الواحد الكائن من الجوهرين هما الإله والإنسان ، وهو المسيح على الحقيقة ، وهو الإله ، وبه حلت

__________________

(١) الفكر الإسلامي في الرد على النصارى ص ٣٧٧.

(٢) سورة النساء آية : ١٥٦ ـ ١٥٨.

(٣) سورة طه آية : ١٢١ ـ ١٢٢.

(٤) سورة الأنعام آية : ١٦٤.

٣١٦

الآلام ..) (١).

ولكن بعض النصارى وفقه الله للحق وذكر أنه لا يمتنع أن يكون قد ألقي شبه عيسى على ذلك المصلوب .. وتعليلهم لذلك بقولهم لأن الزمان كان زمان نبي يجوز نقض العادة فيه ، ويكون معجزا لذلك النبي (٢).

أما «برنابا» فقد صرح برفعه إلى السماء وعدم صلبه. قال برنابا : (ولما دنت الجنود مع يهوذا من المحل الذي كان فيه يسوع ، سمع يسوع دنو جم غفير فلذلك انسحب إلى البيت خائفا وكان الأحد عشر نياما. فلما رأى الله الخطر على عبده أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأوريل سفراءه أن يأخذوا يسوع من العالم فجاء الملائكة الأطهار ، وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب فحملوه ووضعوه في السماء الثالثة في صحبة الملائكة التي تسبح الله إلى الأبد) (٣).

وهذا ما جاء في القرآن الكريم الحق المبين أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ لم يصلب (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) فيجب الاعتماد في هذه القضية وأمثالها على القرآن الكريم المنزل من عند الله سبحانه المحفوظ من التغيير بعكس الأناجيل الأربعة فكل واحد منها رواية آحاد من وضع متى ، ومرقس ، ولوقا ، ويوحنا ، وخبر الأربعة لا يفيد القطع ولا يؤمن عليه التواطؤ على الكذب. وإن كنا لا نطعن في حواري عيسى عليهم‌السلام لتزكية الله لهم. ولكن الأمر لم يتسلسل تواترا فقد يكون دخل عليه النقص من بعدهم بنسيان أو تعمد حيث فعل مثل هذا بولس الذي أدخل الفلسفة الإغريقية التي فيها كثير من الوثنيات للنصرانية (٤) كما أن المتتبع لروايات الصلب في الأناجيل يجد اضطرابها ويجد فيها كلاما لا يصح أن يوصف به نبي من أولي العزم.

__________________

(١) الفكر الإسلامي في الرد على النصارى ص ٣٨٣.

(٢) الفكر الإسلامي في الرد على النصارى ص ٣٨٥.

(٣) انظر رسالة بولس وتأثيره في المسيحية ص ٩٦ ـ ٩٨ ، وإنجيل برنابا ص ٢١٥ ـ ٢١٦ ـ ٢١٧.

(٤) انظر إنجيل برنابا ص ٢١٥ : ١ ـ ٨.

٣١٧

وسأذكر بعض تناقض الأناجيل في هذه القصة لأبين أن هناك أكثر من ناحية ترد هذه العقيدة الباطلة.

فمن ناحية النصوص هي مردودة لاضطراب الأناجيل والكتب النصرانية فيها. من ذلك :

١ ـ جاء في إنجيل متى أنهم أعطوه خلا ممزوجا بمرارة في موضع يقال له : جلجثة وهو المسمى موضع الجمجمة. بينما إنجيل مرقس يرى أنهم أسقوه الخل وهو مصلوب في الساعة التاسعة (١).

كما أنه معروف من سيرته ـ عليه‌السلام ـ أنه كان يصبر عن الجوع والعطش أربعين فكيف هذا وهنا لم يصبر من الصباح للمساء؟!.

٢ ـ ذكر إنجيل مرقس أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ صرخ بصوت عظيم وهو مصلوب قائلا الوي .. الوي .. لما شبقتني؟. الذي تفسيره (إلهي .. إلهي .. لما ذا تركتني؟) (٢).

هذه العبارة تقتضي عدم الرضا بالقضاء وعدم التسليم لأمر الله تعالى مع أنه ـ بزعمهم ـ أنه جاء ليفدي البشرية من عذابها ووصمة الخطيئة. وهذا يتنزه عنه مقام النبوة ولا يقبل في حق هذا النبي ـ عليه‌السلام ـ الذي هو من أولي العزم من الرسل.

٣ ـ ذكر إنجيل متى : أن يهوذا الأسخريوطي أخذ ثلاثين من الفضة ليسلمه لهم ويدلهم عليه (٣) مع أن نفس الإنجيل ذكر أنه كان يخالطهم في مجامعهم وهياكلهم ويناظرهم حتى كانوا يقولون : أليس هذا ابن يوسف؟ أليست أمه

__________________

(١) انظر إنجيل متى الإصحاح السابع والعشرون فقرة ٣٢ ـ ٣٥. وإنجيل مرقس الإصحاح الخامس عشر فقرة ٣٣ ـ ٣٦.

(٢) إنجيل مرقس ـ الإصحاح الخامس عشر فقرة ٢٤.

(٣) إنجيل متى الإصحاح الخامس والعشرون فقرة ١٤ ـ ١٦.

٣١٨

مريم؟ أليس أخواه عندنا؟ فمن أين له هذه الحكمة؟ (١) ليس هذا يدل على تناقض.

الناحية التاريخية تبطل قضية الصلب والفداء :

المعروف أن خبر الصلب لم ينتشر إلا بعد نحو مائتين وثلاثين سنة من صلب عيسى ـ على حسب زعمهم ـ وهذا لا يسير مع حجم الحدث وهي مردودة كذلك من :

الناحية العقلية : من ذلك :

١ ـ إذا كان الله سبحانه لم يرد الانتقام من آدم ـ عليه‌السلام ـ لمعصيته فمن باب أولى أن يعفو عن الذنب ويتوب عن المذنب ، ولا يحمله لغيره من باب العدل الإلهي.

٢ ـ النصارى تقول إن عيسى ـ عليه‌السلام ـ إله فكيف يوقع الإله عقوبة على الذي هو إله مثله أو هو جزء منه.

٣ ـ النصارى يعتقدون أن الصلب وقع على الناسوت فقط وهم يقولون إن الناسوت في اللاهوت كالماء في اللبن جوهران أصبحا جوهرا واحدا فكيف يعقل هذا؟!.

٤ ـ الله سبحانه «العدل» فكيف يعاقب إنسانا عن ذنب غيره فهل هذا يتمشى مع روح العدل الإلهي سبحانه.

٥ ـ لما ذا لم تذكر التوراة أمر لصوق الخطيئة ببني آدم وفيهم الأنبياء وقد ذكرت ما هو أدنى من ذلك مع أن هذا الأمر من الأهمية بمكان. كيف لا وهو قد حكم على جميع بني آدم بالجحيم حتى الأنبياء لتوارثهم خطيئة أبيهم حتى جاء عيسى ـ عليه‌السلام ـ ليخلصهم من ذلك.

__________________

(١) انظر كتاب بين المسيحية والإسلام ص ١٦٤ ـ ١٦٨.

٣١٩

٦ ـ إذا كان عيسى ـ عليه‌السلام ـ إلها وقد صلب ودفن كما يقولون فمن الذي أمسك السموات من السقوط والأرض أن تميد ومن دبر شئون الخلق في هذه اللحظات التي غاب فيها الإله.

إن هذا إلا افتراء تعالى الله سبحانه علوا كبيرا عما يقولون.

وفي خاتمة هذا الرد أريد أن أسجل اعترافا لهم يدينهم من إنجيلهم وهو أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ أشار قبل رفعه إلى هذا الرفع وهو ما تبطل به عقيدة الصلب.

ذكر مرقس في إنجيله أن رئيس الكهنة سأل عيسى ـ عليه‌السلام ـ [.. أنت المسيح بن المبارك؟ فقال يسوع : أنا هو. وسوف تبصرون ابن الإنسان جالسا عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء](١).

أليس هذا نصا في الإنجيل الذي به يعتقدون ويقولون : إنه كلمة الله الصحيحة. فكيف بكم تخالفونه ، وتعتقدون سوى ذلك ، وتكذبون أخبار نبيكم عيسى ـ عليه‌السلام ـ بهذا الأمر. فهذا النص وأمثاله يثبت ما نعتقده في حق الإنجيل أنه غير الإنجيل الذي نزل على عيسى ـ عليه‌السلام ـ لما فيه من اضطراب ، وما اعتراه من تحريف لا يصح أن يكون كلمة الله.

وإن كان بقي فيه بعض الصحة كهذه الفقرة التي وافقت ما جاء في القرآن الكريم من عدم صلبه ـ عليه‌السلام ـ بل رفعه الله سبحانه تعظيما لشأن هذا النبي ولأمر قدره في عودته ليرفع راية الإسلام ويهلك عدو الله المسيح الدجال. كما أن عيسى أخبر تلاميذه أنه سيرفع ويذهب إلى أبيه وأبيهم (٢).

فبهذه الردود نكون قد نقضنا هذه العقيدة الزائفة ، والفكرة المفتراة. والدعوى الباطلة وظهر هيمنة القرآن في كل ما أخبر به عن الكتب السابقة وأخبار

__________________

(١) إنجيل مرقس الإصحاح ١٤ فقرة ٦١ ـ ٦٣.

(٢) إنجيل يوحنا الإصحاح ١٤ فقرة ١٦.

٣٢٠

أهلها لما في مثل هذه المواقف القرآنية من تصفية لعقائد الناس كلهم حتى عند الذين حرفوها وضلوا بها من النصارى ومن غضب الله عليهم من اليهود. وفي ذلك تكريم للأنبياء وتشريف لهم وأدب جم بحضرتهم ولأشخاصهم أحياء وأمواتا.

ه ـ نزول عيسى ـ عليه‌السلام ـ في آخر الزمان :

زعم «تسدال» أن هذا الاعتقاد عندهم ناشئ عن عدم فهم لعبارة واردة في أعمال الرسل التي تفيد بأنه ـ عليه‌السلام ـ أقام مع تلاميذه أربعين يوما بعد قيامته كما أنهم استندوا إلى كتابين ساقطين وهما (نياحة أبينا القديس الشيخ يوسف النجار) وكتاب (تاريخ رقاد القديسة مريم).

لذا رجح أن يكون منشأ هذا الاعتقاد من المسلمين جهلة أصحاب البدع والضلالة .. هذا كله على حد تعبيرات «تسدال» (١).

قلت : إن هذه القضية وقع تلاميذ المسيح فيها بشك واضطراب لأنها مبنية على قضية أخرى هم مضطربون فيها وهي قضية رفع المسيح ـ عليه‌السلام ـ بعد قيامه من قبره وظهوره لتلاميذه كما هم ذكروا ذلك ، فلوقا ذكر في إنجيله أنه ارتفع إلى السماء بعد قيامه من قبره (٢) بأربعين يوما (٣) وبعضهم قال : بل بعد أحد عشر عاما وقد خالف لوقا بذلك الاعتقادات القديمة القائلة : أن القيامة والصعود له حدثا في نفس الوقت في حين لم يذكره «بولس» ، و «كليمنت» و «أجناتيوس» و «هرمس» و «بوليكارب» وغيرهم (٤).

وقد حدد بعضهم جلوسه عن يمين الله عزوجل (٥) أما بعضهم زعم أن

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام ص ١٣٧ ـ ١٣٩.

(٢) انظر إنجيل لوقا ـ الإصحاح الثالث والعشرون فقرة ٣٥ ـ ٤٣.

(٣) انظر سفر أعمال الرسل ـ الإصحاح الأول فقرة (٣).

(٤) انظر المسيح في مصادر العقائد المسيحية ص ٣٠٥. وانظر إنجيل لوقا ٢٤ : ٥١.

(٥) انظر أعمال الرسل ٢ ـ ٣٢.

٣٢١

المسيح نزل إلى الجحيم كما جاء في «قانون إيمان الرسل» على لسان «توما» حيث قال : إنه نزل إلى الجحيم ، وفي اليوم الثالث قام ثانية من الأموات.

وهذا القانون موجود في (كتاب الصلوات للكنيسة المتحدة في انجلترا وإيرلندا) وقد جاء كذلك في إنجيل «نيوقديموس» أن آدم وإبراهيم والأنبياء استقروا في الجحيم بعد الموت إلى أن نزل إليهم المسيح ثم صعد بهم إلى الفردوس في السماء حيث قابلوا ثلاثة من بني آدم لم يذوقوا الجحيم (١). وهذا يناقض موقف كل كتب السماء من أنبياء الله عزوجل حيث حرم الله عليهم النار ، وانتقالهم يكون إلى النعيم مباشرة فهذا يؤكد أن الأناجيل والمصادر المسيحية قائمة على الشكوك وغيوم الظنون والأوهام ؛ وذلك لأن النصرانية مشتقة من اليهودية المتخبطة في شئون العقيدة والتوحيد. أما شأن عودته مرة ثانية الذي أنكره «تسدال» واعتبره من الفهم الخطأ لنا وأن مرجعه مبتدعة النصارى فقد ذكر الإنجيل هذا الأمر في أكثر من موطن بكل وضوح مخالفا قول «تسدال» الذي يقلب الحقائق لإبطال القرآن وتخطئته وزعمه أن ذلك لأن محمدا أخذ من مصادر شتى بزعمه ..

جاء في إنجيل «مرقس» بعد ذكر الأحداث الكونية التي تسبق يوم القيامة [.. وأما في تلك الأيام بعد ذلك الضيق فالشمس تظلم والقمر لا يعطي ضوءه ونجوم السماء تتساقط والقوات التي في السماء تتزعزع وحينئذ يبصرون ابن الإنسان آتيا في سحاب بقوة كثيرة ومجد ..](٢).

وهذه الأحداث الكونية والإرهاصات موافقة لما ذكره القرآن الكريم من أشراط الساعة وقد جاء الرفع إلى السماء والنزول منها ثانية لعيسى ـ عليه‌السلام ـ واضحا في سفر أعمال الرسل حيث قال : [.. إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء هكذا كما رأيتموه منطلقا إلى السماء ..].

__________________

(١) انظر المسيح في مصادر العقائد المسيحية ص ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

(٢) إنجيل مرقس الإصحاح ١٣.

٣٢٢

وقد أوصاهم أن لا يبرحوا أورشليم وينتظروا عودته ولما سألوه عن وقت ذلك رد الأمر في ذلك لله سبحانه صاحب السلطان (١).

ومن هنا يظهر صواب ما جاء في السنة النبوية الشريفة من عودة المسيح ـ عليه‌السلام ـ آخر الزمان حكما عدلا بشريعة الإسلام ، يكسر الصليب رمز العقيدة الفاسدة ويقتل الخنزير ، ويقتل الدجال في باب اللد في فلسطين ، ويضع الحرب بعدها ، ويفيض المال على الناس في عصره حتى لا يقبله أحد فيصلي مع المسلمين الصلوات ، ويجمع الجمع ، ويجيء من أمور شرعنا ما هجره الناس ، ويكون خليفة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في أمته من بعده في آخر الزمان. فيمكث فيهم أربعين سنة.

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

«.. فيقتل الخنزير ويمحو الصليب وتجمع له الصلاة ، ويعطى المال حتى لا يقبل ، ويضع الخراج ، وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما». قال : وتلا أبو هريرة (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً)(٢).

وفي رواية أخرى عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «ليس بيني وبين نبي ـ يعني عيسى ـ وأنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه.

رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، بين ممصرتين ، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل ، فيقاتل الناس على الإسلام ، فيدق الصليب ويضع الجزية ، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ، ويهلك المسيح الدجال ، فيمكث في الأرض أربعين سنة ، ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون» (٣).

__________________

(١) انظر سفر أعمال الرسل الإصحاح الأول فقرة ١ ـ ١٢.

(٢) مسند الإمام أحمد ٢ / ٢٩٠.

(٣) مسند الإمام أحمد ٢ / ٤٣٧.

٣٢٣

وقد جمع الإمام السيوطي ـ رحمه‌الله ـ كتابا في نزول عيسى بن مريم عليه‌السلام (١) ـ آخر الزمان وقد روي فيه ثمان وستون حديثا في نزوله عن ست وعشرين صحابيا تقريبا ، وثمان من التابعين تقريبا. وقد كتب زميلي «عبد العزيز كجك» رسالة ماجستير في رفع عيسى ـ عليه‌السلام ـ ونزوله آخر الزمان رجح فيها درجة التواتر المعنوي للأحاديث الواردة في ذلك (٢). وذكر الإجماع على نزوله وقد استدل القائلون بعودته من القرآن الكريم بقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)(٣).

وقد رجح الأستاذ العقاد فكرة المسيح المنتظر عند الأمم بقوله :

[.. يدل علم المقارنة بين الأديان على شيوع الإيمان بالخلاص وظهور الرسول المخلص في زمن مقبل .. وقد يشتد هذا الأمل حين تشتد الحاجة إليه. فكان المصريون الأوائل يترجون المخلص المنقذ بعد زوال الدولة القديمة .. وقد كان البابليون يؤمنون بعودة «فروخ» إلى الأرض فترة بعد فترة .. وكان المجوس يؤمنون بظهور رسول من إله النور كل ألف سنة يبعث في جسد إنسان. وقيل : إنه هو «زرادشت» رسول المجوسية الأكبر .. أما الإيمان بظهور رسول إلهي يسمى «المجوسية» خاصة فلم يعرف بهذه الصيغة قبل كتب التوراة وتفسيراتها ، أو التعليقات عليها في التلمود والهاجادا وما إليها ..](٤).

كما أن اليهود يعتقدون بقدوم مسيح لهم يقيم لهم دولتهم المزعومة. كما أن القاديانية والبهائية من الفرق الضالة تزعم أنه عاد وهو زعيمهما (٥). والحق أن المسيح المراد كما بينت هو عيسى بن مريم ـ عليه‌السلام ـ.

__________________

(١) انظر نزول عيسى بن مريم ـ عليه‌السلام ـ ونزوله آخر الزمان.

(٢) انظر رسالة رفع عيسى ـ عليه‌السلام ـ ونزوله آخر الزمان مقدمة لجامعة الإمام لنيل درجة الماجستير لسنة ١٤٠١ ه‍ / ١٤٠٢ ه‍.

(٣) سورة النساء آية ١٥٩.

(٤) انظر كتاب (حياة المسيح) للأستاذ العقاد ص ٣٥ ـ ٣٧.

(٥) رفع عيسى عليه‌السلام ونزوله آخر الزمان ص ٢٣٨.

٣٢٤

بهذا البيان تسقط شبه «تسدال» وأمثاله ويظهر بطلان مزاعمهم وهيمنة القرآن الكريم بما ذكره.

والله الموفق للسداد والصواب.

ب ـ قضايا أخرى متفرقة :

١ ـ التبشير بنبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

أنكر «تسدال» أن تكون الكتب المقدسة بشرت بنبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وصرف التبشير لعيسى ـ عليه‌السلام ـ وزعم أن العرب أخطأت في فهم معنى كلمة فارقليط حيث توهموا أنها بمعنى «أحمد» ولكن معناها الحقيقى معز (١).

قلت : لا غرابة أن ينكر «تسدال» نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكذلك لا غرابة أن ينكر إلهية قرآنه ويزعم أنه بشري المصدر ، مجمع من ديانات وآراء شتى طمعا في جمع الناس على دين موحد حبا في السيادة والقيادة. فهذا الأمر إذن من جملة إنكارات «تسدال» ومن جملة مزاعمه.

والمعروف أنه ما من نبي جاء إلا وكان يبشر بالنبي الذي يأتي بعده ويأخذ الميثاق على قومه أن يؤمنوا به وينصروه.

فهذا موسى ـ عليه‌السلام ـ في وصاياه يخبر بقدوم سيدنا عيسى ـ عليه‌السلام ـ ويبشر بقدوم خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام. جاء في العهد القديم : [قال : جاء الرب من سيناء (أي موسى عليه‌السلام) وأشرق من ساعير (وهو عيسى عليه‌السلام) واستعلن من جبل فاران (وفاران مكة والذي بعث فيها هو محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ)](٢).

كما نقل عن زرادشت تبشيره بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حيث قال : [تمسكوا

__________________

(١) مصادر الإسلام ص ١٣٤ ـ ١٣٥.

(٢) انظر الكتاب المقدس ـ سفر التثنية الإصحاح ٣٣ فقرة ٢.

٣٢٥

به إلى أن يجيئكم صاحب الجمل الأحمر](١).

حتى ملائكة الله ـ كما ذكرت التوراة ـ أخبرت هاجر أم اسماعيل ـ عليهما‌السلام ـ عند «عين ثور» بأنه سيكون من ذرية كثيرة [وسيكون من هذه الذرية واحد تدين له معظم الدنيا والنص : كما في التوراة [.. وقال لها ملاك الرب تكثيرا أكثر نسلك فلا يعد من الكثرة. وقال لها ملاك الرب : ها أنت حبلى فتلدين ابنا وتدعين اسمه إسماعيل لأن الرب قد سمع لمذلتك. وأنه يكون إنسانا وحشيا. يده على كل واحد ويد كل واحد عليه وأمام جميع إخوته يسكن](٢).

كما ذكرت التوراة كلام الرب لموسى ـ عليه‌السلام ـ أنه سيبعث فيهم رسولا ومن يخالفه فإن الله سيطالبه والنص هو : [.. أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه …](٣).

فهذا النص صريح أنه سيبعث لهم نبيا ليس منهم بل من بين إخوتهم وليس ذلك إلا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والأناجيل كلها ذكرت أنهم سيعطون معزيا ومخلصا آخر إلى يوم القيامة ولم يأت رسول بعد عيسى ـ عليه‌السلام ـ إلا سيدنا ـ محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

جاء في إنجيل يوحنا : [وأنا أطلب من الأب فيعطيكم «فارقليطا» معزيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد](٤).

أما كلمة «الفارقليط» التي زعم «تسدال» أنها غير موجودة وحرف معناها عن أحمد إلى معزي.

__________________

(١) الأديان في القرآن ص ٨٢.

(٢) الكتاب المقدس الإصحاح السادس عشر الإصحاح فقرة ٧ ـ ١٢.

(٣) الكتاب المقدس ١٤ / ٢٢ ـ ٢٩ (بمعناه).

(٤) الكتاب المقدس الإصحاح ١٤ فقرة ١٥.

٣٢٦

فهذه الكلمة موجودة في أصل الإنجيل بنسختيه اليونانية والعبرية ولكن الترجمة العربية غيرت معنى أحمد إلى المعزي والمخلص ليخالفوا بذلك القرآن الكريم الذي نص على تبشيره كل من التوراة والإنجيل بأحمد (محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ) والكلمتان «فارقليط أو بارقليط» اليونانيتان والذي زعم «تسدال» أن المسلمين فهموها خطأ وأنهما بعيدتان في المعنى عن بعضهما.

قال الأستاذ «رحمت الله الهندي» في رده على هذه النقطة أثناء رده على القس «فندر» : [أصل «فارقليط» (١) معرب من اللفظ اليوناني «باراكلي طوس» فيكون معناه المعزي ، أو المعين أو الوكيل وإن قلنا أن اللفظ الأصلي «بيروكلوطوس» فيكون معناه قريبا من محمد وأحمد والتفاوت بين اللفظتين يسير جدا ، وأن الحروف اليونانية متشابهة فتبدلت بيروكلوطوس بباراكلي طوس](٢).

وقد نقل ابن إسحاق في سيرته لفظا آخر بدلا من «فارقليط» «المنحمنا» وهذا اللفظ كان موجودا في الإنجيل نقلا عن الحواري يحنس والنص :

[وقد كان ، فيما بلغني عما كان وضع عيسى بن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل لأهل الإنجيل من صفة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، مما أثبت يحنس الحواري لهم ، حين نسخ لهم الإنجيل عن عهد عيسى بن مريم ـ عليه‌السلام ـ في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إليهم أنه قال : من أبغضني فقد أبغض الرب ، .. ولكن لا بد من أن تتم الكلمة التي في الناموس : أنهم أبغضوني مجانا ، أي باطلا ، فلو قد جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم عند الرب ، وروح القدس هذا الذي خرج من عند الرب خرج فهو شهيد علي وأنتم أيضا ، لأنكم قديما كنتم معي ،

__________________

(١) كلمة فارقليط اليونانية أصلها بالعبري (بيرقليط) وهي لغة المسيح ، والتي معناها محمد وأحمد ولكن النصارى حرفوها إلى (بارقليطوس) ثم حذفوها ووضعوا مكانها المعزي والمعين والوكيل. وقد كان هذا الاسم (بيروقليط) موجودا في التراجم الحديثة سنة ١٨٢١ م ، ١٨٣٢ م ، ١٨٤٤ م ، المطبوعة بلندن. انظر حاشية كتاب هداية الحيارى ص ١٢٠.

(٢) انظر إظهار الحق ص ٤٢٠ ـ ٤٢١.

٣٢٧

في هذا قلت لكم لكيما لا تشكوا والمنجمنا [بالسريانية] : محمد. وهو بالرومية : البيرقليطس ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم](١).

أما نصوص الأناجيل الأربعة اليوم فقد جاء اسمه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بلفظ المعزي ، أو المخلص ، أو الوكيل ، فمثلا : جاء في إنجيل يوحنا [.. ومتى جاء المعزي الذي سأرسله إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي](٢).

وذكر لفظ المخلص بقوله : [وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ، ويذكركم بكل ما قلته لكم](٣).

وقد جاء وصفه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في الزبور وكم سيبلغ مدى سلطانه وخضوع الملوك والأمم له وإرسال الملوك الهدايا له حتى أن اسمه سيكون قبل الشمس وذلك لمعرفة القاصى والداني به وهذا ما كان قال الزبور : [.. يشرق في أيامه الصديق وكثرة السلام إلى أن يضمحل القمر ، ويملك البر إلى البحر ، من الهند إلى أقاصي الأرض ، أمامه تجثوا أهل البرية ، وأعداؤه يلمون التراب ، وملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمه ، ملوك شبا وسبأ يقدمون هدية ، ويسجد له كل الملوك ، ويصلي لأجله دائما اليوم كله يباركه … ويزهرون من المدينة مثل عشب الأرض يكون اسمه إلى الدهر قدام الشمس ويمتد اسمه ، ويتباركون به كل أمم أهل الأرض يطوبونه ..](٤).

وقد وصف كذلك في سفر أشعياء بقوله : [هو ذا عبدي أعضده مختاري الذي سرت به نفسي. وصعق روحي عليه فيخرج الحق للأمم لا يصيح ولا يدفع ولا يسمع في الشارع صوته. قضية مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفئ. إلى الأمان يخرج الحق. لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٢٤٨.

(٢) إنجيل يوحنا الإصحاح ١٥ فقرة ١٦.

(٣) نفس المرجع الإصحاح ١٤ فقرة ٢٦.

(٤) انظر الكتاب المقدس ـ سفر المزامير ، المزمور الثاني والسبعون لسليمان عليه‌السلام فقرة ١ ـ ١٩.

٣٢٨

وتنتظر الجزائر شريعته ..](١).

والنصوص في الكتب السابقة كثيرة جدا وخاصة الكتاب المقدس ولكن أكتفي بهذه وفيها المبلغ للرد على «تسدال» وزمرته.

أما كتب التاريخ فقد شهدت على انتشار خبر مقدم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والتبشير بقرب بعثته قبل أن يبعث والإرهاصات والدلائل التي تشير أنه محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من يوم أن حملت به أمه إلى بعثه فمن ذلك :

١ ـ ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن «شقا وسطيحا» كانا كاهنين يخبران بظهور نبينا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٢).

٢ ـ قصة حليمة السعدية وأنها كانت تعرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على اليهود كلما مر بها جماعة منهم وتحدثهم بشأنه فكانوا يحضون على قتله فتهرب منهم كما أن نصارى من الحبشة عرفوه أنه النبي المنتظر فأرادوا أخذه من حليمة لملكهم وانفلتت منهم بصعوبة (٣).

٣ ـ أنهم اتفقوا على أن بحيرا الراهب عرف الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعلامات النبوة التي فيه وحذر أبا طالب عليه من يهود طالبا منه أن يرجع به لمكة المكرمة (٤).

٤ ـ معرفة أحبار اليهود ، ورهبان النصارى ، وكهان العرب من شياطينهم صفة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وصفة زمانه ، وما كان من عهد أنبيائه إليهم فيه وإنذار اليهود به فلما بعث كفروا به (٥).

٥ ـ سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ الذي أسلم بعد ما استدل على

__________________

(١) سفر أشعياء الإصحاح الثاني والأربعون فقرة ١ ـ ٤.

(٢) انظر سيرة ابن هشام ١ / ١٥ ـ ١٩.

(٣) انظر سيرة ابن هشام ١ / ١٦٨ ، ١٧٧.

(٤) نفس المرجع ١ / ١٩١.

(٥) نفس المرجع ٢١٧ ، ١٧٧.

٣٢٩

رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعلامات كان يعرفها من راهب عمورية حيث صحبه أخيرا وذكرها له (١).

٦ ـ إسلام حبر اليهود وأحد علمائهم عبد الله بن سلام بن الحارث الذي عرف صفة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واسمه وزمانه (٢).

٧ ـ ورقة بن نوفل وإخباره رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه نبي هذه الأمة وما جاءه هو الناموس الذي نزل على موسى عليه‌السلام (٣).

٨ ـ خبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مع يهود بني قينقاع من أهل المدينة حيث قال لهم : «يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم (٤).

هذا غيض من فيض من الأدلة التاريخية الدالة على معرفتهم ببعثته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتعرفهم عليه بأوصافه لما عرفوا ذلك من كتبهم وإخبار أنبيائهم لهم.

ومن هنا يظهر لنا من خلال الروايات التاريخية والنقول من الكتب المقدسة كم كان هؤلاء المستشرقون والمبشرون ظالمون ومفترون على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأنهم يعرفون الحق ولكنهم عنه يحيدون فهم ممن أضلهم الله على علم. ولم يكونوا علميين في مناهجهم أبدا فضلوا وأضلوا.

وفي هذا مبلغ للرد على «تسدال» وزمرته بافتراءاتهم وتحريفاتهم.

ولله الفضل والمنة

__________________

(١) نفس المرجع ١ / ٢٣١.

(٢) نفس المرجع ٢ / ١٦٣ ـ ١٦٤ والبداية والنهاية ٣ / ٢١٠.

(٣) نفس المرجع ١ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

(٤) انظر البداية والنهاية لابن كثير ٤ / ٣.

٣٣٠

٢ ـ القضايا المتبقية سيكون ردي عليها برد واحد وهي :

١ ـ قصة خلق آدم من تراب.

٢ ـ والتشابه في ذكر الميزان والأعراف.

٣ ـ التشابه في ورود معنى آية وحديث في القرآن والإنجيل.

٤ ـ المرور على الصراط.

قلت : «زعم تسدال» أن قضية نزول الملاك من السماء لأخذ شيء من أديم الأرض لله سبحانه ليخلق منها آدم ـ عليه‌السلام ـ أنها مأخوذة من أقوال «مرقيون» وهو يوناني من أصحاب البدع المارقين عن الدين القويم.

أما قصة : خلق آدم من تراب فهي واردة في التوراة والقرآن ونصها في الكتابين.

جاء في القرآن الكريم أن : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(١) كذلك جاء في السنة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «أن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض … الحديث» (٢).

وجاء في التوراة : [… وجبل الإله آدم ترابا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفسا حية ، وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا ، ووضع هناك آدم الذي جبله .. وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء ..](٣).

فالكتابان أذن متفقان على أن آدم ـ عليه‌السلام ـ خلق من تراب وهذا لاتحاد المصدر. أما الاختلاف الذي وجهه «تسدال» فقط في هل خلقه الله

__________________

(١) سورة آل عمران آية (٥٩).

(٢) انظر سنن أبي داود ٤ / ٢٢٢ كتاب السنة باب ١ ومسند الإمام أحمد ٤ / ٤٠٠.

(٣) العهد القديم ـ سفر التكوين الإصحاح الثاني فقرة ٧ ـ ٩ ، ١٩.

٣٣١

بيده أو خلقه بواسطة ملائكته التي أحضرت مكوناته الأساسية (التراب) ثم نفخ الله سبحانه فيه من روحه.

ولكني لم أجد في الكتب المعتمدة أن الذي أحضر التراب أحد من الملائكة ولكن الأمر منسوب لله سبحانه نفسه كما في التوراة ويمكن أن يكون ما ورد في كتاب (عرائس المجالس) للثعلبي مأخوذ من الإسرائيليات والمعروف أن هذا الكتاب مليء بالأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيلية كالرواية المنسوبة لعبد الله ابن سلام.

إذن فلا مجال لاعتراض «تسدال» علينا والملاحظ على «تسدال في هذا البحث أن كل ما ورد من كتب نصرانية خالفته اعتبرها شاذة ، وموضوعة ، واعتبرها لفرق ضالة. ولكنا نحن نقول هو من الكتب الإسلامية التي تحتاج إلى تهذيب وتنقية مما دخلها من الإسرائيليات.

أما زعم «تسدال» أن الميزان والصراط والمرور عليه والأعراف ، كلها مأخوذة من قدماء المصريين من كتابين : (كتاب عهد إبراهيم) الذي ألف قبل الهجرة بأربعمائة سنة (٤٠٠). وكتاب (الأموات) الذي وجد بخط اليد في قبور قدماء المصريين (١).

قلت : إن دعوة التوحيد دعوة ربانية نزل بها أبو البشرية آدم ـ عليه‌السلام ـ وكان يعلمها لذريته. وكلما زاغت فئة من ذريته ـ عليه‌السلام ـ كان الله سبحانه يرسل لهم من رسله من يرشدهم للصواب ، ويذكرهم بدعوة أبيهم آدم ـ عليه‌السلام ـ.

ومن هذه الأمم التي بلغتها دعوة التوحيد قدماء المصريين. فقد تبنى هذه الدعوة الشاب المصلح «أخناتون» الذي كان داعية التوحيد بين قدماء المصريين. ويحتمل أن هذه الدعوة قد بلغته بالتأثر بدعوة أحد الأنبياء في عصره في بلاد الشام ، أو عن طريق اطلاعاته على ما كتب ممن سبقوه من أهل المعتقدات.

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام ص ١٤٥ ـ ١٤٦.

٣٣٢

وقد اعتقد المصريون بالموت والبعث والحشر ووزن الأعمال والنعيم والعذاب ، وغير ذلك من قضايا العقيدة ، ووضعت الأحكام والتشريعات والأخلاق عندهم متمشية مع هذه العقيدة التي فيها مراقبة الله سبحانه والخوف منه ومن غضبه وعقابه (١).

هذه الدعوة في مجملها لا تختلف عن أي دعوة توحيدية كانت تظهر بين الفينة والفينة بعناية الله سبحانه لبني الإنسان من الضلال والخسران ، والمعروف أن قدماء المصريين تأثروا في نهاية الأمر بالمسيحية من القرن الأول الميلادي.

لذا فلا غرابة إذا وجدنا القرآن الكريم يذكر ما ذكر في الديانات التوحيدية السابقة وذلك لوحدة المصدر في كلها. والغريب أن يستنكر «تسدال» مثل هذا الأمر ، ولما ذا لم يعب على النصرانية أن جاءت بما دعت إليه المصرية القديمة من قضايا عقدية قبل أن يتنصروا؟

وكذلك ما ذكره «تسدال» أن القرآن والإنجيل توافقا في لفظ آية وحديث والآية المقصودة قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ..) الآية (٢).

وقد شابهها في إنجيل لوقا قوله : [.. فلما رآه يسوع قد حزن (أي أحد الأغنياء) قال : ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله ..](٣).

وكذلك ورد مثل هذه الفقرة في إنجيل متى الإصحاح ١٩ وإنجيل مرقس الإصحاح ١٠.

__________________

(١) انظر كتاب الديانة القديمة المصرية من ص ٨١ ، ٢١١ وما بعدها ، وكتاب الإنسان في ظل الأديان ص ١٣٨ وما بعدها.

(٢) سورة الأعراف آية ٤٠.

(٣) إنجيل لوقا الإصحاح ١٨ فقرة ٢٤ ـ ٢٥.

٣٣٣

أما الحديث المقصود فهو قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال الله عزوجل : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (١).

وقد جاء شبيه له في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس جاء فيها : [بل كما هو مكتوب ما لم تر عين ولا تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه](٢).

قلت : هذه الآية والحديث الذي زعم «تسدال» أن مصدرها الكتاب المقدس العهد الجديد.

ف «تسدال» ينسى أو يتناسى أن هذين الكتابين وأقوال الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خاصة الحديث القدسي الذي أورده «تسدال» مصدرهما واحد لأن القرآن والإنجيل ومعنى الحديث القدسي الذي ذكره رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليس له طريق ولا مصدر غير خبر السماء.

فإذا حصل تشابه بين الكتب السماوية بعضها مع بعض في بعض الألفاظ أو توارد معاني أو بعض القصص أو الأحكام أو الأخبار .. إلخ ، فذلك لأن منزلهما واحد وهو الله سبحانه وتعالى. وكل من محمد وعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ رسولان من رسل الله سبحانه فلا غرابة فيما أورد «تسدال» والغريب في نسيانه أو تناسيه مثل هذا الأمر.

وهكذا نكون قد أتممنا الرد على المصدر الخامس المزعوم من مصادر الإسلام العظيم بتفنيد مزاعم «تسدال» وتوضيح شبهاته وإبطالها حتى بان الحق.

ولله الحمد والمنة ..

__________________

(١) انظر مسند الإمام أحمد ٢ / ٣١٣.

(٢) انظر رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كوزثيوس ـ الإصحاح (٢) فقرة (٩).

٣٣٤

٦ ـ المصدر السادس :

(اليهودية):

زعم «تسدال» و «ماسيه» و «أندريه» و «لامنز» و «جولد تسيهر» و «نولديكه» وغيرهم من المستشرقين أن اليهودية مصدر من مصادر الإسلام واستدلوا على ذلك بأمور منها.

١ ـ تشابه القرآن والكتب اليهودية في القصص. كقصة ابني آدم ـ عليه‌السلام ـ وقتل أحدهما للآخر ، وقصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وإنقاذه من نار النمرود ، وقصة سليمان ـ عليه‌السلام ـ مع ملكة سبأ ، وقصة هاروت وماروت ، وقصة موسى ـ عليه‌السلام ـ وبعض مواقف له ، وغير ذلك كثير.

٢ ـ التشابه في بعض القضايا العقدية والتشريعية والحث على مكارم الأخلاق (١).

قلت : يعترف الإسلام بالأديان السماوية السابقة ، ويوجب على أتباعه أن يعترفوا بهذه الرسالات وبالرسل الذين حملوها إلى أقوامهم.

ولكن الإسلام جاء خاتما للديانات السابقة ، وناسخا لها ، وحاملا أحسن ما حوته من تشريعات وزاد في احتياجات البشرية في كل جوانب الحياة ، فجاء شاملا لمناحي الحياة عاما لكل بني الإنسان إلى يوم الدين فجاء صورة لكتاب الله الواحد المتحد في الأصل والوجهة ، الشامل للحقائق الكبرى التي تقوم عليها أسس الحياة. ملبيا لهم كافة حاجاتهم البشرية ، وموضحا ما يحتاجونه من أحكام شرعية مما يجب على البشرية الرجوع له واتباعه وتحكيم شرعه ، والخضوع والانقياد لأوامره وتعليماته حيث إنه يتضمن باقي شرائع الله التي وردت في الكتب السابقة.

