المنهج الجديد في تربية الطفل
10 سبتمبر,2023
بحوث اسلامية
197 زيارة
الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى الأبعاد الثلاثة لهوية الطفل: العقلية، القلبية، البدنية.
2- يُميّز بين القوى الذهنية – الإدراكية المختلفة للطفل: الحسّية، الوهمية، العقلية.
3- يعرف وظيفة كلّ قوّة من القوى التخزينية والتذكرية التصرّفية في نفس الطفل.
4- يتعرّف إلى القوى القلبية – الجوانحية، والغرائز الفطرية في نفس الطفل.
تمهيد
إنّ موضوع التربية ومتعلّقها في هذا الكتاب هو الطفل. وتختلف النظرة إلى طبيعة الطفل من فلسفة تربوية إلى أخرى، ممّا ينعكس على كيفية تربية الطفل ومجمل العمليات التربوية. فالجواب عن سؤال: كيف نُربّي؟ وعلى ماذا نُربيّ؟ يُحدّده الجواب عن سؤال: من نُربّي؟ وقد خصّصنا هذا الدرس للبحث حول ماهيّة الطفل من وجهة نظر علم النفس الفلسفيّ الإسلاميّ.
الطفل مخلوق مادّيّ روحيّ
إنّ الطفل في فلسفة التربية الإسلامية مخلوق مركّب من بعدين: مادّيّ وروحيّ، أي جسم يتمثّل بهذا الهيكل الحسّيّ، ونفس مجرّدة عن المادّة وخصائصها، دورها قيادة البدن وإدراة مملكته. والعلاقة بين هذين البعدين هي الارتباط التفاعليّ بنحو يؤثّر ويتأثّر كلّ واحد منهما بالآخر بنحو متبادل، فمثلاً إذا كان الطفل مريضاً بدنياً فسيؤثّر ذلك على إدراكه الذهنيّ وقوّة الحفظ لديه، وإذا كان الطقس حارّاً سيؤثّر ذلك على مزاجه وسرعة غضبه النفسيّ، وكذا العكس، فقد يكون وراء الأبعاد الذهنية والنفسية عوامل جسمانية وفيزيقية، يُعتبر البحث والكشف عنها عاملاً مهمّاً في تربية الطفل، فتربية أيّ بعد من البعدين ستنعكس بطبيعة الحال على البعد الآخر بسبب العلاقة التفاعلية بينهما.
البعد البدنيّ لشخصية الطفل
يُشكّل بدن الطفل وجسمه البعد المادّيّ من هويّته وشخصيّته، فجسم الطفل موضوع ومتعلّق لعمليّة التنمية والتنشئة. ونُطلق على تنمية البعد البدنيّ للطفل اسم “التربية الجسمية”، بمفهومها الواسع الشامل للرعاية الصحية والتغذية السليمة والوقاية والاهتمام
بالنظافة الجسدية والتدريب الرياضيّ والمهارات الحركية، والتجمّل والتزيّن… إلخ، لذا يُعتبر تكوين المعلومات الأوّلية عن جسم الطفل وخصائصه ومكوّناته من جهة، وكيفية تربيته جسمياً من جهة ثانية ولو بنحو إجماليّ أمراً ضروريّاً للمربّي.
وهذا اللون من المعرفة من اختصاص علوم متعدّدة أهمّها علم الطبّ وعلم التغذية وعلم الرياضة وغيرها من العلوم. ولن نتوقّف في هذا الدرس عند تعريف جسم الطفل وبيان خصائصه وتشريح قواه، حيث سنعرض أثناء كلّ درس متعلّق بالتربيات المضافة إلى الجسم المقدار الملائم من المعلومات المتناسب مع طبيعة كلّ درس. وفي هذا الدرس سنُركّز محور الاهتمام على القوى النفسية الداخلية للطفل.
خروج الطفل من بطن أمّه جاهلاً
يقول الله تعالى: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾[1].
تُبيّن هذه الآية القرآنية أنّ الطفل يأتي إلى الحياة فاقداً لأيّ لون من ألوان العلوم والمعارف التصوّرية والتصديقية[2]. يقول السيد محمد باقر الصدر مستشهداً بالآية المذكورة: “إنّ الإنسان لحظة وجوده على وجه الأرض لا توجد لديه أيّة فكرة مهما كانت واضحة وعامّة في الذهنية البشرية”[3].
استعداد الطفل لتحصيل المعرفة
مع أنّ نفس الطفل في بداية الخلقة خالية من العلوم، إلا أنّ الله تعالى زوّده باستعداد خاصّ وأدوات معرفية محدّدة تُمكّنه من تحصيل العلم بنحو تدريجيّ تراكميّ[4]، كما تُفيده تتمّة الآية القرآنية السابقة في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[5].
وهذه الأدوات المعرفية والقوى الإدراكية هي ما ستُشكّل محور الحديث في الفقرات الآتية.
القوى الذهنية – الإدراكية[6]
القوى الذهنية لنفس الطفل عبارة عن الأدوات والآلات التي يستطيع بواسطتها تحصيل المعارف وتكوين العقائد وفهمها وتخزينها واسترجاعها وتحليلها وتركيبها والاستنتاج منها… إلخ، وقد قسّم الفلاسفة المسلمون القوى الذهنية إلى عدّة أقسام، هي:
الإدراك الحسّي وأدواته
أوّل مرحلة إدراكية يمرّ بها الطفل في حياته تُسمّى الإدراك الحسّي أي المعرفة التي يحصل عليها من خلال استخدام الحواسّ. والحاسّة هي القوّة النفسية التي يُدرك الطفل بواسطتها الصور الجزئية للأشياء الخارجية المحيطة به في عالم الطبيعة والمادّة. ولكلّ حاسّة نفسانية أداة جسمانية خاصّة. وتتنوّع أدوات المعرفة الحسّية إلى خمس: الباصرة، السامعة، الشامة، اللامسة، الذائقة.
وكتوضيح لكيفية حصول العلم الحسّي في نفس الطفل نعرض المثال التالي: ينظر الطفل إلى أمّه، فيُصبح هناك اتصال حسّي بينه وبينها، فتنطبع صورة أمّه في ذهنه، وهذا اللون من العلم يُسمّى الإدراك الحسّي أو المعرفة الحسّية.
مع الإشارة إلى أنّ انطباع هذه الصور الحسّية في ذهن الطفل لا يعني بالضرورة أنّه ملتفت إليها وواعٍ بها بالمعنى الذي يُدركه الكبار، بل بالتكرار والتراكم والتدريج يحصل عنده العلم الحسّي الشعوريّ بها.
ويترتّب على كون المرحلة الأولى من حياة الطفل هي مرحلة الإدراك الحسّي أصول وأساليب وإجراءات تربويه عديدة في كيفية التعامل التربويّ مع الطفل، منها ما سنُشير إليه في درس التربية بالقدوة والنموذج السلوكيّ.
قوّة الوهم
ثمّ يتطوّر إدراك الطفل، فبالإضافة إلى القوّة الحسّية يُصبح مالكاً لقوّة إدراكية ثانية تُسمّى الوهم، وهو قوّة نفسية يستطيع أن يُدرك الطفل بواسطتها المعاني الجزئية الموجودة في المحسوسات. والمقصود بالمعاني الجزئية الصفات التي لا تخضع بذاتها للملاحظة الحسّية، كخوف فلان، وحبّ فلان، فإنّ الخوف والحبّ معانيان جزئيان قائمان في نفوس الأشخاص الآخرين لا يُدركان بواسطة الحسّ. وبهذا يتّضح أنّ الفرق بين الحسّ والوهم يكمن في أنّ الأوّل قوّة إدراك الصور الجزئية المحسوسة كالألوان والأشكال والأصوات والروائح… والثاني قوّة إدراك المعاني الجزئية كالحبّ والخوف وغيرهما من الصفات القائمة في نفس معيّنة.
قوّة العقل
القوّة الإدراكية الثالثة للطفل، التي تُدخله في دائرة الإنسانية بالمفهوم المنطقيّ – لأنّ الإنسان لا يتميّز عن الحيوان بالمعرفة الحسّية، ولا بالمعرفة الوهمية – تُسمّى: “العاقلة” أو “العقل“، وهي لا تنشط في الطفل إلا بمرحلة عمرية متأخّرة من حياته.
