الرئيسية / القرآن الكريم / نفحات من القران

نفحات من القران

11 ـ الله أول معلّم:

(وَعَلَّمَ آدَمَ الاَْسْماءَ كُلَّها)

(البقره / 31)
(اَلْرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرآنَ خَلَقَ الاِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ)
الرحمن / 1 ـ 4)
(اَلَّذِي عَلَّمَ بالْقَلَمِ)
(العلق / 4)
(عَلَّمَ الانسانَ مالَم يَعْلم)
(العلق / 5)
إن معلم الكون العظيم تارة يعلم آدم الأسماء، وتارة اخرى يعلم نوع البشر ما يحتاجه ومالم يعلمهُ (بواسطة التكوين والتشريع).
وتارة يوعز للانسان بتناول القلم لِتَعلّمِ الكتابة، وتارةً اخرى يجري على لسانه حرفاً أو حرفين ويعلمه الكلام. وهذا يكشف عن احدى صفاته عزوجل هي تعليم العباد، التعليم الذي هو وسيلة للمعرفة.
* * *

12 ـ بالعلم يتميَّز الإنسان عن الموجودات الأُخرى:

(قالَ يا آدَمُ اَنْبِئهمْ باَسْمائِهِمْ فَلَمّا اَنْبَأَهُمْ بِاَسْمائِهِمْ قالَ اَلَمْ
اَقُلْ لَكُمْ اِنّي اَعْلَمُ غَيْبَ السَّمواتِ وَالاَْرْضِ وَاَعْلَمُ ما تُبْدُونَ
وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)
(البقرة / 33)
إن هذا الخطاب الذي ورد في الآية وجّه للملائكة بعد أن امرهم بأن يسجدوا ويخضعوا لخليفة الله (آدم) عندما خلقه، لكي يوقروه بعد علمهم بمكانته وتفوقه عليهم. وقد فهم الملائكة أهلية آدم (عليه السلام) لخلافة الله سبحانه وتعالى في الارض بعد أن وجدوا فيه القابلية والاستعداد لتقبل العلم والمعرفة بأقصى

[58]

درجاتهما، كما أعربوا عن شديد أسفهم وندمهم حيال ما ساورهم من
تردد أو استفسار عن أهليته للخلافة الالهية في بادىء الأمر(1).
* * *

13 ـ درجاتُ القرب من الله تتناسبُ مع درجات المعرفة:

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذينَ اُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجات)
(المجادلة / 11)
بدأت الآية بالحديث عن الاصول الاخلاقية في اداب المجلس، ثم عن درجات العلماء والمؤمنين بعنوان النتيجة والجزاء لعملهم بهذه الاصول
الاخلاقية.
«الدرجات» جمع «درجة» وهي تستعمل للسلم عند لحاظه متصاعداً الى الاعلى. في قبال «الدركات» جمع «دركة» التي تستعمل لنفس السلم عند لحاظة متنازلا الى الاسفل كسلم السرداب (الطابق الأسفل).
إن استعمال «درجات» نكرةً ايحاءٌ الى عظمة تلك الدرجات، واستعمالها جمعاً لا مفرداً يمكنه ان يكون اشارةً الى اختلاف درجات العلماء.
بالطبع ان الرفع هنا لم يقصد به الرفع المكاني، بل الرفع من جهة القرب الى الساحة الربانية.
استنتج العلامة الطباطبائي في تفسير (الميزان) ان المؤمنين قسمان:
قسم (المؤمنون العالمون) وقسم «المؤمنون غير العالمين)، والمؤمنون العالمون افضل درجة من المؤمنين غير العالمين ثم استدل بالآية (هَلْ يَسْتَوِي الَّذينَ يَعْلَمُونَ والَّذينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر / 9).

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «اكثر الناس قيمة اكثرهم علماً وأقل الناس قيمة أقلهم علماً».