__________________

(١) انظر مصادر الإسلام لتسدال ص ٢٩ وما بعدها (الفصل الثالث) ، وانظر مذاهب التفسير الإسلامي ص ٦ ، ١٠ ، وتاريخ القرآن لنولديكة ١ / ٦.

٣٣٥

قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)(١).

والمسلمون يمتازون عن بقية الأمم بتعظيمهم رسل الله ـ عليهم‌السلام جميعا ـ ويثبتون في حقهم علو الفطرة ، وصحة العقول ، والصدق في القول ، والأمانة في التبليغ ، والعصمة من كل ما يشوه مسيرتهم ، وسلامة أبدانهم مما تنبو عنه الأبصار ، وتنفر منه الأذواق السليمة ، فهم بشر كبقية خلق الله ميزوا عليهم برسالاته ، وأيدوا بمعجزاته لإثبات صدقهم وتأييدهم في دعواتهم. هذا هو موقف المسلمين من رسل الله ـ عليهم‌السلام ـ.

أما موقف اليهود والنصارى فكان على عكس هذا من التشنيع على أنبيائهم ، ونسبة ما لا ينبغي في حقهم ، وإيذائهم بالسب والطعن والقتل وخاصة اليهود الذين لم يقف أمرهم مع أنبيائهم إلى هذا الحد بل تعداه لما هو أعظم أن تعدوا على مقام الله ـ عزوجل ـ فهم يعاملوه كبشر بل جعلوا سلطة حاخاماتهم أقوى من سلطته سبحانه.

كما أن اليهود وقفوا من الإنسانية جمعاء موقف العداء والتحقير واعتبروا أنفسهم شعب الله المختار للسيادة والحكم وتسخير كل ما في الكون له.

فقد زعموا أن إسرائيل سأل إلهه : [لما ذا خلقت خلقا سوى شعبك المختار؟! فقال له : لتركبوا ظهورهم ، وتمتصوا دماءهم ، وتحرقوا أخضرهم ، وتلوثوا طاهرهم ، وتهدموا عامرهم](٢).

لذا جاء القرآن الكريم ليضع تقريراته الإلهية اليقينية في بيان الشخصية اليهودية خير بيان.

١ ـ فقد بين الله سبحانه إلحاد اليهود في عقائدهم بدءا من موقفهم من الله

__________________

(١) سورة المائدة الآية : ٤٨.

(٢) انظر سفر المكابيين الثاني (١٥ ـ ٣٤) نقلا عن كتاب معركة الوجود بين القرآن والتلمود ص ٣٥.

٣٣٦

سبحانه وتعالى وانتهاء بأبسط أمور العقيدة في دينهم قال تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ)(١).

وقال تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ..) الآية (٢).

أما موقفهم من رسل الله ـ عليهم‌السلام ـ بينه سبحانه بقوله : (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ)(٣).

وأما موقفهم مع ملائكة الله فبينه قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ)(٤).

أما استخفافهم بالوحي وبالكتب الإلهية بينه قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٥).

ولم يكتف اليهود بتحريف التوراة عن قصد وعمد بل صنعوا كتابا آخر سموه (التلمود) الذي تتضاءل بجانبه سائر أكاذيبهم في أسفارهم العلنية!! وفيه يزعمون أن تعاليم الحاخاميين لا يمكن نقضها ولو بأمر من الله سبحانه. كما يزعمون أن للحاخاميين السيادة على الله ، وعليه إجراء ما يرغبون (٦).

التوراة الحالية وهل تصلح أن تكون مصدرا للإسلام :

يعترف المسلمون بالتوراة القديمة التي أنزلها الله سبحانه على نبيه موسى

__________________

(١) سورة آل عمران الآية (١٨١).

(٢) سورة المائدة الآية (٦٤).

(٣) سورة المائدة الآية (٧٠).

(٤) سورة البقرة الآية (٩٨).

(٥) سورة آل عمران الآية (٧٨).

(٦) كتاب معركة الوجود ص ٣٩.

٣٣٧

ابن عمران ـ عليه‌السلام ـ ولا يعترفون بما سوى ذلك من أمثال التوراة الحالية وليسوا بملزمين بالإيمان بها لما فيها من مخالفة لروح التنزيل الإلهي.

لكن لو نظرنا للعهد القديم الحالي فهل هذا الكتاب نفسه هو الذي أنزله الله سبحانه على موسى ـ عليه‌السلام ـ؟.

فما ينسب لموسى ـ عليه‌السلام ـ الأسفار الخمسة الأولى : سفر التكوين ، الخروج ، اللاويين [الأحبار] ، العدد ، والتثنية. أما غيرها من الأسفار فهي أسفار الأنبياء والكتبة من اليهود حتى التوراة المنسوبة لموسى ـ عليه‌السلام ـ فقد أنكر بعضها فهذا «تسدال» نفسه مثلا ينكر سفر التكوين لكتابته حوالي سنة ٢٢٠ م (١) ولم يسلم بعضها الآخر من الضياع والتحريف (٢).

ومما يدل على ضياع النسخة الأصلية لتوراة موسى ـ عليه‌السلام ـ أن موسى ـ عليه‌السلام ـ لما كتب التوراة وضعها مع اللوحين في التابوت ، الذي جاء ذكره في القرآن الكريم قال تعالى: (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٣) والتابوت هو الذي كانوا يستنصرون به بتقديمه أمام الجيش في المعارك. وظهر بعد ذلك في بني إسرائيل كثير من الفجرة والكفرة حتى جاء عهد سليمان ـ عليه‌السلام ـ وفتح التابوت بعد أن وضع في الهيكل ، فلم توجد به نسخة التوراة وإنما وجد اللوحان الحجريان فقط. وحدثت بعد سليمان ـ عليه‌السلام ـ أحداث دينية عجيبة أدت إلى الردة وعبادة الأوثان ، وعبادة آلهة الأقوام المجاورين حتى بني مذبح للأصنام في فناء بيت المقدس (٤).

__________________

(١) مصادر الإسلام ص ٤٠.

(٢) كتاب اليهودية للأستاذ أحمد شلبي ص ٢٤٨.

(٣) سورة البقرة الآية : (٢٤٨).

(٤) كتاب اليهودية ص ٢٥٠ ـ ٢٥١.

٣٣٨

وبعد ذلك حكم «يوشيا» الذي رجع لاتباع التوراة وبعد سبعة عشر عاما من حكمه زعم كاهنه «حوقيا» أنه وجد نسخة التوراة في بيت المقدس بطريق الإلهام ، وأعطاها «شافات» الكاتب.

وهذا يدل على بطلان هذا الزعم لأنه لا يعقل أن توجد نسخة التوراة في بيت المقدس سبعة عشر عاما ولا يراها أحد حتى يكتشفها «حوقيا».

لذا يرى الباحثون أن «حوقيا» قام بكتابة أسفار التوراة من اختراعاته ومما سمعه من أفواه الناس. حتى قال «ول ديورانت» : لم يبق لدينا من شريعة موسى سوى الوصايا العشر(١).

بل نفس التوراة الحالية تدل على أنها ليست لموسى ـ عليه‌السلام ـ فقد جاء في سفر التثنية : [فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مؤاب حسب قول الرب ، ودفنه في الجواء في أرض مؤاب مقابل بيت فغور ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم](٢).

هذا الكلام منقول في سفر منسوب إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ فليس من المعقول أن يكتب هذا موسى عن نفسه.

وجاء في نفس السفر [ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى](٣). ومن الواضح أن مثل هذه العبارة لا تقال إلا بعد موت موسى بزمن ليس بالقصير (٤).

والأمثلة غير هذه كثيرة.

وإذا تركنا أسفار موسى ونظرنا في بقية أسفار العهد القديم نجد نفس النتيجة

__________________

(١) قصة الحضارة ٢ / ٢٧١ ، نقلا عن اليهودية للأستاذ شلبي ص ٢٥١.

(٢) سفر التثنية الإصحاح الرابع والثلاثون ـ الفقرة (٥ ـ ٦).

(٣) نفس المرجع فقرة (١٠).

(٤) كتاب اليهودية ـ للأستاذ شلبي ص ٢٥٢.

٣٣٩

من كتابتها بعد أصحابها بفترة طويلة.

فسفر يوشع كتبه أرميا ، وبينهما ثمانية قرون تقريبا.

ويرى آخرون أنه تصنيف صموئيل ، وآخرون يرون أنه تصنيف فنيحاس (١).

أما سفر القضاة ينسبه بعض الكتاب الغربيين إلى «حزقيال» وآخرون ينسبونه «لعذار» وفريق ثالث ل «لفنيحاس» وبين عزرا وفنيحاس أكثر من تسعة قرون.

ويمكن القول عن بقية الأسفار بنفس الطريقة.

وقد أحسن بتلخيص هذا الموضوع «ول ديورانت» حيث قال :

[.. فإن العلماء مجمعون على أن أقدم ما كتب من أسفار التوراة هو سفر التكوين ، وقد كتب بعضه في يهوذا وبعضه في إسرائيل ، ثم تم التوافق بين ما كتب هنا وهناك بعد سقوط دولتي اليهود ، والرأي الغالب أن سفر التثنية من كتابة «عزرا» ويبدو أن أسفار التوراة الخمسة قد اتخذت صورتها الحاضرة حوالي عام ٣٠ ق. م](٢).

أبعد كل هذه الأدلة يزعم بعض المستشرقين بكون القرآن اعتمد في مصدريته على التوراة المضطربة سندا ومتنا وخاصة جانب القصص.

وهذا الأستاذ «هنري ماو» يبين لنا حقيقة قصص التوراة لنرى أيصلح أن يكون مصدرا للقرآن أم لا؟.

قال الأستاذ «هنري» : [علينا أن نثبت بادئ ذي بدء ، أن تعاليم الكتاب تكون وحدة منسجمة ، ولكن القصص التوراتي لم يتعد منزلة الخرافة ، فلم نتوصل إلى تدوين وقائعها ضمن نطاق التاريخ العام ، ولم نجد لها مكانا في

__________________

(١) كتاب اليهودية ـ للأستاذ شلبي ص ٢٥٣.

(٢) قصة الحضارة ٢ / ٣٦٧ ـ ٣٦٨ نقلا عن كتاب اليهودية للأستاذ شلبي ص ٢٥٤.

٣٤٠

التواريخ المقارنة لإمبراطوريات الأرض](١).

هذه النظرة لكتاب اليهود الأول وهو العهد القديم بما فيه من اضطراب في السند والمتن والمخالفة للعقل والمنطق والضعف في العبارة والأسلوب. فكتاب هذا شأنه لو قارنه أي إنسان عاقل محايد فسينطق بالحق أنه لا يصلح أن يكون مصدرا للكتابات التاريخية فكيف يصلح حسب زعمهم أن يكون مصدرا للقرآن العظيم الذي يتحدى البشرية عامة أن يثبتوا له مرجعا غير إلهي.

أما المصدر الثاني لليهودية فهو كتاب «التلمود» والذي لنا معه وقفة قصيرة ليظهر زيفه وبطلانه.

الفرنسيون من اليهود يرون أن التوراة ليست هي كل الكتب المقدسة وإنما هناك بجانبها روايات شفوية تناقلها الحاخامات من جيل إلى جيل .. وتلك الروايات التي هي تعرف بالتلمود التي جمعها «يوحناس» في كتاب سماه (المشنا) أي الشريعة. زيد عليها بعد ذلك زيادات كثيرة جمعها (الربي) يهوذا سنة ٢١٦ م ودونها. كتب عليها حواشي وشروحات سميت (جمارا) فمن (المشنا والجمارا) يتكون التلمود (٢).

والتلمود لا يقل في أخطائه عن الأخطاء التي في الكتاب المقدس فالتلمود يروي أن الله ندم لما أنزله باليهود وبالهيكل. ومما يرويه التلمود عن الله قوله : «تبا لي لأني صرحت بخراب بيتي وإحراق الهيكل ونهب أولادي» والتلمود لا يجعل العصمة من صفات الله ويجعل هذا الكتاب مصدر الشر هو الله كما يعتبره مصدر الخير إلى غير ذلك من الأخطاء (٣).

أما ما بنوا عليه من زعم يصلح في نظرهم لتكون اليهودية مصدرا للإسلام

__________________

(١) قيمة التاريخ جوزاف هورس ص ٣١.

(٢) كتاب اليهودية ص ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

(٣) نفس المرجع ص ٢٦٧.

٣٤١

للتشابه في القصص أو في بعض التشريعات وغيرها فهو زعم باطل لعدة أسباب منها :

١ ـ التاريخ يشهد أن اليهود لم يسكتوا لحظة في عدائهم لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومحاربتهم له بكل أنواع الأسلحة الدعائية العدائية ، وترويج الإشاعات في الوسط المسلم ، وتحريض قريش عليه ، ووصل الأمر في نهايته لحمل السلاح ضد الإسلام من قبلهم ، لذا لو كان محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخذ شيئا من كتبهم ، فما الذي سيسكتهم عن كشفه وبيان عوار دعوته وفضح ادعائه ، وبيان عدم صدقه في دعوته ، فلما لم يكن هذا منهم بطل زعم «تسدال» وزمرته.

٢ ـ الكتاب المقدس كله لا يصلح أن يكون مرجعا لدعوة بشرية حتى يكون مصدرا لدعوة إلهية كدعوة نبينا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما فيه من فساد اعتقاد وتعد على جناب الله سبحانه ، وسوء أدب مع أنبيائه سبحانه ، ولما فيه من اضطراب وتناقض ، وتحريف ونقض واضح ، وسقوط للإسناد إلى غير ذلك مما بينته من قبل.

٣ ـ أن زعمهم أخذ محمد لكثير من قصصه من الكتاب المقدس عن طريق الأرقاء من أهل الكتاب ، أو عن طريق من أسلم من أحبارهم ، أو من القبائل اليهودية ، التي كانت تسكن في المدينة المنورة ، بين هذه الشبهة خير بيان «الإمام الباقلاني» ـ رحمه‌الله تعالى ـ [إن ما انطوى عليه القرآن من قصص الأولين ، وسير الماضين ، وأحاديث المتقدمين وذكر ما شجر بينهم ، مما لا يجوز علمه إلا لمن كثر لقاؤه ، لأهل السير ودرسه لها وعنايته بها ، ومجالسته لأهلها ، وكان ممن يتلو الكتب ويستخرجها ، مع العلم بأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يكن يتلو كتابا ولا يخطه بيمينه ، وأنه لم يلد ممن يعرف بدراسة الكتب ومجالسة أهل السير والأخذ عنهم ، ولا لقى إلا من لقوه ، ولا عرف إلا من عرفوه ، وأنهم يعرفون منشأة وتصرفه في إقامته بينهم وظعنه عنهم فإن ذلك المخبر عن هذه الأمور هو الله

٣٤٢

سبحانه وتعالى علام الغيوب](١).

٤ ـ الناظر في القصص المذكور في القرآن الكريم مقارنا بقصص العهد القديم يجد بينها فرقا واضحا في المحتوى والغرض والأسلوب. فالقصة القرآنية دعوة للتوحيد ، ومكارم الأخلاق ، وإظهار الأنبياء ، بأجمل صورة تليق بمقامهم من العصمة ، ومكارم الأخلاق ، وسلامة الفطرة ، وغير ذلك. هذا كله بعكس القصص في الكتاب المقدس.

فالدارس للكتاب المقدس يجد فاتحة التوراة أول ما عنيت بتدوين التاريخ فأول سفر من أسفارها وهو (سفر التكوين) سرد لتاريخ الخلق منذ بدء الخليقة إلى موت يوسف ـ عليه‌السلام ـ كما أن فواتح الأناجيل الأربعة دونت تاريخ المسيح ـ عليه‌السلام ـ وسيرته أما القرآن فعلى عكس ذلك فقد أشارت فاتحته لتوحيد الله ـ عزوجل ـ وبيان طرق عبوديته ، وأن نهاية كل حي أن يقف بين يدي الله مالك يوم الدين ، وصنفت الناس إلى فريقين حسب استقامتهم تبعا لأوامر الله أو مخالفتهم لها.

والقصص القرآني تاريخي وصادق غير مثقل بالجزئيات والتفاصيل التي تصرف الفكر عن التدبر والاعتبار (٢) بعكس القصص في الكتاب المقدس.

والقرآن الكريم لم يسرد كل قصص الأنبياء والمرسلين كما فعل الكتاب المقدس. بل اختار بعضهم بما يتفق وحال الدعوة الإسلامية مركزا على جانب العظة والعبرة في قصصهم. واتخاذ طريق الأنبياء السابقين على طريق الدعوة أسوة يقتدى بهم.

لذا جاء القرآن ليبين حقيقة حالهم ، ورفعهم لمكانتهم المختارة من الله ـ عز

__________________

(١) إعجاز القرآن ص ٥١ ، طبعة مصر ١٩٥٤ م.

(٢) كتاب سيكلوجية القصة في القرآن ص ٧٠.

٣٤٣

وجل ـ وإزاحة كل تهمة ألصقها بهم بنو يهود (١).

فلو تتبعت وجه الشبه والخلاف بين القرآن الكريم والكتاب المقدس لطال بنا المقام وليس هذا مكانه في هذه الرسالة وإنما سألقي بعض الملاحظات التي لا بد منها :

١ ـ لقد أساء اليهود كل إساءة مع ذات الله سبحانه وصفاته حيث تصوروه كبشر وعاملوه كبشر فقد نسبوا له التعب تشبيها له بالإنسان فهذا أحد النصوص يصف الله سبحانه وتعالى بالتعب : [فأكملت السموات والأرض وكل جندها ، وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمله](٢).

وتقول التوراة : [وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة فنادى الرب الإله آدم وقال له : أين أنت](٣).

كما أساء اليهود لأنبياء الله ـ عزوجل ـ ووضعوهم بما لا يليق بمقامهم فوقعوا بساحة الأنبياء بتشويه صفحتهم الناصعة في بياضها ، باتهامهم بالكذب تارة ، وبقلة المروءة تارة أخرى ، ورميهم بالفاحشة في موطن آخر ، كل هذا ليصلوا لأغراضهم الدنيئة على ظهر الأنبياء.

فجاء القرآن ليفضح أباطيلهم ، ويكشف زيغهم وانحرافهم وليحمي شرف الوحي ، وجلال النبوة. واليهود لم يتركوا نبيا من الأنبياء إلا وجهوا له مطعنا أو سوءا وسأضرب بعض الأمثلة التي تجلي الأمر :

١ ـ فشيخ الأنبياء نوح ـ عليه‌السلام ـ الصبور الشاكر الداعية لرب العالمين يصورونه سكيرا ، يشرب الخمر ، ويتعرى داخل خبائه فيدخل عليه ابنه

__________________

(١) كتاب اليهود في القرآن ـ طبارة ص ٢٦٠.

(٢) سفر التكوين ٢ / ١.

(٣) نفس المرجع ٣ / ٨.

٣٤٤

الصغير فيرى عورته فيسخر منه ، ويذهب فيخبر أخاه الأكبر منه ، فيحضر ويغطي سوأة أبيه ويعلم أبوهم الخبر فيدعو على الصغير أن يجعله وذريته عبيدا لسام وذريته.

فجاء القرآن ليكشف هذه الأباطيل ويردها ويبرئ نبي الله نوح ـ عليه‌السلام ـ ويرد زيفهم ويكشف ما قصدوه وراء هذا الافتراء وهو أسطورة كونهم شعب الله المختار الذي ينبغي أن يخضع لهم من أجله غيرهم (١).

٢ ـ وهذا لوط ـ عليه‌السلام ـ النبي الكريم الذي آتاه الله حكما وعلما ، يحيكون حوله أبشع التهم من مؤامرة ابنتيه عليه حتى سقتاه خمرا ، وضاجعتاه ، وهو لا يدري فحملتا منه سفاحا ، فجاء منهما المؤابيون وبنو عمون إلى اليوم (٢).

ولكن الله سبحانه يأبي أن تلوث سيرة نبي من أنبيائه وولي من أوليائه بمثل هذه الصورة فأنزل صفته وسيرته وعفته وإيمان أهل بيته إلا امرأته بآيات تتلى شهادة من رب العالمين على فضح مخططات اليهود لنشر الرذيلة والفاحشة بين بني الإنسان لتدمير أخلاقهم وجعلهم عبيدا للجنس قاتلهم الله أنى يؤفكون. (٣).

٣ ـ أما أبو الأنبياء إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فيقدمون له صورة كئيبة مادية وهو يتاجر في زوجته الجميلة عند الملوك ليربح ويأكل ، كما يفعل المرابون اليهود إلى يومنا هذا.

فبرأ الله نبيه أبا الأنبياء ـ عليه‌السلام ـ داعية التوحيد الذي كان لوحده أمة قانتا لله ـ عزوجل ـ من هذا البهتان العظيم قال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ

__________________

(١) انظر كتاب معركة الوجود ص ١٥٥ ـ ١٥٨.

(٢) انظر سفر التكوين ـ الإصحاح ص ١٩.

(٣) انظر سورة الأنبياء الآيات (٧٤ ـ ٧٥).

٣٤٥

أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١).

وقد ذكرت سيرة هذا النبي العطرة في أكثر من موطن في قرآنه مثل سورة الأنبياء وغيرها (٢).

٤ ـ دنس اليهود سيرة أبيهم يعقوب «إسرائيل» ـ عليه‌السلام ـ فصوروه سارقا للنبوة من أخيه ومستغلا استغفال أبيه ، والكذب عليه إلى درجة التمثيل الساذج والتلاعب البين الذي لا يخرج عن أساطير الصغار ، وهزل الصبيان (٣).

أما القرآن فصوره بأجمل صورة للوفاء ولحبه لابنه وبأتم عقل ونور بصيرة. كما أنه وصف ابنه يوسف ـ عليه‌السلام ـ بأجمل وصف وأتم عقل كما جاء ذلك في سورة يوسفعليه‌السلام.

٥ ـ أما النبي الصالح داود ـ عليه‌السلام ـ الذي ينشدون مملكته اليوم فقد خصوه وأهل بيته بأوجع نصيب من التهم الباطلة المخلة للشرف والعفة. فجعلوا منهم أسرة تعيث في الخطايا والدنس بكل ألوانه!. فهم يرمونه ـ عليه‌السلام ـ ابتداء بارتكاب فاحشة الزنا مع زوجة قائده «أوريا» فحملت منه سفاحا «بسليمان» ـ عليه‌السلام ـ ولم يكتف داود بذلك بل تخلص من هذا القائد بوضعه في مقدمة الجند وأمرهم بالرجوع عنه وعن القلة الذين معه حتى قتل وتزوج زوجته. فعاقب الله ـ عزوجل ـ داود ـ عليه‌السلام ـ بأن سلط عليه ابنه «أبشالوم» فنزع منه ملكه وزنا «بسراري أبيه» أمام جميع بني إسرائيل.

وقبل هذا الحادث كان «أبشالوم» قد قتل أخاه «أمتون بن داود» لأنه

__________________

(١) سورة النحل الآية (١٢٠).

(٢) انظر سورة الأنبياء من (٥١ ـ ٧٠).

(٣) انظر سفر التكوين ـ الإصحاح (٢٧) وما بعدها ، وانظر معركة الوجود ص ١٥٧.

٣٤٦

زنا ب «ثامار» شقيقة «أبشالوم» (١).

كما أنهم صوروا داود ـ عليه‌السلام ـ لاه عن ربه ـ عزوجل ـ مشغول بنسائه وسراريه (٢).

لذا جاء القرآن الكريم ليطهر ساحة هذا النبي الكريم ويبرئه وأهله من تهمة الفواحش المنسوبة إليهم فصوره قانتا منيبا راكعا ، عابدا عدلا بأفضل سيرة وأنقى سريرة بعكس ما جاء في التوراة.

قال تعالى : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ. وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ)(٣).

٦ ـ أما سليمان ـ عليه‌السلام ـ النبي المجاهد العادل صاحب الهيكل الذي يتباكون عليه اليوم فقد نسبوا إليه كل خطيئة ورذيلة وفجور فقد اعتبروه ابن زنا كما تقدم ، راكضا وراء شهواته ، لاه عن عبادة ربه كأبيه ، كما نسبوا له «نشيد الإنشاد» ذلك الغزل الداعر الذي يعتبرونه وحيا يتعبدون بتلاوته.

لعمري ما هو إلا وحي شيطان نفثه على لسان خليع ماجن من شعراء بني إسرائيل(٤).

فجاء القرآن ليبين حقيقة سيرة هذا النبي الكريم الشاكر لأنعم الله الأواب العابد المجاهد قال تعالى : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(٥).

أما الثناء على آل داود فقد جاء ذكره بقوله : (.. اعْمَلُوا آلَ داوُدَ

__________________

(١) معركة الوجود ص ١٥٨.

(٢) انظر سفر صمويل الثاني ٢ / ١١ وما بعدها.

(٣) انظر سورة ص الآيات (١٧ ـ ٢٠).

(٤) انظر سفر الملوك الأول ـ الإصحاح ١ ، وسفر نشيد الإنشاد وهو «ثمانية إصحاحات».

(٥) سورة ص الآية ٣٠.

٣٤٧

شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)(١).

فمن هنا يظهر حقيقة دعاوى اليهود في «مملكة داود» و «هيكل سليمان» أنها تجارة بائرة باسم الأنبياء ، للاستيلاء على فلسطين أرض الإسلام ومهد الأنبياء ومسجدها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.

ومن هنا يظهر كذلك أن نجاحهم في إطلاق السعار الجنسي ، والانحلال الشهواني في العالم المعاصر لا يوقف كل هذا المد إلا «رجال مؤمنون» بهم يحق الحق وترسخ أصول الأخلاق ، وتحقق الهدايات الربانية وتدحض خطط اليهود في إشاعة الفاحشة (٢).

٧ ـ أما زعم «تسدال» أن قصة قابيل وهابيل ليست موجودة في التوراة وإنما هي في كتاب اسمه (بيرك رابي وليزر) فهو زعم باطل حيث ذكرت في سفر التكوين الإصحاح الرابع الفقرة ١ ـ ١٦ وهي مذكورة في القرآن في سورة المائدة من الآية ٢٧ ـ ٣٢.

أما ذكرهما في المصدرين وذلك لوحدة المصدر ثم لبيان أن شريعة القصاص أزلية وأن القتل شنيع في كل الديانات.

٨ ـ أما إنكار «تسدال» لقصة رفع الجبل فوق رأس بني إسرائيل كأنه ظلة في قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ حيث زعم «تسدال» أن القصة ليست في العهد القديم إنما أخذها محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من كتاب (الأكسودس) (٣).

قلت : هذه القصة لم تصرح التوراة بها بصراحة ولكنها أشارت إليها في سفر الخروج حيث جاء فيها : [.. فانحدر موسى من الجبل إلى الشعب وقدس الشعب وغسلوا ثيابهم وقال للشعب كونوا مستعدين لليوم الثالث لا تقربوا

__________________

(١) سورة سبأ الآية ١٣.

(٢) معركة الوجود ص ١٦٠ ـ ١٦١.

(٣) انظر مصادر الإسلام ص ١٤ وما بعدها.

٣٤٨

امرأة. وحدث في اليوم الثالث لما كان الصباح أنه صارت رعودا وبروقا وسحابا ثقيلا على الجبل وصوت بوق شديد جدا فارتعد كل الشعب الذي في المحلة لملاقاة الله فوقفوا في أسفل الجبل ، وكان جبل سيناء ، كله يدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار. وصعد دخانه كدخان الأتون ، وارتجف كل الجبل جدا فكان صوت البوق يزداد اشتدادا جدا وموسى يتكلم والله يجيبه بصوت](١).

وعبارة «تحت الجبل» (٢) تحتمل المعنيين :

الأول : على سفحه وفي أسفله.

والثاني : تحت بمعنى أن الجبل صار كأنه ظلة فوقهم وهو ما أشار إليه القرآن الكريم.

وما جاء في التوراة في سفر الخروج ليس بعيدا عن هذا ، بل هو نفسه لأن وصف الجبل بهذه الصورة من الحركة والارتجاف الشديد مقدمة للنتق ويكون عندئذ كلام «تسدال» وراءه نواياه المبيتة بالكيد للإسلام وقلب الحقائق. وحتى لو فرضنا أن التوراة ولا أي مصدر يهودي ذكر القصة ولم يذكرها إلا القرآن الكريم فيكون ذلك ميزة لهذا الكتاب العظيم على غيره من كتب السماء ، حيث ذكر قصة نبي من الأنبياء عانى من قومه أكثر مما عاناه أي نبي آخر حتى وهم يظهرون أنهم سائرون معه طائعون لأمره. وقصة الجبل تبين نفسية هؤلاء القوم حيث صورتهم على حقيقتهم أنهم لا يتوبون إلا بالعصا ، ولا يخافون حتى يروا العذاب الأليم.

فهؤلاء هم اليهود يسمعون كلام موسى لربهم ومع هذا يطلبون رؤية الله جهرة فأخذتهم صاعقة الموت ردعا لهم ولكن أنى يرتدعون أما ما ذكره «تسدال» أن القصة أسطورة هندية فهو مجرد ادعاء حيث لم يبين لنا «تسدال»

__________________

(١) العهد القديم سفر الخروج ١٩ / ١٤ ـ ١٩.

(٢) مصادر الإسلام ص ٤٠ وما بعدها.

٣٤٩

أين ذكرت هذه القصة عندهم ولا في أي مرجع هندي. والذي يعرف أسلوب «تسدال» في قلب الحقائق الواضحة لا يأمنه في أقواله كلها وحتى لو وردت القصة عند أمم أخرى فهي عندنا حقيقة لا مجال للشك فيها لأنها أخبار من رب العالمين في أصدق كتاب مبين قال تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١).

وقلع الجبل فوقهم هو المتبادر من الآية بمعونة السياق وهي صريحة فيه.

وهذه المسألة من الممكنات العقلية فالله صاحب القدرة والسلطان لذا بعد كل هذا البيان من نصوص التوراة والقرآن والأدلة العقلية لا داعي «لتسدال» وزمرته الإنكار والتشكيك في القرآن وزعمه أنها أسطورة وخرافة. بل عليهم التسليم والإذعان بصحة ما جاء في هذا القرآن الكريم وهذا شأن العقلاء من العلماء المخلصين.

٩ ـ أما زعم «تسدال» أن المسلمين ذكروا نزول القرآن من اللوح المحفوظ ، وحفظه فيه تقليدا لوضع موسى الألواح في التابوت وظنا منهم أن التابوت هو اللوح المحفوظ (٢).

قلت : هذا من خبث هؤلاء المستشرقين فهم عند ما يريدون أن يجعلوا محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مؤلفا للقرآن الكريم يصفوه بالذكي الألمعي الذي استطاع بجلسات قصيرة ومحدودة مع أحبار اليهود ورهبان النصارى وتلاميذ المجوسية وكهان السامرائية أن يؤلف كل هذه العقائد والشرائع. وعند ما يريدون تقرير أغاليط كهذه يصفوا أتباعه بالبساطة والسذاجة لقبولهم كل هذه الأمور حيث لم يعرف محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هذا اللوح أهو تابوت موسى ـ عليه‌السلام ـ أم

__________________

(١) سورة الأعراف الآية (١٧١).

(٢) مصادر الإسلام ص ٤٠ وما بعدها.

٣٥٠

اللوح السماوي المحفوظ بالملائكة عند الله ـ سبحانه ـ وهذا نابع من عدم إيمان هؤلاء المستشرقين بالنبوات والرسل وإلا لما أساءوا هذا الفهم وحملوه لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

روى البخاري في صحيحه محاجة آدم وموسى ـ عليهما‌السلام ـ حيث قال : «.. روى طاوس قال : سمعت أبا هريرة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : احتج آدم وموسى. فقال له موسى : يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة. قال له آدم : يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده ، أتلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى ثلاثا» (١).

فهذا التقدير كان مكتوبا على آدم ـ عليه‌السلام ـ في اللوح المحفوظ هذا بنص الأحاديث الشريفة الصحيحة وهي كثيرة.

أما تابوت موسى ـ عليه‌السلام ـ فهو مذكور كذلك في القرآن الكريم قال تعالى : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٢).

فهذا تصريح آدم ـ عليه‌السلام ـ أن خطيئته كتبت عليه قبل خلقه بأربعين سنة وقد حج بهذا موسى ـ عليه‌السلام ـ وكتابتها عليه كانت في اللوح المحفوظ ، وهو غير تابوت موسى ـ عليه‌السلام ـ كما هو واضح في السياق.

قال الإمام النووي ـ رحمه‌الله ـ : [المراد بتقديرها كتبه في اللوح المحفوظ أو في التوراة أو (في) الألواح](٣).

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٧ ، ص ٢١٤ ، كتاب القدر ، باب (١١) تحاج آدم وموسى عند الله عزوجل.

(٢) سورة البقرة الآية (٢٤٨).

(٣) فتح الباري شرح صحيح البخاري ١١ / ٥٠٨ ـ ٥٠٩.

٣٥١

وكونه في التوراة أو الألواح أنه كتب عليّ العمل الذي عملته قبل أن أخلق؟ قال : بأربعين سنة ، قال فكيف تلومني عليه ويزيد بن هرمز [فهل وجدت فيها (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى)(١) قال : نعم].

هذا يوضح جليا أن اللوح المحفوظ غير التوراة والألواح اللذين كانا في التابوت. والله أعلم.

أما كون الآجال والأعمال والتقادير مكتوبة في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض فقد ذكرتها آيات منها قوله تعالى : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(٢). حيث حمل المحو والإثبات من الصحف التي في أيدي الملائكة وأن قوله : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أي أصله وهو اللوح المحفوظ. ويحمل الكتاب المبين على اللوح المحفوظ في قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٣). قال تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ)(٤).

١٠ ـ أما قصة العجل الذهبي الذي عبده بنو إسرائيل فقد أنكرها «تسدال» وذلك لأن القرآن ذكر أن صانعه هو السامري الذي ظن «تسدال» أنه من السامرة التي لم توجد إلا بعد موسى بأربعمائة سنة (٥).

قلت : هذه القصة التي أنكرها «تسدال» للمدة الطويلة الفاصلة بين موسى ـ عليه‌السلام ـ والسامري المنسوب للسامرة.

__________________

(١) سورة طه : (١٢١).

(٢) سورة الرعد : (٣٨ ـ ٣٩).

(٣) سورة الأنعام : (٥٩).

(٤) سورة الأعراف : (١٤٥).

(٥) مصادر الإسلام ص ٣٧ وما بعدها.

٣٥٢

هذا جهل منه للمقصود الحقيقي بشخص السامري والقصة قد ذكرت في العهد القديم حيث قال : [فانصرف موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة في يده .. وسمع يشوع صوت الشعب في هتافه فقال لموسى صوت قتال في المحلة .. وكان عند ما اقترب لي المحلة أنه أبصر العجل والرقص. فحمى غضب موسى وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل. ثم أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار وطحنه حتى صار ناعما وذراه على وجه الماء وسقى بني إسرائيل وقال موسى لهارون : ما ذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطية عظيمة؟! فقال هارون لا يحم غضب سيدي. أنت تعرف الشعب أنه في شر. فقالوا لي اصنع لنا آلهة تسير أمامنا. لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ما ذا أصابه فقلت لهم من له ذهب فلينزعه ويعطيني. فطرحته في النار فخرج هذا العجل](١).

مع الخلاف لصانع العجل بين القرآن والتوراة إلا أنها قصة واحدة في المصدرين حيث نصت التوراة المحرفة زورا وبهتانا وكذبا أنه هارون ـ عليه‌السلام ـ حاشاه أن يكفر بالله نبي من أنبيائه.

أما القرآن فقد برأ نبي الله هارون ـ عليه‌السلام ـ ورد الأمر لحقيقته أن صانعه هو سامري موسى ـ عليه‌السلام ـ وليس سامري السامرة كما ظن ذلك «تسدال» مما جعله ينكر هذه القصة.

والمعروف أن بني إسرائيل لم تكن أنفس أكثرهم مرتاحة بالإيمان وأنهم كانوا ذوي جهالة حيث لم يحصلوا على الثقافة الكافية لخصون عقائدهم من الزيغ. والقوم عاشوا في مصر وألفوا أن يروا عبادة المصريين للعجل «أبيس» وكان للمصريين عناية فائقة بعبادة هذا العجل وكانت العجول المؤلهة إذا ماتت حنطوها ـ كما كان يحنط الآدمي ـ بما يحفظ جسمها من التلف ، وكانت تدفن

__________________

(١) العهد القديم ـ سفر الخروج ٢٣ / ١٥ ـ ٢٦.

٣٥٣

في مقبرة خاصة في جهة سقارة تسمى «سرابيوم».

وقوم كانت بساطتهم وفهمهم للوثنية بهذا الشكل سهل كرجل ماكر كالسامري (١) أن يصنع لهم عجلا من الحلي له خوار.

أما وجه إنكار «تسدال» للقصة لذكر القرآن الكريم السامري على أنه صانع العجل.

قال الأستاذ «عبد الوهاب النجار» موضحا هذه الشبهة :

[أن السامري ليس منسوبا إلى «سامره» في مدينة «نابلس» في فلسطين بل إلى «شامر» بالشين في اللغة العبرية.

ويغلب أن تكون «الشين» في العبرية «سينا» في العربية فهو سامر كما ينطقها سبط أفرايم بن يوسف ـ عليه‌السلام ـ وقد كان رجال سبط يهوذا في بعض الحروب يمتحنون الرجل ليعرف هل هو من سبط يهوذا أو أفرايمي؟ بأن يأمروه بأن ينطق «شبولت» ـ سنبله ـ فإذا قال «سبولت» علم أنه أفرايمي ومعنى «شامر» أو سامر كما هو في النطق العربي والأفرايمي «حارس» فالسامري نسبة إلى سامر ونطقها العبرية «شومير» من مادة شمر أى حرس.

جاء في سفر التكوين : [فقال الرب لقابيل أين هابيل أخوك؟ فقال : لا أعلم. (ه شومير حى أنواخي؟)](٢) وترجمتها «أحارس أنا لأخي» (٣).

ومن هنا يبطل الالتباس الذي حصل «لتسدال» في شخص السامري ويبقى «تسدال» دون مستند تاريخي لإبطال القصة ويظهر بطلان دعوى التوراة كون هارون ـ عليه‌السلام ـ هو صانع العجل. ويظهر جليا أن ما رمي به

__________________

(١) قصص الأنبياء للنجار ص ٢١٨.

(٢) سفر التكوين ـ الإصحاح الرابع الآية (٩).

(٣) قصص القرآن ـ النجار ص ٢٢٤.

٣٥٤

نبي الله هارون ـ عليه‌السلام ـ هو مما رمي به الأنبياء الآخرون من الافتراء والكذب عليهم. ولكن معاذ الله أن يكفر نبي من أنبياء الله بعد إيمان. بل أنبياء الله رأس المؤمنين وصفوتهم وقد حماهم الله بعصمته من كل ذنب فهم الهداة والقدوة لأقوالهم. وخير من دافع عن نبي الله هارون القرآن الكريم قال تعالى راسما صورة جليلة واضحة لهذا النبي العظيم وقومه : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ. أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ. وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ. وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(١).