والعقل هو قوّة إدراك المفاهيم والقضايا الكلّية في الأشياء. والمعاني الكلّية كما ندرس في علم المنطق هي المعاني الذهنية التي لديها قابلية الصدق والحمل على أفراد في الخارج، مثل مفهوم الإنسان، فنقول: محمد إنسان، جعفر إنسان، فاطمة إنسان… وهكذا.
العقل النظريّ والعقل العمليّ
وينقسم العقل بالاصطلاح الفلسفيّ إلى قسمين:
العقل النظريّ: وهو القوّة الذهنية التي يُدرك من خلالها الطفل في مرحلة عمرية معيّنة متقدّمة من حياته بعض المفاهيم والتصوّرات والقضايا والتصديقات الكلّية، المتعلّقة بالواقع الموجود، ويُميّز من خلالها بين الصحيح والخطأ في التصوّرات والتصديقات. مثل علمه ببعض القواعد الرياضية والقوانين الفلكية والبيولوجية والفيزيائية، أو بعض القضايا العقائدية… إلخ.
وباختصار، العقل النظريّ هو قوّة إدراك ما هو موجود وكائن في الواقع.
العقل العمليّ: وهو القوّة الذهنية التي يُدرك من خلالها الطفل في مرحلة عمرية معيّنة من حياته بعض القضايا المعيارية المتعلّقة بالعمل أي الواقع المطلوب إيجاده، ويُميّز به بين الحسن والقبيح كقيم ذاتية في الأفعال، مثل: الصدق واجب فعله، احترام الأبوين واجب فعله، الكذب لا ينبغي فعله، الاعتداء على الآخرين لا ينبغي فعله… إلخ.
وباختصار، العقل العمليّ هو قوّة إدراك ما ينبغي أن يفعله الإنسان باختياره أو لا يفعله كذلك.
وكون الطفل يمتلك قدرة التفكير العقليّ في مرحلة معيّنة سيكون له دور مهمّ عند الحديث عن التربية العبادية للطفل والتربية بالعقوبة وغيرهما، في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
القوى التخزينية عند الطفل
من الواضح أنّ نفس الطفل بالإضافة إلى إدراكها للأشياء تستطيع أن تحتفظ بالصور والمعاني التي تحصل عليها بواسطة القوى الإدراكية (الحسّ، الوهم، والعقل) في أوعية وخزائن معيّنة، يُطلق على كلّ خزانة منها اسم خاصّ حسب نوعية المدركات المحفوظة فيها.
1- الخيال: هو خزانة المدركات الحسّية الجزئية، فكلّ الصور الحسّية التي تحصل عليها نفس الطفل بواسطة الحواس – بعد غيبتها عن الحسّ – تحفظ في وعاء يُطلق عليه الفلاسفة اسم: “الخيال“، فالخيال وعاء حفظ المعلومات الواصلة عن طريق الحواسّ إلى نفس الطفل.
2- الحافظة: وهي خزانة المدركات الوهمية، أي أنّ المعاني الجزئية التي تحصل عليها النفس بواسطة قوّة الوهم تُخزّن وتُحفظ في وعاء نفسيّ يُسمّى: “الحافظة“، فالحافظة وعاء تخزين المعاني الواصلة عن طريق الوهم.
3- العقل الفعّال: وهو حافظ المدركات العقلية، أي أنّ المعاني الكلّية التصوّرية والتصديقية التي تحصل عليها النفس بواسطة قوّة العقل محفوظة في العقل الفعّال[7].
القوّة التذكّرية عند الطفل
بالإضافة إلى القوّتين الذهنيتين السابقتين الإدراك والتخزين، توجد قوّة ثالثة في النفس، وظيفتها استرجاع واستعادة المعلومات المخزّنة والمحفوظة في النفس، ويُطلق عليها اسم: “الذاكرة” أو المسترجعة. فالذاكرة هي: قوّة ذهنية يستطيع الطفل بواسطتها أن يسترجع ويتذكّر الصور والمعاني الجزئية والكلّية.
القوّة المتصرّفة عند الطفل
القوّة المتصرّفة عبارة عن القدرة الذهنية للطفل على التصرّف في الصور والمعاني الجزئية والكلّية المحفوظة في الأوعية والخزائن المختلفة، على نحوين:
1- (الفصل) أي التجزئة والتحليل والتفكيك والتقشير والتجريد…
2- (الوصل) أي التركيب والتأليف والتجميع والربط والتعميم…
وبما أنّ الخزائن على ثلاثة أقسام، فإنّ هذه القوّة تختلف تسميتها باختلاف الخزانة التي تتصرّف فيها.
1- المتخيّلة: وهي عبارة عن تصرّف هذه القوّة بالصور الجزئية المخزّنة في الخيال تركيباً أو تحليلاً. كأن يتصوّر الطفل حيواناً مركّباً من: رأس حصان، ورقبة زرافة، وجسد ثور، وأجنحة نسر، فهو يُركّب بين صور مختلفة، وليس هذا التركيب أيضاً إلا فرع قوّة التحليل بنزع رأس الحصان عن الحصان وتصوّره مستقلّاً… إلخ. والمتخيّلة هي القوّة التي يستطيع الطفل بواسطتها إبداع الصور المتنوّعة وخلقها وابتكارها كما يتجلّى في فنّ الرسم مثلاً، حيث يرسم الطفل شكلاً معيّناً لم يأخذه من الخارج بواسطة الحواسّ مباشرة بل خلقته قوّته المتخيّلة…
2- المتوهّمة: وهي عبارة عن تصرّف القوّة المذكورة في المعاني الجزئية ونسبتها إلى الصور مثلاً، فيتصوّر الطفل أنّ فلاناً يُحبّ فلاناً، وهكذا… فالمتخيّلة تُركّب بين الصور أو تُجزّئ الصور. أمّا المتوهّمة فهي تُركّب بين المعاني والصور، أو تفصل المعاني عن الصور.
3- المفكِّرة: وهي عبارة عن استعمال العقل لقوّة المتصرّفة في تحليل وتركيب المفاهيم العامّة والمعقولات والمعاني الكلّية والجزئية. وبواسطة هذه القوّة يكون الإنسان إنساناً أي كائناً مفكّراً، لأنّ التفكير عبارة عن استخدام العقل للمتصرّفة، باستخراج حدود الماهيات وأجزائها الذاتية وعناصرها الداخلية (الأجناس والفصول) والعرضية (العرض العامّ والخاصة)، فيكون قادراً على التعريف[8]، وبها يستخرج الحدّ الأوسط فيكون قادراً على الاستدلال وتركيب الأقيسة والبراهين[9]. وهكذا يُمكن أن يكون منطقياً بمعنى أنّه قادر على الانتقال من المعلومات التصوّرية إلى معرفة المجهولات التصوّرية (المفاهيم) بواسطة التعريف، ومن المعلومات التصديقية إلى معرفة المجهولات التصديقية (القضايا) بواسطة الاستدلال.
هذه هي مجموع القوى الذهنية – الإدراكية للطفل[10]، والتي هي قوى موجودة بأصل الخلقة والتكوين بالقوّة. لكن تفعيل وتنشيط عمل هذه القوى وتوجيهها وجعلها أقدر على إدارة نشاطاتها وتكوين مهارات خاصة في كيفية استعمالها لخروجها من الاستعداد إلى الفعلية ومن النقص إلى الكمال يحتاج إلى التربية والتعليم، ولا تستقيم من دون التعليم والتربية الإبستمولوجية، وتربية مهارات التفكير -سنتحدّث عنها في درس خاصّ-.
القوى القلبية – الجوانحية للطفل
يرى الفلاسفة المسلمون أنّه بالإضافة إلى القوى المتعلّقة بالعلم والإدراك، توجد قوّة أخرى متعلّقة بالعمل يُطلق عليها اسم القوّة العاملة أو القوّة المحرِّكة. ووظيفة هذه القوّة إدارة شؤون البدن وقيادة الجسم والتحكّم والسيطرة على أعضائه وجوارحه أمراً ونهياً،
أي أنّ هذه القوّة هي التي تُصدر الأمر إلى عضلات الجسم وجوارحه وتطلب منها التحرّك وتدفعها نحو العمل (البعث)، أو للكفّ والترك والانقباض عن العمل (الزجر).
