الدرس الثامن: الغشّ سبيل الشّقاء
في الحديث:”ليس منّا من غشّ مسلماً أو ضرّه أو ماكره”1.
أ- في ظلال الحديث
الغشّ من أخلاق اليهود وهم أكثر الناس عملاً به كما وصفهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله في بعض الأحاديث قائلاً: “من غش مسلماً في شراء أو بيع فليس منا، ويحشر يوم القيامة مع اليهود لأنهم أغش الخلق للمسلمين”2 وهو سجيّة المردة ويكسب المسبّة وعلامة الشقاء.
وهو حرام في الشريعة الإسلامية وقد ورد ذم كثير في النصوص الشريفة للغشوش مثل قوله عليه السلام: “الغشوش لسانه حلو وقلبه مرّ”3 و”شرّ الناس من يغشّ الناس”4 و”الغش من أخلاق اللئام”5 لذلك فإن الرسالة المباركة التي جاء بها الإسلام وحوت التعاليم العليا من شمائل الأخلاق تأبى أن ينتسب إليها انتساباً عملياً من استحل أن يغش أخاه أو يضرّه وهذا معنى الحديث (موضوع الدرس) وقد جاء بنفس هذا اللسان طائفة كبيرة من الأخبار.
والمؤمنون هم أهل النصح والوفاء والإخلاص، لا يحدّهم في ذلك زمان ولا مكان ولا عرق ولا عائلة، حيث لا يرتضون الضرر بعضهم لبعض وإنما يحرصون على دفعه وجلب المنافع لإخوانهم.
جاء في الحديث: “المؤمنون بعضهم لبعض نصحة وأدّون وإن بعدت منازلهم وأبدانهم والفجرة بعضهم لبعض غششة متخاونون وإن اقتربت منازلهم وأبدانهم”6.
صفحة 66
ب- أفظع الغشّ
الغش على أنواع عديدة ودرجات مختلفة، يتفاوت في قبحه بحسب الشيء الذي يتعلق به، وأكثر ما هو شائع في الغش بين الناس يعود إلى الأمور المالية وعالم التجارة والمكاسب، وهو الذي كان من الصدر الأول للإسلام، حيث نجد أغلب الروايات التي عالجت هذا الموضوع تتعرض له وكان المال والتكسب المحور فيها وهذه بعض النماذج مما حدث في السوق مع رسول الله صلى الله عليه وآله:
1– ما قاله صلى الله عليه وآله لرجل يبيع طعاماً وقد خلط جيداً بقبيح: ما حملك على ما صنعت؟! فقال: أردت أن ينفق، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: “ميّز كل واحد منهما على حدة، ليس في ديننا غشّ”7.
2– مرّ النبي صلى الله عليه وآله في سوق المدينة بطعام فقال لصاحبه، ما أرى طعامك إلا طيّباً وسأله عن سعره، فأوحى الله عز وجل إليه أن يدسّ يديه في الطعام ففعل فأخرج طعاماً ردّياً، فقال لصاحبه: “ما أراك إلا وقد جمعت خيانة وغشاً للمسلمين”8.
3– إن رسول الله صلى الله عليه وآله مرّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال صلى الله عليه وآله: “أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟! من غشنا ليس منّا”9.
ويتشعب الغش التجاري إلى شعب كثيرة، مرة يرتبط بجودة المبيع وفساده وأخرى بمصدر صنعه وثالثة في كيفية صناعته وهكذا كما يكون في أصل وجود المبيع وعدم وجوده مثل ما يمارسه بعض العاملين في مجال صيانة السيّارات حيث يقبضون أثمان بعض القطع الغيارية بدعوى تبديل القديم بجديد غيره مع إبقائهم لما كان فيها إلا من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.
لكن الغش الأفظع والأعظم هو ما تعلّق بأمر أهم وشكّل خطورة أكبر حينما يكون الغش غشاً في الدين وفي مسائل تعتبر أساساً في حياة الأمة، وتتصل بأشخاص لهم مكانة ودور في نظام البلاد وشؤون العباد.
صفحة 67
وهذا الذي أراد أمير المؤمنين عليه السلام التنبيه إليه كما جاء في عهده إلى بعض عمّاله.
يقول عليه السلام: “إن أعظم الخيانة خيانة الأمة، وأفظع الغش غش الائمة”10.
فالمسؤول أو الرئيس في قومه غشّه أشدّ قبحاً وأكثر بشاعةً من غيره.
ويعتبر الغشّ في الدين معاندة لله تعالى وللرسول الكريم صلى الله عليه وآله.
في الحديث: “من غش الناس في دينهم فهو معاند لله ورسوله صلى الله عليه وآله”11.
ج- أغش الناس
ربما يعيش الإنسان حياة طويلة لا يتجرأ فيها أن يغش غيره ولا يخون أحداً من أصحابه، فيخلص إلى أنه قضى حياة بيضاء في تعامله مع الغير ولم يسجل اسمه في لائحة أهل الغش والخيانة، بينما يكون هذا الشخص أغش الناس وأكثرهم غفلة عن واقع حاله، لأن الغش لا يقتصر على الآخرين وإنما أحد أنواعه غش الانسان نفسه، وهو ما يقع فيه من دون أن يشعر بذلك أو يكون شاعراً به لكنه متغافل فيما بعد عن سوء حاله.