هذه هي الصورة الحقيقية التي كانت ، كما رسمها القرآن الكريم ، أن عزم لنبي الله هارون ـ عليه‌السلام ـ فقد عزم القوم على صنع العجل وعبادته ووقف هارون ـ عليه‌السلام ـ أمامهم يمنعهم إلا أنهم كانوا كثرة وهو واحد وكادوا يقتلونه فسكت وهو مغلوب على أمره لا كما زعمت التوراة أنه كان سبب ضلال بني إسرائيل وعبادتهم للعجل وظهر الصانع الحقيقي وسبب ضلال القوم سامري موسى وقال تعالى : (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً. قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي. قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ. فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً. وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ

__________________

(١) سورة الأعراف (١٤٨ ـ ١٥٠).

٣٥٥

فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي)(١).

بهذا الوضوح وضح القرآن موقف هارون عليه‌السلام وأصالة الحقائق القرآنية وثباتها وصحتها في حين يظهر موقف التوراة التي حرفوها من أنبياء الله وزيفها في مثل هذه المواقف كما يظهر موقف المستشرقين الفاضح في تزييفهم للحقائق ..

أما إنكار «تسدال» لقصة صعق شيوخ بني إسرائيل (٢) فقد قلت :

هذه القصة مما انفرد به القرآن الكريم عن غيره من الكتب السماوية مما يبقيه المهيمن على غيره من الكتب في صدقه ، ودقته وكشفه عن المستور.

ولا شك أن هذه القصة مما أخفاه بنو إسرائيل وذلك لأنه يمس شيوخهم ورؤساءهم. أما القرآن فقد وضح ما حصل منهم بأجلى صورة لما رأى وبين أن القوم قد ظلموا أنفسهم وقارفوا إثما كبيرا بعبادة العجل : اختار موسى من القوم سبعين رجلا يذهبون معه إلى الجبل الذي اعتاد أن يناجي الله فيه ليقدموا الطاعة والندم على ما اقترفوا من الإثم ويتوبوا إلى الله مما جنوه من عبادة العجل ، فلما كلم الله تعالى موسى وهم شهود يسمعون كلام الله عاودت جماعة منهم جبلة التمرد والعصيان ، فلم يؤمنوا أن الله تعالى هو الذي يكلم موسى وأنه أعطاه التوراة فقط وقالوا له : لن نؤمن لك أن الله نبأك وأعطاك الكتاب حتى نرى الله تعالى جهرة بأعيننا لا يحجبه حجاب ولا يستره ساتر .. وعلى إثر هذا الطلب من القوم أخذتهم الصاعقة وهم ينظر بعضهم إلى بعض ، يتهافتون على أديم الأرض ليكون ذلك برهانا فعليا لديهم على أن ما أصابهم حق لا شبهة فيه ، ثم بعثهم الله تعالى بعد موتهم بعد التضرع والتذلل من موسى بن عمران ـ عليه‌السلام ـ

__________________

(١) سورة طه الآيات (٨٦ ـ ٩٠).

(٢) انظر مصادر الإسلام ص ٣٠ وما بعدها.

٣٥٦

وطلبه العفو عما صدر من سفائهم والغفران لزلتهم ، فغفر الله لهم ذلك وأعادهم بمشيئته وقدرته سبحانه (١).

وصدق الله إذ يقول : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٢).

أما التوراة فقد أشارت لهذه القصة إشارة خفية عند ما تحدثت عن خروج السبعين مع موسى ـ عليه‌السلام ـ لميقات الله سبحانه حيث جاء فيها : [وكان جميع الشعب يرون الرعود والبروق وصوت البوق والجبل يدخن ولما رأى الشعب ارتعدوا ووقفوا من بعيد وقالوا لموسى : تكلم أنت معنا فنسمع ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت فقال موسى للشعب لا تخافوا ..](٣).

والشاهد قولهم : (ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت).

فالعبارة تشير إلى أن من يتكلم مع الله لشدة الموقف ولعظمة الخالق سبحانه عن أن يدركه بصر الإنسان القاصر وهذا ما سبب الصعق لموسى ـ عليه‌السلام ـ حيث تجلى ربه ـ سبحانه ـ للجبل. وهذا لا يمنع من صعقهم كذلك بسبب طلبهم الرؤية ولتجلي الرب ـ سبحانه ـ على الجبل وهم حاضرون. والذي يقرأ تاريخ بني إسرائيل لا يستغرب طلبا منهم كهذا والله سبحانه صاحب القدرة على أن يحيي الموتى ولذلك أكثر من شاهد.

ويشهد لهذا ما ذكره (أتسلم تورميدا) الذي أسلم بعد أن كان نصرانيا في القرن التاسع وسمى نفسه أبا محمد عبد الله بن عبد الله بن عبد الله الترجمان الميورقي ، أبو محمد ذكر في كتابه : «تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب» مؤكدا ما جاء في القرآن الكريم حيث قال : [وإن قلتم أن عيسى إله لأجل الآيات

__________________

(١) قصص الأنبياء ص ٢٩٣.

(٢) سورة البقرة (٥٥ ـ ٥٦).

(٣) سفر الخروج الإصحاح ٢ / ١٨ ـ ٢٠.

٣٥٧

الخارقة التي ظهرت على يديه فعلماؤكم يعلمون أن اليسع النبي ـ عليه‌السلام ـ أحيا ميتا في حياته وميتا بعد وفاته والتصرف بمعجزة الإحياء في البرزخ بعد الموت أعجب منها قبل الموت. وإلياس النبي ـ عليه‌السلام ـ أحيا أيضا ميتا .. إلخ](١).

ومن قصص الإحياء بعد الإماتة عندهم ، أن مات اليشع وأوتي بميت ووضع في نفس القبر مع اليشع فعادت الحياة إلى جسم ذلك الميت حالما مس جثمانه عظام النبي](٢).

فلا داعي إذن لاستغراب «تسدال» لمثل هذه الواقعة واستنكارها وعدها من باب الخرافة مع ذكر ما ذكرته من كتبهم ومع أن كثيرا من المستشرقين يعتمدون هذا الكتاب (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب) منهم «أمسين بلانيوس» و «مايكل ابيلزا» (٣).

٢ ـ أما بالنسبة لما استدل به (تسدال) وغيره لشبهتهم في مصدرية اليهودية للإسلام للتشابه ببعض العبادات كالصلاة والصوم وبعض المناسك.

أو في بعض القضايا العقدية.

ـ كالإشارة لوجود عرش الله على الماء.

ـ عدم الإشراك بالله سبحانه.

ـ وأن لجهنم أميرا وهو خازن النار الذي سماه القرآن «مالك».

ـ وقصة استراق الشيطان للسمع وطردهم بالشهب.

ـ ومخاطبة الرب سبحانه لجهنم بسؤالها : هل امتلأت؟.

ـ والإخبار أن الأرض يرثها عبادي الصالحون.

والتشابه كذلك في الحث على مكارم الأخلاق ويقصد :

__________________

(١) تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب ص ١٥٣ ـ ١٥٤.

(٢) انظر قاموس الكتاب المقدس ص ١١١ ـ ١١٢ نقلا عن تحفة الأريب ص ١٥٤.

(٣) انظر مجلة الحوادث ص ٦٢ عدد ١٢٧٤ عام ١٩٨١ نقلا عن حاشية تحفة الأريب ص ٢٣.

٣٥٨

كالنهي عن الكذب ، والإحسان للفقراء والمساكين ، وعدم مضايقة وإيذاء الآخرين ، وعدم الحقد ، وأن تحب الآخرين كحب ذلك لنفسك ، وعدم الانتقام والإحسان للوالدين .. إلخ.

والتشابه في بعض التشريعات ويقصد : كحرمة السرقة والقتل ، وعدم الاعتداء ، والجور في القضاء ، وحرمة الزنا ، وحرمة شهادة الزور ، وحرمة التطفيف في الكيل والميزان .. إلخ (١).

هذه القضايا المشتركة بين الديانتين لاتحاد المصدرية لهما حيث إن كليهما نزل من السماء لكونهما رسالتين سماويتين.

أما بخصوص الصلاة والصيام والحج فهي عبادات في كل الديانات السماوية أو التي لها شبهة كتاب سماوي سواء سبقت الإسلام أو سبقت اليهودية والنصرانية كالمجوسية والصابئة والزرادشتية وغيرها من الديانات إذن فهذا الأمر لا يصلح دليلا لشبهة «تسدال» وغيره.

أما ما أريد الإشارة إليه مما زعمه «تسدال» أن صلاة المسلمين في غير المساجد كانت تأثرا بفعل اليهود ذلك في زوايا الشوارع.

هذا الكلام مردود عليه من الناحية التاريخية حيث لم يعرف عن اليهود والنصارى الصلاة إلا في الأماكن المخصصة لها كالكنائس ، والبيع ، والأديرة ، وغيرها ، وهذا الفعل خاصية لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم تعط لأحد من قبله.

جاء في الصحيحين عن جابر عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ، نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل .. الحديث» (٢).

__________________

(١) مصادر الإسلام ص ١٣ وما بعدها.

(٢) انظر صحيح البخاري ١ / ٨٦ ، كتاب التيمم وباب قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا.

٣٥٩

ومما استدل به «تسدال» على أخذ الإسلام من اليهودية التشابه في الوصايا العشر وزعم أن هذه الوصايا قد أخذها الإسلام من كتاب «جيمارا» (١).

قلت : هذا شأن هؤلاء المستشرقين دائما إذا أرادوا إثبات أخذ الإسلام من التوراة استشهدوا بما يحكم عليه في موطن آخر ببطلانه. وإذا أراد إثبات أخذ الإسلام من مصادر غير موثوقة أسقط ما كان اعتبره مصدرا أصيلا في وقت آخر.

ف «تسدال» من هذا القبيل لما أراد إثبات أن سفر التكوين لا يعتد به رده مثبتا أنه قد كتب سنة ٢٢٠ م مع أن هذا يخالف إجماع اليهود والنصارى وهو يدل على أن هذا الكتاب ليس كلمة الله ، لأنه يحتمل دخول النقص والزيادة عليه ولا يؤمن تغييره وتبديله. هذا ليدلل أن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يعتمد على مصادر غير أصلية في اليهودية.

مع العلم أن الإسلام دين سماوي لم يعتمد على مصادر يهودية سواء كانت أصلية أو غير أصلية كما هو في أذهان هؤلاء المستشرقين والتشابه كما سبق وأكدنا مرارا لوحدة المصدر السماوي لهما.

فهذه الوصايا الإلهية جاءت بها كل الشرائع ونادت بها رسالات السماء على مر الأجيال فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : «هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب من عمل بهن دخل الجنة ومن كفر بهن دخل النار» (٢).

وعن كعب الأحبار : «والذي نفس كعب بيده إن هذه الآيات لأول شيء في التوراة» (٣).

__________________

(١) مصادر الإسلام ص ١٣ وما بعدها (فصل اليهودية كمصدر).

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ٦٤ ، مطبعة دار المعرفة.

(٣) انظر تفسير الطبري ٨ / ٦٤.

٣٦٠

وقد وردت هذه الوصايا أو بعضها في الإسلام ، واليهودية ، والنصرانية ، والبوذية ، لكن بالمقارنة بينها يظهر أسلوب القرآن الفريد ، وتميز معانيه على غيره من الكتب الأخرى وقدرته على تكوين أمة كأنها الملائكة تمشي على الأرض بطهرها وبراءتها.

وسأعرض الآن نماذج من الوصايا في البوذية والنصرانية واليهودية والإسلام.

من الوصايا البوذية :

١ ـ لا تزهق روحا.

٢ ـ لا تأخذ ما لا تستحق.

٣ ـ لا تزن.

٤ ـ لا تكذب أو تغش أحدا.

٥ ـ لا تسكر.

٦ ـ كل باعتدال ولا تأكل شيئا بعد الظهر.

٧ ـ لا تشهد رقصا ولا تسمع غناء أو تمثيلا.

٨ ـ لا تلبس حليا ولا تتعطر ولا تتخذ زينة.

٩ ـ لا تنم في فرش باذخة.

١٠ ـ لا تقبل ذهبا ولا فضة.

والوصايا الخمس الأولى واجبة على كل بوذي على الدوام ، أما الخمس الأخيرة فهي واجبة الاتباع في أيام الصوم ، إلا الرهبان فإن عليهم اتباع الوصايا كافة في سائر الأوقات.

وصايا التوراة :

هذه مجموعة من الوصايا وردت في أسفار العهد القديم كسفر الخروج ، وسفر اللاويين ، والتثنية :

٣٦١

١ ـ لا يكن لك آلهة أخرى أمامي.

٢ ـ لا تضع لنفسك آلهة مسبوكة.

٣ ـ لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا.

٤ ـ أكرم أباك وأمك.

٥ ـ لا تقتل.

٦ ـ لا تزن.

٧ ـ لا تسرق.

٨ ـ لا تشهد على قريبك شهادة زور.

٩ ـ لا تشته بيت قريبك ولا شيئا مما لقريبك.

١٠ ـ لا تقبل خبرا كاذبا.

١١ ـ لا تتبع الكثيرين إلى فعل الشر.

١٢ ـ لا تحاب مع المسكين في دعواه.

١٣ ـ افتح يدك لأخيك المسكين والفقير في أرضك.

١٤ ـ لا تضطهد القريب وتضايقه.

١٥ ـ لا تسيء إلى أرملة ولا يتيم.

١٦ ـ لا ترتكبوا جورا في القضاء.

١٧ ـ ابتعد عن كلام الكذب.

١٨ ـ لا تنتقم.

١٩ ـ لا تركبوا لا في القياس ولا في الوزن ولا في الكيل.

٢٠ ـ لا تحقد على أبناء شعبك.

٢١ ـ كن قديسا طاهرا.

٢٢ ـ تحب قريبك كنفسك.

وصايا الإنجيل :

أما تعاليم الإنجيل ووصاياه فقد وردت في إنجيل متى وهي تقول :

١ ـ طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات.

٣٦٢

٢ ـ طوبى للحزانى لأنهم يتعزون.

٣ ـ طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض.

٤ ـ طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يعيشون.

٥ ـ طوبى لأتقياء القلب.

٦ ـ طوبى لصانعي السلام.

٧ ـ طوبى للمطرودين من أجل البر.

٨ ـ طوبى للرحماء لأنهم يرحمون.

٩ ـ ليس فحسب «لا تقتل» وإنما لا تغضب من أخيك وتقول له : «رقا» أو يا «أحمق».

١٠ ـ فإذا قدمت قربانك إلى المذبح ، وهناك تذكرت أن لأخيك شيئا عليك فاترك هناك قربانك واذهب أولا اصطلح مع أخيك.

١١ ـ قد سمعتم أنه قيل للقدماء «لا تزن» وأما أنا فأقول لكم أن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنا بها في قلبه.

١٢ ـ قد سمعتم لا تحنث وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة.

١٣ ـ سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك ، وأما أنا فأقول لكم : أحبوا أعداءكم ، أحسنوا إلى مبغضكم.

١٤ ـ وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم .. إلخ.

الوصايا القرآنية :

وردت الوصايا القرآنية في أكثر من سورة كسورتي الأنعام والإسراء.

قال تعالى : في آخر سورة الأنعام : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً. وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ. وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ. وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ. لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى. وَبِعَهْدِ اللهِ

٣٦٣

أَوْفُوا. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١).

وجاء في سورة الإسراء : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً .. وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً .. وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً .. وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً. وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً. وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً. وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً. وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً. كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً)(٢).

هذه هي الوصايا القرآنية والناظر فيها وفي وصايا البوذية واليهودية والنصرانية يرى ضالتها في الأسلوب والمحتوى والتأثير من وصايا القرآن الكريم حيث كان عرض القرآن الكريم لها بأسلوب أخاذ ، وطريقة فذة ، وحمل في ثنايا هذا العرض ما أجمعت عليه رسالات السماء وما ارتضته الأذواق والفطر المستقيمة ولكنه يعرض كل وصية في موضعها المناسب تارة ويجمعها مع أخواتها في إطار جميل تارة أخرى كما هو واضح لكل ناظر في وصاياه.

__________________

(١) سورة الأنعام الآية (١٥١ ـ ١٥٣).

(٢) سورة الإسراء الآيات (٢٣ ـ ٣٨).

٣٦٤

وليس المقام مقام مقارنة بين وصايا القرآن الكريم ووصايا غيره من الكتب وإلا سيطول بنا المقام. فأترك الأمر لفطنة القارئ الذي سيجد في كتاب الله دليلا على تفوق القرآن في عرض هذه التعاليم وفي عمومها وشمولها قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)(١).

لا شك أن التوراة والإنجيل فيهما هدى ونور ، وأدى كل كتاب منهما مهمة خاصة في إرشاد قطاع من الإنسانية إلى طريق الله ولكن هذا القرآن دستور الحياة والأحياء إلى أن تنتهي تلك الحياة.

أتى بوصاياه كما أتى بكل تعاليمه ومبادئه بقفزة في التاريخ البشري لا يدانيه كتاب سابق ، ولا يصل إلى شأوه وعظمته تشريع لاحق) اه (٢).

ذكر الأستاذ سيد (٣). أن الراجح في الصابئة هم تلك الطائفة من مشركي العرب قبل البعثة الذين ساورهم الشك فيما كان عليه قومهم من عبادة الأصنام فاهتدوا إلى التوحيد ، وقالوا : إنهم يتعبدون على الحنيفية الأولى ، ملة إبراهيم واعتزلوا عبادة قومهم دون أن تكون لهم دعوة منهم فقال عنهم المشركون : إنهم صبئوا ـ أي مالوا عن دين آبائهم ـ كما كانوا يقولون عن المسلمين بعد ذلك ومن ثم سموا الصابئة وهذا القول أرجح من القول أنهم عبدة النجوم كما جاء في بعض التفاسير.

وقد خصصت مبحثا كاملا عن الصابئة يرجع إليه للتعرف عليهم أكثر.

__________________

(١) سورة المائدة الآية (٤٨).

(٢) انظر كتاب الوصايا العشر ـ دراسة مقارنة ـ لآيات من أواخر سورة الأنعام د / عبد الفتاح عاشور طبعة ١ / ١٨٩٨ ه‍ ـ ١٩٧٨ م مطبعة الحضارة العربية مصر ص ٢١٣ ـ ٢٢٣.

(٣) انظر في ظلال القرآن الكريم ١ / ٧٥.

٣٦٥
٣٦٦

الفصل الثاني

شبهاتهم حول نص القرآن الكريم

المبحث الأول

تعريف القرآن الكريم

المبحث الثاني

شبه المستشرقين حول الوحي

المبحث الثالث

موثوقية النص القرآني وشبههم حوله

٣٦٧
٣٦٨

الفصل الثاني

شبهاتهم حول نص القرآن الكريم

المبحث الأول :

تعريف القرآن الكريم :

جاء تعريفه في دائرة المعارف البريطانية : (القرآن هو كتاب المسلمين المقدس ، ويعده المؤمنون كلمة الحق من ربهم ، وأنه كتاب أوحي به إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وجمع في كتاب بعد مماته ، ويعتقدون أنه كتاب أزلي ، وأنه أوجد في اللوح المحفوظ ، ومن المحتمل أن كلمة قرآن مشتقة من كلمة قرأ وهي كلمة سريانية في أصلها وفي قريانة أي القراءة كانت تستعمل في الكنيسة السريانية.

إلى أن قالت الموسوعة : .. وأنه لا مجال لتقليده ، حيث إن هذا هو الجنون بعينه)(١).

تعليق :

هذا التعريف الذي ذكرته الموسوعة فيه أمور لا بد من الوقوف عندها :

فالأمر الأول :

زعمهم أن القرآن جمع بعد ممات الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهذه المسألة قد تحدثت عنها بتوسع في موضوع الجمع في العهد الأول في حياة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

__________________

(١) قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية ص ٢٣ ، وانظر أسرار القرآن ص ٥.

٣٦٩

أما الأمر الثاني :

فزعمهم أن أصل كلمة قرآن من مصدر سرياني وسأتحدث عن هذه المسألة في موضوع التعريب إن شاء الله.

أما الأمر الثالث :

زعم «جرجس سال» أن كلمة قرآن من تأثير اليهود على المسلمين لأنهم يطلقون قراه أو مقرأة على التوراة وهذا الأمر قد رددت عليه كذلك في فصل المصادر.

أما القرآن الكريم فتعريفه عندنا معشر المسلمين :

(كلام الله ـ عزوجل ـ المعجز ، المتعبد بتلاوته ، المنزل على خاتم أنبيائه محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بلفظه ومعناه ، المنقول بالتواتر المفيد للقطع والتعيين ، المكتوب بين دفتي المصحف من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس).

أما الأمر الرابع :

اعتراف المستشرقين بعدم إمكانية محاكاة القرآن والإتيان بمثله ، وهذا أمر يعتبر مما وقفت له دائرة المعارف البريطانية.

فالله سبحانه قد جعل هذا القرآن معجزة نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ التي يمتنع على أحد من خلقه تقليده أو الإتيان بمثله أو بمثل جزء منه قال تعالى : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ)(١) وقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ)(٢) وقال سبحانه : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)(٣) ولكن الله سبحانه أثبت حقيقة حالهم أنهم

__________________

(١) سورة الطور : ٣٤.

(٢) سورة هود : ١٣.

(٣) سورة البقرة : ٢٣.

٣٧٠

لا يستطيعون ولو اجتمع إنسهم وجنهم على هذا الأمر قال سبحانه : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ)(١) وقد استعمل القرآن ضدهم كل أنواع التحدي ، من إغراء واستفزاز وغير ذلك ؛ ليبذلوا ما شاءوا من محاولات وليبذلوا قصارى جهدهم ولكنهم عجزوا فبانت قدرته سبحانه وبان عجز المخلوقين وظهر أن القرآن كلامه وحده دون سواه لا كما يزعم بعض هؤلاء المستشرقين الذين يعتبرونه كلام بشر سواء جعلوه من صنع محمد نفسه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أو من كلام سواه.

المبحث الثاني :

شبه المستشرقين حول الوحي :

تقديم :

سبق أن وقف الوثنيون من القرآن الكريم موقفا لا يدل على عقلانية ولا على صدق مع أنفسهم. حيث لم يعتبروا القرآن الكريم وحيا إلهيا واعتبروه من صنع بشر.

وقد اتخذ هذا الموقف صورا عدة منهم ، منها :

قولهم عنه أنه أساطير الأولين ، أو محض اختلاق أو أنه كهانة أو سحر إلى غير ذلك من الأقوال المفتراة.

وكل هذه الأقوال ينقضها العقل ويكذبها الواقع.

وشاء الله ـ سبحانه ـ أن يعيد التاريخ نفسه في وقتنا الحاضر فيأتي المستشرقون ليرددوا تلك العبارات الساذجة في كتبهم ومقالاتهم ومحاضراتهم. بل ويزيدوا عليها أقوالا أخرى يكذبها الواقع ويردها العقل المستنير ، والحاضر المتمدن فحاولوا أن يدلسوا على الناس فريتهم ، فكان من أقوالهم أن القرآن من صنع محمد

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٤.

٣٧١

وتأليفه وبإعانة آخرين له بتبريرات لا تقبل ، وحاولوا جهدهم لتحديد المصدر الذي نبع منه هذا الوحي. فجاءت أقوالهم مختلفة متباينة لعدم وجود رصيد لها من الواقع والتاريخ وسأذكر هذه الشبه التي أتوا بها وأرد عليها إن شاء الله تعالى.

المسألة الأولى :

تعريف الوحي لغة واصطلاحا :

الوحي في اللغة : تقول وحيت إليه وأوحيت إذا كلمته بما تخفيه عن غيره. وأصله الإشارة السريعة.

وقد يكون على سبيل الرمز والتعريض ، وقد يكون بصوت مجرد ، أو بإشارة بعض الجوارح (١).

فيكون معناه اللغوي : الإعلام الخفي السريع الخاص بمن يوجه إليه بحيث يخفى عن غيره.

أما شرعا : كلام الله تعالى المنزل على نبي من أنبيائه (٢) إما بكتاب ، أو برسالة ملك في منام أو إلهام.

وعرفه الإمام القسطلاني في إرشاد الساري بقوله : [إعلام الله تعالى أنبياءه الشيء إما بكتاب أو برسالة ملك أو منام أو إلهام](٣).

المسألة الثانية :

أنواع الوحي :

حاول المستشرقون في موسوعتهم أن يبينوا كيفية نزول القرآن على سيدنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بقولهم : [إن طريقة نزول القرآن على محمد قد ذكرت في

__________________

(١) انظر المفردات في غريب القرآن ـ للراغب الأصفهاني ص ٥١٥.

(٢) انظر مباحث في علوم القرآن ص ٣٢ وما بعدها.

(٣) إرشاد الساري لشرح البخاري ١ / ٤٨ كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

٣٧٢

القرآن ، فمنها : أن الله خاطب محمدا بشكل إيحائي ومن وراء حجاب أو بوساطة مراسل على صورة ملاك. ولهذا جاءت كلمة وحي لتدل على إيحاء من الله لرسوله على غرار الأنبياء الذين أوحى لهم. كما أن القرآن يستعمل اصطلاحا بأن القرآن نزل على الرسول ، فهذه الطريقة تدل على نوع من الخيال دون أن يكون هنالك صورة مرافقة لتوصيل هذا الخيال.

وأما الطريقة الثالثة في إيصال القرآن للنبي فهي عن طريق ملاك دون أن تذكر أن اسمه كان جبرائيل](١).

هكذا نلاحظ أن الموسوعة البريطانية قد أخطأت في تصورها لأنواع الوحي الذي نزل على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهذا الخطأ ـ يبدو لي ـ ناتج عن سوء فهمهم لتفسير قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)(٢).

وتفسير الآية : يبين الله سبحانه وتعالى أن تكليمه لأنبيائه ـ عليهم‌السلام ـ وتبليغ هؤلاء الرسل رسالات الله لا يخرج عن واحدة من طرق ثلاثة :

الطريقة الأولى :

طريق الوحي والمقصود هنا إلهاما وقذفا في القلب منه بلا واسطة. وهو أن يلقي سبحانه في قلب نبيه الذي اختاره من خلقه ما يشاء من الأحكام والمعاني.

الطريقة الثانية :

التكليم من وراء حجاب دون أن يراه كما كلم موسى ـ عليه‌السلام ـ وتتمثل هذه الطريقة بسماع النبي المرسل صوتا دون أن يرى صاحب هذا

__________________

(١) انظر كتاب قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية ـ د / فضل عباس ص ١٧٢.

(٢) انظر سورة الشورى آية : ٥١.

٣٧٣

الصوت ، فيسمع النبي المرسل هذا الكلام ، كلام الله عزوجل من وراء جبل أو شجر أو شيء آخر وذلك ما كان لموسى ـ عليه‌السلام ـ ولهذا سمي موسى كليم الله. وجاء هذا المعنى صريحا ـ في كتاب الله عزوجل بقوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً)(١).

الطريقة الثالثة :

إرسال الرسول من الملائكة كجبريل ـ عليه‌السلام ـ لأحد من خلقه فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن ربه ما يشاء إيحاءه ، من أمر ونهي وغير ذلك (٢).

وخطأ الموسوعة قادم لظنهم أن هذه الآية خاصة بالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأن أنواع الوحي الثلاثة المذكورة في الآية كلها إنما قصد بها النبي وحده والأمر ليس كذلك فالآية تقول : (وَما كانَ لِبَشَرٍ) أي : أي بشر لأن كلمة «بشر» جاءت نكرة في سياق النفي فتفيد العموم فأي بشر أرسله الله كان وصول الرسالة إليه بإحدى هذه الطرق الثلاث ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واحد من هؤلاء البشر المخصوصين بهذه الميزة ولكنه لم ينزل عليه شيء من القرآن إلا بالطريقة الثالثة عن طريق أمين الوحي جبريل ـ عليه‌السلام ـ أما الطريقتان الأوليان فهما عن طريق الوحي لأنبياء الله ـ عليهم‌السلام ـ فلم ينزل بهما ولا بغيرهما شيء من القرآن الكريم قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)(٣). وقال تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ)(٤).

__________________

(١) سورة النساء آية ١٦٤.

(٢) قضايا قرآنية ص ١٧٢ وما بعدها ، وتفسير القاسمي (محاسن التأويل) دار الفكر ـ بيروت ـ ط ٢ ، ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٨ م ، ج ١٤ / ٣٢٢ وما بعدها.

(٣) سورة الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٤.

(٤) سورة البقرة : ٩٧.

٣٧٤

وبقي هناك أمران :

الأمر الأول :

عبارتهم [كما أن القرآن يستعمل اصطلاحا بأن القرآن نزل على الرسول ، فهذه الطريقة تدل على نوع من الخيال دون أن يكون هنالك صورة مرافقة لتوصيل هذا الخيال].

هذا ناتج عن فهمهم أن الإنزال ليس بوساطة ملك ، وفسروا الإنزال تفسيرا حرفيا ، ولهذا قالوا ما قالوه ولو أنهم فهموا الآية فهما صحيحا لما وقعوا في هذا الخطأ. كما أن كثيرا من علماء الإسلام يفسرون الإنزال بمعنى الإعلام ، (١) فمعنى إنزال الله القرآن إعلام نبيه به.

والإنزال لم يكن خاصية للقرآن وحده وإنما كان عاما للكتب السماوية جميعها قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ)(٢) وقال سبحانه : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ)(٣) فالقرآن الكريم كغيره في صفة الإنزال.

أما الأمر الثاني :

عدم تعيين اسم الملاك أنه جبريل وهذا مدعاة للاستغراب والعجب ، فهل كان الأمر تجاهلا أو ناتجا عن سوء فهم ، مع أن القرآن الكريم نفسه ينص عليه صراحة سواء باسمه أو بوصفه قال تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ)(٤) وقال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)(٥) والروح هو جبريل ـ عليه‌السلام ـ.

__________________

(١) انظر كتاب قضايا قرآنية ص ١٧٤.

(٢) سورة المائدة : ٤٤.

(٣) سورة المائدة : ٤٧.

(٤) سورة البقرة : ٩٧.

(٥) سورة الشعراء : ١٩٣.

٣٧٥

المسألة الثالثة :

النظرة النصرانية للوحي :

إن نظرية الوحي عند النصرانية تتصل اتصالا وثيقا بنظرة المستشرقين إلى وحي القرآن وهي أساس الشبهات التي يثيرونها حول الوحي القرآني فالمراد بالوحي عند النصارى هو إظهار الحقائق الغير ممكن معرفتها بالقوى الطبيعية أما ما يمكن للعقل أن يصل إليه فيسمى إلهاما.

فقول النصارى هذه كلمة الله أو منزل من الله ، أو من عند الله أي أن الله سبحانه هو المؤلف السامي له باختيار مواضيعه ومعانيه ، وإلهام ناقليه وتحريكهم على كتابته بالنوع الذي أراده وعصمته إياهم عن الخطأ في غضون تسطيرها من أولها إلى ختامها. والمعنى أن الله سبحانه إذا أراد كتابة شيء من أسراره حرك كاتبا يختاره فيحثه على كتابة السفر المقصود ثم يمده بنفحته ويلهمه اختيار الحوادث والظروف والأعمال والأقوال التي شاء سبحانه بتبليغها لفائدة عباده (١) قال «جورج بوست» في كتابه (قاموس الكتاب المقدس) : [هو حلول روح الله في الكتاب الملهمين لاطلاعهم على الحقائق الروحية والأخبار الغيبية ، من غير أن يفقد هؤلاء الكتاب بالوحي شيئا من شخصياتهم فلكل منهم نمطه في التأليف وأسلوبه في التعبير](٢).

وقد عرف معجم لاروس الوحي قائلا : [حقيقة فعل يدخل به الهواء في الرئتين ومجازا نصيحة أو إيحاء أو حالة نفسية يوجد عليها الروح عند ما يكون تحت تأثير قوة فوق الطبيعة كوحي موسى والأنبياء](٣).

ومن هنا لا يفقد المتكلم أو الكاتب شيئا من شخصيته وإنما يؤثر فيه الروح

__________________

(١) انظر القرآن والمستشرقون ص ٣٥ ـ ٣٨.

(٢) مباحث في علوم القرآن ـ صبحي الصالح ص ٢٥.

(٣) انظر القرآن والمستشرقون ص ٣٨.

٣٧٦

الإلهي. ومن هنا نرى في كل مؤلف من الكتاب ما امتاز به من المواهب الطبيعية ونمط التأليف وما شابه ذلك.

وقولهم هذا في الوحي أبعد ما يكون عن الصعيد الديني المتصل بالله وأقرب إلى مدلول الكشف الذي عرفت البشرية ألوانا صافية منه لدى الشعراء الملهمين والمتصوفين العارفين وألوانا عكرة كدرة لدى الكهان والعرافين ، وأكثرهم من الدجاجلة الكذابين.

فمن السهل إثبات الكشف لكل من يدعيه ، ثم ننكر عليه مدلول الوحي ولو ظل يدعيه ، وغالبا ما يكون هذا ثمرة من ثمار الكد والجهد ، أو أثر من أثار الرياضة الروحية ، أو نتيجة للتفكير الطويل ، فلا ينشئ في النفس يقينا كاملا أو شبه كامل بل يظل أمرا شخصيا ذاتيا لا يتلقى الحقيقة من مصدر أعلى وأسمى (١).

المسألة الرابعة :

الوحي في أسفار العهد القديم :

تعبر أسفار العهد القديم عن الوحي «بكلام الرب» وقد تعبر بلفظة الوحي عن «الرؤيا» كقوله مثلا : (وكلم الرب موسى قائلا) (٢) وقوله في سفر ملاخي (الوحي الذي رآه حبقوق النبي).

من هذا يتضح أن أنبياء بني إسرائيل كانوا يتلقون الكلام الإلهي إما مباشرة من الله سبحانه ، أو عن طريق (رجل الرب) ، أو عن طريق الرؤيا.

ومن هنا تختلف نظرية الوحي في الإسلام عنها في اليهودية والنصرانية حيث لا مجال عندهما لاتصال روحي بين الملأ الأعلى وبين رسل الله.

__________________

(١) مباحث في علوم القرآن ـ صبحي الصالح ص ٢٦.

(٢) سفر التكوين ٦ / ٣ ـ ٢٣ ، الإصحاح ٧ / ٣ ـ ٥ ، الإصحاح ١٢ / ١ ـ ٤.

٣٧٧

ولذلك جاءت تصوراتهم عن الوحي في قالب كلام مباشر من الرب إلى الأنبياء وهم يتصورون الرب في صورة إنسان أو يلهمهم إلهاما عن طريق تأثير قوة فوق الطبيعة ولكن التصور الإسلامي عن الوحي مختلف عن تصوراتهم تمام الاختلاف فهو يرد عن طرق عدة وهي :

١ ـ الرؤيا الصادقة :

وهي أول مرتبة من مراتب الوحي وأول ما نزل به القرآن ، وقد كانت هذه الرؤيا توجب التكليف أحيانا كما جاء في قصة الخليل ـ عليه‌السلام ـ في قصة الفداء ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : «كان أول ما بدئ به رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح» (١).

٢ ـ ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه :

وهذه المرتبة هي الثانية من مراتب الوحي وهي ما كان ينفثه الملك في روع الرسول بأمر الله تعالى ، فكان بذلك وحيا ، منه قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إن روح القدس نفث في روعي لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها» (٢).

٣ ـ مخاطبة الملك :

وهي المرتبة الثالثة فقد كان يتمثل له رجلا على صورة دحية الكلبي وغيره فيخاطبه حتى يعي ما يقول له. من ذلك حديث عمر الطويل (٣).

__________________

(١) صحيح مسلم ـ كتاب الإيمان ج ١ / ١٣٩ ـ ١٤٠ (طبعة دار الفكر) بيروت.

(٢) انظر الفتح الكبير ـ للسيوطي ١ / ٣٩٣ ونسبه لأبي نعيم في حلية الأولياء وانظر كشف الخفاء ١ / ٢٣١.

(٣) صحيح البخاري ١ / ١٨ كتاب الإيمان باب ٣٧ ، سؤال جبريل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن الإسلام والإيمان والإحسان .. إلخ.

قال العلماء : لم يثبت تلقي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شيئا من القرآن من جبريل وهو على هذه الصورة ، وإنما كان يعلمه بعض أمور دينه ويبلغه بعض أوامر ربه كل ذلك حتى لا يلتبس على الناس أن الذي يعلمه بشر اه.

٣٧٨

٤ ـ مخاطبة جبريل له مثل صلصة الجرس :

وهذه هي المرتبة الرابعة وقد كانت أشدها على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : «إن الحارث بن هشام سأل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كيف يأتيك الوحي؟ قال : أحيانا يأتيني مثل صلصة الجرس ، وهو أشدها علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا ليكلمني ، فأعي ما يقول. قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الملك في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه ، وإن جبينه ليفصد عرقا» (١).

وهذه المرتبة يحصل فيها مخالطة الروح لروع وجسد الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويخاطبه بصوت قوي صارخ ، فيه عنف كعنف صلصلة الجرس ، يسمعه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا يسمعه غيره ، ويحس في نفسه ولا يحس غيره ، ويكلمه بكلام مفهوم ، ويحدث على جسمه ثقلا جسميا ضاغطا على ما يكون رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جالسا عليه.

٥ ـ رؤيته الملك في صورته التي خلق عليها :

وهذه المرتبة هي المرتبة الخامسة ولم تقع له إلا مرتين فقط.

المرة الأولى :

وهي التي جاء ذكرها في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري حيث قال : «قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يحدث عن فترة الوحي .. فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء ، فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض ..» الحديث (٢).

__________________

(١) انظر إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ١ / ٥٧ ـ ٥٨.

(٢) صحيح مسلم ـ كتاب الإيمان ـ باب بدء الوحي ١ / ١٤٣.

٣٧٩

والمرة الثانية :

عند ما عرج به إلى السموات العلا كما جاء ذكره في حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ الطويل.

وقد وصفت عائشة ـ رضي الله عنها ـ جبريل ـ عليه‌السلام ـ بالهيئة التي رآها عليه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بقولها عما استوضح عنه أبو عائشة (مسروق) من قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى)(١) حيث قالت : أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : «إنما هو جبريل ، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء ، سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض ..» الحديث (٢).

روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن أنس بن مالك أن مالك بن صعصعة حدثه أن نبي الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حدثهم عن ليلة أسري به قال : بينا أنا في الحطيم قال قتادة : في الحجر مضطجع إذ أتاني آت .. ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض قال : فقال الجارود : هو البراق يا أبا حمزة قال : نعم. يقع خطوه عند أقصى طرفه قال : فحملت عليه فانطلق بي جبريل ـ عليه‌السلام ـ حتى أتي بي السماء الدنيا فاستفتح فقيل : من هذا؟ قال : جبريل قيل : ومن معك؟ قال : محمد. قيل : أوقد أرسل إليه؟ قال نعم : قيل : مرحبا به ونعم المجيء جاء. قال ففتح .. ثم صعد حتى أتى السماء الأولى .. الثانية .. الثالثة …… السابعة.