وتتوسّط القوّة العاملة القوى التالية[11]:
1- القوّة الفاعلة أو القدرة: وهي القوّة التكوينية في الطفل التي تهبه الاستطاعة على الفعل أو الترك، فهو إن شاء فعل وإن شاء ترك، وبعبارة أخرى هي القوّة المحرّكة للعضلات في الطفل للقيام بالعمل.
2- القوّة الباعثة: وتنقسم إلى قسمين:
أ- القوّة الشهوية: وهي القوّة التي تحرّك الطفل وتبعثه نحو جذب الملائم واللذّة والمنفعة والمصلحة لنفسه.
ب- والقوّة الغضبية: وهي القوّة التي تحرّك الطفل وتبعثه نحو دفع المنافر والألم والضرر والمفسدة عن نفسه.
أمّا مجموع الغرائز – ونعني بالغريزة كلّ ميل داخليّ في نفس الطفل جذباً أو دفعاً تجاه أمر ما – المتنوّعة المعجونة في نفس الطفل بأصل الخلقة والتي لا تحتاج إلى الكسب والاكتساب كغريزة الأكل والشرب، أو غريزة حبّ المعرفة وفضول الاستطلاع والاستكشاف، وغريزة التكيّف مع البيئة، الصراع من أجل البقاء، غريزة الميل إلى الجمال، وغريزة الخضوع والدهشة أمام الكمال… إلخ، فهي تعود في المحصّلة إلى واحدة من القوّتين السابقتين، لأنّ كلّ واحدة من هذه الغرائز إمّا تميل نحو جذب كمال ومصلحة ومنفعة أو نحو دفع نقص ومفسدة وضرر.
ونصطلح على مجموع هذه القوى اسم القوى القلبية -الجوانحية، وهي باختصار عبارة عن مجموعة الوظائف والأدوار التي يقوم بها القلب في الفعل والانفعال النفسيّ الداخليّ والذي يترك بصمته على الجسد والجوارح، فالإيمان من وظائف القلب وأعمال الجوانح، والإرادة من وظائف القلب، والعواطف والمشاعر الداخلية من وظائف القلب كالحبّ والشوق
والبغض والكراهة والخوف والفرح والسرور…
وهذه القوى العاملة مشتركة بين الحيوان والإنسان، والفرق بينهما في أنّ الحيوان يتحرّك معها على مقتضى طبيعته وغريزته التي خلقه الله تعالى عليها: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[12]، ويُعبّر بعض الآيات عن هذا الحِراك الغريزي بالوحي: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[13]. أمّا الإنسان فيحتاج إلى إخضاع القوى الشهوية والغضبية والغرائز إلى منطق العقل العمليّ وتعاليم الوحي، وإلا أصبح أكثر شرّاً من الأنعام والبهائم.
عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام فقُلتُ: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال: “قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: إنّ الله عزّ وجلّ ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل.وركّب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرٌّ من البهائم“[14].
وبعبارة أخرى على حدّ تعبير إيمانويل كانط يحتاج الطفل إلى ترويض التوحّش في داخله[15]، وهذا إنّما يحصل بالتربية، فالتربية الأخلاقية مثلاً تبني في الطفل المحتوى الداخليّ والملكات الفاضلة التي تُعتبر ضوابط لكبح غريزتي الشهوة والغضب في السلوك، فضلاً عن أنواع التربية الأخرى العقائدية والفقهية…، فحتى لا تكون صورة ولدي صورة إنسان وقلبه قلب حيوان[16] يحتاج إلى التربية، فالتربية هي التي تصنع الطفل إنساناً حقيقة.
فطرة حبّ الأنا
من الأمور التي فُطرت عليها نفس الطفل فطرة حبّ الذّات أو حبّ النفس أو عشق الأنا، يقول السيد محمد باقر الصدر: “حبّ الذّات -أي حبّ الإنسان لذاته وتحقيق مشتهياتها الخاصّة- طبيعيّ في الإنسان، ولا نعرف استقراء في ميدان تجريبيّ أوضح من استقراء الإنسانية في تاريخها الطويل، الذي يُبرهن على ذاتيّة حبّ الذّات، بل لو لم يكن حبّ الذّات طبيعياً وذاتياً للإنسان لما اندفع الإنسان الأول -قبل كلّ تكوينة اجتماعية- إلى تحقيق حاجاته، ودفع الأخطار عن ذاته، والسعي وراء مشتهياته”[17].
ويظهر من بعض العلماء أنّه يُرجِع مجموع الغرائز والقوى المختلفة حتّى غريزتي القوّة الشهوية والغضبية إلى غريزة حبّ الأنا. يقول السيّد الخوئيّ: “الإنسان يتحرّك نحو ما يراه نفعاً له، ويحذر ممّا يراه ضرراً عليه… (و) المنشأ فيه حبّ النفس، ولا اختصاص له بالإنسان، بل الحيوان أيضاً بفطرته يُحبّ نفسه ويتحرّك إلى ما يراه نفعاً له، ويحذر ممّا أدرك ضرره”[18].
وليس المقصود بحبّ الذّات تلك الحالة السلبية المرضية من الأنانية والنرجسية، بل المراد من حبّ الذّات هو تلك الطاقة الإيجابية في داخل الطفل التي تهديه نحو أغراضه، وتُحرّكه لاحقاً نحو تحقيق أهدافه في الحياة.
فطرة عشق الكمال والنفور من النقص
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: “من الأمور الفطرية التي جُبلت عليها سلسلة بني البشر بأكملها… الفطرة التي تعشق الكمال… تجد هذا العشق والحبّ قد جُبل في طينته، فتجد قلبه متوجّهاً نحو الكمال… (و) من الأمور الفطرية التي فُطر الناس عليها هو النفور من النقص“[19].
فممّا فُطرت عليه نفس الطفل بنحو تميل إليه بأصل الخلقة هو عشق الكمال وطلبه والسعي نحوه، والنفور من النقص، وبما أنّ معنى التربية هو الانتقال التدريجيّ بالطفل من النقص إلى الكمال، فإنّ نفس الطفل تميل إلى التربية بنحو فطريّ.
المعارف الفطرية في نفس الطفل
وبهذا يتبيّن أنّ حديثنا عن خلوّ نفس الطفل من المعارف بأصل الخلقة يتعلّق بالعلوم الحصولية من تصوّرات وتصديقات. وهذا لا يُلغي وجود جملة من المعارف الفطرية والحضورية الكامنة فيه بأصل الخلقة، يكون مغفولاً عنها، لكنّها متحقّقة بالفعل في نفس الطفل، أطلقت عليها النصوص الدينية اسم: “المعرفة الفطرية”، ويُطلق عليها بلغة الفلسفة والعرفان: “المعرفة الحضورية“. وهذا ما جعل السيد الطباطبائيّ يقول بعدم عمومية الآية القرآنية المذكورة في بداية الدرس[20] للمعارف الحضورية، وأنّ العموم فيها منصرف إلى العلم الحصوليّ، بمعنى أنّ المنفيّ فيها هو خصوص العلم الحصوليّ دون الحضوريّ[21].
وهناك عدّة نماذج عن العلوم الفطرية المجبولة عليها نفس الطفل بأصل التكوين، منها: فطرة المعرفة التوحيدية، وفطرة الميل نحو القيم الدينية. ونقصد بالفطرة كما يُعرّفها الإمام الخمينيّ قدس سره: “الحال والكيفية التي خُلق الناس وهم متّصفون بها، والتي تُعدّ من لوازم وجودهم، ولذلك تخمّرت طينتهم بها في أصل الخلقة”[22].
وسيأتي البحث عن هذه النقاط في درس التربية العقائدية للطفل.
وقد أدرجنا هذه المعارف والميول الفطرية تحت البعد القلبيّ – الوجدانيّ في هويّة الطفل.
