آراء وتحليلات
20/10/2022
أسئلة بداية النهاية للكيان
أحمد فؤاد
برغم المقولات العديدة التي تكاد تجزم أن التاريخ لا يعيد نفسه، فإنه من الشائع في المنطقة العربية أن نشهد تكرارًا لمشاهد تاريخية، لا يجمع بينها إلا الغباء، في صورة منهجية من صور استيراد الكوارث من الماضي، وتطبيق كل الخطايا بحذافيرها على الواقع، فيما يبدو وكأن هناك تصميمًا رسميًا عربيًا على إعادة إنتاج المأساة التي تضرب الأمة العربية، كل عدة عقود.
كان المؤرخ بالجامعة الأميركية، “دافيد بلانكس”، دائمًا ما يردد أن طبيعة النظرة الأوروبية/ الغربية للعربي ثابتة، منذ قرون طويلة خلت، وأن هذه النظرة التي بدأت في الحروب الصليبية، ثم تبلورت خلال القرن السادس عشر، وضعت “طحانًا” (أوروبياً) من البندقية على الخازوق المشتعل، ليقضي حرقًا، لأنه فقط قرأ أن هناك “آخرين متدينين” (غير أوروبيين)، وأرجع بلانكس التصرف الهمجي إلى طبيعة تلك النظرة ومقدار ذاك الإيمان الذي سيطر على الأوروبيين، وجعلهم يرون في العربي، مسلمًا أو مسيحيًا، في مرتبة أدنى من البشر.
لا تقتصر النظرة الدونية الغربية الحديثة على الإنسان العربي، بل تمتد لتشمل كل من لا يفكر ولا يعمل ولا يلبس كما يفكرون ويعملون ويلبسون، إنما هو خارج عن الإيمان، أو زنديق بتعبير أوروبا العصور الوسطى ومطلع عصر النهضة، وأن الشر يكمن في الشرق، وأن كل مسلم هو وثني يتسم بالخسة، وانسحبت تلك النظرة على عالم اليوم، إذ عاد المسلم إلى الواجهة، ليس بملابس العصور الوسطى وعلى الجمال، لكن من بوابة “الإرهاب” أو “التخلف”، ما يهم هنا هو أن الصورة النمطية للعربي في ذهن الغربي، الأوروبي والأميركي، لم تتغير ولم تتبدل.
الفيلسوف الألماني ومؤسس الشيوعية، كارل ماركس، كانت له إجابته الخاصة عن سؤال هل يعيد التاريخ نفسه، فقال: “التاريخ يعيد نفسه مرتين، المرة الأولى كمأساة والثانية كمهزلة”. وربما هذه الإجابة بالذات هي ما ينطبق على عالمنا العربي، اليوم وأمس وغدًا، إذ إن التاريخ يحركه الوعي البشري، وهو فعل إنساني يكتب حاضر اليوم، الذي هو تاريخ الغد، بكل ما يحمله من خبرات وما يريده من رغبات، وإن كان الإنسان غبيًا كفاية، كما حال أغلب حكامنا، فسيسير بنا إلى الهاوية مرتين وثلاثًا وعشرًا.
كان طبيعيًا، والأمر كذلك، أن يطلق وزير خارجيّة بريطانيا، آرثر بلفور، وعده المشؤوم ـ وعد من لا يملك لمن لا يستحق ــ إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد، ممثل الحركة الصهيونية، دون اعتبار لوجود شعب في أرض فلسطين، وكان طبيعيًا أيضًا أن يكون المندوب السامي البريطاني، والذي تولى بالتعاون والتنسيق بين الجيش البريطاني وقوات العصابات الصهيونية مهمة اقتلاع العرب من قراهم وتهجيرهم من مدنهم، والاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الأرض، قبل أن تحل لحظة الحصاد في 15 أيار/ مايو 1948، بإعلان ولادة الكيان اللقيط.
ما لم يكن طبيعيًا، وما كان له أن يكون طبيعيًا، هو أن الحكومات العربية والنظم الرسمية ساهمت بأكبر قدر ممكن لتثبيت دعائم الكيان، والحفاظ على خطوطه التي اختارها عقب وقف إطلاق النار في حرب 1948، النأي بالنفس عن كل محاولات الدعم والتدريب والتنظيم، لملايين الفلسطينين الذين خرجوا من جنة الوطن إلى جحيم الشتات، ثم تبني نظرة تعتبر العدد الضخم للفلسطينين في كل الدول العربية المحيطة أزمة، بدلًا من استغلالها كفرصة تحرير وطلائع جهاد مقدس في سبيل الأرض العربية المغتصبة.
كان طبيعيًا، والنظرة الغربية إلينا على حالها، أمس واليوم وغدًا، وكان طبيعيًا، عقب الانقسام العربي الهائل، في الموقف الذي داهن العدو حينًا، ثم قرر أنور السادات فجأة أن يكسر حتى هذا الموقف المخزي، بعار آخر سيظل على رأسه أبد الآبدين، ويعقد صلحه الاستسلامي المنفرد مع العدو الصهيوني في 1979، لتكر حبات مسبحة الخيانة المقطوعة، ويصل بنا اليوم إلى دول الخليج، ويتقول إعلامها ـ كاذبًا خائنًا ـ إن الأمة قد أرهقها الصراع. أي صراع؟ ومن يتحدث؟
لكن الصدع الأكبر في القضية المركزية للعرب، كان موقف منظمة التحرير، التي اختارت أن تذهب إلى العدو الأول أميركا متسولة السلام، تحت تأثير وهم كبير ساكن، بأنها تستطيع إقامة دولة، وأنها ستكون قائدة التحرر الفلسطيني.