قال : ثم رفعت إلى سدرة المنتهى .. فقال : هذه سدرة المنتهى قال : وإذا أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران. فقلت : ما هذا يا جبريل؟ قال : أما الباطنان نهران في الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات .. إلخ (٣).

__________________

(١) سورة النجم : ١٣.

(٢) انظر : صحيح مسلم ـ كتاب الإيمان ـ باب بدء الوحي ١ / ١٤٣.

(٣) انظر مسند الإمام أحمد ٤ / ٢٠٧ ـ ٢١٠ / ٢ / ١٦٤.

٣٨٠

٦ ـ ايحاؤه سبحانه له من وراء حجاب :

وهو فوق السموات السبع في معراجه وهي المرتبة السادسة لقوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ..) الآية (١).

والجدير بالذكر أن هذه المراتب لم ينزل عن طريقها قرآن قط إلا ما كان عن طريق جبريل ـ عليه‌السلام ـ وإنما كان ينزل عليه بهذه المراتب غير القرآن الكريم. حتى لا يلتبس ما هو قرآن بغيره من التوجيهات النبوية. كما سبق الإشارة إليه.

المسألة الخامسة :

الشبه على ظاهرة الوحي :

عجزت عقول المستشرقين ومختبراتهم العلمية أن توصلهم إلى كنه ظاهرة الوحي. فاختلفوا في هذه الظاهرة على أقوال متباينة مجافية للحق ، مجانبة للصواب ، وكل ذلك سببه تصورهم ظاهرة الوحي في النصرانية وقياس ظاهرة الوحي في الإسلام عليها.

وسأجمل أقوالهم في ظاهرة الوحي في نقاط محدودة.

١ ـ الوحي النفسي ، والإلهام السمعي.

٢ ـ بتأثير انفعالات عاطفية.

٣ ـ لأسباب طبيعية عادية كباعثة النوم (التنويم الذاتي).

٤ ـ تجربة ذهنية فكرية.

٥ ـ كحالة الكهنة والمنجمين.

٦ ـ حالة صرع وهستيريا.

وغير ذلك من الأقوال التي فاقت سذاجة الجاهلين الأوائل.

__________________

(١) سورة الشورى : ٥١.

٣٨١

الشبهة الأولى :

الوحي النفسي :

قالوا : نحن لا نشك في صدق محمد في خبره عما رأى وسمع ولا نشك في كونه مصلحا اجتماعيا ، وعبقريا فذا ، وإنما نقول أن منبع ذلك إلهام من نفسه وليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الذي يقال : إنه وراء عالم المادة والطبيعة الذي يعرفه جميع الناس. فإن هذا الغيب شيء لم يثبت عندنا وجوده ، كما أنه لم يثبت عندنا ما ينفيه ، ويلحقه بالمحال.

فمنازع نفسه العالية وسريرتها الطاهرة ، وقوة إيمانه ، وخياله الواسع وإحساسه العميق ، وعقله الكبير ، وذكاؤه الوقاد ، وذوقه السليم ، مما كان لذلك التأثير بأن يتجلى في ذهنه ، ويحدث في عقله الباطن الرؤى والأحوال الروحية فيتصور أن ما يعتقده إلهيا نازلا عليه من السماء بدون وساطة ، أو عن طريق رجل يتمثل له يلقنه ذلك ، أو يسمعه يقول له شيئا في المنام ، والقرآن شيء من هذا الذي يراه ويتخيله وإنما كل ذلك نابع من نفسه ، ومن عقله الباطن ، وصورة لأخيلته ووجدانه التي انطبعت في نفسه بما يحيط بها من شائعات في بيئته على حد تعبير «جب» فامتلأ بها عقله الباطن ففاضت بذلك نفسه ثم صاغها بأسلوبه المؤثر ، وخياله الخصيب ، نتيجة لخلواته الخاصة بغار حراء ، وتأملاته العميقة.

واستدلوا على ذلك بقصة الفتاة الفرنسية «جان دارك» في القرن الخامس عشر الميلادي التي اعتقدت أنها مرسلة من عند الله لإنقاذ وطنها ، ودفع العدو الإنكليزي عنه ، وادعت أنها تسمع صوت الوحي ، فأخلصت في دعوتها ، وتوصلت بصدق إرادتها وحسن سيرتها إلى رئاسة جيش صغير تغلبت به على العدو ثم خذلها قومها فوقعت في يد عدوها فألقوها في النار حية فماتت غب انتصارها ، وقد ذهبت تاركة وراءها اسما يذكره التاريخ(١).

__________________

(١) انظر المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة ص ٩٠ ، والوحي المحمدي ص ٨٩ ، وشبهات مزعومة حول القرآن الكريم للقمحاوي ص ٤١ ، ومقدمة القرآن ، ص ٢٠.

٣٨٢

الجواب :

لما كان الوحي هو الأساس الذي يترتب عليه جميع حقائق الإسلام بعقائده وتشريعاته ، وهو المدخل للتصديق بكل ما جاء به الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من إخبارات غيبية وأوامر تشريعية من أجل هذا وغيره اهتم أعداء الإسلام بالتلبيس والتشكيك في حقيقة الوحي الإلهي ليشككوا المسلمين في دينهم ويحولوا بين غير المسلمين وخاصة الأوربيين وبين الإسلام (١) ، لذا زعموا أن الوحي ناتج عن سبب من هذه الأسباب التي لخصناها من الشبه آنفة الذكر.

وقد قامت الأدلة النقلية والعقلية على بطلان هذه المزاعم. فمن الأدلة النقلية :

١ ـ قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(٢).

وقال تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)(٣).

٢ ـ ووصفه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لكيفية إتيان الوحي إليه. كما ورد في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ عند ما سأله الحارث بن هشام : «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ..» الحديث (٤).

وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : «أول ما بدئ به رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ..» الحديث (٥).

أما الأدلة العقلية فكثيرة كذلك. ولكني سأقتصر على رد عام على فريتهم هذه.

__________________

(١) انظر توثيق نص القرآن الكريم ـ خالد عبد الرحمن العك ص ٢٧ ـ ٢٨.

(٢) سورة النجم ٣ ـ ٤.

(٣) سورة النساء : ١٦٣.

(٤) انظر صحيح البخاري كتاب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ، بشرح إرشاد الساري.

(٥) نفس المرجع ١ / ٦١.

٣٨٣

فالمستشرقون بنوا هذه الشبهة على مقدمات مبناها أن فكرة الوحي تكونت نتيجة تشبع العقل الباطن بما في البيئة من ثقافات وعقائد وغير ذلك مما جعل نفسه الصافية تفيض بما فيها من ذخائر وقد فصلت القول في كل ما زعموه كركائز للوحي النفسي من ثقافة يهودية ونصرانية ووثنية ومجوسية وزرادشتية وغير ذلك في فصل المصادر المزعومة للقرآن الكريم فليرجع إليها هناك.

وعلى إثر سقوط هذه المقدمات تسقط النتيجة التي توصلوا لها في تفسير ظاهرة الوحي أنها (وحي نفسي) أو ناتج عن رياضات روحية وتفكير طويل كإلهام الواصلين ، وكشف العارفين (١).

ولكن لا بد من كلمة عامة على هذه الشبهة ، فالناظر لهذا الدين وحقيقته يجده فريدا متميزا صافيا بكل ما جاء به من عقائد وشرائع عما كان موجودا في وسطه الذي كان يعيش فيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

فقد جاء هذا الدين عاما شاملا لكل نواحي الحياة ، سهلا في عبادته ، دقيقا في معاملاته ، رادعا في حدوده ، فذا في نظمه الاقتصادية والسياسية وغيرها ، عظيما في أخلاقه وآدابه ، إلى غير ذلك من المزايا والفضائل أكل هذه العقائد والنظم والتشريعات كانت مذكورة مدخرة في نفس محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ابن البيئة المختلفة العقائد ، والفقيرة الموارد ، المختلفة الأنظمة ، المضطربة الأخلاق والآداب؟.

فهذا الإسلام بعظمته ، والقرآن بربانيته يبطل كل هذه المزاعم ، والعلم يكشف كل يوم لنا من أسرار آياته في الأنفس والآفاق مما يؤكد أنه من تنزيل إلهي ، وليس فيه أدنى شيء لعقل بشري ، لأنه أعجز من أن يؤلف شيئا من مثل آياته فكيف تأتي هذه الفرية لتزعم أن هذا القرآن فيض بشري ووحي نفسي لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

__________________

(١) مباحث في علوم القرآن ـ صبحي الصالح ص ٢٦.

٣٨٤

وقد كان الوحي يفتر عنه فترات وهو بأشد الحاجة إليه ولا يجد جوابا لما سألوه ، أو بما تحدوه. كما أن الوحي ليس إلهاما فقط بل هو إخبار من الله سبحانه لنبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بواسطة أو بدون واسطة ، ويكون قلبيا أو قلبيا وسمعيا ، أو قلبيا وسمعيا وبصريا.

روى السيوطي في كتابه لباب النقول في أسباب النزول حيث قال :

أخرج ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن شيخ من أهل مصر عن عكرمة عن ابن عباس قال : «بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة فقالوا لهم سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى أتيا المدينة ، فسألوا أحبار اليهود عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ووصفوا لهم أمره ، فقالوا لهم : سلوه عن ثلاث إن أخبركم بها فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول.

سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم فإنه كان لهم أمر عجيب ، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه ، وسلوه عن الروح ما هو. فأقبلا حتى قدما على قريش فقالا قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد. فجاءوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فسألوه : فقال : أخبركم غدا بما سألتم عنه ولم يستثن ، فانصرفوا ومكث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خمس عشرة ليلة لا يحدث الله في ذلك إليه وحيا ، ولا يأتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة وحتى أحزن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مكث الوحي عنه وشق عليه ما تتكلم به أهل مكة ثم جاءه جبريل من الله بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف وقول الله يسألونك عن الروح» (١).

__________________

(١) كتاب النقول في أسباب النزول حاشية على تفسير الجلالين ـ طبعة عبد الحميد حنفي مصر ص ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

٣٨٥

فكيف إذن يعجز محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يأتيهم بجواب وهو صاحب العقل الباطن المملوء بالمعارف ، وصاحب الوجدان الملتهب ، والنفس المتوثبة ، والقريحة المتوقدة ، والبديهة الحاضرة.

ما ذا إلا لأن القرآن تنزيل من حكيم حميد لا دخل لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بشيء منه.

كما ينقض هذه الفرية كون العقل الباطن على ما يقول علماء النفس إنما يفيض بما فيه في غفلة من العقل الظاهر ، ولذلك لا يظهر ما فيه إلا عن طريق الرؤى والأحلام ، والأمراض كالحمى مثلا ، وفى الظروف غير العادية ، والقرآن الكريم لم ينزل شيء منه في هذه الحالات وإنما نزل على نبي الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقظة لا مناما ، وفي اكتمال من عقله وبدنه ، في تمام صحة نفسه فهكذا يظهر لنا جليا أن فريتهم الوحي النفسي التي أتى بها لإبطال الوحي الإلهي مكشوفة وما استندوا إليه من مقدمات باطلة مردودة ونتائجهم غير صائبة.

فبهذا يثبت الحق أن الوحي الإلهي من الله سبحانه وحده دون تدخل بشري (١).

والله تعالى أعلم.

أما ما استدلوا به لهذه الفرية بقصة الفتاة الفرنسية (جان دارك) فباطلة ، لأن (جان دارك) لم تدع النبوة ، ولو أنها ادعت لما صدقت ، لأن دعوى النبوة لا تثبت إلا بدليل وهي المعجزة ، ولم يظهر من هذا على يدها.

والفتاة لا شك أنها كانت قوية القلب ، مرهفة الحس ، أصيبت بهيجان عصبي لما أصاب قومها من اضطهاد وظلم مما حرك وجدانها بسبب شعورها الديني ، فاستنهضت قومها للقتال ، وقادتهم للخلاص من ذل الاستعباد. وهذا أمر متكرر في كل البيئات والأوقات أن يوجد في مثل هذه الظروف مثل هذه

__________________

(١) انظر المدخل لدراسة القرآن الكريم ص ٩٩ ـ ١٠٠.

٣٨٦

الفتاة من رجال أو نساء.

حيث تلاقي دعواتهم هوى في نفوس أقوامهم فيهبوا وراءهم لنصرة صاحب فكرة الخلاص.

وشبيه بهذا أصحاب دعوة المهدي المنتظر ، أو دعوى الباب الإيراني ، والبهاء والقادياني وغيرهم في التاريخ كثير ، مما زعموا أنه يوحى إليهم حيث وجدوا من يغتر بدعواتهم الكاذبة فأين دعوة هؤلاء جميعا من دعوة المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ التي غيرت تاريخ أمة فجعلتها فريدة في عقيدتها وشريعتها وهدايتها الربانية قامت على كل ذلك حضارة لها طابعها الخاص بمدة قياسية.

أما (جان دارك) فإنها لم تصنع بدعوتها أمة ولم تقم بها حضارة فأين الثرى من الثريا. فلا قياس (١).

الشبهة الثانية :

زعم نولديكه أن ظاهرة الوحي كانت بسبب تأثير النوبات الانفعالية الطاغية التي كانت تسيطر عليه مما كان يدعو محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الشعور بأنه تحت تأثيرات إلهية (٢) حيث قال :

[كانت نبوة محمد نابعة من الخيالات المتهيجة والإلهامات المباشرة للحس أكثر من أن تأتي من التفكير النابع من العقل الناضج. فلو لا ذكاؤه الكبير لما استطاع الارتقاء على خصومه .. مع هذا كان يعتقد أن مشاعره الداخلية قادمة من الله بدون مناقشة](٣).

الجواب :

هذه الشبهة لها قرب من الشبهة الأولى وتدل على تجن ، وسوء فهم واضح ،

__________________

(١) انظر المدخل لدراسة القرآن الكريم ص ١٠٣ ، انظر الوحي المحمدي لمحمد رشيد رضا ص ٨٩ ـ ٩٤.

(٢) انظر مقدمة القرآن ـ واط ص ١٨.

(٣) تاريخ القرآن ـ نولديكه ١ / ٥.

٣٨٧

ويرد ذلك الوقوف على سيرته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعلى كيفية نزول الوحي عليه.

فالواقف على ذلك يجد أن الوحي كان يأتي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في أوقات عدة وبأشكال مختلفة فقد كان يأتيه في ظروف اعتيادية ، ويقطعه في ظروف عصيبة وهو بأشد الحاجة إليه. فكل ذلك يدل على أن الوحي خارج عن ذاته وليس له فيه أدنى تدخل. فها هم المنافقون يخوضون في عرضه الشريف في قصة الإفك التي افتريت ضد زوجته المصون ويشتد الأمر عليه ويتمنى لو يجد شيئا يقوله ليبرئ زوجته أو يثبت ما يقولونه فيرتاح مما هو فيه ولكن الأمر ليس بيده ، ولم يستطع أن يقول شيئا حتى نزل من صاحب هذا القرآن وهو الله سبحانه ما يبرئ هذه الزوجة الطاهرة النقية ويرد كيد المنافقين.

وما حصل معه في سؤال المشركين له عن ثلاثة الأسئلة المذكورة في قصة أهل الكهف وقد ذكرت القصة بطولها أثناء ردي على الشبهة الأولى مما بينت أن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يستطع أن يأتيهم بجواب حتى خاض المشركون في أمر الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما طاب لهم من قول حتى نزلت الإجابة من السماء.

كل ذلك يؤكد أن الوحي أمر خارج عن إرادة نبينا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعن رغبته وأنه ما كان يظهر عليه أثناء نزول الوحي عليه أثر للانفعالات الطاغية المزعومة عند «نولديكه» فقد كان يأتيه أحيانا بصورة رجل كبقية الرجال حتى أنه لا يستطيع أن يميز جبريل ـ عليه‌السلام ـ أحد من الحاضرين إلا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيدارس الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قواعد الإسلام وأصوله كما حصل فيما رواه «عمر» في حديثه الطويل. كما أنه أحيانا كان ينفث في روعه شيئا من أمور الإسلام.

وأشد ما كان يلاقيه عند نزول جبريل ـ عليه‌السلام ـ بصوت كصلصلة الجرس وهذا الصوت كان يثير في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عوامل الانتباه فتهيأ نفسه بكل قواها لتلقي القول الثقيل الذي جاء به من الله ـ سبحانه وتعالى ـ وهذه الكيفية شدتها ناتجة لما يحصل من ممازجة جبريل ـ عليه‌السلام ـ لروح محمد ـ

٣٨٨

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويخاطبه بصوت قوي يشبه صوت الجرس يفهمه هو دون غيره.

وسبب المعاناة والتعب والكرب عند نزول الوحي ، لأنه أمر طارئ على الطباع البشرية.

وقال في الإمتاع : جعل الله تعالى لأنبيائه ـ عليهم‌السلام ـ الانسلاخ من حالة البشرية إلى حالة الملكية في حالة الوحي فطرة فطرهم عليها ، وجبلة صورهم فيها ، ونزههم عن موانع البدن وعوائقه ما داموا ملابسين لها بما ركب في غرائزهم من العصمة والاستقامة فإذا انسلخوا عن بشريتهم وتلقوا في ذلك ما يتلقونه عادوا على المدارك البشرية لحكمة التبليغ للعباد. فتارة يكون الوحي كسماع دوي كأنه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الذي ألقي إليه فلا ينقضي الدوي إلا وقد وعاه وفهمه. وتارة يتمثل له الملك رجلا فيكلمه ويعي ما يقوله والتلقي من الملك والرجوع إلى البشرية وفهمه ما ألقي إليه كله يتم في لحظة واحدة ، بل أقرب من لمح البصر ، ولذا سمي وحيا.

وإنما كان التعب والشدة في حالة النزول ليبلو صبره فيرتاض لاحتمال ما كلفه من أعباء النبوة.

وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة الناتجة عن تلقي الوحي من زيادة الزلفى ورفع الدرجات (١).

فصور الوحي كلها تدل أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان في حالة تلقيه الوحي يكون في قمة الهدوء وسلامة الأعصاب ولم يكن يظهر عليه أي انفعالات عاطفية طاغية ، وهيجان أحاسيس كما زعم «نولديكه».

الشبهة الثالثة :

زعم بعضهم أن منشأ الوحي من أسباب طبيعية عادية كباعثة النوم أو

__________________

(١) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ١ / ٥٨ ـ ٦٠.

٣٨٩

ما سماه «واط» (التنويم الذاتي) (١).

الجواب :

هذه فرية من جملة مفترياتهم حيث إن البعد شاسع بين الوحي وبين عارض السبات الطبيعي الذي يعتري المرء حيث إن ظاهرة الوحي كانت تعتريه قائما أو قاعدا ، أو سائرا ، أو راكبا ، وبكرة أو عشيا ، ليلا أو نهارا ، وفي أثناء حديثه مع أصحابه أو مع أعدائه ، وكانت تعتريه فجأة وتزول عنه فجأة ، وتنقضي عنه أحيانا في لحظات يسيرة لا بالتدريج الذي يعرض للوسنان. وكانت تصاحبها تلك الأصوات الغريبة التي تشبه صلصة الجرس والتي لا تسمع عند النوم وغيره. فمن هنا يظهر أنها كانت تباين حال النائم في كل أوضاعها وأوقاتها وأشكالها. فقد صور لنا الإمام البخاري ـ رحمه‌الله تعالى ـ بسنده إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ صورة من هذه الصور عند ما طلب يعلى من عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ أن يريه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين يوحى إليه.

قال الإمام البخاري : فبينما النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالجعرانة ومعه نفر من أصحابه جاءه رجل فقال : يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ساعة فجاءه الوحي ، فأشار عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى يعلى ، وعلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثوب قد أظل به فأدخل رأسه فإذا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ محمر الوجه ، وهو يغط. ثم سري عنه. فقال : أين الذي سأل عن العمرة؟ فأتي برجل فقال : اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات ، وانزع عنك الجبة ، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك (٢).

فهذا يبين أن ظاهرة الوحى ليس لها تحضير مسبق من قبل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما زعم ذلك «واط» بل هي ظاهرة خارجة عن ذاته الشريف وبغير

__________________

(١) وحي الله ـ د / حسن عتر ص ١٤١.

(٢) انظر صحيح البخاري ، كتاب الحج ـ باب غسل الخلوق من الثياب انظر إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ٣ / ١٠٤ ـ ١٠٥.

٣٩٠

إرادته وأعراضها لا تستجلب ولا تدفع.

والذي يزيد هذه الحقيقة وضوحا سماع صوت دوي كدوي النحل عند وجه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يسمعه من حوله كما في حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : «كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذا نزل الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل ..» الحديث (١).

فهل من كان في سبات يسمع عند وجهه مثل هذا الدوي؟ كل ما ذكرت يدل على بطلان هذا الرأي الذي زعمه «واط» ومن معه وفساده (٢).

كما يبين جليا التغاير الواضح بين الظاهرتين. ظاهرة الوحي وظاهرة «التنويم الذاتي» كما سماها بعض المستشرقين.

الشبهة الرابعة :

زعم بعض المستشرقين أمثال «بل» و «واط» (٣) أن الوحي كان تجربة ذهنية فكرية وأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أدرك ما أدرك نتيجة قدرته على التركيز واستدامته ذلك على مستوى تجريدي لا يطيقه غيره لذا كان يختار له ساعات الليل لأنها أدعى للفكر وأصفى للروح ، وأكثر استجابة لعواطفه.

الجواب :

١ ـ هذا هو الفكر المادي الذي لا يعترف بتكامل بين الروح والمادة ولا يؤمن إلا بالمحسوس الذي يدخل تحت عدسات المجهر والتحليل المخبري.

فالنبوة لا تخضع لمثل هذه الدراسات. فالإنسان مهما جرب وركز بكامل قواه العقلية ليصبح نبيا لا يمكن أن يصبح نبيا ولا يصل لرتبتها. وأبرز ظواهر النبوة الوحي. وهذا الوحي لا يمكن تحضيره ولا استحضاره وإنما يأتي

__________________

(١) سنن الترمذي ـ كتاب التفسير ـ باب ومن سورة المؤمنون.

(٢) وحي الله د / حسن عتر ص ١٤٢ ـ ١٤٥.

(٣) انظر مقدمة القرآن ـ واط ص ١٨.

٣٩١

فجأة وبإذن من صاحبه فقط وهو الله سبحانه ، وبلحظات خاطفة كما بينت خلال ردي على الشبهة السابقة ، فهو إذا ليس نتيجة فيضان نفسي ، أو كبت لمجموعة من التأملات احتشدت وتفجرت في نفس النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأن النبوة اصطفاء رباني علوي مسبوق ببعض الإرهاصات ، لا يعرف التدرج إلى ما يسمى النضج في النهاية.

٢ ـ أمر نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليس أمرا بدعيا وإنما هو حلقة في سلسلة النبوة ، ولبنة في صرحها العظيم يعرفه كل أصحاب الديانات لذا فعند ما سمع ورقة ابن نوفل من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خبر الوحي قال له : هذا هو الناموس الذي أنزله الله على موسى ـ عليه‌السلام ـ (١).

قال الأستاذ قحطان الدوري : [إن الوحي أمر خارج عن النفس وهو الأساس الذي يبنى عليه الاعتقاد بالنبوات ، وهو الطريق الذي جاءت به العقائد .. ولذلك اهتم الأعداء بإثارة الشكوك حول الوحي ، والوحي أمر ثقيل لا يستطيعه إلا من ارتاض جسده على تحمل عبء النبوة](٢).

٣ ـ الواقع التاريخي وسيرته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تكذب وتبطل هذه الفرية :

أ ـ من ذلك ما نقلته لنا كتب السير قدوم عبد الله بن أم مكتوم يطلب من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يعلمه مما علمه الله في الوقت الذي كان جالسا يخاطب فيه زعماء قريش ويناجيهم طمعا في إسلامهم ، فانصرف عنه وعبس في وجهه. فعاتبه الله عزوجل على ذلك بصدر سورة عبس (٣).

وكذلك حادثة (٤) أخذه الفدية بدلا من قتل الأسرى في عقب غزوة بدر فنزل عتابه بقوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي

__________________

(١) إرشاد الساري لشرح البخاري ـ كتاب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ـ ١ / ٦٥.

(٢) انظر تصحيح المفاهيم ـ أنور الجندي ص ٥٤ ـ ٥٦.

(٣) أسباب النزول للواحدي ص ٣٣٢ (طبعة مكتبة المتنبي ـ القاهرة).

(٤) نفس المرجع ص ١٧٨.

٣٩٢

الْأَرْضِ ..)(١)

وحادثة مجادلة خولة بنت ثعلبة وشكواها زوجها لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فنزل صدر سورة المجادلة قبل مفارقتها المجلس (٢).

فما نزل من هذه الوقائع كان في حينه وقبل أن ينهض رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من مجلسه أحيانا مما يؤكد أنه ليس نتيجة إجهاد ذهن أو طول تفكير بساعات الليل لصفائها على حد زعم بعض المستشرقين.

وقصة إرسال قريش للنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط لأحبار اليهود بالمدينة وسؤالهم الأحبار عن محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن أمر الفتية ، والرجل الطواف ، والروح ، فأخبرهم أنه سيجيبهم في الغد ولم يستثن ولكن الوحي انقطع خمس عشرة ليلة حتى أرجف أهل مكة لانقطاع الوحي وكثر اللغط في حق الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فنزل صدر سورة الكهف (٣).

فلو كان نبينا محمد يأتي بهذا القرآن من بنات فكره ، وبلمسة فكرية سحرية منه أو بإطالة تأمل فما الذي كان يمنعه من أن يأتي بشيء منه للإجابة على أسئلتهم مع أنه في أشد الحاجة إليه وخاصة في مثل هذه الظروف.

ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله (٤) وصدق ربنا إذ يقول : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ)(٥).

ب ـ آيات كثيرة عاتب الله سبحانه فيها نبينا محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عتابا عنيفا ، ونقده نقدا مرا على إثر تصرف معين منه كقوله تعالى على إثر تحريم رسول الله ـ

__________________

(١) سورة الأنفال : ٦٧.

(٢) نفس المرجع ص ٣٠٤.

(٣) انظر ردنا على الشبهة الأولى.

(٤) النبأ العظيم ـ دراز ص ٢٣ ـ ٢٤.

(٥) سورة الحاقة : ٤٤ ـ وما بعدها.

٣٩٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شيئا على نفسه دون تحريم الله له : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ)(١)

وكقوله تعالى على إثر موقفه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من زينب بنت جحش أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ زوج متبناه زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ)(٢) وعتابه له سبحانه لما بدى منه إعراض في حق ابن أم مكتوم كما ذكر ذلك في سورة «عبس» (٣).

أرأيت لو كانت هذه التقريعات المؤلمة صادرة عن وجدانه؟! ومعبرة عن ندمه ، ووخز ضميره ، حين بدا له خلاف رأيه الأول أكان يعلنها عن نفسه بهذا التهويل والتشنيع والعتاب المر والتأنيب الشديد. أليس في سكوته ستر على نفسه ، واستبقاء لحرمة آرائه. فلو كان القرآن صادرا عن نفسه لكان أولى شيء بالكتمان مثل هذه الآيات (٤).

ج ـ لقد كان يجيئه الأمر أحيانا بالقول المجمل أو الأمر المشكل الذي لا يستبين هو ولا أصحابه تأويله حتى ينزل الله عليه بيانه ، فأي عاقل يا ترى توحي إليه نفسه كلاما لا يفهم هو معناه ، وتأمره أمرا لا يعقل هو حكمته ، أليس ذلك من الأدلة الواضحة على أنه ناقل لا قائل ، وأنه مأمور لا آمرا ، (٥) وأن القرآن ليس من تأملات فكره ، ولا من صنيع خياله ، بل تنزيل من حكيم حميد.

الشبهة الخامسة :

[زعم أصحاب الموسوعة البريطانية أن أسلوب الوحي المحمدي جاء نثرا مقفى ، أو ما يسميه العرب بالسجع ، وقد استعمل هذا الأسلوب سابقا من

__________________

(١) سورة التحريم : ١.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٧.

(٣) انظر سورة عبس.

(٤) النبأ العظيم ص ٢٥ بتصرف.

(٥) نفس المرجع ص ٢٨.

٣٩٤

قبل الكهنة ، ومن قبل المنجمين ..](١) اه.

وقد اعتبر بعضهم أن الوحي من حالات هؤلاء الكهنة والمنجمين والسحرة.

الجواب :

إن كون أسلوب القرآن مشابها لأساليب الكهنة والمنجمين أو السحرة من قبل أمر لم يقبله العرب الذين لم يكونوا أقل حقدا ، ولا أقل كراهية للإسلام ممن جاء بعدهم بعامة ومن كتاب الموسوعة بخاصة ، ولم يزعموا كما زعم المستشرقون أن الوحي صادر عن حالة من حالات الكاهن أو الساحر أو المنجم. وها هو الوليد وعتبة بن ربيعة وغيرهما يردون بكل حزم ويرفضون بكل إنصاف أن يكون أسلوب القرآن مشابها لأسلوب الكهان وسجعهم أو المنجمين وكلامهم ، أو السحرة ونفثهم ، ولم يقولوا إن حالة صدور الوحي عنه كحالة هؤلاء مع إنهم معاصرون له ، ومن أكثر الناس خبرة بذلك.

ولقد روت لنا كتب الأدب والتاريخ شيئا من هذا السجع ، أعني سجع الكهان والمنجمين ، وأفعال السحرة وكلامهم ، وعن أحوالهم حين صدور ذلك عنهم. فالمنصف لا يرتاب في أن أسلوب القرآن ونظمه ، والحالة التي يكون فيها ناقله للناس عليه الصلاة والسلام يختلف كلية عن أولئك المذكورين ، لذا نفى سبحانه أن تكون حالته كحالتهم أو كلامه ككلامهم قال سبحانه : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ)(٢).

ذكر مقاتل أن سبب نزول هذه الآيات أن الوليد قال : إن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ساحر ، وقال أبو جهل : شاعر ، وقال عتبة : كاهن ، فرد الله تعالى عليهم بهذه

__________________

(١) انظر قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية ، د / فضل عباس ص ٤٢.

(٢) سورة الحاقة : ٣٨ ـ ٤٢.

٣٩٥

الآيات (١) هذه المزاعم والأكاذيب ؛ لأن عدم مشابهة القرآن الشعر أمر بين لا ينكره إلا معاند. بخلاف مباينته للكهانة فإنها تتوقف على تذكر أحواله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومعاني القرآن المنافية لطريق الكهانة ومعاني أقوالهم (٢) وكل ذلك كان واضحا جليا ومعروفا لدى معاصريهم. فهذا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يزجر أحد السائلين بأسلوب الكهان وسجعهم حين قال : [يا رسول الله ، كيف أغرم من شرب ولا أكل ، ولا نطق ولا استهل؟ (٣) فمثل ذلك يطل](٣) فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إنما هذا من إخوان الشياطين» (٥) من أجل سجعه الذي سجع فقد اعتبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من يسجع بأسلوب الكهان من إخوان الشياطين ، لذا نهى أن يفعل أحدهم فعلهم ، أو يقول بقولهم.

ولكن المستشرقين والمبشرين على حد سواء جهدهم وهمهم أن يوجهوا إلى هذا القرآن كل مطعن بقطع النظر عن المقاييس النقدية ، والأسس المنطقية ، والمنهج العلمي ، كما هو الحال في هذه الموسوعة التي جانبت الحق في هذه المزاعم (٦) وألقت الكلام دون تدقيق.

ولكن الله سبحانه اقتضت حكمته أن لا يسوي بين الصادق والكاذب نقل الأستاذ حسن عتر حفظه الله عن الإمام ابن تيمية قوله : (فإنه يمتنع في حكمة الرب وعدله أن يسوي بين هؤلاء خيار الخلق ، وبين هؤلاء شرار الخلق لا في سلطان العلم وبراهينه وأدلته ولا في سلطان النصر والتأييد. بل يجب في حكمته أن يظهر الآيات والبراهين الدالة على صدق هؤلاء وينصرهم ويؤيدهم ويعزهم ويبقي لهم سلطان الصدق ، ويفعل ذلك بمن اتبعهم ، وأن يظهر الآيات

__________________

(١) انظر تفسير روح المعاني للآلوسي ـ طبعة دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ٢٩ / ٥٢ ـ ٥٥.

(٢) معاني القرآن ـ للآلوسي ٢٩ / ٥٣ ـ ٥٤.

(٣) ولا استهل : ولا صاح عند الولادة ليعرف به أنه مات بعد أن كان حيا ، ويطل : يهدر ولا يضمن.

(٣) ولا استهل : ولا صاح عند الولادة ليعرف به أنه مات بعد أن كان حيا ، ويطل : يهدر ولا يضمن.

(٥) صحيح مسلم ـ للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري ، كتاب القسامة ـ باب (دية الجنين) .. إلخ ٣ / ١٣١٠ حديث رقم ١٦٨١.

(٦) قضايا قرآنية ص ٤٢ ـ ٤٦.

٣٩٦

المبينة لكذب أولئك ويذلهم ويخزيهم ويفعل ذلك بمن اتبعهم ، كما قد وقع في هؤلاء وهؤلاء ، وقد دل القرآن على الاستدلال بهذا في غير موضع) اه (١).

فالكاذب المدعي النبوة رجل شرير فاجر ، شره المطامع ، دنيء المطالب ، فالكاهن والساحر والمنجم نفوسهم وضيعة مريضة شريرة خبيثة. ونفوسهم تكون مأوى للشياطين فلا ينتج عن هذا الاتصال إلا كل شر وخبث ومكر ووقيعة بين الناس ، لم يحمله على الدعوة إلا نفسه الخبيثة وأغراضه الخسيسة ، لذلك فإنه إذا تظاهر في البداية بالتدين والصلاح للتغرير بالبعض فإنه لا يطيق في البقاء عليه صبرا .. ولا يلبث أن يفتضح أمره وتظهر حقيقته لأعين الملأ. قال زهير بن أبي سلمى :

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم 

(٢) لذا سرعان ما افتضح للناس أمر مسيلمة الكذاب ، والأسود العنسي وغيرهما (٣).

أما القلوب الطاهرة النظيفة كقلوب الأنبياء فلا تكون مأوى إلا للنور الإلهي وحكمته ، فلا يخرج منها إلا كل طهر ونبل وحكمة ، وأغراضه من دعوته نبيلة.

أما النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في الصلاح والتقى والخيرية ثابت ومؤيد من الله بالدلالة على صدقه بمعجزاته وهو خير أهل زمانه بلا منازع في كل أحواله.

لذا فالمعجزات عامة ، والقرآن الكريم خاصة ليست من قبيل السحر والشعوذة والتنجيم حتى لو كان هؤلاء السحرة والكهنة والمنجمون يأتون

__________________

(١) انظر كتاب بينات المعجزة الخالدة د / حسن عتر ـ دار النصر سوريا ط ١ ، ١٣٩٥ ه‍ / ١٩٧٥ م. ص ٣٩ ـ ٤٧.

(٢) شرح المعلقات السبع ـ للزوزني ص ١٥٩ ـ مكتبة المعارف ـ بيروت.

(٣) بينات المعجزة الكبرى ـ حسن عتر ص ٣٩ ـ ٤٧.

٣٩٧

بالعجائب والغرائب لأن أفعالهم لها قواعد معروفة ، وفنونها تدرس ، وفيها كتب مؤلفة يمكن لأي إنسان أن يدرسها ويبرع فيها كما برع غيره وأكثر. أما الوحي والنبوات فهبة من الله تعالى ، واصطفاء لأهلها ، فالفرق بين وواضح بين معجزة موسى ـ عليه‌السلام ـ وبين ما أتى به سحرة فرعون فالوحي حقيقة لا خيال ، وصدق لا كذب ، ولا يحصل عليه حريص وإلا لنالها أمية بن أبي الصلت الذي ترهب ولبس المسوح لينال شرف النبوة ولكنه لم ينلها ، ولم يحصل عليها وذلك لأنها فضل من الله تعالى يؤتيه من يشاء (١).

الشبهة السادسة :

[زعم كثير من المستشرقين والمبشرين أمثال «الويز سبرنجر» و «جوستاف فايل» وغيرهم أن الحالة التي كانت تصيب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حالة صرع يغيب فيها عن الناس وعما حوله ويظل ملقى على إثرها بين الجبال لمدة طويلة ، يسمع له على إثرها غطيط كغطيط النائم ، ويتصبب عرقه ، ويثقل جسمه.

وبعضهم اعتبرها حالة هستيرية ، وتهيجا عصبيا ، يظهر عليه أثرها في مزاجه العصبي القلق ، ونفسه كثيرة العواصف بشكل غامض ، حتى كان يصل به الأمر أن لا يفرق بين تعاقب الليل والنهار ، وقد هزل على إثرها جسمه ، وشحب لونه ، وخارت قواه](٢).

الجواب :

هذه المزاعم والمفتريات ليس لها سند من الواقع التاريخي فرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عاش ومات وهو بكامل صحته وعافيته ولم يظهر عليه أي عارض نفسي أو عصبي على ما يزعمون.

__________________

(١) انظر كتاب الوحي والقرآن الكريم ، د / محمد حسين الذهبي ص ٢٨ بتصرف.

(٢) انظر مقدمة القرآن ـ مونتجمري ، واط ص ١٧ ـ ١٨ ، ومقدمة القرآن ل بل ص ٢٩ ـ ٣٠ ، وكتاب العقل المسلم ص ٤١ ، كتاب حياة محمد هيكل ، ص ٤٥.

٣٩٨

لذا كان عاقلا ذكيا فطنا ، يمتاز بسرعة البديهة ، وحصافة الرأي وسداد التفكير ، واستقرار النفس ، قويا في جسمه وذاكرته ، سليما في كل أعضائه. ويشهد لذلك جهاده الطويل ، وسياسته الحكيمة ، وتخطيطاته الحربية الناجحة ، وتنظيماته الاجتماعية الكاملة ، وكمال الدين الذي دعا له.

لذا نفى الله سبحانه عنه صفة الجنون لأنها تناقض هدي النبوة وتخل بشرف الرسالة. قال سبحانه : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ)(١) ويأبى الله إلا أن يظهر الحق حتى على ألسنة أعدائه.

فهذا أحد المستشرقين وهو «أميل درمنغم» يصف هذا النبي العظيم : [وقد غفل المشتغلون بأمور النفس الحضريون الذين افترضوا وجوده من الصرع والاستيحاء والخيال المتقد ، عن حياة الخيام في الصحراء ، وعما يجب أن يبديه الرجل فيها من الحذق والدهاء ليبقى زعيم عصبة من الأعراب ، وحياة محمد كانت منتظمة موزونة قبل بعثته ، وما انفكت تكون كذلك بعدها إلا في حالات الوحي].