الاستنتاج: أبعاد هوية الطفل
وبهذا يتّضح أنّ هويّة الطفل تتكّون من ثلاثة أبعاد:
1- البعد العقليّ – الذهنيّ، ويرتبط بالإدراك والمعرفة والتفكّر والتخيّل والتحليل
والتفسير والشرح والتركيب والتأليف والحفظ والتذكّر والفهم والبصيرة والتأمّل والتدبّر والنظر والتعقّل… إلخ.
2- البعد القلبيّ – الوجدانيّ، ويرتبط بالفطرة، والعاطفة، والغرائز، والميول الداخلية، والمشاعر والأحاسيس الوجدانية، والملكات الأخلاقية، والاتّجاهات…
3- البعد البدنيّ، ويرتبط بالجسد والجوارح والأعضاء والعمل والسلوك واللفظ والمهارات الحركية… إلخ.
وهذه هي أبعاد تربية الطفل، ولكلّ بُعدٍ من هذه الأبعاد ساحات خاصّة ذكرناها في الدرس الثالث.
المفاهيم الرئيسة
– الطفل كائن مادّيّ روحيّ يتركّب من نشأتين مادّية وروحية. والتربية تعني إشباع حاجات الجنبتين بشكل متوازن.
– يخرج الطفل من بطن أمّه جاهلاً لا يملك أيّ لون من المعارف، لكن فيه قابلية واستعداد تحصيل العلوم والمعارف بالتدريج من خلال: أدوات الإدراك الحسّي (الباصرة، السامعة، الذائقة، اللامسة، الشامّة)، وقوّة الوهم التي يُدرك بها المعاني الجزئية القائمة بالأجسام المحسوسة، مثل الحبّ والخوف والشجاعة و…، وقوّة العقل المدرِك للمعاني الكلّية والقضايا العامة.
– لدى الطفل قدرة على تخزين المعلومات في أوعية متنوّعة حسب نوع المدرَكات، فيخزن المعلومات الحسّية في الخيال، والمعلومات الوهمية في الحافظة، والمعلومات العقلية مخزونة في العقل الفعّال. ولديه قدرة على استرجاع تلك المعلومات وتذكّرها.
– لدى الطفل قدرة على التصرّف في المعلومات المخزّنة في الأوعية الحافظة المختلفة، من خلال التحليل والتفكيك والتجريد والتركيب والتأليف والتعميم.
– بالإضافة إلى قوّة الإدراك والحفظ والتذكّر والتصرّف، توجد عند الطفل قوى فطرية -غريزية تُحرّكه نحو جذب الملائم واللذّة، ودفع الألم والضرر، وبها يعيش الأحاسيس والمشاعر والميول العاطفية المختلفة تجاه الأشياء حبّاً وبغضاً، وتشمل القوى القلبية الملكات النفسانية من الفضائل والرذائل، والإرادة…إلخ.
– تشمل تربية الطفل على ثلاثة أبعاد: الأول: البعد العقليّ -الذهنيّ، ويرتبط بالإدراك والمعرفة والتفكّر والتخيّل والتحليل والتركيب والتذكّر والفهم والبصيرة والتأمّل والتدبّر والنظر والتعقّل… إلخ. الثاني: البعد القلبيّ – الوجدانيّ، ويرتبط بالفطرة، والعاطفة، والغرائز، والميول الداخلية، والمشاعر والأحاسيس الوجدانية، والملكات الأخلاقية، والاتجاهات… والثالث: البعد البدنيّ، ويرتبط بالجسد والجوارح والأعضاء والعمل والسلوك واللفظ والمهارات الحركية… إلخ.
أسئلة الدرس
1- برأيك هل الجواب عن سؤال: كيف نُربّي؟ وعلى ماذا نُربّي؟ يُحدّده الجواب عن سؤال: من نُربّي؟ علّل ذلك.
2- ما هي أهمّية فهم طبيعة العناصر التي تتركّب منها شخصية الطفل بالفطرة في العمليات التربوية؟ وكيف تؤثّر على ذلك؟
3- ما هو الدليل على أنّ الطفل يولد خالي النفس من أيّ لون من المعارف والعلوم؟
4- ما هي أدوات الإدراك الحسّيّ عند الطفل؟
5- لو لم يكن الطفل مجهّزاً بقوى يستطيع أن يُخزّن فيها المعلومات والمعارف التي يتعلّمها، هل كان باستطاعته استرجاعها؟ وما الذي كان سيحصل برأيك؟
6- ما هو دور القوى القلبية والغريزية في حياة الطفل؟
7- هل فطرة حبّ الأنا المجبول عليها الطفل بأصل الخلقة إيجابية أم سلبية؟ علّل ذلك.
الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف النظريات الثلاث حول طبيعة فطرة الطفل ويناقشها.
2- يعتقد بإمكانية تغيير هويّة الطفل بالتربية والتعليم والتأديب.
3- يُحدِّد مجالات الخيرية والشرّية والحيادية في هويّة الطفل.
4- يعرف أنّ من حقّ الطفل الوقوع في الخطأ.
تمهيد
إنّ تسليط الضوء على طبيعة الطفل وحقيقة فطرته يُعتبر من الأبحاث المهمّة من حيث الجواب عن السؤالين البنيويّين التاليين:
السؤال الأوّل: ما هي طبيعة التركيبة الفطرية للطفل بأصل الخلقة، هل هي طبيعة شرّيرة أم خيّرة أم حيادية؟ حيث إنّ تحديد الجواب عن هذا السؤال بأيّ من الافتراضات السابقة يُغيّر من المسار في كيفية تربية الطفل.
السؤال الثاني: هل طبيعة الطفل وفطرته ثابتة غير قابلة للتغيير أم أنّها تتبدّل من حال إلى حال؟ وبعبارة أخرى: هل الطفل الذي يولد شرّيراً بطبعه – بحسب بعض النظريات – يستحيل تغييره بالتربية أم يُمكن تغييره؟ لأنّه إذا كان الجواب بأنّ شخصية الطفل ثابتة لا تتحوّل فهذا يعني عبثية التربية للطفل.
في الجواب عن السؤال الأول يُمكن رصد ثلاث نظريات[23]:
النظرية الأولى: شريّة طبيعة الطفل
يرى أصحاب هذه النظرية أنّ طبيعة الطفل تميل إلى الأخلاق الذميمة، بمعنى أنّ نفس الطفل جُبلت بأصل الخلقة على الشرّ، وعُجنت طينته بالرذيلة والأطباع الخبيثة والسيّئة، فـ “الشرّ جزء من تكوينه النفسيّ، وبه يندفع إلى العدوان والانحراف. وقد عبّر عن هذه النظرة المتشائمة بعض رجال الدين المسيحي“[24]. ويترتّب على هذه النظرية أن “تقوم التربية باستخدام وسائل العنف والقسوة لانتزاع الشرّ منه“[25].
النظرية الثانية: حيادية طبيعة الطفل
ترى هذه النظرية أنّ الطفل يميل بنحو متساوٍ إلى الخير والشرّ، وبعبارة أخرى إنّ نفس الطفل “من طبيعة محايدة، وإنّما يلحق الفساد بهذه الطبيعة نتيجة لفساد التربية التي يتلقّاها“[26]. يقول سعيد إسماعيل علي في هذا السياق: “الإشكالية التي شُغل بها الفكر الفلسفيّ والتربويّ والأخلاقيّ من حيث التساؤل عمّا إذا كان الإنسان بطبعه خيّراً أو شرّيراً هي إشكالية زائفة، ذلك أنّ الطبيعة الفطرية للإنسان محايدة، صفحة بيضاء، مثلها مثل المادّة الخام“[27].
النظرية الثالثة: خيرية فطرة الطفل
يعتقد أصحاب هذه النظرية بعكس النظرية الأولى، أنّ طبيعة الطفل وفطرته جُبلت على حبّ الخير، فهو يميل إلى الخير والصلاح بأصل الخلقة.
