الوقت- کلما يدور الحديث عن “الهجرة العكسية” من فلسطين المحتلة إلى أوروبا، يتذكر الكثيرون المشاهد الأولى لتأسيس الحركة الصهيونية، والأيدلوجية والأهداف التي نشأت من أجلها.
في ذلك الوقت، كانت الحركة الصهيونية تشجع اليهود في جميع أنحاء العالم على دخول فلسطين المحتلة لإقامة الکيان الإسرائيلي المزيف.
في الخمسين عامًا الأولى من تأسيس الکيان الصهيوني، كان لدى اليهود حافز قوي للهجرة من أوروبا إلى فلسطين المحتلة، بسبب الدعم الدولي الأمريكي والأوروبي للکيان.
لكن مع التغيير السريع في مشهد الأراضي المحتلة وبداية الصراع العربي مع الكيان الصهيوني، وخاصةً بعد تشكيل مجموعات وفصائل المقاومة، برزت موجة من الخوف واليأس بين المستوطنين الصهاينة. وقد بلغ هذا الوضع ذروته وخاصةً بعد هزيمتين كبيرتين للجيش الإسرائيلي على يد حزب الله في لبنان عامي 2000 و 2006.
وبعد ذلك اندلعت جولة جديدة من الاشتباكات بين فصائل المقاومة الفلسطينية والکيان الصهيوني، ما أجبر المستوطنين الصهاينة على مغادرة المستوطنات المحيطة بقطاع غزة. وخلال هذه النزاعات والمعارك، كان على سكان الأراضي المحتلة البقاء في الملاجئ لفترة طويلة.
المقاومة وهزيمة المشروع الصهيوني
بعد الهزيمتين الکبيرتين للکيان الصهيوني في جنوب لبنان، كان الحدث الأبرز الذي عكس بداية هزيمة وتراجع المشروع الصهيوني في المنطقة، هو معركة “سيف القدس” في أيار 2021. وهو ما وصفته العديد من الدوائر الأمنية والخبراء الصهاينة بأنه زلزال كبير لإسرائيل، أثَّر على كل المستويات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية.
کشفت هذه الحرب، على عكس ادعاءات المسؤولين العسكريين والسياسيين الإسرائيليين، أن المدن القريبة من قطاع غزة، وكذلك تل أبيب التي يعتبرها الصهاينة عاصمتهم، لم تعد آمنةً مثل أجزاء أخرى من فلسطين المحتلة، وصواريخ المقاومة تستهدف أي جزء تريده من فلسطين المحتلة.
وفي ظل هذه الظروف، أدرك المستوطنون الصهاينة أنهم في حالة تهديد أكثر من أي وقت مضى، وأن وهم “إسرائيل الكبرى” قد تبدد، وتوصل الصهاينة إلى نتيجة مفادها بأنه لا مكان لهم في أرض فلسطين المغتصبة.
هجرة اليهود من فلسطين المحتلة بلا رجعة
علی ضوء هذه الأجواء، فإن ظاهرة “الهجرة العكسية” أو الهجرة التي لا رجعة فيها لليهود الصهاينة من الأراضي المحتلة، هي مشكلة وجودية للأوساط الأمنية والسياسية للکيان الصهيوني.
إن الکيان الإسرائيلي، المحاصَر من قبل كل فصائل محور المقاومة، وكابوس صواريخ المقاومة يقض مضاجعه، بات يواجه الآن مشكلةً كبيرةً داخل فلسطين المحتلة. والضعف الكبير للکيان الصهيوني المزيف هو السكان اليهود في فلسطين المحتلة، وفي غضون ذلك، قد تعني الهجرة العكسية بداية مرحلة جديدة من التآكل الداخلي لإسرائيل.
الصراعات الداخلية والانهيار من الداخل
يعاني المجتمع الداخلي للکيان الصهيوني ال آن من توترات وصراعات داخلية غير مسبوقة. وبما أن اليهود في الأراضي المحتلة ينتمون إلى طوائف مختلفة، فقد أصبح الصراع بينهم أمرًا شائعًا.