قال «أرميا» : [انسحق قلبي في وسطي ، ارتخت كل عظامي ، صرت كإنسان سكران ، ومثل رجل غلبته الخمر من أجل كلام الرب ومن أجل كلام قدسه] .. ولم تنشأ رؤى محمد ووحيه من مرض فيه ، بل كانت تبدو عليه علائم المرض بسبب الرؤى والوحي ، وهنالك ظواهر مشتركة بين مريض الأعصاب أو المهوس وبين الموحى إليه الصادق ، فالأول منفعل غير فاعل. والآخر مبدع فاعل ، وهذا إلى أن من الجائز أن يقال : إن البنية المريضة قليلا تساعد على التصوف ويزيدها التصوف مرضا.

والحق أن محمدا كان مبرأ من مثل هذه الأمراض على الدوام ، فقد كان تام الصحة إلى أن بلغ سن الكمال ، ولم تبد العوارض عليه بعد هذه السن إلا

__________________

(١) سورة التكوير : ٢٢.

٣٩٩

عند تقبل الوحي. وأنت إذا ما استثنيت المرض الذي استولى عليه في الستين من عمره ، رأيته لم يصب بغير وجع الرأس مرتين أو ثلاث بسبب أسفاره الطويلة تحت وهج الشمس ، ذلك الوجع الذي عولج بوضع المحاجم على رأسه .. وكان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذا نزل عليه الوحي يتحدر جبينه عرقا في البرد كأنه الجمان ، (١) وكان يحمر الوجه وهو يغط كما يغط البكر (٢) وكان إذا ما خرج من نوبة الوحي يتلو ما أوحي إليه والآيات ، فكان بعض المسلمين يحفظونه عن ظهر قلب أو يكتبونه كما يمليه عليهم ..](٣).

ومع تحفظنا على بعض ما ورد في كلامه فلا نحسبه كتبه من دافع الحب للإسلام وأهله. بل هو لا يقل عن غيره من المستشرقين تعصبا ضد الإسلام ونبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، فإن كتابه هذا مليء بالغمزات المسمومة والوخزات المخدرة ، ولكنه لم يستطع أن يخفي مثل هذه الحقيقة الواضحة.

كما أن التفرقة بين تخبطات المجانين والصرعى ، وبين هزات الانتشاء الروحي ، والإشراق النفسي ليس بالأمر العسير الذي يحتاج إلى علم غزير ، وإلى دراسات عميقة .. إذ أن شقة الخلاف بين الحالين بعيدة ومدى التفاوت بينهما طويل ممتد ، وبأدنى نظر يستطيع المرء أن يعرف الحق من الباطل ، والسليم من السقيم ، فهذا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما نظر لابن صياد عرف أنه يهودي دعي كاذب ، قد ركبته جنة ، فجعل يخبط ويخرف فتند منه بعض كلمات تبرق فيها بوارق يحسبها كثير من الناس من متنزلات الغيب وما هي في حقيقتها إلا لمعات الخبل والجنون ، وكم للخبل والجنون من لمعات .. ولكنها أشبه بلمعان السراب ، يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا (٤).

__________________

(١) الجمان : اللؤلؤ.

(٢) البكر : الفتى من الإبل.

(٣) انظر حياة محمد ـ أميل درمنغم ص ٢٤٥ ـ ٢٤٧.

(٤) كتاب النبي محمد ـ عبد الكريم الخطيب ص ١٤٨ (بتصرف).

٤٠٠

وهذه الفرية ترد بما يلي :

١ ـ كما ذكرت سابقا أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يتلقى الوحي في أكثر من حالة ولكنه لم يكن يظهر عليه أي مظهر من مظاهر الاضطراب النفسي أو القلق ، وقد جاء وصف حالات الوحي في أكثر من حديث منها حديث الحارث بن هشام ـ رضي الله عنه ـ عند ما سأل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن كيفية إتيان الوحي إليه.

٢ ـ الثابت علميا أن المصروع يتعطل تفكيره ، وإدراكه تعطلا تاما ، فلا يدري أثناء نوبته عما يدور حوله ، ولا ما يجيش في نفسه ، ويغيب عن صوابه. وتعتريه تشنجات تتوقف فيها حركة الشعور عنده ، ويصبح المريض بلا إحساس وأبرز سمة عنده تكون النسيان ولكن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يكن يظهر عليه شيء من ذلك. فكان يبقى في تمام وعيه قبل وخلال وبعد حالة الوحي فكان يفصم عنه وقد وعي كل ما قاله له جبريل ـ عليه‌السلام ـ من آيات بينات ، وتشريعات محكمات ، وعظات بليغات ، وأخلاق عظيمة ، وكلام بلغ الغاية القصوى في الفصاحة والبلاغة والإعجاز حتى طأطأ لإعجازه أقدر الناس فصاحة وبلاغة فرادا أو مجتمعين وفي كل الأزمان.

٣ ـ وسائل الطب الحديث ، والأجهزة المتقدمة في التشخيص والعلاج ، أثبت هذا الطب أن نوبات الصرع ناتجة عن تغيرات فسيولوجية عضوية في المخ. حيث أمكن تسجيل تغيرات كهربائية في المخ أثناء النوبات الصرعية مهما كان مظهرها الخارجي. كما أثبت الطب الحديث أن هناك مظاهر عديدة ومختلفة لنوبات الصرع وذلك تبعا لمراكز المخ التي تبدأ فيها التغيرات الكهربائية ، وتبعا لطريقة انتشارها وسرعته.

وأهم نوبات الصرع ، النوبات الصرعية النفسية.

وفي هذه الحالة من نوبات الصرع فإنه تمر بذهن المريض ذكريات قديمة ، وأحلام مرئية أو سمعية أو الاثنان معا ، وتسمى «بالهلاوس» وهذه الذكريات

٤٠١

يكون قد عاشها المريض نفسه ثم احتفظ بها مخه في ثناياه ، استدعتها للخروج من مكانها الحالة الصرعية التي انتابته. وقد أمكن طبيا إجراء عملية التنبيه لها بواسطة تيار كهربائي صناعي سلط على جزء خاص في المخ فشعر المريض بنفس «الهلاوس» التي تنتابه في أثناء نوبة الصرع ، وبتطبيق ما قرره الطب الحديث في حقائق الصرع على ما كان يعتري النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نجده يردد آيات لم يسمعها من قبل في حياته أخبره بها الله جل وعلا. ولما كانت هذه الأحاديث والآيات والأحوال لم تمر به ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من قبل فهي إذا لم تختزن بالتالي في مخه لتثيرها وتخرجها نوبات صرعية فيتذكرها وينطق بها.

فيظهر جليا أن ما كان يعتري رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هي حالة نفسية وجسدية لتلقي وحي الله سبحانه فبالتالي فهناك فرق شاسع بين الحالتين : حالة الصرع التي تنتاب المصروعين ، وحالة الوحي التي تعتري أنبياء الله ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ ولا شك أن الطعن في الوحي الذي نزل على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ طعن في كل ما نزل على أنبياء الله من قبل ، وهذا لا يكون من مؤمن بالله وأنبيائه ، ولا يكون إلا من ملحد لا ديني أحيل بين قلبه وبين الإيمان. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (١).

٤ ـ يرد فريتهم أن الوحي أثر لمرض الهستريا الذي هو كما بينه كل من الأساتذة «كريكيه» و «الأندوز» و «شاركو» أنه مرض عصبي عضال ، وهو وراثي أكثر أصابته في النساء ، ومن أعراضه شذوذ في الخلق ، وضيق في التنفس إلى حد الاختناق ، ويظهر عليه ضيق في الصدر ، واضطراب في الهضم ، وقد تصحب هذه الأعراض كذلك بحركة واضطراب في اليدين والرجلين إلى حد الشلل في بعض الأعضاء ، فإذا تابع المرض تقدمه جاء دور التشنج فيسبقه بكاء وعويل ، وكرب عظيم وهذيان ، ينتهي إلى حد الإغماء ، فإذا تجاوز هذه المرحلة فإن المريض يرى أشباحا تهدده وتسخر منه ، وأعداء تحاربه ويسمع أصواتا لا

__________________

(١) انظر المدخل لدراسة القرآن الكريم ، ص ١٠٣ ـ ١٠٨ ، نقلا عن مجلة منبر الإسلام عدد ٩ لسنة ١٩ رمضان ١٣٨١ ه‍ فبراير ١٩٦٤ م (بتصرف).

٤٠٢

وجود لها في الحس والواقع.

وفي هذا الدور يقع المريض بحركات مضطربة ، وقفز من مكان لمكان على صورة تلقي الذعر في قلب كل من يراه (١).

هذا الوصف لأعراض هذا المرض لم يكن يظهر منه شيء على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الذي كان يتمتع بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء بصحة جيدة وعقل رصين ، ونفسية هادئة ، وخلق كريم وحركات متزنة ، ويشهد لصحته وقوته صرعه «لركانة بن عبد يزيد» الذي كان أقوى عصره (٢) ويشهد لرجاحة عقله وسلامته ، فصله في خصومة قريش في شرف وضع الحجر الأسود في مكانه (٣). والطب لم يخرج لنا مريضا واحدا مصابا بمثل هذا المرض وقال كلاما معقولا وآراء راجحة.

قال المستشرق الفرنسي «ماسينيون» : [إن محمدا كان على تمام الاعتدال في مزاجه].

وهذا يناقض ما قاله «كارليل» : [إن محمدا كان حاد الطبع ناري المزاج].

وقال «ماكس مايرهوف» في كتابه (العالم الإسلامي) :

[لقد أراد بعضهم أن يرى في محمد رجلا مصابا بمرض عصبي ولكن تاريخ حياته من أوله إلى آخره ليس فيه شيء يدل على هذا. كما أن ما جاء به فيما بعد من أمور التشريع والإدارة يناقض هذا القول] ويقول «بلاتونوف» في (تاريخ العالم) : [وغاية ما نقدر أن نجزم به هو تبرئة محمد من الكذب والمرض](٤).

__________________

(١) انظر القرآن والمستشرقون ـ رابح جمعة ـ ص ٢٧ ومناهل العرفان للزرقاني ١ / ٧٤.

(٢) انظر الاستيعاب في تمييز الأصحاب ١ / ٥١٥ ـ ٥١٦.

(٣) انظر السيرة النبوية للذهبي ـ ص ٣٢ ـ ٣٣ طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت ط ١ ـ ١٤٠١ ه‍ / ١٩٨١ م.

(٤) القرآن والمستشرقون ص ٢٦ ـ ٢٧.

٤٠٣

٥ ـ أثبت الطب الحديث أن المصاب بالصرع يشعر بآلام حادة في كافة أعضاء جسمه ، ويبقى حزينا كاسف البال بسببها ، وكثيرا ما يحاول مرضى الصرع الانتحار من قسوة ما يعانون من آلام في النوبات ، فلو كان ما يعتري النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عند حالة الوحي صرعا ، لأسف لذلك وحزن لوقوعه ، ولسعد بانقطاع الوحي عنه ، ولكن الأمر كان على خلاف ذلك لقد فتر الوحي عن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مدة من الزمن فحزن حزنا شديدا ، وكان يذهب إلى غار حراء ، وقمم الجبال عسى أن يعثر على الملك الذي جاءه بحراء أول مرة حرصا عليه ، وأسفا على قليه وهجرانه له.

قال الزهري : عن عروة عن عائشة : «وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حزنا شديدا وغدا مرارا كي يتردى من شواهق الجبال وكلما أوفى بذروة ليلقي نفسه تبدى له جبريل فقال : يا محمد إنك رسول الله حقا ، فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال مثل ذلك» (١).

الخلاصة :

يظهر لنا من خلال هذه المناقشة والأقوال أن ظاهرة الوحي ربانية المنشأ ، ملائكية النقل ، بشرية التبليغ ، فرسولنا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مبلغ فقط ، لذا كان يحرص عليها كنعمة مهداة ، له من الله سبحانه وتعالى بقوله : «اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك ، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» (٢).

ولم يكن نتيجة ترو فكري. يدل على ذلك حرصه على حفظه قال تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)(٣).

__________________

(١) انظر السيرة النبوية للإمام الذهبي ـ ص ٦٤.

(٢) انظر مسند الإمام أحمد ٢ / ١٦٨.

(٣) سورة القيامة : ١٦.

٤٠٤

ويدل أن القرآن الكريم ليس منه تصدير كثير من الآيات بلفظة «قل» والعتاب الشديد على بعض تصرفاته قال تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ..) الآية (١).

وهدده إن غيّر فيه شيئا بقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ)(٢).

ويشهد لانفصال ظاهرة الوحي عن شخصه الفرق بين أسلوب وخصائص القرآن الكريم والأحاديث النبوية والقدسية (٣).

فالقرآن الكريم له مزايا وخصائص يتفرد بها عن غيره منها :

١ ـ القرآن الكريم معجزة باقية على مر الدهور ، محفوظة من التغيير والتبديل ، فتواتر اللفظ في جميع الكلمات والحروف والأسلوب.

٢ ـ يحرم روايته بالمعنى.

٣ ـ يحرم مسه لمحدث ويحرم تلاوته من جنب.

٤ ـ تعينه في الصلاة.

٥ ـ تسميته قرآنا.

٦ ـ التعبد بقراءته فقراءة كل حرف منه بعشر حسنات.

٧ ـ تسمية الجملة منه آية. ومقدار مخصوص من الآيات سورة.

٨ ـ القرآن الكريم لفظه ومعناه من عند الله عزوجل قال تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(٤).

__________________

(١) سورة التوبة : ٤٣.

(٢) سورة الحاقة : ٤٤ وما بعدها.

(٣) انظر مبحث الإعجاز ـ القضية الخامسة.

(٤) سورة النجم : ٣.

٤٠٥

أما الحديث القدسي :

فهو ما كان لفظه من عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومعناه من عند الله تبارك وتعالى ، بالإلهام أو المنام ، وقد يكون بوحي جلي ، أي ينزل به الملك من عند الله تعالى بلفظه ، في حين أن الأحاديث القدسية لا تنحصر في كيفية من كيفيات الوحي. بل يجوز أن ينزل بأي كيفية من كيفياته كرؤيا النوم ، والإلقاء في الروع ، وعلى لسان الملك. ويجوز روايته بالمعنى لأن لفظه من الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا يجزئ في الصلاة ، بل يبطلها.

أما الحديث النبوي الشريف :

فهو قول رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو فعله أو إقراره ، وهو لفظا ومعنى من الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فهو لا يقول إلا حقا وباجتهاده ولكنه لا يقر على اجتهاد خطأ. فهو إذن قد يكون بوحي أو باجتهاد منه (١) قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

«إلا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» (٢).

فالعاقل من يمسك عن كنه الوحي لأن ذلك لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى والتفكير في ذلك سيوصل الإنسان إلى ما وصل إليه الجاهليون من قبل لما أعياهم التفريق بين الذات الملقية والذات المتلقية. فردوا مصدر القرآن لرؤى النائم أو شطحات المجنون ، أو افتراءات المختلق ، وتخرصات الكذوب.

ثم تحداهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن أو ببعضه ، فعجزوا وسلموا عجزا وضعفا مع بذلهم كامل الجهد. وكلما تقدم العصر وأهله سلّم العلم وأهله بحقائقه لهذا القرآن العظيم قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ)(٣).

__________________

(١) انظر : أصول الحديث د / محمد عجاج ص ٢٩ ـ ٣٠.

(٢) انظر سنن ابن ماجة الجزء (٢) حديث ٢٤٤٢.

(٣) سورة فصلت : ٥٣.

٤٠٦

لذا كان لزاما على كل صاحب عقل وصاحب علم أن يدرك أن الوحي حقيقة لا خيال ، صدق لا كذب ، تنزيل من حكيم حميد.

والله تعالى أعلم ..

المبحث الثالث :

موثوقية النص القرآني وشبههم حولها :

ما زال أعداء الله منذ القدم يوجهون للقرآن الكريم سهامهم المسمومة من طعن وتشكيك وافتراءات محضة محاولين إضعاف تمكن هذا القرآن من نفوس أهله ليسهل السيطرة عليهم وعلى خيرات بلادهم.

ومعظم ما استند إليه أعداء الله روايات إما واهية أو مختلقة اشتملت عليها بعض الكتب الإسلامية أو شبه أوردها بعض الكاتبين في علوم القرآن وبعضها صحيحة ولكن لها محامل صحيحة ، ومخارج مقبولة. فالتقط المبشرون والمستشرقون هذه الروايات وزادوا عليها من خيالاتهم وأوهامهم وسموم حقدهم محاولين بذلك إدخال الريب في نفوس المسلمين.

والإحالة بين قومهم وبين هذا الدين العظيم. ومن بين الشبه التي أثاروها شبه حول موضوع النص القرآني من حيث كونه ثقة أم يمكن الشك في سلامته بزيادة أو نقصان.

ومن بين من أثار هذه الشبهة (موثوقية النص القرآني) أصحاب دائرة المعارف الإسلامية و «تيودور نولديكه» و «اجنتس جولد تسيهر» و «ريجي بلاشير» و «ريتشارد بل» وغيرهم.

وقد حاول أن يرسخ هذه الشبهة بطريق التساؤل «بل» في مقدمته حيث قال : [لو أن شخصا سأل ما الضمان القائم على أن القرآن الذي تم جمعه في عهد عثمان تسجيل صحيح للتنزيلات كما تم تلقيها وإعلانها بواسطة محمد ..](١).

__________________

(١) مقدمة القرآن ـ بل ص ٥٠.

٤٠٧

وقد صرح بهذه الشبهة باضطراب وعدم سلامته «جولد تسيهر» في مقدمة كتابه مذاهب التفسير الإسلامي حيث قال :

[فلا يوجد كتاب تشريعي اعترفت به طائفة دينية اعترافا عقديا على أنه نص منزل أو موحى به ، يقدم نصه في أقدم عصور تداوله مثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات ، كما نجد في نص القرآن](١).

وقد رد هؤلاء أسباب هذا الاختلاف والاضطراب لعدة أمور منها :

١ ـ الاعتماد في حفظ القرآن على صدور الصحابة.

٢ ـ الكتابة بوسائل بدائية يصعب المحافظة عليها.

٣ ـ نسيان شيء من القرآن استنادا للنصوص العامة من القرآن والسنة التي ذكرت هذا الأمر.

٤ ـ وجود منسوخ التلاوة.

٥ ـ اختلاف مصاحف الصحابة في عدد السور والآيات ووجوه القراءات والاختلاف في الرسم.

٦ ـ النقصان والزيادة في القرآن الكريم للمصلحة.

وسأتناول هذه الشبهة بالعرض والتفنيد إلا ما خصص له مبحث مستقبل كشبههم على الرسم والكتابة والقراءة فسأتركه لمكانه.

الشبهة الأولى :

قالوا : إن القرآن الكريم قد زيد فيه ما ليس منه بدليل ما ورد أن عبد الله ابن مسعود كان لا يكتب الفاتحة والمعوذتين في مصحفه.

وفي رواية كان يحك المعوذتين من مصحفه ويقول إنما أمر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

__________________

(١) مذاهب التفسير الإسلامي ـ طبعة دار اقرأ ـ بيروت ط ٢ ، ١٤٠٣ ه‍ / ١٩٨٣ م ص ٤.

٤٠٨

أن يتعوذ بهما ـ ويقول إنهما ليست من كتاب الله (١).

الجواب :

هذه الرواية مما اختلف في ثبوتها عن ابن مسعود فممن أنكر ثبوتها عنه الإمام الباقلاني في كتابه نكت الانتصار (٢) والإمام النووي أثناء شرحه لصحيح مسلم ، وابن حزم في كتابه القدح المعلى تتميم المحلى (٣).

ولكن والحق يقال : إن هذه الرواية وهي إثبات كون المعوذتين قرآنا مما ثبت وصح نسبتها لابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فقد أثبتها عنه الإمام البخاري في صحيحه والإمام أحمد في مسنده. وأبو يعلي في مسنده وهم من هم علما ومعرفة بحديث الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهذه رواية البخاري كما في صحيحه.

روى البخاري بسنده إلى زر بن حبيش قال : سألت أبي بن كعب قلت : أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا فقال أبي : سألت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال لي : قيل لي فقلت : قال : فنحن نقول كما قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٤) ونص رواية الإمام أحمد في مسنده بسنده إلى زر بن حبيش قال : قلت لأبي بن كعب : إن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه فقال : «أشهد أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخبرني أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ قال له : قل أعوذ برب الفلق» (٥).

وعنه في رواية عبد الرحمن بن يزيد قال : كان عبد الله يحك المعوذتين من مصاحفه ويقول : إنهما ليستا من كتاب الله تبارك وتعالى.

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن ـ واط ص ٤٦.

(٢) نكت الانتصار ص ٧٥.

(٣) المدخل لدراسة القرآن ص ٢٨٨.

(٤) انظر صحيح البخاري ٦ / ٩٦ كتاب تفسير القرآن الكريم.

(٥) انظر مسند الإمام أحمد ٥ / ١٢٩ ـ ١٣٠.

٤٠٩

لكن مع صحة هذه الرواية لعبد الله بن مسعود فإنه لا ينقص ذلك من فضله ولا من علمه بكتاب الله شيئا وهو القائل : «والله لقد أخذت من في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بضعا وسبعين سورة» وقل أن يحصل هذا لكثير من الصحابة كما أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال في حقه «.. خذوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ وأبي بن كعب» (١) ولكن هذه الروايات مع ثبوتها وصحتها لكنها توجه وتحمل على محامل ووجوه صحيحة بإذن الله تعالى.

١ ـ إن عدم كتابة ابن مسعود للمعوذتين وسورة الفاتحة لا يستلزم إنكار كونهما من القرآن الكريم لأن ابن مسعود كان ينكر إثباتها في المصحف فقط لأنه كان لا يرى إثبات شيء من القرآن إلا إن كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أذن فيه ، وكأنه لم يبلغه الإذن في ذلك فقال ما قال (٢).

٢ ـ ويحتمل أنه ما كان يكتبها اعتمادا على حفظ الناس وشهرتها وأنها أصبحت مما لا يمكن أن ينسى ، لأن كتابة القرآن خوفا من أن ينقص منه شيء أو يزاد.

٣ ـ وهناك احتمال قوي وهو ما ذكره أحمد في مسنده أنه كان يظن أنهما عوذة ورقية لأنه كان يرى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعوذ بهما الحسن والحسين فظن أنهما كقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة .. وكسائر الرقى» (٣).

٤ ـ يحتمل أنه قال ذلك في بادئ الأمر لعدم سماعه لها من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولكن لما بلغه قول الجماعة وتأكدت قرآنيتها عنده رجع لهذه السور الثلاث وقال بقول الجماعة وأقرأها لتلاميذه وهذا ما أرجحه ، وذلك لما بلغنا من أسانيد القراء الصحيحة لابن مسعود بقراءتهم القرآن بطريقه ومن ضمن ما

__________________

(١) انظر فتح الباري ٩ / ٤٦.

(٢) الفتح الرباني ـ للبنا ١٨ / ٣٥١ وما بعدها.

(٣) تأويل مشكل القرآن الكريم ص ٤٣ ـ ٤٤.

٤١٠

تلقوه عنه المعوذات الثلاثة الفاتحة والفلق والناس. فممن روى القراءة عنه كل من :

١ ـ عاصم بن أبي النجود عنه حفص بن سليمان ، وعنه أبو بكر بن عياش عن زر بن حبيش عن ابن مسعود عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومن ضمن ما تلقوه عنه ، المعوذتان والفاتحة (١).

٢ ـ حمزة بن حبيب الزيات أحد القراء السبعة الذي أخذ القراءة عرضا عن سليمان الأعمش الذي كان يجود حرف ابن مسعود والذي أخذه عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفيه المعوذتان والفاتحة (٢).

٣ ـ أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي الذي تلقى قراءة القرآن عن حمزة بسنده إلى ابن مسعود عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفيه المعوذتان والفاتحة (٣).

٤ ـ أبو محمد خلف بن هشام أبو محمد الأسدي البزار البغدادي أحد القراء العشرة والروايات عن سليم بن حمزة الذي تنتهي قراءته إلى ابن مسعود إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفيه المعوذتان والفاتحة (٤).

هكذا نرى أن الراجح إثبات ابن مسعود للمعوذتين والفاتحة ورجوعه لها والقول بقرآنيتها بعد أن كان لا يثبتها في مصحفه مما يرد ما نسب إليه من هذا الأمر.

ويشهد لصحة ما قلناه أن تأليف السور الثلاث من نفس تأليف القرآن العظيم ومن نفس نظمه البديع الذي أعجز البلغاء ودان له الفصحاء واعترف له بالعظمة والجلال الإنس والجان كما قد أثبت قرآنيتهن برسم الإمام عثمان وانعقاد الإجماع على ذلك فتم بذلك العلم اليقين ولا يضرنا قول من قال من هؤلاء

__________________

(١) غاية النهاية في طبقات القراء ١ / ٣٤٧ ـ ٣٤٨.

(٢) نفس المرجع ١ / ٢٦١ ـ ٢٦٢.

(٣) نفس المرجع ١ / ٥٣٥ ـ ٥٤٠.

(٤) نفس المرجع ١ / ٢٧٣.

٤١١

المنكرين الملحدين.

الشبهة الثانية :

زعموا أن القرآن نقص منه بعض السور مستدلين على ذلك بكتابة بعض الصحابة كأبي بن كعب بعض السور ولم تكتب في القرآن الحالي ويقصدون بذلك سورتي الخلع والحفد كما يحلو لهم تسميتهما وهو ما يطلق عليه عندنا دعاء القنوت : «اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك ..» (١) أو غيرهما مما تلقفوه من أقوال الشيعة المردودة في حق القرآن الكريم.

الجواب :

هذه القضية وسابقتها من القضايا الهامة لتعلقها بجوهر القرآن وكماله وتمام نصه. والمستشرقون بنزوات خيالهم وجنوح فكرهم وما جبلت عليه نفوسهم يطيب لهم أن يتهموا القرآن الكريم هذا الجوهر المصون ، فيدعون أن النص الموجود في مصاحف المسلمين نص غير كامل ويزعمون ـ للبرهنة على ذلك ـ بمثل هذه الأدلة غير الصحيحة ، وبما نسبوه للشيعة من أقوال أن القرآن دخله النقص والزيادة. ولكن لحسن الحظ فقد قيض الله لهذا الإسلام من ينفي عنه زيغ المبطلين وتأويل الجاهلين وزيف المنحرفين وأهواء الضالين. قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» (٢).

وخلو القرآن من الزيادة والنقصان والتحريف أمر لا يشك فيه مسلم سواء كان متدينا أو من غير المتدينين فالكل منهم يعترفون أن القرآن الكريم هو الوثيقة الربانية التي حفظت من التغيير والتبديل والتي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها تنزيل من حكيم حميد»(٣).

__________________

(١) انظر مذاهب التفسير الإسلامي ـ جولد تسيهر ص ٢.

(٢) انظر التمهيد لابن عبد البر ج ١ / ٥٩ ، طبعة المطبعة الملكية المغربية.

(٣) انظر قضايا قرآنية د / فضل عباس ، دار البشير عمان ص ٢١٦ وما بعدها.

٤١٢

قال الإمام الطبري : (أما الزيادة في القرآن فمجمع على بطلانها وأما النقصان فهو أشد استحالة) (١).

١ ـ فالناظر لما زعموه من كون دعاء القنوت قرآنا أمر غير مسلم به ترده حقائق العلم الثابتة والروايات الصحيحة المنسوبة إلى أبي بن كعب كما ذكر ذلك عنه أبو الحسن الأشعري ـ رحمه‌الله ـ حيث قال : (قد رأيت أنا مصحف أنس بالبصرة عند قوم من ولده ، فوجدته مساويا لمصحف الجماعة ، وكان ولد أنس يروي أنه خط أنس وإملاء أبي) (٢).

وكتابة أبي لهذا الدعاء لو صحت لا يدل على قرآنيتها لأن مصاحف الصحابة لم تكن قاصرة على المتواتر من القرآن فقط بل كان بعضها مشتملا على الآحادي منه ، وعلى منسوخ التلاوة ، وعلى بعض التفسيرات والتأويلات والأدعية ، وعلى بعض المأثور ومن ذلك هذا الدعاء الذي يقنت به بعض الأئمة في الوتر فلعله إذا أثبته على أنه دعاء لا استغناء عنه.

٢ ـ كما أن الناظر لدعاء القنوت يجده مباينا لنظم سائر القرآن ولا يعدو أن يكون من معدن أقوال الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

٣ ـ والمعروف أن أبيا كان من أقرأ علماء الصحابة وقد ذكره الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من ضمن الأربعة الذين حض على أخذ القرآن عنهم وذلك بقوله : «خذوا القرآن من أربعة .. وأبي بن كعب».

لذا لا يمكن لمن كانت هذه منزلته ومكانته العلمية ومعرفته الكبيرة بكتاب الله عزوجل أن يجهل كون دعاء القنوت ليس قرآنا. ولكني أريد أن أبين صفة كان أبي يمتاز بها أنه كان إذا سمع شيئا من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا يرجع عنه حتى لو أخبره غيره أن تلاوته نسخت. قال عبد الله بن عباس ـ رضي الله

__________________

(١) انظر شبهات مزعومة حول القرآن الكريم ـ القمحاوي ص ١٥٠.

(٢) نكت الأنصار لنقل القرآن الباقلاني ص ٨١.

٤١٣

عنه ـ : قال عمر : أبي أقرؤنا ، وإنا لندع من لحن أبي وأبي يقول : أخذته من في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلا أتركه لشيء قال الله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)(١).

هذا كله يؤكد عدم قرآنية دعاء القنوت وعدم ثبوته عن أبي بن كعب.

ويزيد هذا وضوحا وتأكيدا ما بلغنا من القراء الذين أخذوا القرآن بسندهم إليه. رضي الله عنه ولم يكن من بين ما تلقوه عنه هاتان السورتان المزعومتان.

ومن هؤلاء الأئمة :

١ ـ نافع بن أبي نعيم المدني من طريق الأعرج عن أبي هريرة عن أبي ابن كعب عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٢) ولم يكن فيما تلقاه هاتان السورتان.

٢ ـ عاصم بن أبي النجود الذي أخذها عن زر بن حبيش عن أبي عبد الرحمن السلمي والذي أخذها عن أبي بن كعب عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يكن منها هاتان السورتان (٣).

٣ ـ أبو الحسن علي بن حمزة الذي تلقى القراءة عن طريق إسماعيل ويعقوب ابني جعفر قراءة نافع والذي بدوره أخذ قراءة أبي بالسند السابق (٤).

٤ ـ خلاد أبو عيسى خالد الشيباني بالولاء الذي تلقى قراءة عاصم والتي سندها يتصل إلى أبي بن كعب بالسند السابق (٥).

فهؤلاء القراء كلهم وغيرهم قد تلقوا القراءة عن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ ولم يكن فيما تلقوه هاتان السورتان المزعومتان مما يدل على عدم ثبوت

__________________

(١) سورة البقرة : ١٠٦.

(٢) غاية النهاية في طبقات القراء ١ / ٣١.

(٣) غاية النهاية في طبقات القراء ١ / ٥٣٥ ـ ٥٤٠.

(٤) غاية النهاية في طبقات القراء ١ / ٥٣٥.

(٥) غاية النهاية في طبقات القراء ١ / ٢٧٤.

٤١٤

ذلك عنه. ويؤكد هذا أن القرآن الكريم قد انتشر واشتهر وثبت تدوينه وحددت سوره بمصحف عثمان القطعي ولم يكن هاتان السورتان المزعومتان فيه ، والثابت في حق هذا المصحف وأمثاله أنه قد حرق فقد روى محمد والطفيل ابنا أبي بن كعب أنهما قالا لوفد أصحاب عبد الله عند ما طلب مصحف أبيهما : إن عثمان قد قبضه منه) (١).

فهذا كله يؤيد كونه دعاء فحسب ويرد نسبة إثبات هذا الدعاء على أنه قرآن في مصحفه ـ رضي الله عنه ـ.

والله تعالى أعلم.

أما ما زعموه كذلك أن سورا بكاملها ناقصة من القرآن الكريم أو بعض الآيات القرآنية مستدلين على ذلك بما عند الشيعة من روايات ساقطة وحجج واهية زاعمين أن الدافع من وراء ذلك مصلحة بعض الصحابة فسأذكر بعض هذه الأمثلة التي ذكروها والرد عليها.

١ ـ ما نسب للإمام علي من حذفه آية المتعة.

٢ ـ حذف من القرآن ما يتعلق بفضائل آل البيت وولايتهم كحذف سورة الولاية التي كانت ٧ آيات. وكما فعل بسورة الأحزاب التي كانت لا تقل طولا عن سورة البقرة ـ ٢٨٦ آية.

٣ ـ حذف جزء من سورة «لم يكن» كان فيها أسماء سبعين رجلا من قريش.

٤ ـ الحذف من سورة النور التي كانت أكثر من مائة آية ، وسورة الحجر التي كانت تحوي ١٩٠ آية وسورة النورين التي كانت ٤١ آية.

٥ ـ مصحف فاطمة وعلي الخاص بهما.

__________________

(١) انظر حاشية كتاب تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص ٤٧ ، ونكت الأنصار لنقل القرآن ص ٨٠.

٤١٥

الجواب :

هذه الترهات والأقاويل تلقفها المستشرقون والمبشرون من بعض فرق الشيعة كالإثني عشرية ومن الغلاة منهم على وجه أخص أمثال الوري ميزا حسين الطبرسي صاحب كتاب (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) المطبوع في إيران سنة ١٢٨٩ ه‍ والذي جمع فيه مئات النصوص عن علماء الشيعة ومجتهديهم في مختلف العصور لإثبات دخول الزيادة والنقص للقرآن الكريم. وقد أثار هذا الكتاب ضجة كبرى لأنهم لا يريدون لكذبهم أن يفضح فألف كتابا آخر سماه (رد بعض الشبهات عن فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) (١).

والمفيد في كتابه (تحريف القرآن) والمجلسي في كتابه (تذكرة الأئمة) والقمي في تفسيره الذي خص فيه التحريف في آيات الولاية والكليني في كتابه (الأصول من الكافي) و (روضة الكافي) وأبو القاسم الكوفي على بن أحمد ابن موسى في كتابه (الاستغاثة) وغير هؤلاء كثير (٢).

فهؤلاء جميعا بشكل خاص والشيعة على وجه العموم إلا بعض الفرق كالزيدية يعتقدون أن القرآن الكامل الذي أنزله الله سبحانه كان أطول كثيرا من القرآن المتداول في أيدينا ، ومن قرآنهم أيضا.

وقد نقل هذا الأمر «جولد تسيهر» في كتابه (مذاهب التفسير الإسلامي) و «جارسان دي تاسي» و «مرزا كاظم بك» في (المجلة الآسيوية سنة ١٨٤٢ اللذان نشرا سورة من هذه السور المتداولة في دوائر الشيعة كما اعتنى بجمع هذه الزيادات الشيعية «كلير تسدال» باللغة الإنجليزية (٣).

__________________

(١) انظر الشيعة وتحريف القرآن ـ محمد مال الله ، ص ٥٧.

(٢) تعريف بمذهب الشيعة الإمامية ص ٨٣ ـ ٨٤.

(٣) مذاهب التفسير الإسلامي ص ٢٩٤.

٤١٦

والمعروف أن الشيعة بذلوا جهدهم لإثبات هذه المسألة في سبيل أن يجدوا لعقيدتهم الدينية والسياسية مستندا من القرآن الكريم. وهذه العقيدة تتمثل في رفض الشيعة خلافة أهل السنة ، وتقديس علي والأئمة ، ورجعة الإمام المهدي المحتجز الذي يعيش في الخفاء. ومن هذا المنطلق كان التحريف الشيعي للروايات والافتراءات التي بها محاولة إثبات النقص في كتاب رب العالمين.

وقد أنكر على الشيعة هذه الافتراءات أحد عقلائهم «الإمام الطبرسي» صاحب (كتاب مجمع البيان لعلوم القرآن) و «الشريف المرتضى».

قال الإمام الطبرسي : «أما الزيادة في القرآن فمجمع على بطلانها وأما النقصان فهو أشد استحالة. ثم قال : إن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام ، والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته ، وبلغت إلى حد لم يبلغه شيء في الوجود لأن القرآن معجزة النبوة ، ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حمايته الغاية القصوى حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من تفسيره وأحكامه وإعرابه وقراءاته ورسمه وضبطه وعدد آياته وعدد نقطه وحركاته فكيف يتخيل عاقل بعد تلك العناية الفائقة بالقرآن الكريم ، أن يحصل فيه نقص أو زيادة مع هذا الضبط الشديد» (١).

والذين ينسبون هذا الفعل للصحابة لا يعرفون مقدار حب الصحابة لهذا الكتاب العظيم الذي فاق حبه عندهم الأهل والولد.

لذا لا يعقل أن تتفق هذه الأمة التي أحبت هذا الكتاب وقدسته ، أن تتفق على مثل هذا العمل المفترى دون أن يقوم من ينكر ذلك ، مع أن الصدق والأمانة في الأداء والدقة في النقل كانت السمة البارزة لهم حتى إنهم اشترطوا لجمعه موافقة المحفوظ في الصدور لما هو عندهم مكتوب في السطور. بل إن

__________________

(١) انظر شبهات مزعومة حول القرآن الكريم ص ١٥٠ ـ ١٥١.

٤١٧

زيدا عند ما فرغ منه راجعه ثلاث مرات ثم راجعه أمير المؤمنين عثمان ـ رضي الله عنه ـ مرة رابعة فلما اطمأن قلبه له حمل الناس عليه. لذا لقد نال هذا الكتاب من العناية والضبط ما لم ينله كتاب آخر وأي مصلحة في إسقاط شيء من كلام الحكيم الخبير الذي لم يجعل لهم عليه سلطانا فأرجع حفظه له وحده وتكفل ذلك بنفسه قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١).

وإذا كان شعر النابغة أو شعر زهير بن أبي سلمى لا يستطيع أحد أن يزيد فيه شيئا أو ينقص منه شيئا لأن أمره سيفتضح فمن باب أولى هذا القرآن العظيم الأكثر اشتهارا.

فالدفاع عنه والمحافظة عليه مقدم على مثل هذه الأشعار. كما أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا يحتاطون لأحاديث الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلا يسمحون بالزيادة فيها أو الإنقاص منها والقرآن الكريم أولى منها بلا شك.

روي عن أبي سعيد الخدري قال : «كنت جالسا في مجلس من مجالس الأنصار ، فجاء أبو موسى فزعا فقالوا : ما أفزعك؟ قال : أمرني عمر أن آتيه فأتيته فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت فقال : ما منعك أن تأتينا فقلت : إني أتيت فسلمت على بابك ثلاثا فلم تردوا علي ، فرجعت. وقد قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع» (٢).

قال عمر : لتأتيني على هذا بالبينة ، فقال عمر لأبي موسى : إني لم أتهمك ولكنه الحديث عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفي رواية أخرى وذكر أن عمر قال لأبي موسى : أما إني لا أتهمك ، ولكنني أحببت أن أتثبت» (٣).

فإذا كان هذا حال الصحابة مع الحديث النبوي الشريف من التحقق

__________________

(١) سورة الحجر الآية ٩.