[59]

ويحتمل ان الآية تشير الى علاقة الايمان بالعلم(1). وسنشير الى هذه الآية تفصيلا انشاء الله(2).
* * *

14 ـ الأنبياء(عليهم السلام) يُطالبون بعلم أكثر:

(وَقُلْ رَبِّ زِدْني عِلْماً)
(طه / 144)
إن الآية هذه التي تجعل الرسول مخاطباً بها، تقول: إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) رغم مقامه العلمي العظيم كان مأموراً بطلب العلم اكثر، وهذا يكشف عن ان الانسان لا تتحدد دراسته بمرحلة من المراحل، بل إن طريق العلم مستمر وليس له نقطة انتهاء.
(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ اَتَّبِعُكَ عَلى اَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ
رُشْداً)
(الكهف / 66)
فموسى (عليه السلام) بالرغم من أنه اولي العزم وبالرغم من انشراح صدره بمقتضى الآية: (رَبِّ اشْرَحْ لي صَدْرِي) (طه / 25) وبمقتضى الآية (ولَمّا بَلَغَ اَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) (القصص / 14)، وبالرغم من هذا المقام العلمي الرفيع، كان مطالباً بأن يخضع أمام «الخضر» ويتعلم منه كالتلميذ.
وعلى أي حال، فان هذه الآيات أدلة واضحة على امكانية وضرورة المعرفة، والسعي المستمر في طريق التعلم والمعرفة(3).

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الميزان الجزء 19 الصفحة 216.
2 – جاء في حديث الامام الصادق (عليه السلام): «إن الثواب بقدر العقل». (بحار الانوار الجزء 1 الصفحة 84).
3 – يقول امير المؤمنين (عليه السلام): «العلم ميراث الانبياء والمال ميراث الفراعنة». (بحار الانوار الجزء 1 الصفحة 185).

[60]

* * *

15 ـ المعرفة مفتاح نجاة الإنسان:

(قُلْ اِنَّما أعِظُكُمْ بِواحِدَة اَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ
تَتَفَكَّرُوا)
(سبأ / 46)
إن خطاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية موجه لأعدائه المنغمسين في الكفر والشرك، ومختلف انواع الفساد الاخلاقي.
وقد بيّن لهم ان مفتاح نجاتهم من هذا المستنقع الخطر هو التفكّر والتفكير الذي هو طريق وسبيل للمعرفة.
ولهذا السبب بالضبط ينبغي البحث عن جذور أي ثورة وأي تحول أساسي في المجتمعات البشرية في ثوراتهم الفكرية والثقافية.
فلو كانت المعرفة غير ممكنة فلماذا التفكر؟ الخصوص بعد حصر الموعظة بالتكفر وذلك باستعمال «إنما»، وهنا يثبت أن مفتاح النجاة هو المعرفة فقط!
لكن هذا التفكر ـ جماعياً كان أو فردياً ـ ينبغي أن يكون متزامناً مع القيام لله وفي سبيله، ولهذا يقول (اَنْ تَقومُوا لله) اي بعيداً عن التعصب والعناد، والهوى النفساني الذي سيأتي شرحه في موانع المعرفة انشاء الله.
وقد أكد النبي يوسف (عليه السلام) على هذا الموضوع، وقال عند جلوسه على
عرش السلطة في مصر:
(رَبِّ قَدْ اَتَيْتَني مِنَ الْمُلْكِ وَعَلّمْتَني مِنْ تأويلِ الاَحادِيثِ فاطِرَ السّمواتِ وَالاَْرْضِ اَنْتَ وَليّي فِي الدُنْيا وَالآخِرَةِ تَوَفَّني مُسْلِماً وَاَلْحِقْني بِالصالِحينَ)
(يوسف / 101)

[61]