وفي هذا الصدد، قال يوفال ديسكين، رئيس الشاباكالسابق، إن “التفكك الداخلي الإسرائيلي في تصاعد، ونتيجةً لعوامل وتأثيرات داخلية، فإن إسرائيل لن تصمد حتى الجيل القادم. والخلاف بين الإسرائيليين آخذ في الاتساع، وانعدام الثقة في حكوماتهم يتزايد أيضًا. کما أن الفساد منتشر في إسرائيل، والتضامن الاجتماعي بين الإسرائيليين ضعيف للغاية”.
وفي ظل هذه الظروف، فإن التحدي الديموغرافي الأبرز الذي يواجه الکيان الصهيوني الآن، هو أن فلسطين المحتلة لم تعد جذابةً ليهود العالم.
وقال المكتب المركزي الإسرائيلي للإحصاء في تقرير، إن هجرة العقول في الأراضي المحتلة استمرت منذ عام 2003، وزادت بأكثر من 26 في المئة بحلول عام 2013.
إحصاءات صادمة للهجرة العكسية من الأراضي المحتلة خوفاً من صواريخ المقاومة
كما أعلنت مراكز الإحصاء المتخصصة التابعة للکيان الصهيوني، أن أرقام الهجرة العكسية من فلسطين المحتلة إلى أوروبا، تظهر أنه بين عامي 2004 و 2006، غادر نحو 19 ألف يهودي فلسطين المحتلة ولم يعودوا أبدًا.
وفي عام 2007 أيضًا، غادر حوالي 25 ألف يهودي هذه المنطقة، بعد هزيمة جيش الکيان الصهيوني أمام حزب الله والمخاطر التي تتعرض لها فلسطين المحتلة.
وحسب دراسة نشرت عام 2018 بعنوان “الهجرة اليهودية العكسية ومستقبل الوجود الاستعماري”، بلغ عدد الذين غادروا الأراضي المحتلة في العقود الماضية مليون ونصف المليون نسمة. وتشير المؤشرات إلى أن العامل الأمني هو أهم سبب للهجرة العكسية لليهود، والتي اشتدت بعد حربي الکيان الصهيوني مع حزب الله في لبنان.
وذكرت صحيفة “هآرتس” العبرية في تقرير، أن “عدد اليهود الذين غادروا الأراضي المحتلة عام 2015 كان أعلى بكثير من عدد الأشخاص الذين عادوا إلى المنطقة، وهذا العام هاجر حوالي 16700 يهودي من الأراضي المحتلة. كما تشير الإحصاءات إلى أن ما بين 800 إلى مليون مستوطن صهيوني يحملون جوازات سفر إسرائيلية استقروا بشكل دائم في عدة دول أوروبية، وليس لديهم خطط للعودة إلى الأراضي المحتلة”.
وفي السياق نفسه، أعلن معهد “مناحيم بيغن” في القدس المحتلة أن أكثر من 50٪ من الإسرائيليين، وربما أكثر من 70٪، تقدموا بطلبات للحصول على جوازات سفر أجنبية، وهذا يظهر حالة الطوارئ والتوتر في الرأي العام للمستوطنين الصهاينة، الأمر الذي يدفعهم إلی الهجرة العكسية.
كما أظهر تقرير وكالة المخابرات المركزية(CIA)، أن أي صراع بين الكيان الصهيوني والمقاومة في المنطقة سيؤدي إلى مغادرة المستوطنين الصهاينة فلسطين المحتلة إلى الأبد.
وحسب آخر الإحصائيات، منذ بداية عام 2020، غادر قرابة 16 ألف يهودي فلسطين المحتلة خوفًا من صواريخ المقاومة. طبعاً هجرة اليهود من فلسطين المحتلة لا تنتهي عند هذا الحد، حيث وجدت دراسة حديثة أجراها المعهد الإسرائيلي للهجرة، أن ثلث اليهود الإسرائيليين يفكرون في الهجرة العكسية بعد حرب غزة التي استمرت 12 يومًا في مايو 2021، وكانت هذه الإحصائية صادمةً للدوائر الصهيونية.