(٢) انظر صحيح البخاري ٧ / ١٣٠ كتاب الاستئذان باب ١٣ التسليم والاستئذان ثلاثا.

(٣) انظر تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه ، محمد طاهر الكردي ط ٢ ، ١٣٧٢ ه‍ ١٩٥٣ م ، ص ٦٣ وما بعدها.

٤١٨

والتثبت مع أنهم كلهم عدول أمناء أوفياء لا يجرءون أن يكذبوا على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا بزيادة ولا بنقصان لا لمصلحة خاصة لأحدهم ولا عامة كما يزعم الشيعة فكيف إذن لا يكونون أشد تحققا وتثبتا في كلام رب العالمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه من الحديث النبوي الشريف أو غيره.

قال المستشرق الأمريكي «ر. ف. بودلي» في كتابه (الرسول : حياة محمد) عن القرآن الكريم : [فبين أيدينا كتاب معاصر فريد في أصالته وفي سلامته لم يشك في صحته كما أنزل أي شك جدي ، وهذا الكتاب هو القرآن. وهو اليوم كما كان يوم كتب لأول مرة تحت إشراف محمد ، وعلى الرغم من أن الأفكار قد دونت في الرقاع وسعف النخل والعظام في لحظات غريبة ، فالسور والآيات الأصلية قد حفظت .. ثم يقول : وإن الحسنة الوحيدة في طريقة زيد أنها كانت أمينة فوق الشبهات فلم يفعل شيئا ليضيف فقرات ، أو يضع جمل ربط ، أو بحذف أو ينسخ تفاصيل تشين الإسلام ، لقد عمل بإخلاص لا يمكن تصوره حتى إنه لما انتهى من نشر القرآن ، كان الكتاب من عمل مؤلفه خالصا ومؤلفه فقط) ـ أي الله سبحانه وتعالى ـ.

ثم يقول : والمهم أن القرآن هو العمل الوحيد الذي عاش أكثر من اثني عشر قرنا دون أن يبدل فيه ، ولا يوجد شيء يمكن أن يقارن بهذا أدنى مقارنة ، لا في الديانة اليهودية ولا في الديانة المسيحية) (١).

والآن سأعرض لبعض هذه المزاعم للرد عليها.

المسألة الأولى :

ما نسبوه لعلي ـ رضي الله عنه ـ أنه أسقط آية المتعة .. إلخ فهو محض كذب وافتراء ولا أدري ما ذا يريد الطاعن بالمتعة فإن أراد نكاح المتعة فالآية التي يستدل بها بعض القائلين بإباحته موجودة في سورة النساء لم يحذفها علي كما زعموا

__________________

(١) تاريخ القرآن ـ الكردي ص ٦٨ ـ ٦٩.

٤١٩

وهي قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً)(١) ونكاح المتعة أحل في أول الإسلام للضرورة ثم حرم إلى قيام الساعة (٢).

وأما إذا قصدوا آية أخرى فعليهم البيان والبراهين.

والشيعة ليست حجة على القرآن وأهله لانحرافاتهم العقدية الخطيرة والتي منها نسبة النقص إلى كتاب الله سبحانه وتعالى مع أن التواتر قد قام والإجماع قد انعقد على أن الموجود بين دفتي المصحف كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير ولا تبديل.

المسألة الثانية :

ما زعموه أن القرآن الذي جاء به جبريل إلى محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان سبعة عشر ألف آية مع أن آياته ستة آلاف ومائتان وثلاث وستون آية. وما زعموه من رواية منسوبة لمحمد بن نصر أن سورة (لم يكن) كان فيها اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم. وما نسب لمحمد بن جهم الهلالي وغيره عن أبي عبد الله أن لفظ «أمة هي أربى من أمة» سقطت من سورة النحل على حد زعمهم. وما زعموه من سقوط سورة «الولاية» بتمامها. وما زعموه من سقوط أكثر سورة «الأحزاب» (٣).

هذه الترهات وأمثالها مما افتراه الشيعة لإثبات مذهبهم ومقصدهم المنحرف ، مع أنها روايات مكذوبة ينقضها العقل والتاريخ. وهي مجرد ادعاءات لم يقم عليها دليل ولا شبهة دليل ، ولو أن كل دعوة تقبل من غير دليل لما ثبتت حقيقة ، ولما توصل الناس إلى علم ومعرفة. وصدق من قال : [أصحاب الدعاوى أدعياء ما لم يقيموا عليها دليلا] فمثلا زعمهم أن سورة الأحزاب كانت توازي سورة البقرة طولا ومن ضمنها آية الرجم وأن الصحابة أسقطوها لوجود

__________________

(١) سورة النساء آية : ٢٤.

(٢) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص ٢٩٤ ـ ٢٩٥.

(٣) الشيعة والقرآن ـ إحسان إلهي ظهير ص ٣١.

٤٢٠

فضائل أهل البيت فيها ناسبين ذلك للصحابي الجليل أبي بن كعب. فالناظر إليه من أول وهلة يشم منه رائحة الكذب والافتراء حتى قال الإمام الباقلاني في ذلك : [هذا شيء لا يصح عن أبي ولو صح فمعناه أنها نسخت تلاوتها وأزيلت ، لأنه لم يقل فرطنا فيها ولا ضيعناها ، وكيف يصح أن يضيع أو يفرط وهو الذي أدخل في مصحفه القنوت الذي ليس هو قرآنا من شدة احتياطه وقوة اجتهاده (١) كما ذكر المستشرقون.

وقد أخذ هذه الافتراءات المستشرقون كأمور مسلمات فرحين بها وكأنها صيد سمين وهذه الأقوال وأمثالها دعت الشيعة للاعتقاد الفاسد أن القرآن لم يجمع لصحابي من الصحابة أو لمسلم من المسلمين قط ، وإنما جمع فقط لعلي ـ رضي الله عنه ـ ولأئمتهم لذا قال صاحب الكافي : (باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ وأنهم يعلمون علمه) (٢) وذلك كله ليستدلوا منه على نقص القرآن الكريم لذا نقل «بيرتون في كتابه (جمع القرآن) رواية نسبها لابن عمر متأثرا بأقوال الشيعة حيث قال : [لا تجعلوا أحدكم يقول : لقد حصلت على مجمل القرآن فكيف يتسنى له أن يعرف ما ذا كان ذلك المجمل؟ إن كثيرا من القرآن قد ذهب فليقل بدلا من ذلك : لقد حصلت على ما ظل موجودا].

ونقل عن زيد : [لقد مات النبي ولم يكن قد تم جمع القرآن في أي مكان](٣).

كل ذلك ليؤكدوا أن القرآن أصابه النقص ولم يجمع بتمامه.

وهذه الفرقة التي اعتمد أقوالها المبشرون والمستشرقون على السواء طاعنين في كتاب الله سبحانه نشأت بعد موت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بخمس وعشرين سنة ، وقد انتشرت المصاحف في الأصقاع الإسلامية وحفظها الصغار قبل الكبار دون

__________________

(١) انظر نكت الأنصار ص ٩٥ ـ ٩٦.

(٢) تعريف بمذهب الشيعة الإمامية ص ٨٢.

(٣) جمع القرآن لبيرتون ص ١١٧ ـ ١١٨.

٤٢١

اختلاف. وقد كانت من الكثرة مما لو حاول بعضهم أن يحصيها لأواخر عهد عثمان ـ رضي الله عنه ـ لما استطاع ، وآلت الخلافة والسلطة للإمام علي ـ رضي الله عنه ـ الذي سار على طريق من سبقه من الخلفاء ، فلو كان نقص أو زيادة في القرآن وعلمه لما وسعه إلا إبرازه ولأعاده لما ينبغي أن يكون عليه من الصواب. بل قد نقل عنه أقوال تدافع عن عثمان وجمعه وأنه ما صدر إلا عن موافقة الصحابة ـ رضوان الله عليهم وعلى رأسهم علي نفسه ـ رضي الله عنه ـ.

ولما كان هذا موقفه تبين زيف الشيعة ومن ورائهم زمرة المبشرين والمستشرقين وبطلان دعواهم بوجود النقص والزيادة في كتاب الله سبحانه وأنه لم يجمع إلا للأئمة الأعلام من الشيعة وعلى رأسهم الإمام علي ـ رضوان الله عليه ـ وقد علق على موقف الشيعة من القرآن الكريم «بل ، وواط» حيث بينا أن هذه التهم لا تقوم على أسانيد منطقية ولا تنسجم مع أسس النقد الحديث وأن القرآن لا يشك في موثوقيته (١).

وقد حاول المستشرقون إيجاد بعض الأدلة ليدعموا هذه المزاعم التي تلقفوها من الشيعة للإيهام أن في القرآن نقصا وعلى رأس هؤلاء المستشرقين «جرجس صال» ومن هذه الأدلة:

١ ـ قول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «رحم الله فلانا أذكرني كذا كذا آية أسقطتها من سورة كذا وكذا وفي رواية «أنسيتها» كنت نسيتها» (٢).

٢ ـ قوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى)(٣).

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن ـ لمنتجمري واط ص ٥١.

(٢) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري ٩ / ٨٤ ـ ٨٥ ، كتاب فضائل القرآن باب نسيان القرآن وهل يقول نسيت آية كذا وكذا؟.

(٣) سورة الأعلى : ٦.

٤٢٢

٣ ـ ضياع بعض الأدوات التي كتبت عليها القرآن.

٤ ـ سقوط بعض الآيات لفظا وبقاؤها حكما (١).

الجواب :

١ ـ بالنسبة للحديث المذكور سابقا فهو حديث صحيح رواه الإمام البخاري في صحيحه وقد جاءت كلمة «أنسيتها» في الرواية الثانية تفسيرا لما في الرواية الأولى قوله : «أسقطتها» لتدل على أن الإسقاط كان بطريق النسيان لا العمد ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بشر ينسى كما ينسى بقية بني البشر ولكنه محفوظ من الله سبحانه وتعالى بتذكيره. لذا لا يضره هذا النسيان ما دام سيحصل له التذكر إما من نفسه أو من مذكر خارجي كما في الحديث وقد وضح الإمام ابن حجر هذا النوع من النسيان بقوله : والنسيان من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لشيء من القرآن يكون على قسمين :

أحدهما : نسيانه الذي يتذكره عن قرب ، وذلك قائم بالطباع البشرية وعليه يدل قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في حديث ابن مسعود في السهو : «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون» (٢).

الثاني : أن يرفعه الله عن قلبه على إرادة نسخ تلاوته وهو المشار إليه بالاستثناء في قوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) وهو المشار إليه في النقطة الرابعة السابقة.

وأما القسم الأول فعارض سريع الزوال لظاهر قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٣).

وأما الثاني فداخل في قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها)(٤).

__________________

(١) انظر كتب أسرار القرآن جرجس صال ص ٢٣ ومقدمة القرآن لبلاشير ص ١٦ ـ ١٧.

(٢) انظر فتح الباري ٩ / ٨٦.

(٣) سورة الحجر آية : ٩.

(٤) سورة البقرة آية : ١٠٦.

٤٢٣

على قراءة من قرأ بضم أوله من غير همزة.

فالنسيان عارض بشري يجوز على الأنبياء فيما ليس طريقه البلاغ من أمور الدين والشريعة ، أما ما كان من أمور الدين والشريعة مما هو واجب البلاغ فيجوز لكن بشرطين :

أحدهما : أنه بعد ما يقع منه تبليغه.

والآخر : أنه لا يستمر على نسيانه بل يحصل له تذكرة إما بنفسه وإما بغيره (١).

وأما قبل التبليغ فلا يجوز أصلا وهذا ما قام عليه الدليل العقلي إذ لو جاز النسيان قبل التبليغ أو بعده بدون أن يتذكر أو يذكره الغير لأدى إلى الطعن في عصمة الأنبياء ولجاز ضياع بعض الشرائع والأديان (٢) ومثل هذا النوع من النسيان لا يزعزع الثقة بالرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا يشكك في دقة جمع القرآن ونسخه وليس في هذا الخبر الذي ذكروه رائحة أن هذه الآيات لم تكن بالمحفوظات التي كتبها كتاب الوحي ، وليس فيه ما يدل على أن أصحاب الرسول كانوا قد نسوه جميعا حتى يخاف عليها وعلى أمثالها الضياع ويخشى عليها السقوط عند الجمع واستنساخ المصحف الإمام ، كما يفتري هؤلاء الخراصون ، وعلى رأسهم «جرجس صال» و «بلاشير» بل الرواية نفسها تثبت صراحة أن في الصحابة من كان يقرؤها وسمعها منه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما حصل ذلك من قراءة عباد بن بشر لها وسمعها منه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فتذكرها ورسول الله قد حفظها قبل هذا الصحابي الجليل واستكتبها كتاب الوحي ، وبلغها للناس فحفظوها عنه ومنهم رجل الرواية عباد بن بشر ـ رضي الله عنه ـ.

ونسيان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لهذه الآيات أمر طبيعي يقع مع كل بني

__________________

(١) انظر فتح الباري ٩ / ٨٦.

(٢) انظر المدخل لدراسة القرآن الكريم ص ٢٩٣.

٤٢٤

البشر إذا كان يقرأ نصا قرآنيا واشتغل ذهنه بغيره مع أنه مخزون في حافظته يظهر إذا دعاه داع يستعرضه ويستحضره ثانية ومثل هذا النسيان لا يعني إمحاءه من حافظته مطلقا لأن في ذلك إخلالا بوظيفة الرسالة والتبليغ (١) وهي بلا شك مما كتب في المصحف ولم تنقص منه كما يظن هؤلاء (٢).

كما أن الأحاديث الصحيحة أشارت إلى أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ كان يعارض رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ القرآن في كل رمضان مرة واحدة.

عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : «كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن» الحديث (٣).

وفي آخر رمضان من حياته عارضه مرتين والمقصد من هذه المعارضة هي تثبيت حفظ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وحذف منسوخ التلاوة ، والإبقاء على النص القرآني صافيا محددا منضبطا فبكل هذه الأدلة يتضح لنا سلامة النص القرآني من الزيادة والنقصان وعدم تأثير ما كان يطرأ عليه من سهو ونسيان.

٢ ـ أما دليلهم الثاني : وهو قوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) استدل المستشرقون بهذه الآية على نسيان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ القرآن ومرجع ذلك عندهم الجهل لمراد الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة فسبب نزول هذه الآية هو أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى ، فأزال الله خوفه بهذه الآية.

أما الاستثناء : فالمحققون من العلماء على أنه ليس بحقيقي وإنما هو صوري يراد منه تأكيد عدم النسيان بتعليق الشيء على ما هو مستحيل وقوعه وليدل على استحالته بالبرهان وقد ضمن الله لنبيه تحقيقه له فكيف يشاء إنساءه له؟

__________________

(١) انظر مناهل العرفان ١ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

(٢) انظر مناهل العرفان للزرقاني ١ / ٢٥٨.

(٣) انظر إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ١ / ٧٢.

٤٢٥

قال تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)(١) والذي يدل أن الاستثناء صوري.

١ ـ ما جاء في سبب النزول وهو أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يتعب نفسه بكثرة قراءة القرآن حتى وقت نزول الوحي مخافة أن ينساه ويفلت منه فأراد الله تطمينه.

٢ ـ إن قوله (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) فيه تعليق وقوع النسيان على مشيئة الله والمشيئة لم تقع بدليل قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)(٢).

أما الغرض من الاستثناء فهو :

١ ـ تعريفه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن عدم النسيان من فضل الله تعالى عليه فيدين له بالشكر والعبادة والذكر في كل وقت.

٢ ـ تعريف أمته على ذلك حتى لا يخرجوه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من مقام العبودية إلى مقام الألوهية كما فعل ذلك اليهود والنصارى بأنبيائهم.

وأيا ما يكن معنى الاستثناء فإنه لا يفهم منه أن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نسي حرفا واحدا مما أمر بتلاوته وتبليغه للخلق وإبقاء التشريع على قراءته من غير نسخ وذلك على أن المراد من النسيان المحو التام من الذاكرة.

ولا يمنع هذا من أن يشاء الله أن ينسيه ما أراد سبحانه نسخه فيذهب من قلبه قال تعالى : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) وأيا كان فإن المراد من الآية لا يشهد لدعواهم فالقصد نفي النسيان رأسا (٣) وما ورد من أنه نسي شيئا كان يذكره فإن صح ذلك فهو في غير ما أنزل الله من الكتاب والأحكام التي أمر بتبليغها ، وقل ما يقال سوى ذلك فهو من مدخلات الملحدين التي جازت على عقول

__________________

(١) سورة القيامة آية (١٦ ـ ١٨).

(٢) مناهل العرفان ١ / ٢٦١.

(٣) المدخل لدراسة القرآن الكريم ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

٤٢٦

الجاهلين المغفلين.

٣ ـ أما الدليل الثالث : ضياع بعض الأدوات التي كتب عليها القرآن فسأناقشه في موضوع الجمع القرآني بإذن الله تعالى (١).

٤ ـ وأما الدليل الرابع : سقوط بعض الآيات لفظا وبقاؤها حكما فسأناقشه في موضوع النسخ في القرآن الكريم إن شاء الله تعالى (٢).

المسألة الثالثة :

استدلالهم على الزيادة والنقصان بوجود مصحف خاص لعلي وزوجته فاطمة رضوان الله عليهم.

الجواب :

لا أحد ينكر أن كثيرا من الصحابة كان لهم مصاحف خاصة بهم لأنفسهم خلطوا فيها بين ألفاظ القرآن وما كان شرحا لها وبيانا لمغزاها. وبين بعض القراءات وإن لم تكن متواترة ولم تثبت في العرضة الأخيرة وهذه المصاحف تختلف عن المصحف الإمام بالزيادة تارة وبالنقصان تارة أخرى ومرة بالتقديم ومرة بالتأخير وهكذا. لذا فلا يجوز القراءة بهذه المصاحف لمخالفتها ما أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم وهذه أمثلة من هذه المصاحف.

١ ـ جاء في مصحف عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في سورة الفاتحة : «صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين» وفي سورة المدثر «في جنات يتساءلون يا فلان ما سلكك في سقر».

٢ ـ وجاء في مصحف علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه وآمن المؤمنون».

__________________

(١) انظر ص ٣٣٠.

(٢) انظر ص ٤٥١.

٤٢٧

وفي مصحف عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ في سورة الأحزاب : «إن الله وملائكته يصلون على النبي والذين يصلون في الصفوف الأولى».

فلهذا السبب ولغيره اتفقت الأمة بموافقة عثمان ـ رضي الله عنه ـ على الاجتماع على مصحف واحد وتحريق ما سواه حتى لا تكون هذه المصاحف سببا للفتنة وضياع النص الإلهي الصحيح (١).

ومن هنا يظهر أن وجود مصحف خاص بعلي وبزوجه فاطمة مع وجود بعض المخالفات بينها وبين المصحف الإمام ، ليس دليلا كافيا على وجود النقص والزيادة في الكتاب العزيز لأن الحجة في الكتاب نفسه على غيره لا العكس.

المسألة الرابعة :

استدلالهم على الزيادة والنقصان في القرآن الكريم بعمل الحجاج (٢) إلى غير ذلك لإثبات خلافة بني أمية ، وإبطال خلافة ولد علي والعباس على حد زعمهم.

الجواب :

هذه القضية من جملة الأدلة الواهية التي يستدلون بها على مثل هذا الأمر الخطير. وهذه القضية ينقضها الواقع ويكذبها التاريخ ، وهي تتلخص في أن الناس لما فسدت ألسنتهم باختلاف ألفاظهم ، وتغير طباعهم ، بدخول اللحن على كثير من خواص الناس وعوامهم ، حدث تغيير وتحريف في نص القرآن الكريم ، طلب أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان على إثر ذلك من الحجاج بن يوسف الثقفي واليه على العراق ، بإعجام المصاحف ليزول اللحن والخطأ في كتاب الله عزوجل. قال الإمام أبو عمرو الداني موضحا هذا الأمر في كتابه المحكم في نقط

__________________

(١) كتاب شبهات مزعومة حول القرآن الكريم ص ١٥٢ ـ ١٥٤.

(٢) أسرار عن القرآن ـ سال ص ٣٤ ، والمدخل لدراسة القرآن الكريم ص ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ، ومناهل العرفان ١ / ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

٤٢٨

المصاحف : [اعلم أيدك الله بتوفيقه أن الذي دعا السلف ـ رضوان الله عليهم ـ إلى نقط المصاحف بعد أن كانت خالية من ذلك وعارية منه وقت رسمها. وحين توجيهها إلى الأمصار ، للمعنى الذي بيناه والوجه الذي شرحناه ، ما شاهدوه من أهل عصرهم ، مع قربهم من زمن الفصاحة ومشاهدة أهلها من فساد ألسنتهم ، واختلاف ألفاظهم ، وتغير طباعهم ، ودخول اللحن على كثير من خواص الناس وعوامهم ، وما خافوه مع مرور الأيام ، وتطاول الزمان من تزيد ذلك ، وتضاعفه فيمن يأتي بعد ، ممن هو ـ لا شك ـ في العلم والفصاحة والفهم والدراسة دون من شاهدوه ، ممن عرض له الفساد ، ودخل عليه اللحن لكي يرجع إلى نقطها ، ويصار إلى شكلها ، عند دخول الشكوك وعدم المعرفة ويتحقق بذلك إعراب الكلم ، وتدرك به كيفية الألفاظ ..](١).

وقد جاءت إشارات لمحاولات تيسيرية لبعض الصحابة في بعض المواطن كأهل المدينة وأهل مكة الذين تركوا نقطهم وتبعوا أهل البصرة (٢) ولكن الأمر لم يصبح له قواعد وقانون إلا في عهد عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي وقد اختلفوا في أول من نقط المصاحف على أقوال :

قيل : إنه أبو الأسود الدؤلي أراد أن يعمل كتابا في العربية يقوم به ما فسد من كلام الناس .. فقال : أرى أن ابتدئ بإعراب القرآن فجعل الفتحة نقطة فوق الحرف ، والكسرة نقطة تحت الحرف ، والضمة نقطة أمام الحرف والتنوين نقطتين.

وقيل : كان عمله بطلب من زياد بن أبيه والي البصرة سنة ٤٨.

وقيل : بل كان عمل نصر بن عاصم الليثي سنة ٨٠ ه‍ بأمر من الحجاج

__________________

(١) انظر المحكم في نقط المصاحف ـ لأبي عمرو الداني طبعة دار الفكر ط ٢ ، ١٤٠٧ / ١٩٨٦ م ص ١٨ ـ ١٩.

(٢) انظر كتاب النقط لأبي عمرو الداني ص ١٢٤ ـ ١٢٥ وكتاب المحكم في نقط المصاحف ص ٢ وما بعدها.

٤٢٩

وأنه الذي خمس وعشر.

وقيل : بل كان عمل يحيى بن يعمر ، وأن الخليل أتم عمله بجعل الهمز والتشديد والروم والإشمام.

فيحتمل أن يكون أول من ابتدأ بالنقط كنظام له قواعد أبو الأسود الدؤلي ، ثم تبعه نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر ، ثم جاء بعدهم بقرن تقريبا الخليل بن أحمد فابتدع علامات أخرى. بهذا أصبح للنقط نظام له قواعد وأصول تتبع.

فيجمع بين هذه الأقوال أن عمل أبي الأسود الدؤلي كان شكلا بطريقة النقط ، أما نقط الحجاج بلجنته المكونة من نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر ، والحسن البصري فهو بالاصطلاح المعروف اليوم ، وكان طابعها طابعا رسميا.

أما ما نسب من عمل كهذا ليحيى بن يعمر وابن سيرين فيكون عملا فرديا (١) والآن سأعرض الحروف التي غيرها الحجاج كما ذكرها ابن أبي داود في كتابه المصاحف (٢) قال ابن أبي داود : [كانت في البقرة (س ٢ ، آ ٢٥٩) «لم يتسن وانظر» بغير هاء فغيرها «لم يتسنه» بالهاء (٣). وكانت في المائدة (س ٥ ، آ ٤٨) «شريعة ومنهاجا» فغيرها «شرعة ومنهاجا» (٤) وكانت في يونس (س ١٠ ، آ ٢٢) «هو الذي ينشركم» فغيره «يسيركم» (٥) وكانت في يوسف (س ١٢ ، آ ٤٥) «أنا آتيكم بتأويله» فغيرها «أنا أنبئكم

__________________

(١) انظر اللئالئ الحسان في علوم القرآن ص ٦٩ ـ ٧١ (بتصرف).

(٢) أى في كتابه المصاحف ص ٥٩ ، والباقلاني في كتابه نكت الانتصار لنقل القرآن ص ٢٩٩ ـ ٣٠٠.

(٣) والقراءتان سبعيتان كما ذكرهما ابن زنجلة في حجة القراءات ص ١٤٢ ـ ١٤٣ حيث قرأ حمزة والكسائي «لم يتسن» بحذف الهاء في الوصل وقرأ الباقون «لم يتسنه» بإثبات الهاء في الوصل.

(٤) قرأ النخعي وابن وثاب بفتح الشين وقرأ الجمهور بكسرها (وشرعة) ولم أجد أحدا أشار لقراءة (شريعة).

(٥) والقراءتان سبعيتان ذكرهما ابن زنجلة في كتابه حجة القراءات ص ٣٢٩ حيث قرأ ابن عامر : (هو الذي ينشركم) بالنون والشين. وقرأ الباقون (يسيركم).

٤٣٠

بتأويله» (١).

وكانت في المؤمنين (س ٢٣ ، آ ٨٥) «سيقولون لله .. لله .. لله» فجعل الآيتين «الله … الله» (٢). وكانت في الشعراء في قصة نوح. (س ٢٦ ، آ ١١٦) «من المخرجين» ، وفي قصة لوط (آ ٦٧١) «من المرجومين» (٣).

وكانت الزخرف (س ٤٣ ، آ ٣٢) «نحن قسمنا بينهم معايشهم» فغيرها «معيشتهم» (٤). وكانت في الذين كفروا (س ٤٧ ، آ ١٥) «من ماء غير ياسن» فغيرها «من ماء غير آسن» (٥). وكانت في الحديد (س ٥٧ ، آ ٧) «فالذين آمنوا منكم واتقوا لهم أجر كبير» فغيرها «وأنفقوا» (٦). وكانت إذا الشمس كورت (س ٨٨ ، آ ٢٤) «وما هو على الغيب بظنين» فغيرها «بضنين» (٧).

هذه القراءات كما لاحظت من الصحيح المتواتر الثابت الذي يجوز القراءة به على أية وجه رسم به ومنها ما لم أجده ثابتا مما

يدعو للشك في نسبته للحجاج ، وخاصة أنه لم يكن بمعزل عن الأمة ، بل ما كان لأحد من المسلمين في عصره ليسمح بتغيير أو بتبديل شيء ثابت عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قرآنا

__________________

(١) قرأ الحسن (أنا آتيكم) بهمزة مفتوحة ممدودة بعدها تاء مكسورة وياء ساكنة ، وقرأ وصلا نافع وأبو جعفر (أنا أنبئكم) كما ذكر ذلك أحمد عبد الغني الدمياطي في كتابه إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر ٢٦٥.

(٢) القراءات سبعيات كما ذكر ذلك ابن زنجلة في حجة القراءات ص ٤٩٠ ، حيث قرأ أبو عمرو (سيقولون الله) سيقولون الله بالألف فيهما وقرأ الباقون (الله … الله) ولم يختلفوا في الأولى.

(٣) لم أجد أحدا أشار لما ذكره المؤلف.

(٤) قراءة الجمهور معيشتهم على الإفراد. وقرأ عبد الله والأعمش ، وابن عباس وسفيان معايشهم على الجمع كما ذكر ذلك أبو حيان في البحر المحيط ٨ / ١٣.

(٥) قرأ السبعة ما عدا ابن كثير غير آسن بالمد ، أما قراءة ياسن فهي قراءة شاذة ذكرها أبو حيان في تفسيره بلفظ قيل.

انظر حجة القراءات لابن زنجلة ص ٦٦٧ ، وتفسير البحر المحيط ٨ / ٧٩.

(٦) لم أجد من أشار لهذه القراءة.

(٧) قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وريس وابن مهران عن روح بالظاء ، وقرأ الباقون بالضاد ، وكذا في جميع المصاحف (انظر النشر في القراءات العشر ٢ / ٣٩٨ ـ ٣٩٩).

٤٣١

كان أو حديثا. فهذا كله يرد دعاوى هؤلاء المستشرقين. ومما يؤكد صحة ما ذهبت إليه عدة أمور منها :

١ ـ كون الحجاج من شيعة عثمان ، وكان يؤاخذ كل من قصر في نصرته يوم الدار ، فكيف لمن هذا حاله أن يطعن في عثمان ومصحفه ويغيره.

٢ ـ أن المصحف العثماني انتشر في الآفاق وكثرت نسخه في عهد عثمان وعلي لغاية أنه لو أراد أحد إحصاءها لما استطاع ، فكيف بعددها في عهد الخلافة الأموية فلا شك أنه بلغ أكثر من ذلك كما أن الحجاج ما كان إلا واليا لولاية من ولايات الدولة الإسلامية المترامية الأطراف ، والمتباعدة النواحي فإذا استطاع تغيير المصاحف في ولايته فأنى له أن يصل للمصاحف في الولايات الأخرى وهي بالآلاف.

والتاريخ لم يذكر تناقضا بين المصاحف في العراق وبين المصاحف في غيرها.

والمعروف أن الحفظ لهذا الكتاب العظيم كما كان حفظا في المصاحف كان حفظا في الصدور فإذا استطاع الحجاج أن يصل لحفظ السطور فأنى له أن يصل لحفظ صدور الآلاف من المسلمين.

٣ ـ والمعروف كذلك أن الدولة العباسية قامت على أنقاض الدولة الأموية وقد غيروا كثيرا من سياسات بني أمية في إدارة شئون الدولة ، ولم يدخروا وسعا في تبيين مثالب بني أمية ، والتقرب إلى الرعية بإبراز العدالة والإنصاف والدفاع عن الحق.

فلو وجد العباسيون شيئا من هذا التغيير في المصحف الشريف لكانت من أعظم الفرص المواتية لبني العباس ليظهروا ذلك باعتباره مثلبا كبيرا في حق بني أمية ، وإضفاء للشرعية والعدل والحق على حكمهم.

٤٣٢

الفصل الثالث

جمع القرآن الكريم وشبههم حوله

المبحث الأول

أ ـ تسمية الجمع تنقيحا

ب ـ المرحلة الأولى من الجمع القرآني وشبهاتهم حولها

المبحث الثاني

المرحلة الثانية من الجمع القرآني وشبهاتهم حولها

المبحث الثالث

المرحلة الثالثة من الجمع القرآني وشبهاتهم حولها

٤٣٣
٤٣٤

الفصل الثالث

جمع القرآن الكريم وشبههم حوله

المبحث الأول :

أ ـ تسمية الجمع تنقيحا :

أطلق «بلاشير» على عملية جمع القرآن الكريم تنقيحا (١).

الجواب :

أن هذه التسمية من المستشرقين مقصودة وذلك ليوحوا أن القرآن الكريم كأي جهد بشري قابل للزيادة والنقصان والتبديل والتغيير للوصول به لما هو أفضل كما هو في المقياس البشري. والذي دفعهم لمثل هذا اللون من التفكير ما نقل من جهود الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وفي عهد التابعين من إعادة كتابة القرآن الكريم وجمعه حفاظا على النص القرآني من التحريف والتغيير والنقص والزيادة ، واختلاف اللهجات فيه فظنوا أن ذلك كان من باب التنقيح للنص القرآني والتعديل فيه.

ولكن الله سبحانه قد تكفل حفظ هذا القرآن الكريم من أي تبديل وتغيير أو نقص وزيادة فأودع حفظه في صدور المسلمين ، وفي السطور قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٢) فلم يدخله ما زعمه «بلاشير» التنقيح بمفهومهم فهو ما زال غضا طريا كما نزل ، وسنذكر فيما يلي أهم النقاط التي أبرزوها حول جمع القرآن الكريم ، وانطلقوا منها لبناء شبهاتهم.

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٣٢ ـ ٣٥.

(٢) سورة الحجر : ٩.

٤٣٥

ب ـ المرحلة الأولى من الجمع القرآني وشبهاتهم حولها :

تاريخ جمع القرآن الكريم :

حاول بعض المستشرقين مثل «بلاشير» و «كازانوفا» التشكيك في تاريخ جمع القرآن الكريم وأول من جمعه فبعضهم اعتبر أول جامع له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبعضهم اعتبره أبو بكر ، عمر ، سالم ، عثمان ، علي ، الحجاج (١).

الجواب :

مر القرآن الكريم بثلاث مراحل أساسية وهي :

أ ـ الجمع النبوي للقرآن الكريم.

ب ـ جمع أبي بكر ـ رضي الله عنه.

ج ـ جمع عثمان ـ رضي الله عنه.

والجمع له معنيان :

أ ـ يطلق تارة ويراد به حفظه وتقييده في الصدور. وأحيانا يراد به الكتابة في الصحف والسطور.

ب ـ والمعنى الثاني وهو المقصود في مراحل الجمع الثلاث الآنفة الذكر.

المسألة الأولى :

المرحلة الأولى : الجمع فى عهد الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

أثار المستشرقون على هذه المرحلة عدة شبهات منها :

الشبهة الأولى :

أن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يجمع القرآن بنفسه ، ولم يأمر أحدا بجمعه وإنما

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٣٢ ـ ٦٨ ، وجمع القرآن ـ بيرتون ص ١٢١ ، القرآن.

٤٣٦

كان ذلك بجهد شخصي من بعض الصحابة وفي بعض المناسبات ، وأن الجمع الفعلي كان في المدينة المنورة بعد هجرته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تأثرا باليهود.

وقد استدلوا على ذلك بعدة أدلة منها :

١ ـ رواية عبد الله بن عمر أنه قال : «لا تجعلوا أحدكم يقول : لقد حصلت على مجمل القرآن ، فكيف يتسنى له أن يعرف ما ذا كان ذلك المجمل؟ إن كثيرا من القرآن قد ذهب. فليقل بدلا من ذلك : لقد حصلت على ما ظل موجودا».

٢ ـ رواية منسوبة لزيد بن ثابت حيث قال فيها :

«لقد مات النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يكن قد تم جمع القرآن في أي مكان» (١).

الجواب :

يحمل الجمع النبوي في عهده ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ معنيين : الحفظ في الصدور : وحفظ السطور.

أما الأول : فيدل عليه قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)(٢) فقد ضمن حفظ هذا القرآن في صدره ـ عليه الصلاة والسلام ـ وصدر مجموعة من صحابته فإن كان عدد الحفظة لكل ما كان ينزل بالعشرات ، فإن حفظة الأجزاء منه والسور والآيات يعدون بالمئات ، وكان عددهم في ازدياد باستمرار لما لهذا القرآن عند المسلمين من قدسية ومحبة ، ولأنهم كانوا يعتبرونه من أعظم الطرق التي تقربهم إلى الله سبحانه وتعالى.

__________________

(١) انظر جمع القرآن لبيرتون ص ١١٧ ، ومقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٤١ ، ومقدمة القرآن واط ص ٥١ ، والقرآن والمستشرقون ـ رابح جمعة ص ٧٨ ، والموسوعة البريطانية نقلا عن كتاب قضايا قرآنية ص ٢١٦.

(٢) سورة القيامة : ١٧.

٤٣٧

أما حفظه في السطور فالمعروف أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان أميا لم يكتب بيده الشريفة شيئا ولكنه كان قد اتخذ كتبة لكافة أغراضه واحتياجاته للوحي والمراسلات والخطابات بلغوا الأربعين ونيفا (١).

فكان إذا نزل شيء من القرآن على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ استدعى بعض كتبته وأمر بتسجيلها ثم حفظها لبعض صحابته (٢) وكانت كتابتهم للقرآن الكريم على اللخاف ، والعسب ، والأكتاف ، والأقتاب ، وقطع الأديم.

أما الأدلة التي استدلوا بها فلنا عليها تعليق.

هذه الروايات مما استدل به الشيعة على نقصان القرآن الكريم وإسقاط شيء منه فرواية عبد الله بن عمر إن صحت الرواية فالمراد بها النهي عن حفظ كل ما نزل من القرآن ناسخه ومنسوخه ، لأن من القرآن ما نسخت تلاوته بعد نزوله فالواجب أن يقول حفظت من القرآن غير منسوخ التلاوة. وأيدوا أدلتهم المدعاة بدليل آخر وهو قولهم : «ما عندنا إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة» فالمقصود بالصحيفة هنا الأحكام التي كتبها عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

ولم ينف أن عنده أشياء أخرى من الأحكام التي لم يكن كتبها أو أراد : ما ترك مما يتعلق بالإمامة ، أي لم يترك شيئا يتعلق بأحكام الإمامة إلا ما هو بأيدي الناس. وهذا رد صريح على دعاوي الرافضة ومزاعم المستشرقين الذين تلقفوا إفكهم هذا وهو حذف شيء من القرآن الكريم لمصلحة تخصهم (٣) والشاهد في قوله : «ما ترك إلا ما بين الدفتين» أي من القرآن الذي يتلى لأن ما سواه مما نسخت تلاوته في حياة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

__________________

(١) انظر كتاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ د / محمد الأعظمي.

(٢) انظر كتاب صحيح البخاري ٥ / ١٨٣ كتاب التفسير وفتح الباري ٩ / ٢٢.

(٣) انظر فتح الباري لشرح صحيح البخاري ٩ / ٦٤ ـ ٦٥ ، طبعة دار المعرفة بيروت (بتصرف).

٤٣٨

الرواية الثانية :

التي استدلوا بها على عدم جمع القرآن في عهده الشريف الرواية المنسوبة لزيد بن ثابت وهي قوله :

«لقد مات النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يكن قد تم جمع القرآن الكريم في أي مكان».

فقد ذكرها السيوطي في إتقانه ونقل توضيح الخطابي لمقصودها حيث قال : «إنما لم يجمع ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته ، فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر» (١).

أما ما أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «لا تكتبوا عني ، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدثوا عني ولا حرج ، ومن كذب علي ـ قال همام : أحسبه قال : ـ متعمدا ـ فليتبوأ مقعده من النار» (٢).

قال «القاضي» : كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم. فكرهها كثيرون منهم ، وأجازها أكثرهم. ثم أجمع المسلمون على جوازها وزال ذلك الخلاف. واختلفوا في المراد بهذا الحديث الوارد في النهي.

فقيل : هو في حق من يوثق بحفظه ويخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب. وتحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على من لا يوثق بحفظه كحديث «اكتبوا لأبي شاة» .. وحديث أن ابن عمرو بن العاص كان يكتب ولا أكتب .. وغير

__________________

(١) الإتقان ـ للسيوطي ١ / ٥٧.

(٢) صحيح مسلم ٤ / ٢٢٩٨ ـ ٢٢٩٩ كتاب الزهد والرقائق.

٤٣٩

ذلك من الأحاديث.

وقيل : إن حديث النهي منسوخ بهذه الأحاديث. وكان النهي حيث خيف اختلاطه بالقرآن فلما أمن ذلك ؛ أذن في الكتابة.