وقفة مع النظريّات الثلاث
سنُحاول في هذه الفقرة التوقّف عند بعض النقاط التي ستُمهّد الطريق لتبنّي الرأي الذي نراه أقرب للصواب من ضمن النظريّات السابقة في الجواب عن السؤال الأول، وسيتّضح بنحو جليّ أيضاً موقفنا من الجواب عن السؤال الثاني خلالها بالتبع.
أولاً: لا ريب في أنّ الطفل في مراحل الطفولة المبكرة وما قبل سنّ التمييز، لا يعرف معنى الخير أو الشر، فإن سُلّم جدلاً بميل طبيعة الطفل نحو أيٍّ منهما فهو ميل فطريّ جبلّيّ غير واعٍ.
ثانياً: لا يُمكن إنكار وجود ردّات فعل طبيعية في الطفل بأصل الخلقة هدته إليها يد الله تعالى، والمقصود بها السلوكات الصادرة عن الغريزة والتي تُسبّبها القوى الطبيعية (الشهوية والغضبية) المجبول عليها الإنسان بأصل الفطرة، كالخوف أو الحبّ… إلخ. ولكن يُطرح السؤال: هل ردّات الفعل النفسانية الطبيعية هذه هي خير أم شرّ أم حيادية؟
في الحقيقة، إنّ النظر إلى ردّات الفعل هذه بلحاظ القوى النفسية الناشئة منها أي بالنظر إلى نفس القوّة الشهوية أو الغضبية لا بدّ من أن يدخل في دائرة الحسن والخير، لأنّ الله تعالى لا يخلق إلّا ما هو حسن جميل، يقول تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾[28]، فهذه القوى النفسية تعمل بأصل الفطرة بحسب ما يقتضيه طبعها المسخّرة له، إنّما تكمن المشكلة في كيفية توظيف هذه القوى النفسية وتسييرها في أيّ اتّجاه.
وبناءً عليه، وظيفة التربية ليست استئصال هذه الغرائز والانفعالات والأحاسيس النفسية واقتلاعها من جذورها، لأنّ ذلك مستحيل، فكلّ ما زرعته يد الله تعالى بأصل الخلقة يستحيل استئصاله، نعم، يُمكن التعمية عليه ودسّه ودفنه في دائرة الظلمة. فلا يُمكن للتربية إزالة فطرة حبّ الأنا من نفس الطفل، ولا استئصال القوة الداخلية المحرّكة له نحو الحبّ أو البغض أو الخوف أو الحياء أو… بل هو إيجاد حالة من التحكّم والقيادة والسيطرة على هذه الانفعالات بنحو ينضبط السلوك على ضوء التعاليم التربوية الحسنة والجميلة، لذا يُقال بأنّ التربية وظيفتها الدفع وليس الرفع والاستئصال[29].
فليس من المعقول تربية الطفل بالطلب منه أن لا يغضب أو لا يشتهي بعض الأشياء، فإنّ هذه الحالات النفسانية أمور طبيعية في ذات فطرته غير قابلة للإزالة، وإنّما المطلوب هو ضبطها وتوجيهها وإرشادها، لا قمعها وكبتها. وإذا أردت أن تُطاع فاطلب المستطاع.
ثالثاً: إذا كان المقصود بميل الطفل نحو الخير أو الشرّ بأصل الخلقة هو ذلك النحو من الميل الفطري الجبري الذي يُمانع الاختيار وإمكانية التغيير، فهذا ممّا لا يُمكن قبوله انطلاقاً من عقيدتنا بأنّ الإنسان كائن حرّ مختار، لذا لا بد من البحث عن الميل الفطري نحو الخير أو الشرّ بمعنى يُحافظ على اختيارية الطفل وإمكانية التغيير. لأنّنا نُنكر صحّة نظرية المذهب الطبيعيّ في الأخلاق، التي تعتقد بأنّ الملكات الأخلاقية في الطفل وبالتّالي السلوك الصادر عنها طبيعيّ بأصل خلقته، بمعنى أنّ كلّ طفل يولد مزوّداً بأخلاق تقتضيها طبيعة هويّته على نحو الضرورة، وبالتّالي فإنّ هذه الأخلاق الطبيعية ثابتة وغير قابلة للتغيير
والتبديل، ويترتّب على ذلك عدم جدوائية وفعالية العمليات التربوية التي تهدف إلى إكساب الطفل ملكات أخلاقية وسلوكات على خلاف مقتضى طبيعته.
وقد ناقش فلاسفة الأخلاق المسلمون كمسكويه، الغزالي، الطوسي، الكاشاني، والنراقي، وغيرهم هذا المذهب في كتبهم بنحو تفصيليّ[30]، حيث ردّوا المذهب الطبيعيّ في الأخلاق، بأنّه لو كان صائباً لأُلغيت الشرائع والديانات، ولبطلت تعاليم ووصايا الأنبياء، ولكانت الدعوة إلى التهذيب والتزكية والتأديب وتحسين الأخلاق… عبثاً ولهواً، وجلّ الله تعالى وأنبياؤه عن اللغو والعبث.
كما أنّ التجربة التربوية العملية تفيد بإمكان إزالة الخلق بالأسباب الخارجية من التأديب والنصائح وغيرهما. فزرع القيم التربوية وتعديل سلوكات الطفل أمر ممكن فعلاً بالوصايا والمواعظ والنصائح والإرشاد.
يقول الإمام السيد عليّ الخامنئيّ دام ظله: “صناعة الإنسان وتشكيل وبناء الإنسان المطلوب في الإسلام هو أمر يحصل بالتربية. فإنّ كلّ الناس لديهم قابلية التربية. قد يتقبّل البعض التربية متأخّراً والبعض أسرع، فالبعض قد تترسّخ التربية لديه وتدوم أكثر والبعض قد تُفارقه بسرعة أكبر، لكن كلّ الناس معرّضون للتغيير والتبدّل الذي يحصل بالتربية”[31].
رابعاً: وبذلك يظهر أيضاً أنّ الأخلاق والسلوكات الحسنة ليست وليدة الطبيعة لأنّ ما هو طبيعيّ لا تُمكن إزالته وتغييره. نعم الطبيعيّ والفطريّ هو مبادئ وقوى وقابليات واستعدادات تلك الأخلاق والأفعال، أمّا كيفية استخدام هذه القوى والمبادئ فهو خاضع لإرادة الإنسان وخاضع للتربية[32].
يقول الشيخ جعفر السبحاني: “إنّ للإنسان ماهيّتين: أولاً: ماهيّة عامّة يتكوّن معها ويتولّد بها. وثانياً: ماهيّة خاصّة يكتسبها في ضوء إرادته عن طريق العمل… أمّا الطبيعة العامة، فهي عبارة عن الطاقات والمواهب الإلهية المودعة في وجوده وهي ميول طبيعية تسوقه إلى
نقطة خاصّة فيها سعادته أو شقاؤه، وقد أعطى سبحانه زمامها بيد الإنسان المختار في كيفية الاستفادة منها كمّاً وكيفاً… وأمّا الطبيعة الخاصّة، فهي عبارة عمّا يتكوّن في نفس الإنسان من الروحيات العالية أو الدانية نتيجة استفادته من تلك المواهب الأوّلية، إفراطاً أو تفريطاً أو اعتدالاً”[33].
وتربية الطفل في جعله يميل إلى أحد الاتّجاهين إنْ خيراً أو شرّاً إنّما تحصل من خلال تكرار الأعمال المتشابهة بالدربة والعادة لمدّة زمنية معيّنة وطويلة غالباً، فهو الذي يؤدّي إلى إيجاد الصفات الحسنة أو السيّئة في نفس الطفل، لا أنّ الصفات الحسنة بمعنى الملكات موجودة بالفطرة. وهذا يؤكّد أهمّية عدم الإهمال والإغفال للعادات السيّئة التي قد يكتسبها الطفل تحت عنوان أنّه ما زال صغيراً، بل ينبغي الانتباه واليقظة في إيجاد العادات الحسنة عند الطفل حتى لو لم يعِ حسنها، لأنّها ستتحوّل لاحقاً إلى طبيعة ثابتة فيه وتُصبح خلقاً تصدر عنه الأفعال بسهولة.