وبحسب هذه الإحصائيات، فإن 720 ألف مستوطن صهيوني غادروا فلسطين المحتلة منذ مطلع العام الماضي واستقروا في دول أوروبية، وقد تزداد هذه النسبة في العام الجديد.
وفي الواقع، بعد معركة سيف القدس، لم يعد وضع الصهاينة كما كان من قبل، وهم أنفسهم يعترفون بأن انهيار إسرائيل قد بدأ من الداخل.
وفي هذا الصدد، يعترف مارتن فان كارفيلد، أستاذ العلوم العسكرية في جامعة القدس المحتلة، وهو من أشد المؤيدين لطرد العرب من فلسطين المحتلة، بأن “تدمير الجيش الإسرائيلي قد بدأ بالکامل؛ أي من مستوى القادة إلى الجنود، لدرجة أن الكثير منهم مدمن على المخدرات والتجسس بدافع كسب المال. كما يشير الاتجاه المتصاعد للهجرة العكسية الإسرائيلية إلى أوروبا والولايات المتحدة، إلى أن إسرائيل تنهار في نهاية المطاف”.
كما يعترف المؤرخ الصهيوني البارز “بني موريس” أنه “بعد سنوات، سينتصر العرب والمسلمون في نهاية المطاف، وسيظل اليهود أقليةً، أو سيتعرضون للاضطهاد أو القتل. في غضون ذلك، يمكن فقط لليهود المحظوظين الفرار إلى أوروبا وأمريكا”.
کذلك، يعترف شبتاي شافيت، الرئيس السابق لجهاز استخبارات الموساد، وهو أكبر مسؤول أمني في إسرائيل، بأن الإسرائيليين “قد يجدون أنفسهم يومًا ما يحزمون حقائبهم ويغادرون إسرائيل”.
وفي اليوم الثالث من معركة سيف القدس، وبينما حاصرت صواريخ المقاومة الفلسطينية الأراضي المحتلة من جميع الجهات، قال “جدعون ليفي” المحلل السياسي الصهيوني إن “على الإسرائيليين أن يذهبوا إلى أوروبا وعلى الأوروبيين أن يقبلوهم كلاجئين؛ أعتقد أن هذا أفضل بكثير من أن يأکلنا العرب أحياءً”.
بدوره صرح الصحفي الصهيوني المعروف “يارون لندن” في هذا الصدد: “أستعد للتحدث مع حفيدي لأخبره أن عدد اليهود المقيمين في إسرائيل لن يزيد عن 50٪. وبالطبع، 50٪ نسبة متفائل، والحقيقة أكثر مرارةً من ذلك”.
التمهيدات لتدمير اسرائيل
توصلت الدوائر السياسية والأمنية المختلفة للکيان الصهيوني، في مواجهة المعادلات والمتغيرات التي فرضها عليهم محور المقاومة، إلى استنتاج مفاده أن الهجرة العكسية مقدمة لانهيار إسرائيل.
وفي هذا الصدد، قال جون روز، المفكر اليهودي المعروف في بريطانيا: “هناك انخفاض كبير في عدد اليهود المهاجرين إلى إسرائيل، والعديد من الإسرائيليين يغادرون المنطقة. إنهم سئموا الوضع الداخلي في إسرائيل ولا أرى مستقبلًا لها، وأعتقد أن إسرائيل تنهار”.
کذلك، قال أبراهام بورغ، الرئيس السابق للكنيست(البرلمان الإسرائيلي)، في مقال نشرته صحيفة واشنطن بوست: “إسرائيل على وشك إنهاء الحلم الصهيوني، وهي على وشك الانهيار. أنصح الإسرائيليين بالحصول على جواز سفر آخر، ولديّ بنفسي جواز سفر فرنسي”.
وهکذا، أدرك الصهاينة أنفسهم أن کيانهم قائم على الأكاذيب، وأن كل الوعود التي قطعها قادة هذا الکيان بالحفاظ على أمن المستوطنين ما هي إلا خداع، وهناك مستقبل مجهول ومخيف ينتظر اليهود الذين يعيشون في فلسطين المحتلة.