الدرس السادس عشر: المعجزة والنظريّات التعليليّة
أهداف الدرس
1- معرفة المعجزة.
2- فهم نظرية المنكرين للمعجزة.
3- القدرة على شرح نظرية التأويل في المعجزة والآيات المستفادة وردها.
4- فهم النظرية القائلة بكون المعجزة فعل الله.
5- فهم نظرية “للمعجزة سر”.
تمهيد
النبوّة في القرآن قرينة المعجزة، فليس من نبيّ دعا الناس إلى قبول دعوته والإيمان بها إلاّ وتواءمت دعوته مع آيةٍ أو بيِّنةٍ، بحَسَب تعبير القرآن. وسيأتي بيان الفرق بين الآية والبيِّنة من جهةٍ ومصطلح المعجزة من جهةٍ أخرى.
كما أن البحث عن المعجزة ينبغي تناوله من حيثيتين، عامة وخاصة، فأما العامة فهي البحث عن المعجزة بشكل عام، من حيث إمكانها ووقوعها، وماهيتها والهدف منها، وتفسيرها، وهذا ما سنتناوله في هذا البحث إن شاء الله، وأما البحث عن المعجزة من الناحية الخاصة، فهي البحث عن معجزة كل نبي بالخصوص، ولذا تعدّ معجزة القرآن هي المعجزة الخاصة بالنبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي ما سنتناوله في البحث القادم إن شاء الله تعالى.
وحديثُنا حول المعجزة العامة يتركَّز في أمورٍ عدّةٍ، وهي:
تعريف المعجزة
يُعرِّف بعضٌ المعجزة بصيغةٍ يجعلُها أمراً غير ممكنٍ1، ولكنَّ هذا تعريفٌ خاطِئٌ.
والحق أن لفظ المعجزة لم يرِدْ في القرآن، وإنّما هو مصطلح إستخدمه المتكلّمون، وأرادوا به ما ذكره القرآن بكلمة “آية”، وهي العلامة التي تكون دليلاً على صدق دعوى النبيّ.
فالنبيّ يدّعي علاقةً وإتّصالاً بالعالم الآخر- عالم الغيب- والمعجزةُ هي الدليل على صدقه في دعواه تلك. وقد عبّروا عن الآية بالمعجزة لأنّ من لوازم كون الشيء آيةً أن يعجز بقيّة الناس عن الإتيان بمثله. وقد تحدّى الأنبياء عليهم السلام أممهم أن يأتوا بمثل ما يأتون به فلم يستطيعوا ذلك، فتكون المعجزة أو الآية قد أبرزت عجزهم عن الإتيان بمثلها.
إبداعات الماهرين
إنّ مَنْ يبلغ مرتبةً لا يبلغها غيرُه في أيّ مجالٍ من المجالات الأدبيّة، أو الصناعيّة، أو العلميّة، ويأتي بما لا يأتي به غيره، وأمثلةُ ذلك كثيرةٌ، لا يعدّ عمله هذا معجزةً من وجهة نظر المتكلِّمين وبالمعنى المصطلح عندهم، وإن كانت تشمله الكلمة بالمعنى اللغوي. ومن هنا كان لا بد للأمر المعجز من تضمّن بُعد غيبي واعتباره أمراً غير بشري، وخارجاً عن قدرة البشر، وهذا ما يقصده المتكلمون من المعجزة.
1- هذا هو السائد عادةً في كتب المادّيّين، فقد استخدم بعضُهم المعجزة بمعنى يُرادِف الصدفة، التي تعني وقوع حادثةٍ في العالم من دون محدِثٍ، ومن دون عِلّةٍ، بالأساس. وهذا أمرٌ محالٌ، ويرفضه الإلهيون؛ لأنَّ إذعانهم له يمثّل نقضاً لأحد الطُرُق التي استخدموها منذ القديم في الاستدلال على وجود الله، كما أنَّه لا يصلح لأن يكون آيةً لإثبات نبوّة أيِّ نبي؛ إذ ما علاقة حادثة وُجدت بذاتها بأنَّ هذا نبيّ أو لا؟
فمن شروط كون الشيء معجزةً أن يكون عملاً غير بشرِيٍّ. فالمعجِز هو خارجٌ عن سنخ العمل البشريّ، وفوق حدود القدرة الإنسانيّة، وهذا ما نراه واضحاً في معجزات الأنبياء عليهم السلام السابقين على نبيّ الإسلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. وسنتعرَّض لمعجزته صلى الله عليه وآله وسلم بشكلٍ مستقِلٍّ. فمن طبيعة الماء أن يسيل، فإيقاف الماء كالجدار حتّى يمرّ موسى ومَنْ معه ليس عملاً بشريّاً من الدرجة الأولى، بل هو عمل خارجٌ عن قدرة وطاقة البشر، وهكذا سائر المعجزات.