وبهذا يظهر أنّ التربية ليست مجرّد عملية إعطاء المعرفة وإكساب العلم، وبالتّالي يحصل السلوك تلقائياً، بل التربية هي عملية تنمية اتّجاهات وزرع وتفتّح قيم وتغيير سلوك وإكساب مهارات بالدربة والعادة كي يتّجه الطفل نحو الهدف المطلوب. فالمعارف التي يتلقّاها المتربّي لا تُحرّكه أوتوماتيكياً تجاه السلوك، وإن كانت المعرفة واحدة من مبادئ الفعل. وفي نفس الوقت حذراً من الوقوع في فخّ تحوّل الطفل إلى مجرّد آلة فيزيائية يصدر عنه العمل نتيجة العادة من دون الإحساس بالشحنة القيمية التي تُحرّكه، لا بدّ من إعطاء جرعة إضافية إلى جانب التعويد، وهي جرعة أن يكون العمل الذي تعوّد عليه الطفل صادراً عنه عن قناعة ورغبة وإرادة ذاتية وشعور بالمسؤولية.
وبمعنى آخر لا ينبغي تربية الطفل بنحو يصدر عنه الفعل تحت وطأة الشعور بالحاجة إلى العمل لمجرّد إلحاح تكرار العادة (الإدمان)، بل أن يصدر العمل عن الطفل في المرحلة العمرية التمييزية على أقلّ تقدير انطلاقاً من الوعي بالقيم وانتهاء إلى الوعي بالنتائج. وإلا فإنّ تعويده على قيم معيّنة موجبة أو سالبة من دون وعي وقناعة ورغبة قد يكون السبب في
إضعاف الإرادة من ناحية توليد العجز عن مقاومة المتغيّرات، ممّا سيجعله يُعرض عنها بمجرّد أن يصل إلى مرحلة عمرية يُصبح فيها قادراً على الانتخاب والتمييز، أو عرضة لمؤثّرات بيئية معيّنة (مدرسة، صداقة…)، مما يؤدّي إلى انعطافة وتحوّل سريع في أخلاقه وسلوكه، أمّا العادة المنطلقة من إرادة ووعي تمنح الطفل القدرة على التغلّب على كلّ المتغيّرات، بل على طبيعته أيضاً[34].
خامساً: يظهر من بعض العلماء المسلمين تعارض مجموع آرائه في كتاباته حول الموضوع[35]. وفي الحقيقة لا تعارض بين وجهات النظر الثلاث، فإنّ كلّ تعبير ناظر إلى حيثية من حيثيات طبيعة الطفل وإلى قوّة من قواه، فإنّ الطفل له قوى متعدّدة، وبلحاظ كلّ قوّة يُمكن التوصيف بالخير أو الشرّ أو الحياد، فإنّ نفس الطفل بلحاظ كونها من نور الله تعالى وروحه فهي خير وتميل إلى الخير، وبلحاظ قوّة الشهوة والغريزة تميل إلى الشرّ، وبلحاظ كونها مختارة هي مستعدّة لكلّ واحد من الطرفين، بمعنى أنّها غير مجبرة على أحدهما دون الآخر، وإنّما تسير باتّجاه الخير أو الشرّ نتيجة عوامل خارجية لا ذاتية، أي نتيجة التربية والتأديب والتعليم والبيئة… إلخ.
الرأي المختار في المسألة
انطلاقاً ممّا تقدّم، نقول إنّ طبيعة الطفل خيّرة بالطبع وبأصل الفطرة، كما تُفيده النصوص الدينية التي تتحدّث عن الفطرة التوحيدية. ولكنّ الطفل على الرغم من ميله الفطريّ بحسب الصبغة الإلهية إلى الخير ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾[36]، لا ينتفي ويرتفع
استعداده النفسيّ للسير في الاتّجاهين معاً نتيجة عوامل خارجية كالتربية والبيئة وداخلية كالتفاعلات النفسية مع الأشياء ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾[37]، فبسبب عنصر الاختيار يكون لديه استعداد للسير في اتّجاه الخير أو اتجاه الشرّ وهو بهذا المعنى حياديّ، ولكن أيضاً بسبب ضعفه وحاجته وعدم إدراكه ووعيه ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ﴾[38]، “ضعف الإدراك والجسم في الأطفال“[39] من جهة، ونتيجة قواه الحيوانية لأنّه لم يتشكّل على صورة إنسان بعد من جهة ثانية، وبفعل عدم وجود قيم عقلية ودينية تُسيّر تصرّفاته، سيتحرّك على مقتضى ما تُمليه عليه قواه الطبيعية، وبالتّالي سيميل إلى ما تأمره به قوّة الشهوة والغضب وحبّالأنا، ممّا يترتّب عليه آثار ونتائج سلبية وغير حسنة، فهو للسير في اتّجاه الشرّ نتيجة ضعفه وجهله ونقصه وحاجته أوفق ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾[40]، ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾[41], ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾[42]. وهنا يأتي دور التربية في الأخذ بيد الطفل والسير به في أيّ اتجاه من الاتجاهات، فالطفل في المحصّلة هو صناعة التربية.
والتربية قبل ولادة الطفل لها دور في تكوين استعدادات خاصّة فيه، بحيث يولد مجهّزاً بتلك الاستعدادات حتى بالوراثة، ويُصبح فيما بعد من الصعوبة – وليس المستحيل – تدارك تلك الاستعدادات وتحويلها عن مسارها الذي رسم في شخصية الطفل.
وبناءً عليه، نفهم رأي نصير الدين الطوسي في أنّ الطفل يميل إلى الأخلاق الذميمة بسبب ما في طبيعته من النقص والحاجة[43]. فهذه النظرية التي يتبنّاها الطوسي ليست في مقام البيان من جهة الفطرة والجبلّة، وإنّما في مقام البيان من جهة العمل والسلوك، بمعنى
أنّ الطفل لأنّه ليس كائناً عقلائيّاً ومتشرعيّاً، فإنه سيميل إلى طاعة الغريزة والشهوة، وهي بطبعها تُحرّكه نحو تحقيق ما فيه لذّته الشهوية والمادّية، وبعبارة أخرى إنّ الطفل لو خُلّي وقواه النفسية الشهوية والغضبية مع جهله وضعفه وعدم تزوّده بقضايا العقل العمليّ والوحي كضوابط للقيم والسلوك، سيجعل قواه تجذبه نحو تحقيق ما يُلائمها ويُنافرها، وهو بحسب الغالب يكون سيراً باتّجاه القبح أكثر منه نحو الحسن، لذا يُنبّه في هذا المجال فيقول الطوسي: “عندما تتمّ أيام رضاعه يجب الانشغال بتأديبه وتدريبه على الأخلاق الفاضلة قبل أن يتعوّد على الأخلاق الفاسدة، إذ يكون الطفل مستعدّاً لها، وأكثر ميلاً للأخلاق الذميمة بسبب ما في طبيعته من النقصان والحاجة“[44].
وفي ذات السياق، يقول الفيض الكاشاني: “إنّ الصبيّ إذا أُهمل في ابتداء نشوئه خرج في الأكثر رديّ الأخلاق، كذّاباً، حسوداً، سروقاً، نمّاماً، لجوجاً، ذا فضول وضحك، وكيّاد، ومجانة، وإنّما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب“[45].
إذاً، لا تنافي بين النظرية التي ترى أنّ الطفل خيّرٌ بطبعه وبين ما يذهب إليه بعض الحكماء المسلمين في بعض كلماته من ميل الطفل إلى الشرّ والأخلاق الرذيلة، فإنّ النظرية الأولى تُفيد أنّ طبيعة الطفل بأصل الفطرة تميل إلى الخير والتوحيد وقبول الدين، ولكن هذا لا يعني أنّه تلقائياً لو خُلّي الطفل وطبعه وبيئته وتربيته ستذهب نفسه في هذا الاتّجاه، بل تسلك اتّجاهاً آخر يتناسب مع البيئة الاجتماعية والتنشئة والتربية، لأنّ الميل الفطريّ نحو الخير لا يُنافي الاستعداد الطبيعيّ بسبب قوّة الاختيار الكامنة فيه إلى الطرفين معاً. وبهذا التفسير نفهم قول الإمام عليّ – لولده الحسن – عليهما السلام: “إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما أُلقي فيها من شيء قِبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبّك”[46]، بنحو لا يتنافى مع قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “كلّ مولود يولد على الفطرة”[47].