وقيل : إنما نهى عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القارئ (١).

فالنهي يكون عن كتابة مخصوصة وبصفة مخصوصة. أما القرآن الكريم فالشواهد على كتابته وملازمتها للحفظ واردة بأحاديث كثيرة منها حديث زيد نفسه والبراء بن عازب ـ رضي الله عنهما ـ في صحيح البخاري قال : «لما نزلت لا يستوي القاعدون من المؤمنين قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ادعوا فلانا ـ فجاءه ومعه الدواة واللوح أو الكتف فقال : اكتب «لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله» وخلف النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ابن أم مكتوم. فقال : يا رسول الله أنا ضرير فنزلت مكانها (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ)(٢)(٣).

وزيد نفسه هو الذي قال : «كنا عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نؤلف القرآن من الرقاع ..» (٤).

وهذا نص صريح يدل على أن القرآن كان مكتوبا على أشياء متعددة وفي أماكن مختلفة ولكنه لم يكن مرتب السور ولكنه مرتب الآيات بدليل رواية عثمان ـ رضي الله عنه ـ قال : «كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مما يأتي عليه الزمان ، وهو تنزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء منه دعا بعض من كان يكتب فيقول : «ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا»

__________________

(١) حاشية صحيح مسلم ٤ / ٢٢٩٨ كتاب الزهد والرقائق حديث رقم (٣٠٠٤).

(٢) سورة النساء : ٩٥.

(٣) انظر صحيح البخاري ٥ / ١٨٣ كتاب التفسير ، تفسير سورة النساء.

(٤) انظر المستدرك للحاكم ٢ / ٢٢٩ كتاب التفسير.

٤٤٠

وإذا نزلت عليه الآية يقول : «ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا …» الحديث (١).

فمن مجموع الروايات أن الكتابة كانت منتشرة في عهده ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعلى رأس ذلك القرآن الكريم فكان حفظ الصدور ملازما لحفظ السطور في كل الأحوال مع أن الأصل الحفظ أما الكتابة فكانت للتوثيق ولكن لما كان بعض الصحابة يكتبون مع القرآن غيره في صحيفة واحدة نهوا عن ذلك لئلا يختلط مع القرآن سواه فلما أمن الاختلاط أذن لمن كان عنده الحرص والرغبة في الكتاب أو كان ضعيف الحفظ أن يكتب بنفسه أو يكتب له شيء من السنن والأحكام كنصوص شرعية يجب معرفتها والعمل بها.

وهذا كله يرد دعوى المستشرقين وعلى رأسهم أصحاب الموسوعة البريطانية حيث قالوا : «إن حفظ القرآن في الصدور وكتابته كانت الطريقة المعتادة لحفظه وضبطه من الضياع ، وكانت تكتب في بعض المناسبات فقط» (٢) ويؤكد سلامة القرآن من الزيادة والنقصان والتغيير والتبديل ليومنا هذا حتى أنه يقرأ غضا طريا كأنه الساعة أنزل بتلقيهم إياه بطريق إجازات الحفاظ لطلبتهم.

والذي يؤكد سلامة القرآن مما وجه إليه من افتراءات وجود بعض قطع من القرآن الكريم متطابقة مع القرآن الحالي فيما عدا بعض النقاط الطفيفة جدا التي لا تغير شيئا من المعنى العام حسب شهادة الأستاذ موريس بوكاي. قال الأستاذ «موريس» في كتابه (القرآن والكتب المقدسة) :

[يقول الأستاذ حميد الله ، توجد اليوم بطشقند واستامبول نسخ تنسب إلى عثمان. وإذا نحينا جانبا ما قد يكون من أخطاء النسخ ، فإن أقدم الوثائق المعروفة في أيامنا والتي وجدت في كل العالم الإسلامي تطابق كل منها الأخرى تماما. كذلك الأمر أيضا بالنسبة للمخطوطات التي في حوزتنا في أوربا [توجد

__________________

(١) انظر سنن أبي داود ١ / ٢٠٩ كتاب الصلاة باب من جهر بالبسملة (وهو بلفظ قريبا).

(٢) قضايا قرآنية ص ٢١٦.

٤٤١

بالمكتبة الوطنية بباريس قطع يرجع تاريخها ، حسب تقدير الخبراء ، إلى القرنين الثامن والتاسع الميلاديين أي إلى القرنيين الثاني والثالث من الهجرة].

إن هذا الحشد من النصوص القديمة المعروفة متطابق كله فيما عدا بعض النقاط الطفيفة جدا التي لا تغير شيئا من المعنى العام للنص برغم أن السياق قد يقبل أحيانا أكثر من إمكانية للقراءة ، وذلك يرجع إلى أن الكتابة القديمة أبسط من الكتابة الحالية (١).

وهذا تصديق لقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٢).

وكما قال بعض المنصفين من الأوربيين : إن القرآن إذا جرد من الشكل والتنقيط ، وبعض التعليقات عند أول كل سورة من كونها مكية أو مدنية ، ومن ذكر عدد آياتها ، يكون تماما هو القرآن الذي أنزل على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٣).

فهذه الأدلة كلها من مصدرها الإسلامي تارة وأقوال المستشرقين أنفسهم تارة أخرى تؤكد سلامة القرآن الكريم من أي نقص أو زيادة ، وترد أقوال المفترين من المستشرقين ، ومن قبلهم المنحرفين المغالين من الشيعة ، والمجانبين لدقة البحث العلمي كأعضاء الموسوعة البريطانية الذين ينقصهم التوثيق ويعوز كلامهم الأدلة. وصدق الله إذ يقول : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(٤).

الشبهة الثانية :

أ ـ عدد الحفظة للقرآن الكريم.

ب ـ ونزاهة الكتبة وشبههم حولهم.

__________________

(١) الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ص ١٢٣.

(٢) سورة الحجر آية : ٩.

(٣) قضايا قرآنية ص ٢١٩.

(٤) فصلت : ٤١ ـ ٤٢.

٤٤٢

أ ـ عدد الحفظة للقرآن الكريم :

أثار كثير من المستشرقين شكوكا حول عدد الحفظة ليصلوا بذلك لعدم رواية القرآن بالتواتر وأن قلتهم أدى إلى ضياع شيء من القرآن بموت بعضهم وعلى رأسهم «بلاشير» الذي زعم أنه حقق المسألة ووجد أن عددهم سبعة وفي قول آخر : إنهم تسعة أشخاص.

أما «شيفالي» فذكر أنهم اثنان فقط (١).

مستندين على روايات ذكرت بعض الحفظة كما في طبقات ابن سعد وهم :

١ ـ ابن مسعود.

٢ ـ سالم.

٣ ـ معاذ بن جبل.

٤ ـ أبي بن كعب.

٥ ـ زيد بن ثابت.

٦ ـ أبو يزيد.

٧ ـ أبو الدرداء.

الجواب :

كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ينزل عليه القرآن الكريم فيقرؤه على صحابته بتؤدة وتمهل كي يحفظوه ويفهموه «كنا نحفظ العشر فلا نتجاوزها حتى نحفظها ونعمل بها» (٢) قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذا نزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدوي النحل فأنزل عليه يوما فمكث ساعة فسري عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال : «اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وارضنا وارض عنا» ثم

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن بلاشير ص ٢٨ ، ومقدمة القرآن واط ص ٤١.

(٢) ……..

٤٤٣

قال : أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) حتى ختم عشر آيات (١).

وقد جعل الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ القرآن الكريم في المقام الأول في العناية والاهتمام فتنافسوا في حفظه وفهمه ، فكانوا يكثرون من قراءته وترداده آناء الليل وأطراف النهار.

عن أبي موسى قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

«إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن ، حين يدخلون بالليل ، وأعرف منازلهم من أصواتهم ، بالقرآن بالليل ، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار ..» (٢) الحديث.

وكان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ يتفاخرون بحفظ شيء من سور القرآن الكريم من فم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده إلى عبد الله أنه قال : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٣) ثم قال : على قراءة من تأمروني أن أقرأ؟ فلقد قرأت على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بضعا وسبعين ولقد علم أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أني أعلمهم بكتاب الله. ولو أعلم أن أحدا أعلم مني لرحلت إليه» (٤).

وكان اعتمادهم في الحفظ على التلقي والسماع من الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فكان من خصائص هذه الأمة حفظهم كتاب ربهم في صدورهم فوضعوا «أناجيلهم في صدورهم» فلا عجب والحال كما سمعت أن يحفظه الجم الغفير من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ فكان على رأسهم الخلفاء الأربعة وكان منهم : حذيفة بن

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب تفسير القرآن من سورة المؤمنون حديث رقم ٣١٧٢.

(٢) انظر صحيح مسلم ٤ / ١٩٤٤ كتاب فضائل الصحابة حديث رقم ٢٤٩٩.

(٣) سورة آل عمران : ١٦١.

(٤) صحيح مسلم ٤ / ١٩١٢ كتاب فضائل الصحابة حديث ٢٤٦٢.

٤٤٤

اليمان ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وعبد الله بن مسعود ، وأبو هريرة ، وعبد الله ابن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وأبوه. وزاد بعضهم طلحة ، وسعدا ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وعبد الله بن السائب قارئ مكة ، وغيرهم من المهاجرين.

وذكر من الأنصار : أبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، ومعاذ بن جبل ، ومن أزواج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عائشة ، وحفصة وأم سلمة ولا شك أن بعض من ذكرنا أكثر في القراءة وأعلى من بعض وإنما خصصنا بالتسمية كل من وصف بالقراءة ، وحكي عنه منها شيء(١).

وقد ذكرت هذا الجم الغفير من الصحابة لأنقض مزاعم كل من «بلاشير» و «شيفالي» و «نولديكه» حيث زعم بعضهم أن إيداع الحفظ لحافظة الصحابة أدى لاضطراب النص القرآني ضد المرتدين ، خاصة إذا علم أنه مات من القراء في معركة اليمامة «خمسمائة من الصحابة ، وسبعون من القراء في يوم «بئر معونة» كما جاء في صحيح البخاري عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : «بعث النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سبعين رجلا لحاجة يقال لهم : القراء. فعرض لهم حيان من بني سليم رعل وذكوان عند بئر يقال له : «بئر معونة» فقال القوم : والله ما إياكم أردنا ، إنما نحن مجتازون في حاجة للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقتلوهم. فدعا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عليهم شهرا في صلاة الغداة ، وذلك بدء القنوت وكنا نقنت» (٢).

فالروايات التي استنتج منها «بلاشير» أن العدد محصور بسبعة أو تسعة لم يقصد منها الحصر كقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

«خذوا القرآن من أربعة : من ابن أم عبد ـ فبدأ به ـ ومعاذ بن جبل ، وأبي بن كعب ، وسالم مولى أبي حذيفة» (٣).

__________________

(١) انظر المرشد الوجيز لأبي شامة ص ٤١ ـ ٤٢.

(٢) انظر صحيح البخاري ٥ / ٤١ ـ ٤٢ كتاب المغازي.

(٣) انظر صحيح مسلم ٤ / ١٩١٣ كتاب فضائل الصحابة حديث رقم (٢٤٦٤).

٤٤٥

وما كان من ألفاظها للحصر فللعلماء فيها تأويلات منها :

١ ـ أنه لم يجمع جميع القرآن عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويأخذه من فيه تلقيا ، غير تلك الجماعة ، فإن أكثرهم أخذوا بعضه عنه ، وبعض القرآن عن غيره.

٢ ـ منها أنه لم يجمعه على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ممن ظهر به وأبدى ذلك من أمره وانتصب لتلقينه ، وأصبح يقصد للتلقي عنهم بالإشارة من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأحيانا لشهرتهم بين الصحابة في تعليم القرآن الكريم.

وقيل : فيها تأويلات أخرى.

٣ ـ ومنها أنه لم يجمعه مكتوبا لنفسه غير هؤلاء ..

أما الروايات التي اعتمد عليها المستشرقون وعلى رأسهم «بلاشير» في تحديد العدد بسبعة أو تسعة هما روايتان عن أنس ـ رضي الله عنه ـ وبعض الروايات التي ذكرها ابن أبي داود في كتابه المصاحف.

فالرواية الأولى عن أنس من طريق ثمامة : «مات النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يجمع القرآن غير أربعة : أبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد ، قال : ونحن ورثناه».

والرواية الثانية رواها عن أنس من طريق قتادة حيث سئل عن من جمع القرآن على عهد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : أربعة كلهم من الأنصار : أبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد».

فالملاحظ أن رواية ثمامة خالفت رواية قتادة من وجهين :

أ ـ التصريح بصيغة الحصر في الأربعة.

ب ـ ذكر أبي الدرداء بدلا من أبي بن كعب.

فعلى هذا فالروايتان مضطربتان.

٤٤٦

قال المازري : لا يلزم من قول أنس لم يجمعه غيرهم أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك ؛ لأن التقدير أنه لا يعلم أن سواهم جمعه ، أو لم يكن حاضرا في ذهنه سواهم. وإلا فكيف الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلاد … لذا فإنا لا نسلم حمله على ظاهره ، لكن لا يلزم من كون كل واحد من الجم الغفير لم يحفظه كله أن لا يكون حفظه مجموعة الجم الغفير ، وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه بل إذا حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى. ويكفى أن نشير أن من قتل يوم بئر معونة في عهده ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سبعون قارئا ليبين تهافت حمل هذا الحديث على ظاهره (١).

وقد علق الإسماعيلي على الحديثين بقوله : هذان الحديثان مختلفان ، ولا يجوز أن في الصحيح مع تباينهما بل الصحيح أحدهما.

وقد جزم البيهقي أن ذكر أبي الدرداء وهم والصواب أبي بن كعب.

وقال الداودي : لا أرى ذكر أبي الدرداء محفوظا.

ولا شك أن أبا الدرداء ممن حفظ برواية ذكرها ابن أبي داود برواية حسنة مرسلة.

المهم أن صيغة الحصر لم يقصد منها حصر العدد فيهم فقط ونفيه عن غيرهم لأن الواقع أثبت عكسه.

وفي هذا رد قوي على مزاعم المستشرقين الذين حاولوا تقييد العدد لإضعاف صفة التواتر عن القرآن الكريم وإثبات نقصه بموت بعضهم.

ب ـ نزاهة كتبة الوحي :

استغل المستشرقون حادثة ردة عبد الله بن أبي السرح (٢) ليشككوا في نزاهة كتبة القرآن الكريم حتى زعم بعضهم أنه زاد في القرآن بما يزيد عن خمس

__________________

(١) انظر فتح الباري ٩ / ٥٢ (بتصرف).

(٢) هو عبد الله بن سعد بن أبي السرح أخو عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ من الرضاعة كانت ـ

٤٤٧

حجم المنزل. كما زعم «كازانوفا» أن الأرض لفظت كاتبا آخر ليوحي أن عدم النزاهة لم تقتصر على واحد (١).

الجواب :

إن عمل عبد الله بن أبي السرح لم يتكرر من أحد سواه ، ولم يثبت لنا التاريخ ، ولا كتب السير أن واحدا فعل صنيعه على عكس مزاعم المستشرقين. ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يترك هذه القضية دون اهتمام بل لما كشف له إساءة عبد الله بن أبي السرح وحكم بكفره أوقفه عن كتابة الوحي وأهدر دمه لبشاعة فعله وسوء أدبه مع خالقه ، وظنه السيئ برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى فر من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة (٢) ، ولم يشفع له إلا صدق توبته وحسن ندامته التي كانت بإلحاح من أخيه في الرضاعة عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ ورسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يكن ليبقي أي تغيير حصل في كتاب الله سبحانه وإن أبقى شيئا فيكون لجواز إنزال القرآن بما سبقت به يد الكاتب كموافقات عمر لربه عزوجل. قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : «وافقت الله في ثلاث ، أو وافقني ربي في ثلاث : قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، وقلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب ، قال : وبلغني معاتبة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعض نسائه فدخلت عليهن قلت : إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خيرا منكن حتى أتيت إحدى نسائه قالت : يا عمر : أما في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما يعظ

__________________

ـ أمه أشعرية. استعمله عثمان رضي الله عنه على مصر ، وكان محمودا في ولايته شارك في كثير من معارك الإسلام منها : معركة ذات الصواري وقد سهل على يديه فتح إفريقية عنوة ، وغيرها من الثغور.

كان أبوه سعد من المنافقين الكفار. أسلم عبد الله ثم ارتد فأهدر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دمه ، ولما فتح رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مكة رجع إليها آويا إلى بيت أخيه عثمان ـ رضي الله عنه ـ الذي طلب له الأمان من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، فقبل فيه شفاعة عثمان ، وحسن إسلامه ، مات سنة ٥٩ ه‍ انظر الإصابة ٢ / ٢٠٩.

(١) انظر مقدمة القرآن ـ وهامشه ـ بلاشير ١٢ ـ ١٣ ، والقرآن والمستشرقون ص ٨٥ ـ ٨٦.

(٢) القرآن والمستشرقون ص ٨٥.

٤٤٨

نساءه حتى تعظهن أنت» (١).

ومع هذا لم يخرج ابن الخطاب عن دائرة الإيمان. بل اعتبر هذا مكرمة من الله سبحانه أن يوافقه في مراده فحمد الله سبحانه على ذلك.

والجدير بالذكر أن عبد الله بن أبي السرح لم يكن الكاتب الوحيد لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بل لقد بلغوا الأربعين ونيفا من الكتاب (٢). كما أن الكتابة كانت عملية توثيقية خوف النسيان لا أكثر ، أما الاعتماد فبالدرجة الأولى كان على حفظ الصحابة ـ رضوان الله عليهم له بالتلقين من فم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو من بعضهم بعضا.

بل إن الحافظ الأول لهذا الكتاب العزيز هو الله سبحانه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٣).

وقد تكفل بهذا في صدر رسوله (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)(٤) ولدوام هذا الحفظ كما أنزل منه سبحانه جعل جبريل يدارسه القرآن في رمضان من كل عام مرة وفي العام الأخير عارضه إياه مرتين.

لذا كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دائم القراءة له في الصلوات والمناسبات ، ومواطن الدرس للصحابة رضوان الله عليهم. لذا فلا يعقل بعد كل هذا أن يبقى شيء من تغيير وتبديل في القرآن الكريم خاصة بعد ردة عبد الله بن أبي السرح ، فما كان موافقا لمراد الله أبقى وما خالف نسخت تلاوته وأحكم باقيه.

والمعروف عن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ، حرصهم الشديد أن لا

__________________

(١) انظر إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ٧ / ١٤ كتاب التفسير.

(٢) كتاب الوحي ص ٦٤ وما بعدها.

(٣) سورة الحجر : ٩.

(٤) سورة القيامة : ١٧.

٤٤٩

يبدلوا ولا يغيروا شيئا من القرآن ، وكانوا يحرصون على تلقيه منه شخصيا ، وحادثة إنكار عمر بن الخطاب على هشام بن حكيم مشهورة عند ما سمع ابن الخطاب هشاما يقرأ سورة على غير الوجه الذي سمعه من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأخذ بتلابيبه وذهب به إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى سمع قراءتهما وصوبهما فإذا كان هذا الشأن بحرف فكيف بتغييرات ابن أبي السرح التي أدت لزيادة خمس القرآن ـ على حد زعم بعضهم ـ.

اللهم إن هذا إلا اختلاق وحسد من عند أنفسهم. مما يؤكد بطلان مزاعم المستشرقين ونزاهة كتبة الوحي ، وسلامتهم من أي شبهة تنسب إليهم كمزاعم «بلاشير» في مقدمته.

أما الرواية الثانية التي استدل بها «كازانوفا» للطعن في نزاهة الكتبة وهي أن الأرض لفظت كاتبا آخرا غير أمين من كتبة الوحي لتغييره في القرآن (١).

فهذه الرواية أو هى من سابقتها من حيث الاحتجاج ، لأنها رواية ضعيفة لم تثبت تاريخيا ، ولم تنسب لأحد معروف ، وذكرها في «كتاب المصاحف» لابن أبي داود ليس حجة لأن الكتاب فيه الصحيح والضعيف والموضوع ، وصاحبه كان كحاطب ليل همه جمع كل ما قيل في موضوعه ولم يميز فيه بين ما صح من الروايات وغيره.

وحتى ابن أبي داود الذي أثبت أن هناك من لفظت الأرض جثته لم يثبت أنه لعدم أمانته في كتابة الوحي بل قال : [أما الآخر الذي لفظته الأرض لوجه غير هذا](٢).

لذا فلم يشر «كازانوفا» ولا «بلاشير» الذي نقل قوله لمرجع موثق ذكر هذه الرواية ولم أجدها إلا في كتاب المصاحف لابن أبي داود باللفظ المذكور سابقا ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن ـ بلاشير وهامشه ص ١٢ ـ ١٣ ، والقرآن والمستشرقون ص ٨٥ ـ ٨٦.

(٢) المصاحف لابن أبي داود ص ٧ ـ ٨.

٤٥٠

الشبهة الثالثة :

صحيفة أخت عمر بن الخطاب.

زعم «بلاشير» أن صحيفة أخت عمر بن الخطاب التي كانت عند ختنه غير صحيحة ؛ وذلك ليثبت أن القرآن الكريم لم تبدأ كتابته إلا في المدينة المنورة سنة (٦٢٢ م) تأثرا باليهود. بناء على ما كان يرجحه «بلاشير» (١).

الجواب :

هذه القضية من جملة أخطاء المستشرقين التاريخية التي تفضحها كتب التاريخ والسير ليحاولوا إثبات أن الكتابة لم تبدأ في مكة المكرمة وأن بدايتها كان في المدينة المنورة تأثرا باليهود الذين كان لهم كتاب فرغب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يكون له كتاب مثلهم فشرع بها.

أما مسألة تأثر الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ باليهود فإن التاريخ يكذبه ، بل كان حريصا كل الحرص أن يكون الإسلام فريدا في كل شيء غير مقلد أو محاك لأي من الدينين في شيء فلما كثر ذلك منه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أثار هذا حفيظة اليهود فصرحوا بقولهم : [ما يريد محمد إلا خلافنا].

كما أني قد ذكرت سابقا أن أمر الكتابة كان معروفا في مكة لكونها بلدا تجاريا ، وإن كان على نطاق ضيق. وقد ذكرت كذلك أن الكتابة بطريق رسمي بأمر من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانت ملازمته لحفظ الكتاب العزيز من أجل التوثيق ، كما أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ لحرصهم على حفظ ما ينزل كان كثير منهم ممن يجيد الكتابة ينسخ له نسخة خاصة يرجع إليها وقت حاجته ، ويكتب عليها بعض تعليقاته من حكم ، أو تفسير غريب أو غير ذلك. واشتهر

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ١٥.

٤٥١

من أصحاب المصاحف الخاصة عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأبي ابن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمرو ، ومصاحف أزواج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عائشة ، وحفصة ، وأم سلمة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ (١).

فهذه المصاحف تشهد أن كتابة القرآن كانت منتشرة منذ العهد النبوي وأن ما زعمه «بلاشير» وغيره لم يكن صحيحا ، بل ينقصه التوثيق والتدقيق العلميان. أما بالنسبة لصحيفة أخت عمر التي شككوا في صحتها فقد أثبتها الإمام ابن سعد في طبقاته خلال سرده لقصة إسلام عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال ابن سعد : [أخبرنا إسحاق بن يوسف الأزرق قال : أخبرنا القاسم بن عثمان البصري عن أنس بن مالك قال : خرج عمر متقلدا السيف ، فلقيه رجل من بني زهرة ، قال : أين تعمد يا عمر؟ فقال : أريد أن أقتل محمدا ، قال : وكيف تأمن في بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمدا؟ قال : فقال عمر : ما أراك إلا قد صبوت وتركت دينك الذي أنت عليه ، قال : أفلا أدلك على العجب يا عمر؟ إن ختنك وأختك قد صبوا وتركا دينك الذي أنت عليه. قال : فمشى عمر ذامرا حتى أتاهما وعندهما رجل يقال له : خباب. قال : فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت ، فدخل عليهما. فقال : ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟ قال : وكانوا يقرءون «طه» فقالا : ما عدا حديثا تحدثناه بيننا. قال : فلعلكما قد صبوتما؟ قال : فقال له ختنه : أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟ قال : فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديدا ، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها ، فنفحها بيده نفحة فدمى وجهها فقالت وهي غضبى يا عمر : إن كان الحق في غير دينك أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فلما يئس عمر قال : أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأه. قال : وكان عمر يقرأ الكتب. فقالت أخته : إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون ، فقم فاغتسل أو توضأ. قال : فقام عمر فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأ «طه» حتى

__________________

(١) انظر كتاب المصاحف لابن أبي داود ص ٦٠ وما بعدها.

٤٥٢

انتهى إلى قوله (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)(١) قال : فقال عمر : دلوني على محمد .. فجاءه في الدار الذي في أصل الصفا فأسلم](٢).

هذه القصة تثبت وجود شيء مكتوب من القرآن الكريم في مكة المكرمة وهي مبطلة زعم «بلاشير» أن الكتابة لم تبدأ إلا في المدينة المنورة سنة (٦٢٢ م).

أما بالنسبة للكتابة في مكة للقرآن الكريم كانت على نوعين :

الأول : الكتابة الرسمية وهي التي كانت بأمر من الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لكتبة الوحي.

الثاني : الكتابة الفردية وهي كتابة بعض الصحابة لصحف خاصة بهم لحاجتهم الشخصية لها.

والنوع الأول فقط الذي يعتمد عليه ويوثق به. أما النوع الثاني فالثقة به أقل لأن كتابتهم لم تقتصر على القرآن وحده بل دخله غير القرآن من تفسير ، أو أحكام أو تفسير غريب أو غير ذلك من تعليق خاص بالصحابي صاحب المصحف أو صاحب النسخة.

والنوع الأول يبطل زعم «واط» أن الكتابة كانت فردية فقط (٣) فبهذا التوضيح نرد مزاعم المستشرقين وعلى رأسهم «بلاشير» و «واط».

خلاصة الجمع في المرحلة الأولى :

نزل القرآن الكريم على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نجوما في ثلاث وعشرين سنة ، وكان كلما نزل منه شيء تلاه على صحابته ودعا أحد كتبته فيمليه عليه ، فيكتبه

__________________

(١) سورة طه آية : ١٤.

(٢) طبقات ابن سعد ٣ / ٢٦٧ ـ ٢٦٩ (بتصرف).

(٣) مقدمة القرآن ـ واط ص ١٥.

٤٥٣

فيما تيسر من وسائل الكتابة في عصرهم كالرقاع ، واللخاف ، والعسب ، والأقتاب ، وغير ذلك. ولم يمت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلا والقرآن محفوظ في الصدور والسطور.

وكان الباعث على كتابته حرص الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ على تبليغ الوحي على الوجه الأكمل ، وحرصا على عدم ضياع شيء منه ، أو نسيان بعضه ـ عكس ما زعم «بلاشير» أن الجمع كان لكثرة الموانع المادية (١) ثم تسجيله لأن الكتابة أبقى ولا يتطرق إليها ما يتطرق للمحفوظ من نسيان فيكون بهذا قد اجتمع للحفظ عاملان : الحفظ والكتابة.

مميزات جمع القرآن الكريم على عهده ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

١ ـ إنه لم يكن مجموعا في مصحف واحد ، بل كان مفرقا في الرقاع واللخاف ، والعسب ، والأكتاف ، وغيرها.

٢ ـ إنه لم يكن مرتب السور والآيات كتابة ، لأنه كتب أولا بأول على حسب نزوله.

٣ ـ إنه كان مكتوبا بما يحتمل القراءة بالأحرف السبعة التي نزل عليها.

٤ ـ كتب بعض الصحابة مصاحف خاصة بهم وكانت تتضمن منسوخ التلاوة من الآيات ، لعدم بلوغه الناسخ.

أما عدم جمع القرآن مرتبا كتابة في مصحف واحد فكان لتوقع نزول المزيد من الآيات على الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولعدم اكتمال الوحي فلو أنه رتب وبدل مرة تلو المرة كلما نزل لأدى لتبديل وتغيير كثير في القرآن الكريم (٢).

__________________

(١) مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ١٥.

(٢) انظر الوحي والقرآن الكريم ـ للذهبي طبعة مكتبة وهبة ـ مصر لسنة ١٤٠٦ / ١٩٨٦ م.

ص ١٢٩ ـ ١٣٠.

٤٥٤

المسألة الثانية :

المرحلة الثانية من الجمع القرآني وشبههم حولها :

جمع القرآن الكريم في عهد خليفة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ :

أثار المستشرقون مجموعة من الشبهات على الجمع في عهد أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ.

الشبهة الأولى :

ذكر «بلاشير» عدة أقوال في أول جامع للقرآن. زعم «بلاشير» : أن الجمع بدأ في عهد أبي بكر ، وتم في عهد عمر ، وقال : بل هو أول جامع للقرآن عمر نفسه. وقول آخر الجامع هو سالم. وقول آخر : إن أول من جمع هو علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وزعم «كازانوفا» أن الجمع تم في عهد الحجاج (١).

الجواب :

لما تولى الخلافة أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ بعد وفاة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان أول عمل قام به محاربة المرتدين. فلما وقعت «موقعة اليمامة» سنة اثنتي عشرة للهجرة استحر القتل في الصحابة ومات من حفاظ القرآن الكريم خلق كثير قيل : خمسمائة ، وقيل : سبعمائة. فخشي الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ أن يكثر القتل في القراء في بقية المواطن. وربما يضيع شيء من القرآن بموتهم ، لذا أشار عمر الفاروق على أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ أن يجمع القرآن في مكان واحد فلما رأيا المصلحة وقواعد الدين تدعو لذلك ، أوكلا أمر جمعه لزيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ.

__________________

(١) مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٣٣ ـ ٣٤ ، ٦٨ والقرآن والمستشرقون ص ١١٩ ـ ١٢٠.

٤٥٥

روى البخاري في صحيحه بسنده إلى زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ وكان ممن يكتب الوحي قال : أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر. فقال أبو بكر : أن عمر أتاني فقال : أن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه ، وإني لأرى أن يجمع القرآن. قال أبو بكر : قلت لعمر : كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال عمر : هو والله خير فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري ، ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد بن ثابت : وعمر عنده جالس لا يتكلم. فقال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك ، كنت تكتب الوحي لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فتتبع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قلت : كيف تفعلان شيئا لم يفعله النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال أبو بكر : هو والله خير فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من التوبة آيتين مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ..)(١) إلى آخر السورة وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حتى توفاه الله ، ثم عند حفصة بنت عمر (٢).

فالناظر في رواية البخاري يجد أن الذي أشار بالجمع هو عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ والمنفذ الفعلي لهذا الجمع هو أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ والدافع الفعلي لذلك خوفا من ضياع شيء من القرآن لموت كثير من القراء في المعارك ، والواضح من ظاهر الروايات أن الجمع ابتدأ وتم في عهد أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ والمقصود من الجمع المنسوب لعمر ـ رضي الله عنه إشارته بذلك ، قال «بيرتون» : [إن الجمع إذا استخدم بالنسبة لعمر فهو يعني أشار بجمعه أو نصح

__________________

(١) سورة براءة : ١٢٨.

(٢) انظر صحيح البخاري ٥ / ٢١٠ كتاب تفسير القرآن ـ تفسير سورة التوبة ٩.

٤٥٦

بذلك].

وهذا يدل قول «شيفالي» الذي أنكر هذا المعنى حيث قال : [إن جمع : أشار بجمعه معنى اعتباطيا](١) وهذا يدل على جهل «شيفالي» بالعربية ، لأن من أساليب العربية عند ما نقول كتب الملك إلى فلان معناه : أشار بالكتابة إليه ولا يشترط القيام بذلك.

والذي يؤيد أن الجامع أبو بكر وأنه تم في عهده قول علي ـ رضي الله عنه ـ : «أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر ـ رحمه‌الله تعالى ـ ، وهو أول من جمع بين اللوحين» (٢).

أما عمر ـ رضي الله عنه ـ فكان أحد المكلفين بواجب الجمع بأمر من الخليفة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ.

روي أن أبا بكر قال لعمر وزيد : اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه (٣).

وقد جاء في تفسير الشاهدين أقوال :

١ ـ الحفظ والكتابة أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

٢ ـ أو المراد أنهما يشهدان على أن تلك الوجوه هي مما نزل بها القرآن. والمعروف أن عمر وزيدا كانا يحفظان القرآن ، ويجيدان القراءة والكتابة.

أما زعمهم أن سالما هو أول من جمع ، وأول من سماه مصحفا. فهذا لا يصح لأن كونه أول من جمع يخالف ما جاء في صحيح البخاري حسب الرواية سابقة الذكر.

__________________

(١) جمع القرآن ـ بيرتون ص ١٢٣.

(٢) المصاحف لابن أبي داود ص ١١.

(٣) انظر صحيح البخاري بشرح فتح الباري ٩ / ١٤ كتاب فضائل القرآن.

٤٥٧

وأما كونه أول من سماه مصحفا ، فهذا كذلك ليس صريحا في حقه ، وإن كان لا يمنع فقد روى «ابن أشتة» في كتابه (المصاحف) عن طريقه تسميته مصحفا.

قال «ابن أشتة» : عن ابن شهاب قال : «لما جمعوا القرآن فكتبوه على الورق ، قال أبو بكر : التمسوا له اسما. فقال بعضهم : «السفر» قال ذلك تسمية اليهود. فكرهوا ذلك. وقال بعضهم : فإن الحبشة يسمون مثله «المصحف» فاجتمع رأيهم على أن سموه «المصحف» (١).

فمن هنا يظهر أن التسمية كانت بعد تمام الجمع وباتفاق الجميع.

أما زعمهم أن الجامع هو الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق في عهد الخليفة الأموي. فهو مما يرده التاريخ والروايات الصحيحة لأن الجمع تم كما ذكرت في عهد أبي بكر بإشارة من عمر وبعمل من زيد بن ثابت وبمساعدة عمر وبعض الصحابة معه ـ رضوان الله عليهم ـ.

أما عمل الحجاج فكان مجرد رد بعض الأحرف إلى مكانها عند ما دخلها اللحن. وقد ذكر ابن أبي داود الأحرف التي أعادها الحجاج لما كانت عليه في كتابه «المصاحف» (٢) وقد سبق ذكرها.

وقام بإدخال تحسينات على المصحف لتلاشي الخطأ في كتاب الله سبحانه كالإعجام. فألف لذلك لجنة وأمر بعض العلماء بتولي هذا الأمر العظيم وكان ذلك بأمر من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان الذي كان الحجاج أحد ولاته وبقي هذا الحال للمصحف ليومنا هذا.

أما زعم «بلاشير» أن أول من جمع القرآن علي بن أبي طالب. استند «بلاشير» في قوله هذا على رواية ابن أبي داود في كتابه المصاحف حيث روى

__________________

(١) انظر صحيح البخاري بشرح فتح الباري ٩ / ١٤ كتاب فضائل القرآن.

(٢) انظر مباحث في علوم القرآن للشيخ مناع القطان ص ٧٨.

٤٥٨

بسنده لمحمد بن سيرين قوله : «لما توفي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أقسم على أن لا يرتدي برداء إلا لجمعه حتى يجمع القرآن في مصحف. ففعل. فأرسل إليه أبو بكر بعد أيام. أكرهت إمارتي يا أبا الحسن؟ قال : لا ، والله. إلا أني أقسمت أن لا أرتدي برداء إلا لجمعة .. فبايعه ثم رجع» (١).

والشاهد في الرواية «أنه أقسم أن لا يرتدي برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف ففعل».

وهذا الحديث ضعيف لا يعتمد عليه لأن فيه أشعث ، وهو لين الحديث كما ذكر ذلك ابن أبي داود نفسه (٢).

وقد ضعف الحديث كذلك ابن حجر لانقطاع في سنده كما في فتح الباري (٣).

أما الجمع الذي جاء في الحديث لو صح لحمل على حفظ الصدور لا على كتابته في صحف.

أما ما جاء في رواية أخرى «حتى جمعته بين اللوحين» (٤) فتناقض رواية «علي» وهي قوله : «رحم الله أبا بكر ، هو أول من جمع القرآن بين لوحين» وفي رواية «.. أول من جمع كتاب الله» (٥).

فخلاصة هذا القول : أن الجمع المقصود به هو حفظ الصدر لا كتبه له.

__________________

(١) انظر المصاحف لابن أبي داود ص ٥٩.

(٢) المصاحف لابن أبي داود ص ١٦.

(٣) فتح الباري ٩ / ١٣.

(٤) المرجع السابق ٩ / ١٣.

(٥) فتح الباري ٩ / ١٣.

٤٥٩

الشبهة الثانية :

دافع أبي بكر للجمع :

زعم بعض المستشرقين أن الدافع لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في جمع القرآن كان لغرض خاص به وهو أن لا يكون أقل من بعض الصحابة الذين كانوا يملكون مصحفا خاصا بهم ولم يكن هو يملك ذلك (١).

الجواب :

لقد بينت سابقا أن الجمع لم يكن ابتداء من أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ بل كان بإشارة من عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وقد ذكرت رواية البخاري أن أبا بكر تمنع في بادئ الأمر خوفا من أن يفعل شيئا لم يفعله رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لذا قال لعمر : (.. كيف تفعل شيئا لم يفعله الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ..) قال ابن بطال مبينا سبب تمنع أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وتمنع زيد بادئ الأمر : لأنهما لم يجدا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فعله فكرها أن يحلا أنفسهما محل من يزيد احتياطه للدين على احتياط الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وزال هذا التحرج عند ما أقنعهما عمر ـ رضي الله عنه ـ بفائدة ذلك : وهو خشية أن يتغير الحال في المستقبل إذا لم يجمعا القرآن فيصير إلى الخفاء بعد الشهرة (٢).

فالدافع إذا خوفه من ضياع شيء من القرآن الكريم بموت حفظته في معارك الإسلام أو تلف شيء من القطع التي كتب عليها القرآن مع مر السنين. لا كما زعم بعض المستشرقين وعلى رأسهم «واط» و «بلاشير» أن الدافع كان مباهاة من أبي بكر ليتساوى مع من عنده نسخة خاصة به من هذا المصحف.

__________________

(١) مقدمة القرآن ـ واط ص ٤١ ، ومقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٤١.

(٢) فتح الباري شرح صحيح البخاري ٩ / ١٣.

٤٦٠

الشبهة الثالثة :

وضع الصحف عند حفصة عمل غير رسمي :

حاول بعض المستشرقين التشكيك في الصحف التي كانت في حيازة أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ بحجة أن هذه الصحف لم تكن في الحيازة الرسمية ولا أماكن الحفظ الخاصة بالدولة (١).

الجواب :

بعد جمع القرآن الكريم في الصحف ، وضعت هذه الصحف عند أبي بكر الصديق ، ثم عند عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ ولما توفي عمر ـ رضي الله عنه ـ وضعت الصحف عند ابنته حفصة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ كما بينت ذلك رواية البخاري في صحيحه والآنفة الذكر واستصحب الحال على ما كان عليه عند ما تولى الخلافة.

