بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة المركز
نظراً للحاجة الماسّة والضرورة الملحّة لنشر العقائد الحقّة والتعريف بالفكر الشيعي ، بالبراهين العقليّة المتقنة والأدلّة النقلية من الكتاب والسنّة ، من أجل ترسيخها في أذهان المؤمنين ، ودفع الشبهات المثارة حولها من قبل المخالفين ،
فقد بادر ( مركز الحقائق الاسلامية ) بإخراج سلسلة علمية – عقائدية ، متنوّعة ، تميّزت بجامعيتها بين العمق في النظر والقوّة في الاستدلال والوضوح في البيان ، تحت عنوان ( اعرف الحق تعرف أهله ) ، وهي من بحوث سماحة الفقيه المحقق آية اللّه الحاج السيد علي الحسيني الميلاني ( دام ظلّه ) ،
آملين أن نكون قد قمنا ببعض الواجب الملقى على عواتقنا في هذه الأيام التي كثرت فيها الشبهات وازدادت الانحرافات ، سائلين اللّه عزّ وجلّ أن يسدّد خطانا على نهج الكتاب والعترة الطاهرة كما أوصى الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، والحمد للّه رب العالمين .
مركز الحقائق الاسلامية
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين والصّلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين .
وبعد
فإنّ صاحب أيّة فكرة أو عقيدة أو رأي يرى من حقّه الطبيعي أنْ ينشرها بين الناس ويدعو الآخرين إليها .
إلاّ أنّ لتقدّمه ونجاحه في مشروع الدعوة هذه شروطاً ، كما أنّ دعوته إلى فكره بحاجة إلى أدوات . . . لا سيّما إذا كان في مقابل رأيه رأي آخر وله أتباع يدعون إليه . . . فيقع الصراع العقيدي والفكري بين الجانبين ، لأنّ كلاًّ منهما يدّعي الحق والصواب ويحاول التغلّب على الآخر والسيطرة عليه فكريّاً .
إن للتغلّب في ميدان الصراع العقيدي أصولاً وأدوات تختلف
عنها في ميدان الحرب والمواجهة العسكرية .
وهذه مطالب موجزة في أصول البحث وأدب الحوار في أصول الدين وفي خصوص مباحث الإمامة والخلافة بين علماء المسلمين ، استخرجتها من الكتاب والسنة وحكم العقل السليم ، وأرجو أنْ تكون مفيدةً لأهلها ، وباللّه التوفيق . . . .
علي الحسيني الميلاني
علم الجَدَل :
لقد وضع العقلاء – وهم أصحاب الأفكار والآراء – حدوداً وقيوداً للصراع في هذا المجال ، وأسّسوا للغلبة فيه أُسساً جعلوها المعيار والميزان للرضوخ لفكر أو لرفض فكر آخر . . . فكانت أساليب « الجدل » التي بُحث عنها ونقّحت مسائلها في كتب المنطق .
ولقد أحسنوا في اختيار هذا المصطلح لهذا العلم أو لهذه الصناعة ، لشدّة ارتباط المعنى اللغوي للكلمة بالغرض المنطقي منها . . . .
قال الراغب الأصفهاني : « الجدال : المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة ، وأصله من جدلت الحبل ، أي : أحكمت فتله ، ومنه الجديل ، وجدلت البناء أحكمته ، ودرع مجدولة ، والأجدل : الصقر المحكم البنية ، والمجدل : القصر المحكم البناء .
ومنه : الجدال ، فكأنّ المتجادلين يفتل كلّ واحد الآخر عن رأيه .
وقيل : الأصل في الجدال الصراع ، وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة ، وهي الأرض الصلبة » ( 1 ) .
الجدال في القرآن :
ولقد أقرّت الأديان السماوية أُسلوب « الجدال » واتّخذه الأنبياء السابقون طريقاً من طرق الدعوة . . . وقد ورد في القرآن الكريم نماذج من ذلك كما سيأتي .
وأمّا نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، ففي الوقت الذي أُرسل كما خاطبه اللّه عزّ وجلّ في الآية المباركة : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ) ( 2 ) فقد حدّد له كيفية الدعوة وأداتها بقوله له : ( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) ( 3 ) ثمّ أمره بالجدال حين يكون هناك جدال منهم ، فقال بعد ذلك : ( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ( 4 ) .
وفي الجملة ، فإنّ الوظيفة الأوّلية هي البلاغ والدعوة إلى سبيل اللّه ، فإن كان هناك مَن تنفعه « الحكمة » فبها ، وإن كان من عموم الناس
فبالنصيحة والموعظة الحسنة ، فإن وجد في القوم من يريد الوقوف أمامه أو التغلّب عليه وجب عليه جداله .
ولعلّ المقصود – هنا – أهل الكتاب ، كما في الآية الأُخرى : ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ( 1 ) .
وعلى ضوء ما تقدّم ، فإنّ الجدال قد يكون حقّاً وقد يكون باطلا ، قال تعالى : ( وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ) ( 2 ) .
وهناك في القرآن الكريم موارد من تعليم اللّه سبحانه النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه وآله وسلّم طريقة الاستدلال ، ففي سورة يس مثلا : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِر عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( 3 ) .
وفي سورة البقرة : ( وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ
نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ( 1 ) .
وفي سورة البقرة أيضاً : ( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ ) ( 2 ) .
وفي سورة المائدة : ( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ ) ( 3 ) .
وفي سورة المائدة أيضاً : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ . . . ) ( 4 ) .
وفي سورة الأنعام : ( قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا . . . ) ( 5 ) .
وفي سورة الأنبياء : ( أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا . . . أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا
بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي . . . ) ( 1 ) .
كما جاءت في القرآن الكريم موارد كثيرة من مجادلات واحتجاجات الأنبياء السابقين . .
ففي قضايا إبراهيم عليه السّلام . . قال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ( 2 ) .
وقال تعالى : ( وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْء عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ) ( 3 ) .
وقال سبحانه وتعالى : ( قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَء يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً
وَلاَ يَضُرُّكُمْ * أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) ( 1 ) .
وفي قضايا نوح عليه السلام . . . قال تعالى : ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ . . . قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا . . . ) ( 2 ) .