يخطو الغرب الى الأمام في رسم خريطة مصالحه في الشرق. ترك الأميركيون الإرهاب يتمدد لإضعاف خصومهم وتكبيل أصدقائهم بشروط مستدامة. تفرجت واشنطن طويلاً على توسع “داعش” من سوريا الى العراق، وغضت النظر عن تسلم تلك المجموعات أسلحة حديثة متطورة. سمحت لتركيا -ولا تزال- شراء النفط السوري المهرّب من حقول دير الزور عبر “الدواعش”.
ما إن وصل المسلحون الى حدود أربيل رفعت واشنطن البطاقة الحمراء وتدخلت بطائراتها لمنع تقدم الإرهابيين الى مساحة كردية تشكل مركزا مهما وقواعد استخبارية للأميركيين.
بعدها بدأ الحديث عن تحالف دولي لمحاربة “داعش”. ماذا يخفي التحالف؟ وماذا خططت له واشنطن؟ في السيناريو الأميركي أنّ العودة للسيطرة الميدانية والإقتصادية والسياسية على الشرق الأوسط تستوجب جمع حلفاء الولايات المتحدة ضمن خطة عمل موحّدة لتوجيه الإرهاب نحو ساحات الأعداء والخصوم.
في الوقت نفسه تبتز الإدارة الأميركية دول الخليج مالياً. جاء إبعاد الروس والإيرانيين والسوريين عن التحالف من ضمن خطة الأميركيين،
ما يعني أنّ واشنطن لا تريد إشراك خصومها في القرار. باعتقاد الأميركيين أن التحالف مع القوى والعشائر السنية كفيل وحده بتحقيق الأهداف المرسومة وتحشيد المقاتلين.
لا حاجة لضم موسكو وطهران ولا دمشق لأنهم سيفرضون شروطاً إن أراد الغرب إشراكهم معه في التحالف، تبدأ من طلب الإعتراف بالرئيس السوري بشار الأسد والتنسيق معه، مروراً بحفظ حق الإيرانيين في العراق وسوريا ولا تنتهي بإشراك الروس في كل القرارات والحصص.
يعتقد الأميركيون أن الفرصة قائمة اليوم للإمساك بملفات الشرق الأوسط وحدهم، بعد إضعاف حلفاء موسكو وإنشغال الروس في قضية أوكرانيا.
يواجه الغرب مشكلة التناقضات بين عواصم المنطقة الموزعة أساساً بين: السعودية ومصر من جهة وقطر وتركيا من جهة ثانية. مهمة وزير الخارجية الأميركية جون كيري في جولته الشرق أوسطية تُركز أساساً على توحيد الطرفين للإستفادة من المستجدات في تحديد خريطة المصالح. فهل ينجح كيري في رأب الصدع؟ قد يحقق ذلك تحت عنوان مواجهة “داعش” لا غير.
مؤتمر جدة يأتي في السياق نفسه. تعبّر المملكة العربية السعودية من خلال دعوة تركيا للمشاركة فيه عن نيتها فتح باب التعاون للقضاء على الإرهاب وتجاوز الخلافات والمصالح الخاصة والحسابات مع “الإخوان المسلمين”.
أساساً المصلحة الكبرى في محاربة “الداعشيين” تعود للسعودية. كل الدراسات تتحدث عن أن البيئة الحاضنة للتطرف فيها تخيف الحكم في المملكة.
لا بدّ من المواجهة إذا لمنع تمدد “داعش” الى الخليج وإبقائه ما بين سوريا والعراق. لكن من يحارب التطرف وكيف؟ لا تستطيع دول الخليج أن تحارب أو تعلن الجهوزية العسكرية. ينحصر دورها بتمويل العمليات.
مصر لا تقدر في ظل أزماتها القائمة وخصوصاً الميدانية منها في سيناء. الأردن لا يملك الجرأة على إتخاذ قرار بحجم ضرب التطرف. تخاف عمّان من تحركات الإسلاميين الموجودين في معظم مناطق المملكة الهاشمية.
في الأسابيع الماضية حصلت إشتباكات بين مسلحين والأمن الأردني في معان إضطرت بعدها عمّان للإفراج سراً عن موقوفين إسلاميين. من جهتها تركيا لديها حسابات مختلفة.
لم تتدخل عسكرياً بشكل مباشر طيلة عمر الأزمة السورية. عندما حركت أنقره طائرتين إقتربتا من الحدود مع سوريا، أُسقطتا بسلاح سوري دون ان تُترجم تركيا تهديداتها بالرد الفوري. ما يعني ان الأتراك لا يتحركون عسكرياً. لا يريدون زج ساحتهم بالصراعات الميدانية الإقليمية.
وحدهم الأميركيون والأوروبيون سيحركّون طائراتهم وصواريخهم العابرة للحدود، ويواكبون القوى والعشائر على الأرض كما يخططون. يعتقدون أنّ مجموعات سورية مسلحة ستحارب “داعش” في سوريا وتحد من قدراتها، والعشائر ستقاتل في العراق. التجربة ليست جديدة فقد حصلت في أفغانستان سابقاً ولم تنجح.
تُدرك واشنطن سلفاً أن الحرب ستكون طويلة. قد يكون هذا هو الهدف بإبقاء المخاوف قائمة حتى موعد الانتخابات الأميركية عام 2016. لا مصلحة أميركية بإنهاء “داعش” الآن.
يريد الغرب ابتزاز العرب مالياً وتسويق منتوجات السلاح الأميركي والأوروبي. موارد تصريف الأسلحة حاجة للغرب في ظل أزماته المالية. سيتحكم الغرب أيضاً بأسواق الطاقة من خلال الغاز الكردي والعراقي.
سيتعاظم دور الكرد ويتجهون لترسيخ دولتهم بعد تثبيت عناصر القوة لديهم. ستكون إسرائيل مطمئنة لصراع يشغل المنطقة طويلا ويقسمها عمليا الى دويلات وأقاليم. من هنا تأتي مسارعة المسلحين بالتنسيق مع تل ابيب لبناء خط عازل على الحدود السورية الجنوبية في القنيطرة.
سيتواصل من خلال ذلك الضغط على دمشق وطهران ميدانيا وعلى موسكو استراتيجياً، وإقتصادياً بمنافستها في إنتاج الغاز. ماذا ستفعل روسيا؟ هل تتفرج وتترك الغرب يتصرف دون إعتراض؟ وضعت موسكو خطوطاً حمراء: ممنوع ضرب اي مواقع سورية أو الإقتراب للمس بالجيش السوري من خلال ضربات جوية أميركية.
من غير المسموح إستغلال الضربات للداعشيين من أجل رسم خرائط جديدة دون موافقة الروس. بالنسبة الى موسكو ودمشق وطهران،
لن يستطيع الغرب تحقيق غاياته لا في توجيه الدواعش ولا في السيطرة الميدانية. لكنه سيطيل من عمر الأزمة ويولّد صراعاً سنياً-سنياً مفتوحاً الى جانب النزاعات المذهبية المفروضة بفعل تصرفات المتطرفين. نقلاً عن موقع النشرة