حقّ الطفل في الخطأ
نختم الدرس بنقطة بنيويّة في كيفية التعامل التربويّ مع الطفل، وهي أنّه سواء أكانت طبيعة الطفل خيّرة أم شرّيرة أم حيادية، فإنّ هذا لا يعني أنّ الطفل لن يقع فيما نراه نحن الراشدون أنّه خطأ أو خطيئة، لأنّ الطفل نتيجة جهله المطلق وضعفه ونقصه يسير في طور الاكتشاف لذاته وللمحيط من حوله، ومن الطبيعيّ أن يقع في الخطأ، فإنّه يتعلّم من أخطائه، لذا يُمكن تأسيس قاعدة عامّة في سياق تربية الطفل، وهي مراعاة حقّه في أن يقع في الخطأ.
عن الإمام الباقر عليه السلام: “أنّ علياً عليه السلام كان يقول: عمد الصبيان خطأ…”[48].
وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: “عمد الصبيّ وخطؤه واحد”[49].
وقد وقع الاختلاف في وجهات النظر عند الفقهاء في كون هذه الروايات مختصّة بباب الديات والجنايات أم أنّها عامّة ومطلقة. وقد استظهر بعض الفقهاء منها عدم الاختصاص بباب الجنايات، منهم الشيخ الأنصاري حيث قال: “كل حكم شرعيّ تعلّق بالأفعال التي في ترتّب الحكم الشرعيّ عليها القصد بحيث لا عبرة بها إذا وقعت بغير القصد فما يصدر منها عن الصبيّ[50] قصداً بمنزلة الصادر عن غيره بلا قصد”[51]. وهذا مؤشّر إلى أنّ الفعل العمديّ الصادر عن الطفل – حتى المميّز، فكيف بالطفل دون سنّ التمييز – يُنزّل في الشريعة الإسلامية منزلة الخطأ، ويتمّ التعامل معه كالتعامل مع المُخطئ.
هذا، بالإضافة إلى إمكانية استفادة المعنى السابق من أحاديث: “رفع القلم[52] عن الصبيّ حتّى يحتلم“[53]. يقول الشيخ محمد حسين النائيني: “إنّ الظاهر من قوله عليه السلام:
“رفع القلم عنه“، ما هو المتعارف بين الناس والدائر على ألسنتهم: من أنّ فلاناً رفع القلم عنه، ولا حرج عليه، وأعماله كأعمال المجانين، فهذه الكلمة كناية عن أنّ عمله كالعدم، ورفع عنه ما جرى عليه القلم فلا ينفذ فعله، ولا يمضي عنه، فإنّ ما صدر عنه لا يُنسب إليه”[54].
وهذا يُشعر بأنّه من حقّ الطفل الوقوع في الخطأ. والمقصود بالحقّ هنا الحقّ القانونيّ والأخلاقيّ والطبيعيّ، لكون وقوع الطفل في الخطأ سنّة طبيعية في مراحل نموّه، فما نُصّنفه نحن الراشدون في دائرة الخطأ لا يُصنّفه الطفل في مراحل طفولته المبكرة كذلك، خصوصاً في مرحلة ما دون التمييز، لعدم معرفته بمعنى الصواب والخطأ[55].
يبقى أن نُشير إلى نقطة أخيرة – ستتضح ملامحها خلال درس التربية بالعقوبة – وهي أنّ حقّ الطفل في الوقوع بالخطأ لا يعني إقراره على خطئه، أو عدم تنبيهه وإرشاده وتوجيهه إلى الصواب، أو التساهل والتسامح معه في كلّ خطأ كان وبأيّ مرحلة عمرية كانت.
المفاهيم الرئيسة
– يوجد ثلاثة آراء حول طبيعة الطفل، الرأي الأول: ينظر إلى الطفل على أنّه شرّير بطبعه. والثاني: يعتقد أنّ الطفل خيّر بأصل الفطرة. والثالث: يذهب إلى أنّ طبيعة الطفل حيادية تجاه الخير والشرّ.
– يولد الطفل مزوّداً بقوى فطرية غريزية تدفعه للتصرّف بطريقة معيّنة دون أخرى، أي بنحو يتلاءم مع مقتضى طبيعته وفطرته.
– إنّ طبيعة الطفل قابلة للتغيير والتبديل، وإلا لو كانت ثابتة لا تتغيّر لبطلت كلّ التعاليم والتوصيات الدينية في تربية الأطفال. كما أنّ التجربة الإنسانية خير شاهد على قابلية الطفل للانتقال من حال إلى حال بواسطة التربية والتدريب والتعويد.
– يلعب تعويد الطفل على أفعال معيّنة دوراً مهمّاً في تشكيل هويّته باتجاه يتوافق مع الأمور التي تمّ تعويده عليها، فالعادة لها دور مؤثّر في تنمية استعدادات خاصّة عند الطفل.
– هناك إمكانية للجمع بين الآراء الثلاثة المذكورة سابقاً، باعتبار كلّ واحدة منها نظر إلى زاوية من طبيعة الطفل، فنظريّة الخيرية تُفيد أنّ طبيعة الطفل بالفطرة تميل إلى الخير والتوحيد وقبول الدين، وهو وإن كان أمراً صحيحاً، إلا أنّه لا يعني أنّه تلقائياً لو خُلّي الطفل وطبعه وبيئته وتربيته سيذهب في هذا الاتّجاه، بل سيسلك اتّجاهاً يتناسب مع البيئة الاجتماعية والتنشئة والتربية، لأنّ الميل الفطريّ نحو الخير لا يُنافي الاستعداد الطبيعيّ بسبب قوّة الاختيار الكامنة إلى الطرفين معاً، وهذا هو معنى الحيادية أي أنّه كائن مختار للطرفين.
– إنّ من حقّ الطفل الوقوع في الخطأ في تصرّفاته لأنّه لا يُميّز بين مفهوم الخطأ والصواب، فما يراه الراشدون خطأ ينظر إليه الطفل على أنّه أمر طبيعيّ. وقد أعطت الشريعة الإسلامية للطفل هامشاً للوقوع في الخطأ، ولكن هذا لا يعني إقراره على خطئه وتعويده عليه وعدم تنبيهه وتوجيهه نحو الصواب.
أسئلة الدرس
1- برأيك، ما هي طبيعة التركيبة الفطرية للطفل بأصل الخلقة، هل هي طبيعة شرّيرة أم خيّرة أم حيادية؟ علّل ذلك.
2- هل طبيعة الطفل وفطرته ثابتة غير قابلة للتغيير أم أنّها تتبدّل من حال إلى حال؟ بيّن دليلك على ذلك.
3- كيف تؤثّر النظرة إلى طبيعة الطفل (خيّرة، شرّيرة، حيادية) في كيفية التربية؟
4- ما هو دور العادة في تربية الطفل على صفات وأفعال معيّنة من وجهة نظرك؟
5- كيف يُمكن الجمع بين النظريّات الثلاث المختلفة حول طبيعة الطفل؟
6- هل من حقّ الطفل الوقوع في الخطأ؟ ولماذا؟
[1] سورة النحل، الآية 78.
[2] يراجع: الحلي، الحسن بن يوسف، الأسرار الخفية في العلوم العقلية، ص7. والشيرازي، محمد، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج4، ص515.
[3] الصدر، محمد باقر، فلسفتنا، ص63.
[4] يراجع: الحكمة المتعالية، ج4، ص515. والميزان في تفسير القرآن، ج12، ص312.
[5] سورة النحل، الآية 78.
[6] حول هذا التقسيم لقوى النفس يراجع: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج8.
[7] يراجع: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج8، ص56، حاشية الملا هادي السبزواري، رقم: 1.