اللطيف هنا هو أن علم تعبير المنام من العلوم قليلة الأهمية، وبالرغم من ذلك فان قصة يوسف (عليه السلام) في القرآن تكشف بوضوح عن أن علمه أدّى إلى إنقاذه من سجن عزيز مصر، كما أدى الى إنقاذ مصر من القحط الخطر، لأن العزير رأى مناماً عجيباً عجز المفسرون عن تاويله، إلاّ أن أحد السجناء الذين قد أُطلق سراحهم وسبق ليوسف انْ فَسَّرَ رؤياه في السجن كان حاضراً في البلاط آنذاك فقال: إني أعرف من يفسّر الرؤيا جيداً، وعندما فسّر يوسف (عليه السلام) له ما رآهُ في منامه الذي يتعلق بالامور الاقتصادية لسبع سنوات مقبلة، أطلق سراحه وتهيَّأت مقدمات حكومته من جهة، ومن جهة اخرى استطاع أن يضع برنامجاً دقيقاً بدقة لانقاذ اهل مصر من القحط خلال سنوات القحط المقبلة.
إن الآية السابقة التي تحدثت عن علم تأويل الاحاديث (في المنام) بعد حديثها عن ملك يوسف (حكومته)، يمكن انها تشير الى العلاقة بين هذين
الاثنين.
وكيفما كان فان هذه الآية توحي بان مفتاح النجاة هو العلم والمعرفة.
وحتى ابسط العلوم يمكن ان يكون سبباً لانقاذ دولة(1).
* * *

16 ـ العلم فخر بجميع أشكاله:

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمـانَ عِلْماً وَقالاَ اَلْحَمْدُ لله الَّذي فَضَّلَنا عَلى كَثِير مِنْ عِبادِهِ الْمُؤمِنين * وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا اَيُّها النّاسُ عُلِمْنا مَنْطِقَ الطّيْرِ وَاُوتينا مِنْ كُلِ شيء اِنَّ هَذا لَهُو الْفَضْلُ الْمُبينُ)
(النمل / 15 و 16)

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول الامام علي (عليه السلام) مخاطِباً كميل: «يا كميل ما من حركة إلاّ وأنت محتاج فيها الى معرفة» (تحف العقول، الصفحة 19).

[62]

بالرغم من ملك وعظمة «سليمان» و«داود» اللذين لم يكن لهما مثيل بل ويحتمل عدم قيام حكومة كحكومتهما على مرّ التاريخ كما في الآية (35) من سورة (ص) (وَهَبْ لي مُلْكاً لا يَنْبَغي لاَِحَد مِنْ بَعْدي) خصوصاً وأن حكومتهما لم تخص الانس، بل شملت الجنّ والحيوانات وحتى القوى الطبيعية كالريح وغيره، مع هذا كله فالله عندما يَهَبُ نعمه الى الوالد وولده يبدأ بنعمة العلم والمعرفة، لذا كانا يشكرانه لما فضّلها على كثير من عباده (يحتمل ان يكون الشكر بهذا الاسلوب «على كثير من عباده» لا غير لانه كان هناك من أُتُوا علماً أوفر مما أوتيَ سليمان وداود)، والجدير بالذكر هو أنّ (سليمان) بالرغم من ملكه العظيم «وكل من شك في ذلك ضحكت على عقله الطيور والاسماك»، رغم هذا، فانه كان يفتخر بعلوم قليلة الاهمية مثل معرفته بلغة الطيور قبل افتخاره بملكه وحكومته ومواهبه الإلهية الاخرى.
إنّ هذه التعابير الجميلة تُبيّنُ عظمة مقام العلم بجميع أبعاده، وهو بنفسه دليل واضح على امكانية وضرورة المعرفة.(1)

17 ـ المعرفة شرط أساسي للادارة والقيادة.

عندما اقترح على يوسف التصدي لمقام مهمٍّ في حكومة مصر، قال:
(اِجْعَلْنى عَلى خزائِنِ الاَْرْضِ اِنّي حَفيظٌ عَليمٌ)
(يوسف / 55)
عندم اعلن بنو اسرائيل عن استعدادهم لمقارعة الملك الظالم آنذاك «جالوت» الذي شردهم، طالبوا نبيّهم بأن يعين قائداً لهم كي يجاهدوا «جالوت» الظالم، تحت رايته قال لهم النبي:
(اِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا اَنّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – جاء في حديث للامام الصادق (عليه السلام): «العلم أصل كل حال سني ومنتهى كل منزلة رفيعة» المحجة (البيضاء الجزء 1 الصفحة 68).