وقد اعتبر آل البيت عليهم السلام الغاش لنفسه أغشّ الناس كما اعتبروا أن ذلك يكون سبباً لأن يغشّ غيره بدرجة أشدّ وما يدل على الأمر الأول قول أمير المؤمنين عليه السلام: “أن أغش الناس أغشهم لنفسه واعصاهم لربه”12.
وما يدل على الأمر الثاني ما جاء في الحديث: “من غش نفسه كان أغش لغيره”13.
د- آثار الغش
1– الغاش مع اليهود يوم القيامة:
عن النبي صلى الله عليه وآله: “من غش المسلمين حشر مع اليهود يوم القيامة لأنهم أغش الناس للمسلمين”14.
2– اللعنة الإلهية:
عن الكاظم عليه السلام: “ملعون من غش مسلماً أو ماكره أو غرّه”15.
صفحة 68
وفي الحديث: “من باع عيباً لم يبّينه لم يزل في مقت الله، ولم تزل الملائكة تلعنه”16.
3– ذهاب البركة من الرزق.
4– فساد المعيشة:
5– الوكالة إلى النفس:
وقد جمع هذه الأمور الثلاثة حديث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: “من غش أخاه المسلم نزع الله عنه بركة رزقه، وأفسد عليه معيشته، ووكله إلى نفسه”17.
6– المسبّة:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: “الغش يكسب المسبّة”18.
وهناك آثار أخرى غير ما عدّدناه مذكورة في جوامع الحديث تركناها لضيق المجال.
صفحة 69
من فقه الإسلام
س: يمنح بعض المتعاملين مع المصرف لموظفيه أموالاً مقابل الاسراع في إنجاز أعمالهم وتقديم خدمات أفضل لهم علماً أنه لولا قيام الموظف بذلك لما كان المتعامل يعطيه شيئاً من المال، فما هو حكم أخذه للمال في هذه الحالة؟
ج: لا يجوز للموظف أن يأخذ شيئاً من المتعاملين مقابل انجازه لعملهم الذي استخدم من أجل القيام به والذي يأخذ الراتب في مقابله، كما أنه ليس للمتعاملين مع البنك تطميع الموظفين بمنحهم شيئاً من النقد أو غيره مقابل إنجازهم لطلباتهم لما في ذلك من الفساد.
س: يعطي بعض المتعاملين مع المصرف هدية العيد للموظفين وفقاً للعادة المألوفة وهو يرى أنه لو امتنع عن إعطاء تلك الهدية لهم فإنهم لا يقدمون له الخدمات بالشكل المطلوب. فما هو الحكم في ذلك؟
ج: لو كانت مثل هذه الهدايا ممّا تؤدي إلى التمييز في انجاز الخدمات المصرفية للمتعاملين وتسبّب في نهاية الأمر الفساد أو ضياع حقوق الآخرين فليس للمتعاملين دفعها إلى الموظفين ولا لهم أخذها منهم.
س: ما هو حكم الهدايا من النقود والمأكولات وغيرها التي يقدمها المراجعون عن رضا وطيب النفس لموظفي الدولة؟ وما هو حكم الأموال التي تدفع إلى الموظفين كرشوة سواء كانت لتوقع عمل للدافع أم لم تكن؟ وإذا ارتكب الموظف عملاً مخالفاً طمعاً في الرشوة فما هو حكم ذلك؟
ج: يجب على الموظفين المحترمين أن تكون علاقتهم بعامة المراجعين بتقديم الخدمات إليهم على أساس القوانين المتبعة وطبقاً لمقررات العمل والضوابط الخاصة بالدائرة، ولا يجوز لهم تقبّل أية هدية من المراجعين مهما كان عنوانها لما في ذلك من التسبيب إلى إساءة الظن بهم وإلى الفساد وإلى تشجيع وتحريض الطامعين لاهمال القوانين وتضييع حقوق الآخرين، وأما الرشوة فمن البديهي أنها حرام على الآخذ والدافع كليهما، ويجب على من أخذها ردّها إلى صاحبها وليس له التصرف فيها.
س: ما هو حكم دفع الرشوة لانتزاع الحق مع العلم أن ذلك قد يوجب مزاحمة الآخرين، كتقديم صاحب الحق على غيره؟
ج: لو لم يتوقف أصل استنقاذ الحق على دفع الرشوة لم يجز له ذلك وإن لم يستلزم مزاحمة الآخرين فضلاً عمّا لو أوجب مزاحمة الغير بلا استحقاق19.
س: ما هو حكم الغش والكذب والخداع في المعاملة مع غير المسلمين من أجل الحصول على الفائدة المالية أو العلمية الزائدة (في حالة التفاتهم إلى ذلك)؟
ج: لا يجوز بحال الكذب والخداع والغش في المعاملات حتى وإن كان الطرف الآخر غير مسلم20.