فالمعجزة هي فعلٌ وأثرٌ يأتي به النبيّ للتحدّي، أي لإثبات مدّعاه، ليكون علامةً على وجود قدرةٍ ما وراء البشريّة في إيجاده، تفوق حدود الطاقة الإنسانيّة بشكلٍ عام.
الإيمان بالمعجزة ضرورة
لا شك ولا ريب بأنّ الإيمان بالمعجزة من ضروريات الدين الإسلامي، وما ذكرته الآيات القرآنية في موضوع معجزات الأنبياء عليهم السلام هو ممّا لا يمكن تأويله بأيّ وجه من الوجوه.
نعم قد يحصل نقاشٌ في بعض التفاصيل التي لم يذكرها القرآن، وإنْ ذُكرت في الروايات، أو في بعض النقول التاريخيّة، إلاّ أنَّ هذا لا يضرّ بالإيمان بأصل المعجزة، وأنَّها أمرٌ غيرُ عادِيٍّ، وفوق مستوى البشر2.
نظريّات حول المعجزة
بعد أن كانت ظاهرة المعجزة على يد الأنبياء من الضروريات في الدين الإسلامي، وكان من المسلّم أمر وقوعها وحصولها بنقل القرآن الكريم والروايات
2- مثلاً: ناقةُ صالح عليه السلام آيةٌ من الآيات، وهذا ممّا لا يقبل الشكّ والترديد، وإنْ كانت بعضُ التفاصيل ـ كخروجها من الجبل والصخور ـ غيرَ مذكورةٍ في القرآن الكريم.
والمصادر التاريخية، وقع الكلام في تفسير هذه الظاهرة وبيانها، وقد ذكر في هذا المجال أربعُ نظريّاتٍ3:
1- المعجزة سحرٌ:
وهذه نظريّة المنكرين للمعجزة أساساً، وهم ينكرون النبوّة بالضرورة، فهي- أي المعجزة- عندهم إمّا كذب محضٌ، أو شيءٌ من قبيل الممارسات السحريّة، التي يتصوّرها الناس شيئاً وهي ليست بشيء4.
2- نظريّة التأويل:
وقد قَبِل أصحابُ هذه النظريّة5 بالمعجزة، إلاّ أنّهم تأوّلوها، وفسّروا جميع ما ذكره القرآن من معجزاتٍ بشكلٍ طبيعِيٍّ وعاديٍّ. وهذا في الواقع ضرب من الإنكار للمعجزة إلا أنه إنكار بشكل مؤدب.
ولكن ذلك كلّه لم يعْدُ كونه تأويلاتٍ وتفسيراتٍ بعيدةً جدّاً، إعتَمَدَتْ على نَمَط خاصٍّ من الفكر فلا يتسنّى لمَنْ يتبنّى نَمَطاً آخر أن يتقبّلها.
وقد استَنَد هؤلاء في مذهبهم إلى دليلَيْن من القرآن نفسه:
الأوّل: الآيات التي يردّ فيها الأنبياء صراحةً بالرفض على مَنْ يطالبهم بخارِقٍ للعادة، حيث يذكرون أنّهم بشرٌ مثل الآخرين، ﴿قلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً﴾6.
الثاني: الآيات التي تطلق على نظام الخلقة والتكوين عنوان السنن الإلهيّة،
3- مع ضم قول المنكرين للمعجزة، فإن إنكارها قول في مقابل تلك النظريات المذكورة.
4- والجواب- باختصار- هو أن السحر ونحوه خاضع لمناهج تعليمية مع ممارسة دؤوبة بخلاف الاعجاز ولأن السحر خاضع للتعلّم والتعليم فيكون قابلاً للمعارضة دون المعجزة، إضافة إلى أن السحر متشابه في نوعه، متحدٌ في جنسه دون المعجزة، ويختلف السحر عن المعجزة من حيث الأهداف والغايات … وللتفصيل يراجع الالهيات للشيخ جعفر السبحاني ج3، ص 108.