[63]

اَحَقُّ بِالْمُلكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ اِنَّ الله اصْطَفاهُ
عَلَيْكُمْ وَزادهُ بَسطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَالله يؤتي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَالله
واسِعٌ عَليمٌ)
(البقرة / 247)
والجدير بالذكر إن «طالوت» الذي نصب للنهوض بمهمة قيادة بني اسرائيل لمقارعة الملك المقتدر والظالم، كان قروياً مجهولا يعيش في احدى القرى الساحلية وكان يرعى مواشي أبيه ويزرع!
لكنّه كان ذا قلب واع، وجسم مقتدر، ومعرفة دقيقة بالاُمور وعميقة جداً، ولهذا عندما رآه النبي «اشموئيل» عينّه قائداً على بني اسرائيل ولم يعبأْ باعتراضاتهم على تعينِه، تلك الاعتراضات الناشئة عن معايير وهمية في انتخاب القائد كامتلاك الثروة والاموال الطائلة والسمعة والتقاليد الموروثة من الآباء، حيث كانوا يعترضون بأنه مع ما عندنا من اشخاص ذوي سمعة وثروة، لم يكن طالوت بأجدر منهم لهذا المقام، فكان يجيبهم النبي: إن هذا انتخاب الهيّ،
والكل يجب أن يسلّم إليه.
انَّ هاتين الآيتين تدلان بوضوح على أن المعرفة هي من عناصر القيادة والادارة، وتؤكدان ما قلناه عن المعرفة حتى الآن(1).
* * *

18 ـ العلم منبع الايمان:

(وَيَرَى الَّذينَ اُوتُوا الْعِلْمَ اَلذي اُنْزِلَ اِلَيْكَ مِنْ رَبِكَ هُوَ الْحَقُّ وَيَهْدي اِلى صِراطِ الْعِزيزِ الْحَميد)
(سبأ / 6)

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول الامام الصادق (عليه السلام): «الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك».

[64]

(اِنَّ الذين اُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ اِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخرُّونَ للاَذْقانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا اِنْ كانَ وَعْدُ رَبِنا لَمَفعولا)
(الاسراء / 107 ـ 108)
(فَاُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى)
(طه / 70)
(وَلَيَعْلَمَ الَّذينَ اُوتُوا الْعِلْمَ اَنهُ الْحَقُ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤمِنوا بِهِ فَتُخْبتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ)
(الحج / 54)
(والراسَخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِنا وَما يَذّكّرُ اِلاّ اُولُوا الاَلْباب)
(آل عمران / 7)
إَّ الآية الاخيرة تلقي الأضواء على العلاقة الوثيقة بين العلم والايمان، وتصرّح بأن الأوعى والأعلم هو الأرسخ في الايمان والتسليم(1).
إنَّ هذه الآيات تشهد بوضوح أن المعرفة هي إحدى السّبل المؤدية الى الايمان، والايمان الذي ينبع منها سيكون راسخاً جداً ومتجذراً الى مستوىً بحيث نقرأ في قصة السحرة في عصر فرعون، أن ايمانهم بموسى (عليه السلام) كان بسبب معرفتهم بأنّ ما جاء به موسى (عليه السلام) لم يكن سحراً، فما كان من فرعون إلاّ أنْ هدّدهم بشدّة قائلا لهم: أتؤمنون به قبل أن آذن لكم؟! (الطغاة يريدون التحكم حتى بعقول الناس وايمانهم القلبي وفهمهم ولا يتصرف أحدٌ بأي شيء إلا باذن منهم، ومن ضمن ما جاء من تهديد فرعون لهم أنهُ قال: سأقطع ايديكم وارجلكم من خلاف ولأُصْلبنكم في جذوع النخل.
لكنهم كانوا بدرجة من الصمود بحيث كانوا يقولون له:

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ما ذكرناه حقيقة لا تنكر سواء قلنا بأن كلمة «الراسخون» معطوفة على «الله»، أو قلنا بأنها مبتدأ وخبرها الجملة اللاحقة، لأنه على كلا الفرضين، الضمير في «يقولون» يرجع الى «الراسخون في العلم» وبه تتّضح العلاقة بين الايمان والعلم في الآية.