وفقًا للمفهوم الأميركي والصهيوني بالطبع، إذا أحسن الفلسطيني التصرف، فإنه سيحصل على شهادة حسن سير وسلوك من العدو، تتيح له بناء دولته المستقلة.
والشاهد الوحيد الذي يحضر هنا، هو “أوسلو” الذي قدم فتاتًا، لم يكن له في أفضل ظروف الواقع أو في أحلى الأحلام أن يتحول إلى وطن، وكل ما تم الاتفاق عليه كان سياسة الخطوة خطوة، والتي لم تذهب أبعد من مبنى المقاطعة الذي دك على رأس الرئيس الراحل ياسر عرفات أبو عمار قبل دس السم له، وقطاع غزة، وكانت الملفات المؤجلة هي المتفجرات التي دمرت كل من حاول الاقتراب منها، وهي 5 عناوين رئيسة، على وجه التحديد، وهي: القدس، اللاجئون، الحدود النهائية، السيادة، المستوطنات.
وظل الكيان الصهيوني منذ قيامه، وحتى خلال ما دعاه مفاوضات سلام، لا يريد أكثر من طرف عربي يرضى بالفتات الباقي على مائدة الواقع، وكان كل رئيس وزارة صهيوني يبالغ في التشدد، ويزايد في الرفض على من سبقوه، فإذا وافق رابين، عارض بيريز، وإذ قبل باراك، جاء شارون لينسف كل الجولات، وفي النهاية لم يعد أصلًا من فتات، فقد أخذه الفلسطينيون منذ البداية، والصهيوني لا يريد، ولا يريد له أحد، أن ينزل عن سيطرته.
كان الوهم المقابل للوهم العربي للسلام، هو وهم القوة الذي سيطر على كيان الاحتلال، فهو يظن أنه يملك القوة القادرة على منع أية تهديدات موجهة لقلبه الهش، ثم إنه قادر بهذه القوة التي لا تضاهى على إنزال العقاب أضعافًا مضاعفة بمن ينتهك أمنهم، والأهم أن كل الزعماء العرب الأراذل يسعون هم إليه، ويحققون كل متطلبات الأمن الصهيوني، حتى قبل أن يضمنوا طعام شعوبهم، والحصار المصري المفروض على قطاع غزة يأتي في هذا السياق.
ما الذي تبقى للطرف الفلسطيني الرسمي لكي يفاوض عليه؟ في الحقيقة فإن محمود عباس ومن حوله، من سكان المقاطعة، لا يجرؤون، ولا يفكرون أصلًا، إلا في مزيد من الاستجداء، ومزيد من التعلق بالوهم، والكثير جدًا من الخيانة ليبذلوها في سبيل إقناع سادتهم بتل أبيب، أنهم الخدم الأوفى والأنسب لكراسيهم وأنهم يستحقون أجورهم.
وإذا لجأ طرف ما إلى الاستجداء في علاقاته الدولية، فقل عليه وعلى مصالحه الحقيقية السلام، فالطرف الآخر مدعو بنفس الدرجة إلى أن يستقوي ويستغل ويقفز على كل حق وحقيقة، والدرس الوحيد الذي ينبغي أن نكون تعلمناه من التعامل مع العدو، هو أنه حين تقدم له أصبعك بمحض إرادتك، فإنه في اللحظة ذاتها، سيقضم ذراعك.
باختصار شديد، غير مخل، فإن عملية الشهيد البطل عدي التميمي، ومن قبله ومن بعده، من أبطال خيط نوراني من الأرواح الطاهرة، ممدود من الأرض إلى السماء، لا تقول بغير حقيقة واحدة واضحة وضوح الشمس، وهي أن اليأس مع الفوران العاطفي لقضية مقدسة، لا يستلزمه إلا بعض التسليح والقليل جدًا من الإصرار، والمزيد من خطابات الدعم المعنوي للأمة العربية كلها، وتتحول الحالة من فوران إلى فعل حقيقي على الأرض، قادر على فرض حقيقة واقعة جديدة، عنوانها الأول أن عصر التحرير قد بدأ.
سبق وأن دعت المقاومة إلى تسليح الداخل الفلسطيني، بداية من دعوة شهيد طريق القدس الجنرال قاسم سليماني، وهو ما يبدو أنه يتحقق اليوم وعلى الأرض، فاستبدل الفلسطيني المقاوم السكينة بالحجر، واليوم يواجه قطعان المستوطنين وجيش الاحتلال بالنار، وليس أقل من أن يستمر هذا الطريق، وفاءً لمن عبدوه وبدأوه، لكن وفاء لأنفسنا ولمكاننا في المستقبل، ولكي لا نكرر التاريخ مرتين.