5- من أركان هذه النظريّة السيّد أحمد خان الهندِيّ.
6- الإسراء: 93.
وتذكر بصراحة أنّ السنن الإلهيّة لا تتغيّر، وهي آياتٌ كثيرةٌ7، والمعجزة بمعنى خرق العادة هي تبديل للسنّة الإلهِيّة، وهذا لا يكون أبداً بنصّ القرآن.
الإيراد على النظريّة الثانية:
بَيْد أنّ هذه النظرِيّة مساوِقةٌ لإنكار ما ذكره القرآن الكريم حول المعجِزات.
ويرِدُ على الدليل الأوّل لأصحابها أنّ المفسِّرين فسَّروا هذه الآيات بحيث لا تكون متنافِيةً مع المعجزات، وذلك في ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: المعجزة تكون للشاكّين في صدق النبوّة، فيُباح للنبيّ أن يظهر المعجزة، وليس النبيّ ملزَماً من قِبَل الله، وبمنطِق العقل أيضاً، أن يستجيب لمشتهيات كُلّ إنسانٍ، وما يقترحه.
النقطة الثانية: ما جاء في طَلَبات القوم لا يدخل في عِداد المعجزة، لأنّ بعضه مَحالٌ أساساً، كإحضار الله والملائكة، وبعضُه لا معنى له، كرقِيّ النبيّ في السماء، وبعضه يدخل في نطاق المصلحة والمقايضة، كطلبهم تفجير ينبوعٍ من الأرض، والدليل على منطقهم النفعِيّ قولهم: “لن نؤمن لك”، ولم يقولوا: “لن نؤمن بك”، وشتّان بين التعبيرَيْن.
النقطة الثالثة: المعجزة آيةُ الخالِق، والأنبياء لا يأتون بفعلٍ يُخالف السنّة الإلهِيّة- والمقصودُ السنّة الإلهِيّة المألوفة، وإلاّ فسيأتي أنّ المعجزة ليست مخالِفةً للقوانين الطبيعِيّة- إلاّ إذا كانت هناك ضرورةٌ تستوجِب ذلك، بحيث إذا لم يفعلوا ضَلَّ الناس.
7- منها: ﴿سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً﴾ الأحزاب / 62. ومنها: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً﴾ فاطر / 43.
وأورَدَ بعضهم8 على الدليل الثاني لأصحاب هذه النظريّة أنَّ السنن في القرآن تختصّ بالمسائل التي ترتبط بتكليف العباد، فسنّة الله في إنزال العقوبة بالمسيء وإثابة المحسِن لن تتغيَّر أبداً، ويؤكِّد هذا الأمر السياق القرآنِيّ للآيات التي تحدَّثت عن عدم تغيّر السنن الإلهِيّة. وبعبارةٍ موجَزةٍ: قانون الثواب والعقاب هو الذي لا يتغيّر بحَسَب منطق القرآن، وأمّا قانون الخلقة ونظام التكوين فلا دليل في القرآن على أنّه لا يتغيَّر.
3- المعجزة فعل الله:
وتعود جذورها إلى علماء الأشاعرة، ويؤمن بها أيضاً بعض فضلائنا وأجلاّئنا9.
ومفاد هذه النظريّة أنّ المعجزة آية من قِبَل الله تظهر على يد النبيّ صاحب المعجزة. فما يقوم به النبيّ ليس فعله، بل هو فعل الله، وهو لا يختلف عن كلّ ما في الوجود، إذ هو من فعل الله أيضاً، وعليه فكلّ ما في الوجود هو معجزةٌ وآيةٌ لله، بيد أنّ ما يأتي به النبيّ هو لإثبات صدقه، وما لا يأتي به النبيّ هو للإشارة إلى قدرة الخالِق وحكمته.
وبما أنَّ المعجزة من فعل الله فلا يصحّ لنا أن نتساءل: هل هذا الأمر محالٌ أم غيرُ محال؟ لأنّ كون الأمر محالاً أو غيرَ محالٍ مرتبطٌ بمخالفته للقوانين التي وضعها الله تعالى، وهذا القانون اكتسب صبغته القانونِيّة المُلزِمة بمشيئته وإرادته تعالى، ونحن محكومون لقانون الله، وعليه فالأمر مخالِفٌ لقانون العالم بالنسبة لنا نحن البشر، أمّا بالنسبة لله فلا شيء عنده يُخالِف القانون، إذ بيده
8- وهو الأستاذ شريعتي.