[65]

(لَنْ نُؤثِرَكَ عَلى ما جاءنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذينَ فَطَرْنا فأقْضِ ما أنْتَ قاض)
(طه / 72)
وفعلاً فقد نفّذ فرعون وعيده الذي قطعهُ على نفسه بالإنتقام من السحرة المؤمنين، واستشهدوا من أجل المعتقد الذي ذابوا فيهِ عشقاً ونالوا مبتغاهم الاسمى وهو الشهادة.
يقول المفسر الكبير المرحوم الطبرسي إنهم: «كانوا في أول النهار كفاراً سحرة وفي آخر النهار شُهَداء بَرَزَةٌ».
إنَّ ثمرات العلم له تنحصر بالايمان فحسب بل تشمل الإستقامة
والصمود أيضاً.(1) و(2)
* * *

19 ـ العلم منشأ تقوى الله وخشيته:

(اِنَّما يَخْشى الله مِن عِبـادِهِ الْعُلَماءُ)
(فاطر / 28)
يقول الراغب في مفرداته «الخشية هي الخوف الذي يكون متزامناً مع التعظيم، وغالباً ما ينشأ عن العلم».
(وَاتَقُونِ يا اُولِي الاَْلْبابِ)
(آل عمران / 197)

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يعتقد البض أن «العلم» والايمان» شيءٌ واحد. فاذا كنا نعلم بان هناك خالقاً لهذا العالم وهو قادر وعالم، فنفس هذا العلم ايمان به، لكن المحققين يقولون يفصل الايمان عن العلم، لأن الايمان يمكن أي يكون ثمرة من ثمار العلم (وليس الثمرة الضرورة والدائمية) لكنه ليس عين العلم والايمان التسليم القلبي والقبول والاعتراف الرسمي، بينما كثيراً ما يحصل أن يعتقد الانسان بشيء ولم يسلم به، كما يحكي القرآن عن البعض في سورة النمل الآية (41) (وَجَحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً).
2 – يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «العِلمُ حياة الاسلام وعماد الايمان». (كنز العمال الجزء 10 الصفحة 181).

[66]

إذ لم تكن هناك علقة بين «العلم» و«التقوى» لم يخاطب الله «اولو الالباب» داعيهم للقوى في الآية، وهذا الخطاب دليل على هذه العلقة المباركة.
(فَاتَقُوا الله يا اُولِي الاْلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
(المائده / 100)
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلناسِ لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ)
(البقرة / 187)
إنَّ هذا التعبير في الآية الاخيرة يدل بوضوح على أن الله يبين الآيات كمقدمة لإثارة عقول وقلوب الناس، والإثارة سبيل الى التقوى.
بالطبع ليس كلما وجد العلم حصلت التقوى، لأن هناك علماء غير عاملين. لكن المتيقن منهم أنّهم يعتبرون العلم مقدمة وأرضية خصبة للتقوى، ويعتبر من المصادر الأساسية للتقوى. وَالتقوى غالباً ما تنبع عن العلم، العلم الذي كان منشأ للايمان سيكون منشأً للتقوى كذلك.
والعكس بالعكس، فالجهل غالباً ما يؤدى الى عدم التقوى والورع(1).
* * *

20 ـ العلم منشأ الزهد:

(وَقالَ الَّذينَ اُوتوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ الله خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقّاها اِلاّ الصابِرُونَ) (القصص / 80)
لمّحت هذه الآية التي جاءت في أواخر سورة القصص الى قصة (قارون) ونقلت نصيحة علماء بني اسرائيل للناس، الذين تمنوا امتلاك ثروة قارون عند استعراضه لثروته.