فليس هناك مهمة أو عمل رسمي أو كل إلى حفصة ـ رضي الله عنها ـ كل ما في الأمر أنها أمانة مباركة وتراث مقدس كان يشرف عليه أولئك الذين يحفظونه في بيوتهم ، وهذه جزئية ليست جوهرية ، ولكن كان لا بد من التنبيه عليها (٢).

وحفصة من أجدر الناس لهذه المهمة العظيمة كيف لا؟! وهي زوج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ والحافظة لكتاب الله تعالى ، وهي من أوصى عمر أن تكون الصحف عندها ، وهي متمكنة بالقراءة والكتابة. ففيها ـ رضي الله عنها ـ كل المقومات التي يصان عندها تراث مقدس كهذه الصحف خاصة إذا أضفنا لذلك حرصها الشديد عليها حتى أنها لم تعطها

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن ـ واط ص ٤٢ ـ ٤٣ ، وانظر قضايا قرآنية ص ١٧١ ، دائرة المعارف الإسلامية ١١ / ١١٣٠.

(٢) قضايا قرآنية ص ١٧١.

٤٦١

للخليفة الثالث عثمان بن عفان ـ رضي الله عنهما ـ عند ما أراد اعتمادها كأصل لكتابة مصحفه العثماني إلا بعد اشتراطها عليه أن يرجعها لها بعد نسخه للصحف وبقيت عندها ـ رضي الله عنها ـ إلى أن توفيت. ثم طلبها مروان بن الحكم من عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ فسلمها له فغسلها وأحرقها ، خوفا أن تسبب شكا في نفوس بعض المسلمين إن شيئا منها لم يكتب (١).

وقد حاول «بلاشير» أن يثير زوبعة من الشكوك حول هذه الصحف وأنها لا تصلح أن تكون أساسا لجمع عثمان على اعتبار أنه لا فرق بينها وبين أي صحف خاصة بالصحابة ـ رضوان الله عليهم (٢).

هذا الكلام يخلو من الدقة العلمية ، والوثائق التوثيقية. لأن هذه الصحف التي هي مصحف أبي بكر تعتبر مصحفا رسميا ؛ لأنها تضافرت عليها الجهود وتوفرت لها العوامل لتكون في أعلى مراتب التوثيق والدقة مما لا يتطرق إليها الشك ولا الارتياب. حيث اعتمدوا على الأمور التالية عند تدوين هذه الصحف :

١ ـ حفظ اللجنة المكلفة للجمع لكتاب الله سبحانه وتعالى ـ وعلى رأسها زيد بن ثابت ، وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ.

٢ ـ سلامة الأدوات التي كتب عليها النص كاللخاف ، والعسب ، والرقاع ، والعظام ، وغيرها من الأدوات المستعملة في ذلك العصر للكتابة.

٣ ـ حفظ الصحابي لما عنده من قرآن في صدره.

٤ ـ كتابة نفس القطعة المكتوبة بين يدي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبأمره من قبل كتبة الوحي.

٥ ـ شهادة شاهدين على أن المكتوب كتب بين يدي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهذا على قول أن الشاهدين رجلان.

هذه الأمور التوثيقية التي نالتها هذه الصحف لم تنلها أي صحف خاصة

__________________

(١) انظر فتح الباري ٩ / ١٦ ، ومباحث في علوم القرآن ـ صبحى الصالح ص ٧٧.

(٢) نفس المرجع ٩ / ٢٠ كتاب فضائل القرآن ، وكتاب المصاحف ص ٣٣.

٤٦٢

بأي صحابي. لذا كانت تستحق أن تكون أصلا للمصحف العثماني.

الشبهة الرابعة :

الآيتان اللتان في آخر سورة براءة :

طعن المستشرقون في تواتر القرآن الكريم لذكر أبي خزيمة الوحيد لآيتي سورة التوبة (١).

الجواب :

جاء ذكر هاتين الآيتين في رواية زيد بن ثابت في صحيح البخاري حيث قال : (…. فتتبعت القرآن أجمعه …. فوجدت آخر سورة «براءة» مع خزيمة بن ثابت (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ..)(٢) الآيتان (٣).

وزاد في رواية (لم أجدهما مع أحد غيره) قال ابن حجر «أي مكتوبة كما ذكرت أن أصل كان توافق الكتابة للمحفوظ ولا يكتفي بأحدهما دون الآخر. وهذا ما فسره ابن حجر «للشاهدين» في قول أبي بكر لعمر وزيد (فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه) حيث فسر الشاهدين : بالحفظ والكتابة. وعدم وجودها مكتوبة عنده لا ينفي تواترها شفاها وحفظا في الصدور عند كثير من الصحابة ، لأنه جاء عن زيد بن ثابت : (كنت أسمع قراءة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لها كثيرا) فتلاوة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقتضي حفظ جمع من الصحابة لها. فهذا يؤكد تفسير ابن حجر أن عدم وجودهما عند أحد غيره أي مكتوبة.

__________________

(١) مقدمة بلاشير ص ٥٧ ـ ٥٨ ، ومقدمة القرآن واط ص ٤١ ـ ٤٢.

(٢) سورة براءة ١٢٨ ، ١٢٩.

(٣) انظر فتح الباري ٩ / ١٥ كتاب فضائل القرآن ، وكتاب المصاحف ص ١٣ ـ ١٤.

٤٦٣

والذي يؤكد أن هاتين الآيتين كانتا محفوظتين عند كثير من الصحابة أن عهدة التبليغ التي هي مطلوبة من الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تقتضي أن يكون التبليغ عاما ، وليس خاصا بصحابي واحد كأبي خزيمة لأن الواحد يجوز عليه النسيان والغفلة والإهمال في التبليغ.

وهذا ممتنع في حق الجمهرة من الناس. ولا يمكن الخروج من عهدة التبليغ إلا بتحقيق الغاية والمراد منه.

وكتابتهما دليل على وجودهما عند جمهرة من الصحابي (١).

الخلاصة :

مما تقدم يتضح لنا أن الجمع الذي تم على يد زيد بن ثابت في خلافة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ إنما هو جمع ماكت ، وكان مفرقا في حياة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على الألواح ، والأقتاب ، والعسب وغيرهم ، فنسخه في مصحف واحد ، وهو أشبه ما يكون بكتاب مفرق الأوراق في بيت فجمعت الأوراق بعضها إلى بعض وربطت بخيط.

مميزات هذا الجمع :

١ ـ أنه اقتصر على ما اثبتت قرآنيته تواترا ، ولم تنسخ تلاوته.

٢ ـ أنه جمع بين دفتي مصحف واحد.

٣ ـ أنه جمع رتبت فيه الآيات والسور على ما كانت عليه التلاوة في عهده ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

٤ ـ أنه كان مكتوبا بشكل يحتمل القراءة بالأحرف السبعة التي نزل بها القرآن (٢).

__________________

(١) انظر فتح الباري ١٩ ـ ١٤ ـ ١٦ كتاب فضائل القرآن (بتصرف) ومباحث في علوم القرآن ـ صبحي الصالح ص ٧٦.

(٢) انظر الوحي والقرآن الكريم ـ الذهبي ص ١٣٢ ، والمدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شبهة ص ٢٧٣.

٤٦٤

المسألة الثالثة :

المرحلة الثالثة من الجمع :

الجمع في عهد عثمان ـ رضي الله عنه ـ ورد الشبهات التي أثيرت عليه.

الشبهة الأولى :

زعم «بلاشير» أن دافع عثمان لجمع القرآن الكريم كان دافعا ارستقراطيا ، ولمصلحة الطبقة المكية الارستقراطية التي كان يمثلها (١).

الجواب :

هذه الشبهة المزعومة من جملة أباطيلهم وتهمهم التي لا تقوم على دليل علمي. لأن الروايات الصحيحة أكدت سلامة نوايا عثمان في جمعه ، فقد روى البخاري في صحيحه بسنده إلى أنس بن مالك : «أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان ، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين ، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى ، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها من المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ، ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة ، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق» (٢) رضي الله عنهم أجمعين.

__________________

(١) مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٥٧ ـ ٥٨.

(٢) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري ٩ / ١١ كتاب فضائل القرآن.

٤٦٥

فالدافع لعثمان إذن لم يكن حاجة شخصية في نفسه ولم يكن لنزعته الارستقراطية كما زعم «بلاشير» وإنما كان بسبب اختلاف الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في قراءة القرآن حسب تعليم معلميهم حسب الحرف الذي تلقوه من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى بلغ بعضهم أن يفضل قراءته على قراءته غيره ، وأن يكفر من لا يقرأ بقراءته (١).

أما وصف المجتمع الإسلامي بأنه فيه طبقات منها الطبقة الارستقراطية التي كان يمثلها عثمان ـ رضي الله عنه ـ على حد تعبير بلاشير المزعوم فهذا غير صحيح ؛ لأنه فهم ينطبق على المجتمع الغربي لا على المجتمع الإسلامي لأن المجتمع الإسلامي لا يعرف الطبقية فالناس فيه سواء لا فرق فيه بين الحاكم والمحكوم ، ولا بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى. فالناس فيه سواسية كأسنان المشط.

الشبهة الثانية :

لجان الجمع القرآني :

١ ـ القضية الأولى : نزاهة أفراد اللجنة المكلفة بالجمع :

شكك «بلاشير» في اللجان التي أنيط بها مهمة جمع القرآن الكريم وأن تكليفها كان لاعتبارات خاصة لا لكفاءة اللجنة ، كما زعم أن بعض اللجان كانت خيالية ، كما زعم أن بعض اللجان الفرعية بلغت اثني عشر رجلا (٢).

الجواب :

إن الاعتبارات الخاصة التي نسبها «بلاشير» للجنة الرئيسية التي كونها عثمان وهي من القرشيين الثلاثة الذين اتهمهم «بلاشير» بأنهم طبقة ارستقراطية : عبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، والمتزلف المتملق زيد بن ثابت ـ على حد تعبيره ـ (٣).

__________________

(١) نفس المرجع ٩ / ١٨ كتاب فضائل القرآن.

(٢) مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٥٦ ـ ٥٨.

(٣) نفس المرجع والصفحة.

٤٦٦

فما زال «بلاشير» يزعم أن المجتمع المسلم مجتمع ارستقراطي قياسا على المفهوم الغربي مع أنه مجتمع فريد ، لا يفرق فيه بين غني وفقير ، ولا بين حاكم ومحكوم ، وتعاليم الإسلام ما زالت فيه غضة طرية جعلت الناس فيه طبقة واحدة ، طبقة لا يخضعون إلا لله الواحد في كل عباداتهم ، وأحكامهم ، ومعاملاتهم ، فهم في صلاتهم على بساط واحد يصومون في وقت واحد ، ويحجون في وقت واحد ، وأماكن واحدة ، وعلى هيئة واحدة ، فمن هنا يظهر سوء فهم المستشرقين للمجتمع المسلم وروحه.

أما الدافع لعثمان لتكليف هؤلاء بهذا العمل العظيم فلم يكن لما ذكره «بلاشير» من الاعتبارات ، وإنما لدافع كفاءة أفرادها دون مكانتهم الاجتماعية أو صلاتهم الخاصة.

والذي يؤكد ذلك أن ناقدي عثمان الكثر في عهده لم ينتقدوه بمثل هذه الأقوال المكذوبة بأن استعمال لجنة جمع القرآن كان لدافع نفعي ، أو غرض شخصي ، أو مصاهرة مختلفة. فهؤلاء الصحابة كانوا يتمتعون بصفات تؤهلهم لهذا العمل الجليل ، فهم من صحابة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه ، ومن ثقات الصحابة وأفاضلهم ، وممن شهد لهم بالإيمان والخيرية والورع والإخلاص والأمانة التامة والنزاهة المطلقة.

فسعيد بن العاص ـ الذي زعم بلاشير أن مشاركته كانت مشاركة فخرية فقط لا فعلية ، لأنه كان آنذاك أميرا على الكوفة سنة ثلاثين من الهجرة (٣٠ ه‍) (١) مع أن الصواب أن سعيدا لم يكن بعد قد عين أميرا على الكوفة ، بل كان أحد أعضاء اللجنة الرباعية الرئيسيين وسعيد هذا فقد كان أفصح الناس ، وأشبههم لهجة برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد أدرك تسع سنين من حياة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يعلم عنه إلا كل خير. وقد استعمله عثمان ـ رضي الله عنه ـ على الكوفة واستعمله من بعده معاوية على المدينة. وما عرف عنه إلا الخير

__________________

(١) مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٥٦ ـ ٥٨.

٤٦٧

والاستقامة. وكان من أجواد قريش وحلمائها ، حتى قال فيه معاوية : لكل قوم كريم ، وكريمنا سعيد. كانت وفاته بالمدينة سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين للهجرة.

أما زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ فاختياره كان لأنه أكتب الناس وصاحب خبرة في الأمر ، حيث كان كاتبا لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لذا كان توجيه عثمان ـ رضي الله عنه ـ «فليمل سعيد ، وليكتب زيد» (١) وكان جامعا للصحف لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ الذي زكّاه بقوله له : «إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فتتبع القرآن فاجمعه» (٢) فحدد أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ الصفات التي امتاز بها «زيد» على غيره ومن أجلها اختاره للقيام بمهمة جمع القرآن الكريم.

١ ـ كونه شابا قويا ليكون أنشط لما يطلب منه.

٢ ـ كونه عاقلا فطنا ليكون أوعى له ، والعقل جماع الفضائل لأنه يحفظ العمل من النقص أو الخلل.

٣ ـ وكونه أمينا ، تقيا ، لتركن النفس إليه وتطمئن لعمله ، وتثق به.

٤ ـ وكونه كان يكتب الوحي لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليكون صاحب خبرة في الأمر مما يدعوه للإتقان (٣).

والذي يرد زعم «بلاشير» أنه كان [متكلفا ، متملقا] أن زيدا لم يطلب هذا الأمر بنفسه ، ولم يسع إليه ، بل كان تكليفا له من خليفة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عند ما قال له : (فتتبع القرآن فاجمعه) وقد أظهر ثقل هذه المسئولية على نفسه مما دعاه للتمنع والتردد يقصد [أي أبا بكر] فقد قال زيد ـ رضي الله

__________________

(١) انظر فتح الباري ٩ / ١٩ كتاب فضائل القرآن.

(٢) نفس المرجع ٩ / ١٠ كتاب فضائل القرآن.

(٣) نفس المرجع ٩ / ١٣ كتاب فضائل القرآن.

٤٦٨

عنه ـ : (فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قلت : كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ؟ قال : هو والله خير؟ فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهم) (١).

فأين هذا التملق والتكلف المزعوم من قبل هؤلاء المستشرقين؟؟.

أما عبد الله بن الزبير فهو الصحابي الجليل ، أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة من قريش ، وقد حضر وقعة اليرموك ، وشهد خطبة عمر بالجابية ، وبويع له بالخلافة عقيب موت يزيد بن معاوية سنة (٦٤ ه‍) وقيل سنة خمس وكانت ولايته تسع سنين ، وقد سمع ـ رضي الله عنه ـ من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وحفظ عنه ، وهو الذي حمى البيت الحرام من فعل الحجاج واعتداءاته عليه ، قتل على يد الحجاج صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر بعد أن خذله عامة أصحابه ـ رحمة الله تعالى عليه ـ ومناقبه كثيرة تحتاج لسفر خاص به (٢) فرجل هذه صفاته ألا يكون فوق شبهات هؤلاء المستشرقين.

أما عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن مخزوم اختلف في صحبته : فقد عده الحاكم من الصحابة ، والبقية رجحوا ولادته في زمن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعدم سماعه منه ، فيكون من التابعين ، وممن عده ابن حبان الذي قال عنه هو : من ثقات التابعين ، وأثنى عليه ابن سعد : «كان عبد الرحمن من أشراف قريش» (٣).

هذه هي صفات هؤلاء الأربعة ـ رضوان الله عليهم ـ الذين زعم «بلاشير» أن اختيارهم لعملية الجمع إما بسبب أنهم من طبقة ارستقراطية أو لأن بعضهم كان متملقا «كزيد» ـ رضي الله عنه ـ ولكن الصواب أن الاختيار

__________________

(١) فتح الباري ٩ / ١٠ ـ ١١ فضائل القرآن.

(٢) تهذيب التهذيب ٥ / ٢١٤.

(٣) تهذيب التهذيب ٦ / ١٥٦ ـ ١٥٨.

٤٦٩

كان لمحض كفاءاتهم لاعتبارات العمل ، لا لاعتبارات خاصة كما زعم هؤلاء المستشرقون.

٢ ـ القضية الثانية :

ما ذكره «بلاشير» من تعداد اللجان وعدد أفرادها مما يدعو لعدم الدقة في الأمر ، والاضطراب الذي يدعو لعدم الثقة فيها ، على حد تعبير بعض المستشرقين (١).

الجواب :

هذه الروايات ليس بينها تعارض لأنه يمكن التوفيق بينها ، فيمكن أن تكون قد عينت ثنائية زيد بن ثابت كاتبا ، وسعيد بن العاص ممليا حسب رواية مصعب (٢).

ثم لما وجدوا أن العمل كثير ، ويحتاج لزمن طويل ، ضموا لهم من يعينهم ويساعدهم. فضم إليهما عبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وهنا أصبحت رباعية وهي التي ذكرها البخاري في صحيحه وهي الرواية المشهورة عند أهل العلم (٣).

ثم لما أرادوا تعداد النسخ عن المصحف العثماني الذي جمعته اللجنة الرباعية لتكون مصاحف رسمية للآفاق ضموا إليهم لجانا فرعية تساعدهم وتنسخ معهم. وقد بلغ عدد أفراد هذه اللجان اثني عشر رجلا (٤) وهي التي اعتبرها «بلاشير» خيالية ـ على حد زعمه ـ (٥) مع أن هذه اللجنة حقيقية. وقد أحصيت مع أفراد الرباعية أحد عشر رجلا منهم وهم : زيد بن ثابت ، وسعيد بن العاص ،

__________________

(١) مقدمة على القرآن بلاشير ص ٥٦ ـ ٥٨ ، والقرآن والمستشرقون ص ١٠٩.

(٢) انظر فتح الباري ٩ / ١٩ وكتاب المصاحف لابن أبي داود ص ٣٢.

(٣) انظر فتح الباري ٩ / ١١ كتاب فضائل القرآن.

(٤) انظر فتح الباري ٩ / ١٩ ، كتاب فضائل القرآن ، وكتاب المصاحف لابن أبي داود ص ٣٣ ـ ٣٤.

(٥) مقدمة على القرآن ـ بلاشير ص ٥٦.

٤٧٠

وعبد الرحمن بن الحارث ، وعبد الله بن الزبير ، ومالك بن أبي عامر جد مالك ابن أنس الذي كان كاتبا ، وكثير بن أفلح ، وأبي بن كعب ممليا ، وأنس بن مالك ، وعبد الله بن عباس ، وهذيل وكان يملي ، وثقيف الذي كان كاتبا ، فهؤلاء أحد عشر رجلا ، ولعل عثمان بن عفان الذي كان المشرف على جميع العاملين بهذه المهمة والمتعاهد لهذا العمل الجليل فيكون تكملة الاثني عشر رجلا.

هذه الأسماء حسب روايات ابن حجر وابن أبي داود (١).

أما حكم «بلاشير» على اللجنة التي ذكر فيها أبيا أنها خيالية لزعمه هذا الاعتبار أن أبيا لم يشارك في هذا العمل الشريف وذلك لظنه بموته قبل بداية العمل سنة خمس وعشرين هجرية بينما كان العمل سنة ثلاثين للهجرة (٢).

فهذا الفهم والحكم خطأ وذلك لأن تاريخ وفاة أبي مختلف فيه كثيرا ، وقد رجح الإمام الواقدي وفاته في خلافة عثمان ـ رضي الله عنه ـ سنة اثنتين وثلاثين للهجرة. وقد ذكر ابن سعد في طبقاته بإسناد رجاله ثقات لكن فيه إرسال أن عثمان أمره أن يجمع القرآن الكريم. وهذا يؤكد روايات ابن حجر وابن أبي داود التي ذكرته من بين المكلفين بهذا العمل الجليل (٣). كما أن «بلاشير» قد ناقض نفسه وأثبته ممليا في إحدى اللجان بعد إنكاره عمله مع اللجان (٤).

الشبهة الثالثة :

موقف بعض الصحابة من الجمع العثماني لاستثنائهم من العمل :

زعم «بلاشير» أنه قد حصل انفجار واعتراض من بعض الصحابة الذين

__________________

(١) انظر فتح الباري ٩ / ١٩ ، وكتاب المصاحف ص ٣٣ ـ ٣٤ ، وكتاب القرآن والمستشرقون ص ١٠٩ ، وكتاب مباحث في علوم القرآن ـ صبحي الصالح ٧٩.

(٢) مقدمة على القرآن ـ بلاشير ص ٥٦.

(٣) انظر تهذيب التهذيب ١ / ١٨٧ ـ ١٨٨.

(٤) مقدمة على القرآن ـ بلاشير ص ٦٢.

٤٧١

استثنوا من العمل «كعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، وآخرين» (١) ليؤكد ما زعمه على أن العمل كان لاعتبارات خاصة وينقصه التجرد والأهلية.

الجواب :

هذا الانفجار المزعوم من قبل «بلاشير» مرفوض لتحميله النصوص والمواقف أكثر مما تحتمل.

فبالنسبة لأبي بن كعب قد بينت سابقا أنه قد شارك فعليا في اللجنة ، ولم ينقل عنه أي اعتراض.

أما موقف علي فهو على غير ما صوره «بلاشير» فلم يكن قد سجل عليه أي اعتراض على اللجنة ، بل كان من المباركين لعملها ، المترحمين على عثمان ـ رضي الله عنه ـ لقيامه بهذا العمل العظيم حيث قال : «رحم الله عثمان لو وليته لفعلت ما فعل في المصاحف» وفي رواية «لو لم يصنعه عثمان لصنعته» (٢). وقد بين الإمام علي أن عثمان ـ رضي الله عنهما ـ لم يجمع القرآن إلا بموافقة ومرأى من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ حيث قال : «لا تقولوا في عثمان إلا خيرا ، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا» (٣).

فمن هنا يظهر دفاع الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ ، عن عمل أمير المؤمنين عثمان ـ رضي الله عنه ـ ومباركته له والترحم على صاحبه وعدم اعتراضه عليه ويؤكد هذا أن الخلافة قد آلت إلى علي ـ رضي الله عنه ـ ولم يظهر أي نقض ولا أي اعتراض لهذا العمل الجليل ، ولم يغير شيئا من القرآن الكريم. مما يدل على فساد غرض المستشرقين من هذا الكلام ، ووضوح افتراءاتهم.

أما بالنسبة «لعبد الله بن مسعود» ـ رضي الله عنه ـ فهو الوحيد من

__________________

(١) مقدمة على القرآن ـ بلاشير ص ٥٨ ـ ٦٣.

(٢) كتاب المصاحف ص ١٩ ـ ٣٠.

(٣) فتح الباري ٩ / ١٨ فضائل القرآن.

٤٧٢

بين الصحابة الذي نقل عنه اعتراض على تولية زيد بن ثابت وإبعاده عن هذا العمل فقد نقل اعتراضه ابن حجر حين قال : [يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ كتابة المصاحف ويتولاها رجل ، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر؟].

وقوله : [.. لقد أخذت من في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سبعين سورة ، وإن زيد بن ثابت لصبي من الصبيان ، أفأنا أدع ما أخذت من في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ].

وعبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ لم يكن معترضا على عمل زيد وهو جمع القرآن الكريم وكل ما يدل عليه أقواله أنه كان يرى أحقيته من زيد بهذا العمل العظيم لسابقته في الإسلام ، وتلقيه سبعين سورة من في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان كلامه هذا في ساعة غضب لأنه عند ما زال عنه الغضب ندم على ما قال واستحيا من موقفه ، وأدرك حسن اختيار عثمان ومن معه من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ لزيد لهذه المهمة. وقد أشار (أبو وائل) «لندم عبد الله بعد ذكره لموقفه حيث قال : [.. إن عبد الله استحيا مما قال فقال : ما أنا بخيرهم ثم نزل عن المنبر](١).

هذا شأن المستشرقين المغرضين أن يقطعوا النصوص ولا يبينوها بتمامها تحقيقا لما في نفوسهم.

أما أهلية زيد وكفاءته فقد بينته من قبل والموقف ليس موقف تفضيل وإنما هو تبيين كفاءة وأهلية. وتعيين عثمان لزيد ـ رضي الله عنهما ـ لرئاسة هذه اللجنة لأن زيدا كان في المدينة حين الشروع في هذا العمل بينما كان عبد الله ابن مسعود في الكوفة ، ولم يكن لعثمان أن يؤخر ما عزم عليه حتى يحضر عبد الله من الكوفة.

__________________

(١) انظر كتاب مقدمتان في علوم القرآن ص ٩٥.

٤٧٣

كما أن زيدا كان هو الجامع لصحف أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في خلافته والكاتب بين يدي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فكان صاحب أولوية على غيره للقيام بهذه المهمة.

والحق أن عبد الله كان الأصل أن يوجه غضبه على أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ لا على زيد ، لأنهما أول من وليا زيدا بهذا العمل ، فزيد كان مأمورا لا آمرا. لذا قال زيد لما سمع قول عبد الله بن مسعود فيه (من يعذرني من ابن مسعود ، يغضب علي ، أن لم أوله نسخ القرآن فهلا غضب علي أبي بكر وعمر وهما وليا زيد بن ثابت؟).

وقد كره أصحاب رسول الله من موقف عبد الله ولم يقبلوه من حين بلغهم قوله : (أأعزل عن المصاحف؟ ..) (١).

لذا كان الواجب على أي باحث علمي كما يصور المستشرقون أنفسهم أن لا يثيروا مثل هذه القضايا ولا يكبروها وذلك لتراجع أصحابها ، ووضوح مواقفهم. إلا إذا كانوا أصحاب نوايا غير سليمة من الإسلام.

هذا هو الانفجار الذي صوره المستشرقون من موقف عبد الله السابق وقد وضحته وبه يكون قد بان بطلان دعواهم وظهر سوء نواياهم.

الشبهة الرابعة.

منهج اللجنة في العمل :

زعم «بلاشير» أن منهج اللجنة لم يكن دقيقا ولا محكما. بل كان عشوائيا. مما سبب دخول روايات غير إرادية في النص القرآني فيما بعد (٢).

الجواب :

هذه التهمة من جملة الافتراءات التي لم يقدموا عليها أي دليل علمي أما

__________________

(١) انظر كتاب مقدمتان في علوم القرآن ص ٩٥.

(٢) مقدمة على القرآن ص ٧٩.

٤٧٤

الواقع والروايات التاريخية فتثبت عكس هذه الافتراءات والآن سأعرض منهج الإمام عثمان ـ رضي الله عنه ـ الذي وضعه للجنة للالتزام به.

١ ـ اختار عثمان ـ رضي الله عنه ـ أعضاء اللجنة من الحفظة لكتاب الله ـ عزوجل ـ لضمان النظام والترتيب والضبط والحصر للآيات.

٢ ـ جعل أصل الجمع النسخة الموثقة الرسمية التي جمعها أبو بكر وكانت محفوظة عند حفصة ، وأشبههم لهجة برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهما عمدة العمل. وكذلك من وضعوا مساعدين لهم كانوا أصحاب كفاءة عالية.

٣ ـ كانت اللجنة لا تكتب شيئا من القرآن إلا بحضرة حافظه ، ويؤخرون ما كان صاحبه غير حاضر حتى ساعة حضوره.

فكان الأمر فيه التروي البالغ لذا امتاز بالدقة ليسلم من الخطأ.

٤ ـ طلب عثمان أن يكتبوا ما يتفقون عليه ، فإذا اختلفوا في شيء منه عليهم أن يكتبوه بلسان قريش لنزول أغلب القرآن به.

ومثال ذلك : اختلافهم في كلمة «التابوت».

فقال القرشيون تكتب «التابوت» بتاء مفتوحة. وقال زيد : بل تكتب «التابوة» فرفع اختلافهم لعثمان فرجح كتابتها بلهجة قريش «التابوت» وهكذا فجعل القرآن بلسانهم ؛ لأنه سيد الألسنة ؛ ولأنهم أفصح الناس فكتب القرآن على حرفهم وتركت بقية الأحرف لليونة ألسنتهم بالقرآن. هذا هو سبب اختيار لغتهم ولسانهم على غيرهم لا كما زعم «بلاشير» أن سبب ذلك لأنهم كانوا الطبقة الحاكمة (١).

٥ ـ لم يكتبوا شيئا إلا بعد عرضه أكثر من عرضة ، وبعد التأكد أنه مما أقر في العرضة الأخيرة فجردوا القرآن مما ليس متواترا (٢).

__________________

(١) انظر القرآن والمستشرقون ص ١٠٩ ـ ١١٢.

(٢) انظر فتح الباري ٩ / ٢٠ كتاب فضائل القرآن.

٤٧٥

إن هذه الطريقة التي وضعها عثمان ـ رضي الله عنه ـ تعتبر من أدق طرق البحث العلمي ، ومن مناهجه وهي قريبة من منهج التحقيق عند العلماء حيث اعتبروا العمل نسخة كأصل ، وقابلوا معها النسخ الأخرى ، وأرجعوا كل جزء من القرآن لصاحبه ، وأقر المتفق عليه وأبعد المختلف فيه ليبقى المتواتر من القرآن فقط ، ويحذف الآحاد من شروح وتفسير ، فأي دقة مثل هذه الدقة مع أنها قبل ألف وأربعمائة عام تدل على نضج العقل المسلم مبكرا قبل أن ترى الحضارة الغربية النور ، ليحقق الله الحق ويبطل باطل المستشرقين وترهاتهم ، وأكاذيب الشيعة الذين كانوا أصل هذه الأكاذيب والافتراءات جميعا.

الشبهة الخامسة :

كازانوفا وجمع القرآن :

زعم «كازانوفا» في كتابه (محمد ونهاية العالم) أن جمع عثمان للمصحف قصة وهمية أحكم نسجها في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان توطئة للمبالغة في شأن التحسينات التي أدخلت على رسم المصاحف في عهد الخليفة المذكور (١).

الجواب :

إن هذا الرأي الذي أقدم عليه «كازانوفا» من أغرب الآراء في علم الدراسات القرآنية حيث يتناقض مع بدهيات الروايات التاريخية والواقع ، وقد عرضت خلال ردي على الشبهات الماضية في الجمع القرآني بمراحله الثلاث من الأدلة الكافية على فساد هذا الرأي ، (٢) وتبدد هذا السراب الخادع.

وكما قيل : الحق ما شهدت به الأعداء. فقد نقض «بلاشير» هذا

__________________

(١) مقدمة على القرآن ـ بلاشير ص ٦٨ ، والقرآن والمستشرقون ص ١١٩ ـ ١٢٠ ، ومباحث في علوم القرآن ـ صبحي ص ٨٧.

(٢) انظر باب جمع القرآن ـ مراحل الجمع.

٤٧٦

الرأي (١) قائلا : [إننا لا نستطيع أن نتبع كازانوفا في هذا الافتراض الجسور الذي يتناقض مع المسلمات الإيجابية](٢).

ففي هذا كفاية في الرد على هذا القول المتهافت الذي لا تسنده أدلة.

الشبهة السادسة :

الصحف الخاصة وموقف المستشرقين منها :

اعتبر «بلاشير» المصاحف الخاصة بالصحابة أداة من أدوات المعارضة للمصحف العثماني مع محاولة إثبات صور من الخلاف بينها وبين هذا المصحف سواء في ترتيب السور أو أسمائها ، ليظهر تناقضا بين النصوص القرآنية وهو ما دفع عثمان ـ رضي الله عنه ـ لحرق هذه المصاحف (٣) حتى لا يظهر اضطراب مصحفه.

الجواب :

لإثبات هذه الدعاوي حاول المستشرقون أن يجدوا أيا من هذه المصاحف ليثبتوا أن القرآن فيه تناقض وتباين ليصلوا بالتالي أنه ليس الكتاب الرباني الذي حفظ مع التغيير والتبديل ، فصوروا النسخ الخاصة مصاحف جمعت لروح المعارضة التي كانت بين الصحابة ، لذا جاءت مباينة لهذا المصحف الإمام. حتى ادعوا أن «لويس» و «فنجانا» قد تمكنا من الوصول لبعضها في السويس عام (١٨٩٥ م) كما ذكر ذلك «بلاشير» (٤).

كما حاولوا بكل جهدهم أن يثبتوا أن هذه المصاحف كانت موجودة فعلا بعد ما ذكر عن حرقها. فقد نقل «بلاشير» أن ابن كثير قد شاهد مصحف

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٦٨.

(٢) نفس المرجع ص ٦٨.

(٣) مقدمة على القرآن «بلاشير» ص ٣٦ ـ ٤٨.

(٤) نفس المرجع ٣٦ ـ ٣٧.

٤٧٧

أهل الشام في جامع دمشق عند الركن الشرقي من المعمورة بذكر الله حيث نقل لها من طبرية وبقي فيها لسنة ٣١٠ ه‍.

كما أشار «بلاشير» لوجود مصحف عثمان الذي عليه دمه في القاهرة في بداية القرن الرابع الهجري (١).

كما أشار «بلاشير» أن ابن بطوطة رأى أثناء رحلته المشهورة بعض أوراق قديمة من هذه المصاحف في طرسوس ، وقرطبة ومراكش والبصرة (٢).

كما زعموا إيجادهم مصحف أبي في البصرة.

فمن المستشرقين الذين اهتموا بهذا الجانب المستشرق «كواترمير» وقد بنى على ما وصلت إليه دراسته كل من «كازانوفا» و «بلاشير» أخطر الاستنتاجات كما استدركا على دراسته ما وصلت إليه بحوثهما.

وقد بذل هؤلاء المستشرقون جهدهم لإيجاد أي اختلاف بين المصحف الإمام وهذه المصاحف وبين المصحف الإمام والمصحف الحالي. سواء كان هذا الاختلاف في القراءة أو الرسم أو ترتيب السور.

والآن سأرد على هذه الشبهة :

فبالنسبة لنسخة الشام الآنفة الذكر فقد ذكر «بلاشير» أنه مصحف أهل الشام مما يدل أنه المصحف الذي نسخ عن المصحف العثماني الأم ، إذن فلا يكون بينهما أي اختلاف ، وما زعم من اختلاف فهو غير صحيح.

كما أن ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ ذكر أن هذا المصحف قد احترق سنة (٣١٠ ه‍) في الحريق الذي أصاب المسجد الأموي في دمشق. ولكن المستشرقين يأبون إلا إثبات وجوده ويحاولون إثبات أن بينهما فروقا.

__________________

(١) انظر مباحث في علوم القرآن صبحي الصالح ص ٨٩.

(٢) مقدمة على القرآن ـ بلاشير ص ٦٧ ـ ٦٨.

٤٧٨

وكذلك المصحف الذي وجد في مصر وعليه دم عثمان فقد ذكر «بلاشير» نفسه أنه مصحف عثمان نفسه بإشارة وجود دمه عليه. إذا فلن يكون هناك بينهما أي خلاف لأنه مصحف الإمام نفسه. هذا على فرض صحة ما ذكر. ولكن هذا المصحف كان مزينا بزركشات ونقوش ، ومبينا عليه الأعشار مما يدل على فساد قولهم لأن هذه الأمور لم توضع على المصاحف إلا في وقت متأخر ، ولم توضع على مصاحف العهد الراشد الأول.

أما إيجاد مصحف أبي في البصرة في نهاية القرن الرابع الهجري مع وجود خلاف بينه وبين المصحف الإمام في ترتيب أسماء السور. فلا دليل عليه ولم تثبته الوثائق التاريخية. فلو صح الأمر لكان مصحفا خاصا بهذا الصحابي الجليل كتب قبل كتابة المصحف الإمام.

وهذه المصاحف فيها المتواتر من القرآن والآحادي الذي لا يقطع بقرآنيته وفيه مخالفة للمصحف العثماني. وقد أحرقت جميعها بأمر من الخليفة الراشد الثالث عثمان. وأطولها عمرا النسخة الأصل صحف أبي بكر التي أودعت عند حفصة وقد أتلفها مروان بن الحكم والي المدينة في عهد معاوية بعد موتها ـ رضي الله عنها ـ.

أما ما ذكروه عن مصحف طرسوس السويس أو القاهرة الذي وجده «لفنجانا ولويس» سنة ١٨٩٥ م واشترياه من هناك ، وذكرا أن فيه بعض الاختلاف مع المصحف العثماني. فقد أنكر أقدميتها «بلاشير» لسوء خطها ، وصعوبة قراءته ، ولأنه يضم كتابات مسيحية باللغة العربية تبدو على ما يبدو للقرن العاشر الميلادي الرابع الهجري (١).

فمن هنا يظهر بطلان هذه الشبه لأنها مجرد فروض وخيال لا حقيقة لها من الواقع وكل أدلتها واهية. فبهذا تسقط كل استنتاجاتهم.

__________________

(١) انظر مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٣٦ ـ ٣٧ ـ ٤١.

٤٧٩

وعدم وجود نسخ قديمة للمصحف الحالي لا يضره بشيء لأن هذا المصحف وجد له من دواعي السلامة والدقة مما هو فوق الشبهات ، ورافقه حفظ الصدر في كل مراحله قبل تدوينه وبعدها. وفوق هذا الحفظ البشري فقد تكفله الله سبحانه بعنايته فحفظه حتى قيام الساعة قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١).

أما بالنسبة لحرق عثمان للمصاحف الخاصة فقد ذكرت سابقا أن حرقها لم يكن لغرض شخصي لتبقى الساحة خالية أمام مصحفه كما زعم بعضهم. بل إن حرقها كان بموافقة الصحابة رضوان الله عليهم بعد استشارة عثمان لهم وهذا ما بينه الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ حيث قال مبينا غرض عثمان من الجمع ومدافعا عنه :

[ألا يا معشر الناس ، اتقوا الله ، وإياكم والغلو في عثمان وقولكم حراق المصاحف ، فو الله ما حرقها إلا عن ملأ منّا أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ](٢).

وكان الداعي لذلك اختلاف الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في قراءة القرآن فأبقى حرفا واحدا في المصحف العثماني دفعا لدابر الخلاف. والقاعدة الشرعية تقول : «درء المفاسد أولى من جلب المصالح».

فمن هنا يظهر تهافت كل دعاوي هؤلاء المستشرقين ، ويتكشف عوار بحوثهم ، ويظهر زيف وصفها بالأمانة والنزاهة العلمية ليعرف الناس هذا الصنف من الناس فتسقط لافتاتهم البراقة ويقف الناس على حقيقتهم وعن الانخداع بهم.

__________________

(١) سورة الحجر آية : ٩.

(٢) انظر فتح الباري ٩ / ١٨ كتاب فضائل القرآن.

٤٨٠

شاهد أيضاً

قصيدةُ [ ضَرَبَتْ إِيرانُ صُهْيُونَ اللَّعِينْ ]

قصيدةُ [ ضَرَبَتْ إِيرانُ صُهْيُونَ اللَّعِينْ ] إقرأ المزيد .. الإمام الخامنئي: القضية الأساسية في ...