9- أمثال الأستاذ محمّد تقي شريعتي، حيث تناول هذه النظريّة باختصارٍ في مقدِّمة كتابه “التفسير الجديد”، وبالتفصيل في المجلّد الثاني من كتابه “محمّد خاتم الأنبياء” في مقالةٍ تحت عنوان “الوحي والنبوّة”، وأصرّ في كتابه الثاني إصراراً كبيراً على هذه الفكرة، مؤكِّداً أنَّ الأساس في المعجزة هو هذه النظرِيّة، لا غيرُها.
تغيير القانون متى شاء، وكيف شاء.
ومن هنا ذهب أصحاب هذه النظريّة إلى أنّه لا ينبغي البحث في المعجزة، ولا يصحّ الحديث عن سرّ المعجزة، إذ ليس هناك سرٌّ في المعجزة أصلاً، بل هي إرادة الله.
فإنْ قيل: وماذا نفعل بالعلم، والعلوم تشير إلى وجود سنّةٍ في العالم تفيد أنّ كلّ حادثةٍ تقع عقب حادثةٍ أخرى بحَسَب نظامٍ معيَّنٍ؟
كان الجوابِ: إن العلوم لا تشير إلى أكثر من توالي القضايا، وبعبارةٍ أخرى هي تشير إلى وجود القوانين بالكيفِيّة التي هي عليها، ولا تكشف عن ضرورة هذه القوانين، وذلك بخِلاف القوانين العقلِيّة الرياضِيّة10، أو الفلسفِيّة11.
ومعجزاتُ الأنبياء هي على خِلاف القوانين الطبيعيّة، التي كشف الإنسان عن وجودها، والتي قد لا تكون ضروريّةً، وليست بخِلاف القوانين العقلِيّة الضرورِيّة.
وبعبارةٍ أخرى: القوانين الرياضيّة، أو المنطقيّة، أو الفلسفيّة، تختلف عن القوانين العلميّة والطبيعيّة في أنّ الأولى قوانين يكشف الذهن عن ضرورتها وحتميّتها، بينما لا يكشف ذهننا عن ضرورة وحتميّة القوانين العلميّة والطبيعيّة.
وعليه، فإذا آمنّا بوجود الله القادر، المتعال، الفعّال لما يشاء، فحينها نقول: سيرافق مدّعي النبوّة والوحي فعلٌ هو على خِلاف السنّة المألوفة في العالم، وقد فعل الله هذا خِلافاً للسنّة المألوفة لكي يكون هذا الفعل علامةً، فهو سبحانه
10- ومثاله: الشيئان المساويان لشيءٍ ثالثٍ متساويان، هذا قانونٌ رياضِيٌّ يفترضه الذهن، ويدرك ضرورته.
11- ومثاله: الكلّ أكبر من الجزء، هذا قانونٌ عقلِيٌّ فلسفِيٌّ يُدرك العقل ضرورته.
وتعالى يقوم فجأةً بتغيير تلك السنّة وذلك القانون، ويخرجه عن نطاقه المألوف، ليرينا علامةً على أنّ مدّعي النبوّة مبعوثٌ من عنده.
ولو قلنا بأنّ من المحال وقوع ما يخالف قانوناً معيَّناً فمعناه أنّ الله مجبَرٌ، وبالتالي نصير إلى القول بغلّ يد الله، وهو منطق اليهود، لا منطق الإسلام والمسلمين.
إذاً، القوانين الطبيعيّة قوانين موضوعةٌ بشكلٍ كاملٍ، ونحن مجبَرون على اتّباعها، وأمّا الله تعالى فهو الذي وضعها، وهو الذي ينقضها.
وعليه فلا معنى للسؤال: كيف تظهر المعجزة؟ بل هي مشيئة الله.
الإيراد على النظريّة الثالثة:
إنّ القول بأنّ القوانين الطبيعيّة هي قوانين موضوعة أمرٌ غيرُ صحيحٍ، وذلك أنّنا نسأل: لماذا أوجد الله هذا الوضع الطبيعِيّ؟
وسيُجيب أصحاب هذه النظريّة بأنّ المصلحة تستوجب ذلك، وإلاّ للزم الهرج والمرج، ولاختلّ كلّ شيءٍ، ومتى ما استوجبت المصلحة خِلاف ذلك في موضعٍ إستثنائيٍّ فإنّ الوضع يتغيّر مباشرةً.