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول امير المؤمنين (عليه السلام) «أعظم الناس علماً أشدّهم خوفاً من الله». (غرر الحكم الحكمة 326).

[67]

فعندما شاهد العلماء الورعون تَعَلُّقَ الناس بالدنيا وحبهم الشديد لها وارتباطهم الوثيق بها خاطبوهم قائلين: ويلكم يا عبدة الدنيا! لا تخدعكم الثروة، فالجزاء الالهي خير لكم في الدنيا والآخرة إن كنتم مؤمنين وأعمالكم صالحة، لكن لا ينالُ هذا الثواب الالهي إلا الصابرون غير الراكعين امام الظلم والاغراءات المادية.
إن عبارة (اُوتوا العلم) تدل وضوح على وجود علقة بين (الورع والزهد) من جهة والعلم والمعرفة) من جهة اخرى، وأن العارين بوه الدنيا وخسة الثورة المادية وخلود الآخرة، لم يُخدعوا ولم يتمنوا ثروة قارون(1).
* * *

21 ـ التطور المادي وليد العلم:

(قالَ اِنَما اُوتيتُهُ عَلى عِلْم عِنْدي)
(القصص 78)
هذا الحديث قاله قارون الغني والمغرور والأناني عندما نصحه علماء قوم موسى، أَنِ استمثر ثروتك في مجال مصالح الناس ولا تنسَ نصيبك من الدنيا، وأحسن لعباد الله كما أحسنَ الله لك ولا تتخذ ثروتك وسيلة للفساد.
لكنه أجاب قائلا: إني جمعت هذه الثروة بفضل علمي ومعرفتي.
والذي ينبغي ذكره هنا هو أنّ الله لم ينفِ ادّعاءهُ هذا.
بل يقول تعالى: (اَوَلَمْ يَعْلَمْ اَنَّ الله قَدْ اَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ اَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَاَكْثَرُ جَمْعاً) (القصص / 78).
إنَّ هذا التأييد الضمني يكشف أن لقارون علماً تمكن بواسطته أن يجمع ثروة عظيمة (سواء كان ذلك العلم هو علم الكيمياء ـ كما يدعي بعض المفسرين او

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول الامام الصادق (عليه السلام): «إنَّ ممّا خاطب الله به موسى بن عمران قال: إنّ عبادي الصالحين زهدوا فيها بقدر علمهم بي». (بحار الانوار الجز 18 الصفحة 339).

[68]

كان معرفته لقواعد وفنون التجارة والأعمال).
إنَّ المسلَّم به هو أن ادعاء قارون لم يصلح حجة لمنع انتفاع الناس بثروته. وذلك لأن الانسان مهما كانت لديه من مؤهلات وقابليات، لا يمكنه لوحده ان يكسب ثروة بهذا الحجم فلابدّ أنه قد استفاد من الآخرين في سبيل تحصيلها، لذا فهو مَدينٌ للمجتمع ولتعاونهم معه.
وعلى أي حال، فان ما تبينه هذه الآية هو وجود علاقة بين «العلم المادي» والتطور المادي». وهذا ما نشاهده بوضوح في عصرنا الحاضر، حيث ان
اقواماً تزعَّموا التطور في مجال التمدن وذلك بفضل علومهم وتقنيتهم وصناعاتهم(1).
* * *

22 ـ العلم منبع القدرة أو (العلم قدرة):

(قالَ الَّذي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ اَنَا آتيكَ بِهِ قَبْلَ اَنْ يَرْتَدَّ اِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقَراً عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي)
(النمل / 40)
تتعلق هذه الآية بقصة سليمان وملكة سبأ، فعندما اراد سليمان أن يأتي بعرشها، اقترح عفريتٌ من زعماء الجنّ بأن يأتي به قبل نهوضه من مجلسه. لكن الرجل الذي كان عنده علم من الكتاب (وزير سليمان آصف بن برخيا)، والذي كان علمه يمكنه من القيام باعمال غير طبيعية قال لسليمان: إني استطيع أن آتي به قبل أن يرتد إليك طرفك وفعل ما قال، فشكر سليمان ربه على الفضل الذي آتاه إياه من الأنصار والاعوان والاصدقاء.