[8] كأن يُحلّل ماهية الإنسان إلى عناصرها الأوّلية : جوهر، جسم، نامٍ، حسّاس، متحرّك بالإرادة، ناطق مفكّر مدرِك للكلّيات. أو عناصرها العرضية، مثل: عالم، قادر، كاتب، ضاحك، ماشٍ…
[9] مثل معرفته بقانون أنّ ارتفاع درجة حرارة الحديد علّة لتمدّده، فيقول مثلاً هذه الحديدة ارتفعت درجة حرارتها، وكلّ حديدة ارتفعت درجة حرارتها فهي متمدّدة، فهذه الحديدة متمدّدة. فمن خلال معرفة الحدّ الأوسط ارتفاع درجة حرارة الحديدة- يستدلّ على تمدّدها، ويُثبت التمدّد لها.
[10] مع إعادة التأكيد والإشارة إلى أنّ بعض هذه القوى تتنشّط وتتفعّل في الطفل في عمر متأخّر نسبياً، بحيث يصل إلى مرحلة قوّة التجريد العقلي، وقد اعتبرها بعض علماء النفس المعرفي مثل جان بياجيه، أنّها تحصل في سنّ الـ13، مع إمكان المناقشة في ذلك.
[11] يراجع: جنود العقل والجهل، ص133-231-277. وتهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص37. وجامع السعادات، ص46.
[12] سورة طه، الآية 50.
[13] سورة النحل، الآيتان 68-69.
[14] الصدوق، محمد بن علي، علل الشرائع، ص5. ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾, سورة الأعراف، الآية 179.
[15] ثلاثة نصوص، مصدر سابق، ص11.
[16] عن أمير المؤمنين عليه السلام: “فالصورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان، لا يعرف باب الهدى فيتبعه، ولا باب العمى فيصدّ عنه”. نهج البلاغة، ج1، ص153.
[17] فلسفتنا، ص40.
[18] البهسودي، محمد سرور، مصباح الأصول، تقرير بحث السيد أبو القاسم الخوئي، ج2، ص16.
[19] المصدر نفسه، ص177-180. ويراجع: الخميني، روح الله، جنود العقل والجهل، تعريب أحمد الفهري، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط1، 1422هـ-2001م، ص58.
[20] ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾, سورة النحل، الآية 78.
[21] الميزان في تفسير القرآن، ج12، ص312.
[22] الخميني، روح الله، الأربعون حديثاً، ترجمة محمد الغروي، ص175.
[23] يراجع: العطاران، محمد، تربية الطفل وفقاً لآراء ابن سينا والغزالي والطوسي، ص27-30.
[24] أبو دف، محمود خليل، مشكلة العقاب البدني في التعليم المدرسي وعلاجها في ضوء التوجيه التربوي الإسلامي، مجلة الجامعة الإسلامية، المجلد السابع، العدد الأول، يناير 1999.
[25] تركي، عبد الفتاح ابراهيم، فلسفة التربية- مؤتلف علمي نقدي، ص32.
[26] تركي، فلسفة التربية- مؤتلف علمي نقدي، ص32.
[27] علي، سعيد إسماعيل وفرج، هاني عبد الستار، فلسفة التربية رؤية تحليلية ومنظور إسلامي، ص299.
[28] سورة السجدة، الآية 7.
[29] جامع السعادات، ج1، ص49.
[30] يراجع مثلاً: الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، إحياء علوم الدين، ج8، ص101. والنراقي، جامع السعادات، ج1، ص46-49.
[31] من كلمة للسيد علي الخامنئي في لقاء المعلمين والتربويين بمناسبة أسبوع المعلم بتاريخ:07/05/2014. على الرابط التالي: htt p://www.almanar.com.lb/wa padetails. php?eid=840376.
[32] أرسطو، أخلاق نيكوماخوس، ص36-37.
[33] المكي، حسن محمد، الإلهيات على ضوء الكتاب والسنة العقل محاضرات الشيخ جعفر السبحاني-، ج1، ص681.
[34] يراجع: الطوسي، نصير الدين، أخلاق ناصري، ص101-103.
[35] فمثلاً نرى الغزالي في موضع يقول: “حبّ الإنسان للحكمة والخالق عزّ وجلّ والمعرفة والعبادات لن يُماثل الرغبة في الأكل، إذ إنّه من مقتضيات طبيعة الإنسان، وذلك لأنّ قلب الإنسان من الأمور الربّانية فيما يعد اندفاع الإنسان إلى الرذائل من مقتضيات الشهوة، ولا علاقة له بالطبيعة”. كيماء السعادة، ج3، ص499. وفي موضع آخر من نفس الكتاب، ص37، يقول: “اعلم أنّ النفس مجبولة على الابتعاد عن الخير والتعلّق بالشر، وترغب في التقاعس والشهوة”. وفي كتاب آخر يقول: “إنّ الصبيّ أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كلّ نقش وصورة، وهو قابل لكلّ نقش ومائل إلى كلّ ما يمال به إليه، فإن عوّد الخير وعلّم نشأ عليه، وسعد في الدّنيا والآخرة، شاركه في ثوابه أبواه، وكلّ معلّم له ومؤدّب، وإن عوّد الشرّ وأهمل شقي وهلك”. إحياء علوم الدين، ج8، ص130. وهذا الرأي يظهر منه أن الطفل مجبول على الخير بمعنى أن نفسه تميل إلى الخير أكثر من الشر.
[36] سورة الشمس، الآية 8.
[37] سورة الإنسان، الآية 3.
[38] سورة الروم، الآية 54.
[39] مغنية، محمد جواد، التفسير المبين، ص538. ومغنية، محمد جواد، التفسير الكاشف، ج6، ص151. قال:” ضعف البنية والإدراك في الطفل”. ويراجع: مجمع البيان، ج8، ص485. في تفسير الآية: “خلقكم أطفالاً لا تقدرون على البطش، والمشي، والتصرفات”. وشبّر، عبد الله، تفسير القرآن الكريم، ص390، قال: “أي ابتدأكم أطفالاً ضعافاً”. والميزان في تفسير القرآن، ج16، ص215، قال: “أي ابتدأكم ضعفاء، ومصداقه على ما تفيده المقابلة أول الطفولية”.
[40] سورة الأحزاب، الآية 72.
[41] سورة النساء، الآية 28.
[42] سورة يوسف، الآية 53.
[43] أخلاق ناصري، ص280-284.
[44] أخلاق ناصري، ص280.
[45] الفيض الكاشاني، محمد بن المرتضى، المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، ج5، ص125.
[46] نهج البلاغة، من وصية له لولده الحسن كتبه إليه بحاضرين منصرفاً من صفين، رقم269، ص526.
[47] الصدوق، محمد بن علي، التوحيد، ص363.
[48] تهذيب الأحكام، ج10، ص233، ح921.
[49] م.ن، ص233، ح920.
[50] الصبي من باب التغليب، وإلا فهو يشمل كل طفل سواء أكان ذكراً أم أنثى، ولا خصوصية للطفل الذكر.
[51] الأنصاري، مرتضى، المكاسب، ج3، ص282.
[52] المقصود برفع القلم هو إما: رفع الأحكام الإلزامية، أو رفع مطلق الأحكام الإلزامية والترخيصية، وبالتالي رفع المؤاخذة والعقاب، وإما رفع المؤاخذة والعقوبة، وإما رفع الاثنين معاً، أي الأحكام والمؤاخذة.
[53] روي الحديث بألفاظ مختلفة، مثل: “عن الصبي حتى يدرك”، “عن الصبي حتى يبلغ”، “عن الصبي حتى يحتلم”، “عن الصبي حتى يكبر”، “عن الصبي حتى يعقل”، “عن الصبي حتى يشب”. يراجع: الطوسي، الخلاف، ج2، ص41. وسائل الشيعة، ج1، ص20. والبخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، ج6، ص169. والسجستاني، أبي داود، سنن أبي داود، ج2، ص338. والترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي، ج2، ص438.
[54] الخوانساري، موسى بن محمد، منية الطالب في شرح المكاسب، تقرير بحث الميرزا محمد حسين النائيني، ج1، ص359.
[55] أنظر: عجمي، سامر، عقوبة الطفل في التربية الإسلامية، ص240 وص305.
2023-09-10