ولكن نقول: إنّ القبول بهذا المنطق سيُفقِد هذه المصلحةَ ذاتَها مفهومَها، وكذلك ستفقد مسألة عدم لزوم الهرج والمرج مفهومها، وذلك لأنّ معنى وجود مصلحةٍ وراء فعلٍ ما هو أنّ هناك علاقةً ورابطةً ذاتيّةً بين الفعل والنتيجة المؤدّي إليها، وإلا فلا معنى للمصلحة في العالم، بل سيصير بالإمكان جعل كلّ نتيجةٍ مصلحةً ما دام الأمر تعاقدِيّاً، وهكذا لن يلزم الهرج والمرج ما دام الله يوجد أيَّ نتيجةٍ يبتغيها من أيِّ وسيلةٍ شاء.
إشكالٌ وجوابٌ:
ويقول أصحابُ هذه النظريّة: إنّ الإذعان بأنّ لهذا العالم قانوناً قطعِيّاً يعني التسليم بمحدوديّة قدرة الله وإرادته.
ويُجاب على ذلك نقضاً وحلاًّ.
أمّا النقض فهو: يسلّم أصحاب هذه النظريّة، وينبغي لهم التسليم، بأنّ من المحال على الله أن يذهب بالمطيع إلى جهنّم، وبالعاصي إلى الجنّة، فهل هذا تحديدٌ لقدرته ومشيئته؟!
وأمّا الحلّ فهو: إنّ قطعيّة القوانين لا تعني محدوديّة قدرة الله وإرادته أبداً. ولتقريب الفكرة نقول: الإنسان الذي أدرك الخطر والمفسدة الناجمَيْن عن الإحتراق بالنار لا يضع يده في النار أبداً، وكذلك الله تعالى المحيط بنتائج ومفاسد تغيُّر القوانين- بعد أن وضعها على أفضل حالٍ من النظم والتناسق- لا يغيّرها، بمحض إرادته وكمال قدرته.
هذا الكلامُ كُلُّه وفق مرتَكَزات أصحاب هذه النظرِيّة.
القانون الظاهري والقانون الواقعي
وأمّا مَنْ يؤمنون بقانون العلّيّة العامّ، وقانون ضرورة العِلّة والمعلول- كالعلاّمة الطباطبائيّ مثلاً، الذي ذكر بأنّ القرآن قد آمن بقانون العلّيّة العامّ، وعليه فلكلّ شيءٍ في الطبيعة قانونٌ لا يتخلَّف عنه، ودليلُه قولُه تعالى: ﴿قد جعل الله لكُلّ شيءٍ قَدْراً﴾12، إلاّ أنّ هناك فرقاً بين العِلّة التي نألفها عن طريق العادة، والعِلّة الواقعيّة، إذ قد لا تكون العلّة التي عدّها العلم البشريّ علّةً هي العلّة الواقعيّة،
12- الطلاق / 3.
بل هي غطاءٌ فوق العلّة الواقعيّة- فقد ذكروا أنّه ليست هناك معجزةٌ خارجةٌ عن نطاق القانون الطبيعِيّ الواقعيّ، لا القانون الذي يعرفه البشر، فالقانون الذي يعرفه الإنسان قد يكون هو نفسُه قانون الطبيعة، وقد لا يكون.
نعم التوسُّل بالقانون الواقعيّ، أي كشفه، والهيمنة عليه، والإستفادة منه، يكون بنوعٍ من القدرة الغيبِيّة ما وراء الطبيعة.
هيمنة قانون لا نقض قانون
وبعبارةٍ أخرى: ليست المعجزةُ نقضَ قانونٍ ما، بل المعجزةُ هي هيمنةُ قانونٍ على قانونٍ آخر، مع كون كِليهما طبيعيّاً، إلاّ أنّ المهيمِن هو القانون الواقعِيّ، والمهيمَن عليه هو القانون المألوف.
ولهذا نظيرٌ في القوانين الإجتماعِيّة، والإعتبارِيّة، وحتّى الطبيعِيّة، فمثلاً الدواء في القوانين الطبّيّة العاديّة لا بدّ وأن يترك تأثيراً صحّيّاً على البدن، ولكنْ إذا ما إعترى الإنسان حالةُ يأسٍ روحِيٍّ فإنّها ستفضي إلى بطء حالة الجسد، وبالتالي ستمنع الدواء من التأثير، وبهذا يكون قانون تأثير الحالة الروحيّة مهيمِناً على قانون تأثير الدواء، مع أنّ كِلَيْهما طبيعيٌّ، إلاّ أنّ قانون تأثير الدواء هو المألوف والشائع والمعتاد.