خلاصة الدرس
أ- الغش من أسوأ الأخلاق وعلامة الشقاء وأكثر من اشتهر به اليهود وهو حرام شرعاً.
ب- للغش أنواع أكثرها شيوعاً ما كان في التجارة والمكاسب لكن أفظع الغش ما كان من المسؤولين والمؤمنين على قضايا محورية وهو ما يسمى بالغش الديني أي غش الناس في دينهم وفاعله محارب لله ورسوله صلى الله عليه وآله.
ج- أغش الناس من غش نفسه ويؤدي ذلك إلى غش الآخرين.
د- من آثار الغش: الحشر مع اليهود – اللعنة الإلهية – ذهاب البركة من الرزق – إفساد المعيشة – الوكالة إلى النفس – والمسبّة.
أسئلة حول الدرس
1– ماذا تعرف عن الغش؟
2– من أكثر الناس عملاً بالغش؟
3– ما حكمه الشرعي؟
4– ما هو أفظع الغش؟
5– أي أنواع الغش أكثر انتشاراً؟
6– من هو أغش الناس؟
7– ما هي آثار الغش؟
8– لماذا يلجأ بعض الناس إلى الغش؟
للحفظ
قال تعالى: ?وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا?21.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: “المؤمن لا يغش أخاه ولا يخذله ولا يتّهمه”22.
للمطالعة
شوب الماء باللبن
كان إنسان صاحب غنم وكان يخلط الماء باللبن عند البيع، ونصحه كثير من الناس أن يتجنب هذا الأمر، لكنه لم يكن يعير لكلامهم أهمية.. واستمر في فعله ذلك.
وذات مرة جاء سيل وذهب بالقطيع كله، فكان يبكي ويصرخ ويولول، فقال له أحد أولئك الناصحين له: لماذا البكاء والعويل؟ إن قطرات الماء التي كنت تشوبها باللبن، تجمعت حتى صارت سيلاً فذهبت بالقطيع!.
ويحكي قريباً من هذه القصة، قصة رجل كان يشوب الماء باللبن، وذات مرة كان كان راكباً في سفينة تبحر من الهند وإذا بقرد هناك يلفق كيس نقوده ويصعد به إلى سارية السفينة وكلما حاول الرجل ورجال السفينة إغراء القرد بالنزول لم ينفع، فنظروا إليه وإذا به يفتح الكيس ويقذف بليرة ذهبية في البحر وبليرة ذهبية في السفينة، وهكذا، حتى أفرغ ما في الكيس. فأخذ الرجل يبكي ويصرخ، قال له بعض من كان يعرفه ويعرف عمله، لماذا البكاء والصراخ؟ إن القرد طرح حصة الماء في الماء وحصة اللبن إليك.
وهكذا عاقبة الظالم، إن الظلم يتجمع ويتجمع، حتى يكون سيلاً يذهب بكل شيء، أو يصور الظلم في صورة قرد ويذهب ببعض الشيء من الأموال التي جناها بخداع الناس والغش…
ومن حكمة الله سبحانه أن لا يأخذ الإنسان دائماً بأفعاله مباشرة، وربما أمهله لكي يرجع عن غيه مرة ومرة ومرة، ولكن ليس معنى ذلك أنه أهمله أو تركه.. قال تعالى: ?إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ?.
ويقال: إنه جيء بسارق إلى علي عليه السلام وقد اجتمعت فيه شروط الحد فأمر الإمام عليه السلام بقطع يده، فأخذ في التوسل والتضرع، أن يكف الإمام عنه؟ لكن الإمام أبى إلا قطع أصابعه.
قال: يا أمير المؤمنين والله إن هذه أول مرة أسرق وسوف أتوب فلن تراني سارقاً أبداً. لكن الإمام عليه السلام أمر بقطع يده.
ولما أخذ لتقطع يده، قال السارق: يا أمير المؤمنين، إن هذه السرقة كانت تمام المائة وقد سرقت قبل ذلك تسعاً وتسعين مرة.
قال الإمام عليه السلام: وأنا كنت أعلم بذلك، فإن الله سبحانه لا يفضح العبد في أول مرة وكنت أعلم أنك تكذب.
هوامش الدرس الثامن
1- تحف العقول، ص42.
2- أمالي الصدوق، ص349.
3- ميزان الحكمة، حديث 14946.
4- غرر الحكم 5677.
5- م.ن. 1299.
6- الترغيب والترهيب، ج2، ص574.
7- ميزان الحكمة، حديث 14957.
8- م.ن. حديث 14955.
9- م.ن. حديث 14956.
10- نهج البلاغة، الكتاب 26.
11- غرر الحكم:8891.
12- م.ن. 3516.
13- م.ن. 9044.
14- الفقيه، ج3، ص273.
15- البحار، ج103، ص82.
16- كنز العمال:9501.
17- البحار، ج76، ص365.
18- ميزان الحكمة، حديث 14943.
19- أجوبة الاستفتاءات، ج2، ص59-58.
20- م.ن. ص132.
21- النساء:110.
22- الخصال:622.