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول الامام علي (عليه السلام): «لا غنى أخصب من العقل ولا فقر أحط من الحمق». (اصول الكافي الجزء 1 الصفحة 29).

[69]

وهذه الآية وإن جاءت في مورد خاص، لكنها تكشف عن العلاقة الموجودة بين العلم والقدرة بوضوح، وترغب وتحرض على كسب العلم(1).
* * *

23 ـ التزكية تنشأ عن العلم:

(رَبَّنا وابْعَثْ فيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكيهِمْ اِنّكَ اَنْتَ الْعَزيزُ الْحَكيم)
(البقرة / 129)
إنَّ هذا التعبير الذي هو بمثابة دعاء دَعا به «ابراهيم» و«اسماعيل» في ضمن أدعية دعيا بها الله، يكشف بوضوح عن العلاقة القائمة بين «العلم والحكمة» من جهة، و«التزكية والتربية» من جهة اخرى وقد تقدم العلم هنا على
التزكية.
لكن في الآيتين التاليتين واللتين تناولتا منهج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد البعثة، تقدمت التزكية على العلم فيهما، حيث يقول الله تعالى هناك:
(لَقَدْ مَنَّ الله عََى الْمُؤْمِنينَ اِذْ بَعَثَ فيهِمْ رَسُولا مِنْ اَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَاِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلال مُبين)
(آل عمران / 164)
كما أن الآية الثانية من سورة الجمعة تشبه الآية المتقدّمة مضموناً.
الظاهر أن الاختلاف في التعبير حين يقدم العلم على التزكية تارة والتركية على العلم تارة اخرى ناشىءٌ من التأثير المتبادل بين هذين الاثنين، فان العلم منشأُ التربية الاخلاقية، والتربية الاخلاقية تصلح لأن تكون في ـ بعض مراحلها ـ

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول الامام الصادق (عليه السلام): «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس». (اصول الكافي الجزء 1 الصفحة 290).

[70]

منشأ للعلم.
وعلى هذا، فكل منهما يهىء الأرضية للآخر، وهذا هو معنى التأثير المتبادل للعلم والتزكية (وسيأتي شرح هذا الموضوع في بحث مؤهلات المعرفة انشاء الله)(1).
* * *

24 ـ الصبر والتحمل ينبع عن العلم:

(وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مالَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) (الكهف / 68)
هذا الحديث نطق به العالم الرباني (الخضر) مخاطباً به موسى بن عمران، عندما سأله أن يعلمه من علومه، فاجابه الخضر: إنك لم تَحُط بأسراري وألغاز أعمالي. ولن تصبر عليها لعدم معرفتك.
وهذا التعبير يبين بوضوح ان عدم العلم والمعرفة يؤدي بالانسان الى نفاد صبرِه.
بالطبع إن الصبر قد يكون منشأ تزايد العلم والمعرفة، وعليه فهذان الإثنان بينهما تأثير متبادل كما يصرح بذلك القرآن في عدد من الآيات:
(اِنَ في ذلِكَ لآيات لِكِلِ صَبّارِ شَكُور)
(ابراهيم / 5)، (لقمان / 31)، (سبأ / 19)، الشورى / 33)
ومن الواضح أن طريق العلم والمعرفة طريق ملتوِ ومليءٌ بالمنغّصات، ولا يمكن أن يدرك العلم إلا بالصبر والتأنّي. وإن العلماء والمخترعين والمكتشفين لم يصلوا الى ما وصلوا إليه إلاّ بالتأني والصبر.
* * *

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يقول امير المؤمنين في حديث له حول العلم: «ومن ثمراته التقوى، واجتناب الهوى ومجانبة الذنوب». (بحار الانوار الجزء 78 الصفحة 6).

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...