4- سرّ المعجزة
وهذه هي النظرية الرابعة في تفسير المعجزة، ويسعى أصحابُها13 بعكس أصحاب نظريّة التأويل للبحث عن سرّ المعجزات، في حين لا يؤمِن أولئك بوقوع المعجزة أساساً، فلا يسعَوْن وراءَ الكشف عن سرّها.
13- وهم حكماء الإسلام، مثل ابن سينا.
وهم يختلفون مع أصحاب نظريّة الأشاعرة، فإنّ أولئك لا يؤمنون بوجود سرٍّ للمعجزة أساساً.
وملخَّصُ هذه النظريّة أنّ هناك سنناً واقعيّةً غيرَ قابلةٍ للتغيير، وأنّ للمعجزة سرّاً، فالمعجزة أمرٌ غيرُ عادِيٍّ، خارجٌ عن حدود الطاقة البشرِيّة، ولكنّ هذا لا يتنافى مع كون القوانين التي تحكم في العالم هي سلسلةٌ من القوانين القطعيّة والضروريّة. فالسرّ الكامِن وراء المعجزة لا يتعارض مع جزمِيّة القوانين الطبيعِيّة.
والذي تريد أن تثبته هذه النظرِيّة أنّ المعجزة أمرٌ ما فوق بشريّ وبشريّ في آنٍ معاً، وذلك أنّ ما حصل عليه الأنبياء عليهم السلام من قدرات ليس يوجد عند الآخرين، ولكنّ هذه القدرات هي من سنخ القدرة الموجودة عند كلّ الناس، إلاّ أنّها عند الناس بدرجةٍ ضعيفةٍ جدّاً، وعند الأنبياء عليهم السلام بدرجةٍ عاليةٍ.
خلاصة الدرس
المعجزة فعلٌ وأثرٌ يأتي به النبيّ ليكون علامةً على وجود قدرةٍ ما وراء بشريّة في إيجاده، تفوق حدود الطاقة الإنسانيّة بشكلٍ عامٍّ.
وهناك أربعُ نظريّاتٍ حول المعجزة:
النظريّة الأولى: نظريّة المنكرين للمعجزة أساساً، والمعجزة عندهم إمّا كذب محضٌ، أو شيءٌ من قبيل الممارسات السحريّة.
النظريّة الثانية: نظريّة التأويل، وقد قَبِل أصحابها المعجزة ولكنْ فسَّروها بشكلٍ طبيعِيٍّ وعاديٍّ.
النظريّة الثالثة: إن المعجزة آية من قِبَل الله تظهر على يد النبيّ صاحب
المعجزة، فما يقوم به النبيّ ليس فعله، بل هو فعل الله، الذي بيده تغيير قانون العالم متى شاء، وكيف شاء.
هذا الكلامُ كُلُّه وفق مرتَكَزات أصحاب هذه النظرِيّة.
وأمّا مَنْ يؤمنون بقانون العلّيّة العامّ، وقانون ضرورة العِلّة والمعلول- كالعلاّمة الطباطبائيّ- فقد ذكروا أنّه ليست هناك معجزةٌ خارجةٌ عن نطاق القانون الطبيعِيّ الواقعيّ، إذ ليست المعجزةُ نقضَ قانونٍ ما، بل المعجزةُ هي هيمنةُ قانونٍ على قانونٍ آخر، مع كون كِليهما طبيعيّاً، إلاّ أنّ المهيمِن هو القانون الواقعِيّ، والمهيمَن عليه هو القانون المألوف.
النظرِيّة الرابعة: المعجزة أمرٌ غيرُ عادِيٍّ، خارجٌ عن حدود الطاقة البشرِيّة، دون تنافٍ مع كون القوانين التي تحكم في العالم هي سلسلةٌ من القوانين القطعيّة والضروريّة، بل تكون المعجزة من قبيل حكومة قانونٍ على قانونٍ.
أسئلة الدرس
1- ما هي المعجزة؟
2- هل يمكن أن توجد المعجزة؟
3- هل يتوافق العلم والمعجزة أم بينهما تنافرٌ وتضادّ؟
4- ما هي النظريّات التعليليّة في تفسير المعجزة؟
5- ما هي أبرز الإشكالات المثارة حول المعجزة؟