الرئيسية / القرآن الكريم / نفحات من القران

نفحات من القران

[186]
ويتصورون ان ادراكهُ الفطري انعكاس لتجاربه وحاجاته والضرورات الاجتماعية.
اعتبر «فرويد» عالم النفس المعروف «الوجدان الاخلاقي» مجموعة من النواهي الاجتماعية والميول المكبتوتة في ضمير الانسان. يقول: إن «الوجدان الاخلاقي» لا يمثل سلوكاً ذاتياً وعميقاً لروح الانسان، بل إنه رؤية باطنية بسيطة للنواهي الاجتماعية، ولا يوجد في تاريخ المجتمع ولا تاريخ الفرد تصورات بدائية عن حسن الأشياء وقبحها، وقد تولدت هذه التصورات من البيئة الاجتماعية وتشعبت عنها(1).
وقد فسر أتباع المذهب المادي (الديالكتيك) الادراكات الفطرية على أساس مقولتهم المعروفة «كل شيء وليد الظروف والاوضاع الاقتصادية»، فانكروا وجودها.
ج ـ نظرية اولئك الذين يرون أن قسماً من معلوماتنا فطرية والقسم الآخر مُكتسب، والمعلومات المكتسبة تنتهي الى تلك المعلومات الفطرية وهي أساسها.
وقد أثبتت الأدلة المنطقية العقلية، والأدلة النقلية من الآيات والروايات هذه النظرية وذلك للاسباب الآتية:
أولا: أننا نعتقد بوجود قضايا بديهية مُسَلّم بها في الرياضيات وبدون تلك البديهيات لا يمكن اثبات أيّة قضية رياضية، كذلك الأمر بالنسبة للقضايا الاستدلالية الاخرى، فلابد من اعتمادها على قضايا بديهية مسلّم بها تكون الاساس لكلِّ استدلال.
وبعبارة اخرى: لو أنكرنا القضايا الفطرية بالكامل لأَنكرنا جميع معارفنا،
لان جميع القضايا العقلية ستكون مرفوضة، وسنسقط في النهاية في وادي السفسطة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – افكار فرويد الصفحة 105، ومجموعة ماذا أعلم ـ للامراض اخر الروحية ـ الصفحة 64 (بالفارسية).
[187]
وإذا أثبتنا ـ مثلا ـ بالحس والتجربة أو بدليل عقلي وجود أمر ما، فاذا كنا غير واثقين بقضية «استحالة اجتماع النقيضين» التي تعتبر من القضايا البديهية جداً، فعندئذ يمكننا التشكيك بالأمر، والقول بإمكانية عدم وجود الامر الذي اثبتنا وجوده!
وإذا أردنا اثبات هذه الاصول البديهية بالتجربة والاستدلال فسينتهي الأمر بنا الى الدور والتسلسل ولا تخفى سلبيات هذا الأمر على أحد.
* * *
ثانياً: فضلا عمّا سبق، فكما نردّ السفسطائيين (الذين ينكرون كل شيء) وكذا المثاليين (الذين ينكرون الحقائق الخارجية، ويعتقدون بالامور الذهنية فقط) بالاستناد الى الوجدان ونقول: أن الوجدان يشهد ببطلان مثل هذه العقائد، لأننا ندرك أنفسنا والعالم الخارجي الذي يحيط بنا بوضوح، فكذلك الامر هنا، لأن هذه الضرورة الوجدانية دليل على وجود كثير من الادراكات الباطنية.
وكما أننا نحس بحاجات جسمية وروحية كثيرة (الحاجات الجسمية مثل الاكل والشرب والنوم، والروحية مثل الميل الى العلم والاحسان والجمال والعبادة والقداسة) ويقول بعض علماء النفس: أن هذه المقتضيات تشكل الابعاد الاربعة لروح الانسان).
فهذا الوجدان ذاته يصرح لنا بحسن الاحسان والعدالة وقبح الظلم والاعتداء، وفي هذه الادراكات لا نحتاج الى مصدر اجتماعي او اقتصادي او غير ذلك بل يكفينا الوجدان.
أنَّ حجة أمثال «فرويد» و«ماركس» واضحة، حيث أنّهم يعتقدون بأصل واحد وهو رجوع كل قضية اجتماعية وفكرية الى الجنس او الاقتصاد، ويصرون على توجيه كل شيء على ضوء هذا الأصل.
ثالثاً: أن الموضوع واضح من جهة نظر توحيدية، لأنا اذا سلمنا أن الانسان
[188]
خُلِقَ للتكامل على أساس سنة إِلهية، فلا يبغي الشك في أن وسائل ودوافع مثل هذا التكامل يجب أن تكون مهيئة في ذاته، وموجودة، وان ما جاء به الانبياء وما ورد في الكتب السماوية متناسب وهيئة الانسان التكوينية.
وعليه، فحاكم التكوين والخلقة متناسب وفي تناسق كامل مع عالَم التشريع.
أو بتعبير آخر، فان صفوة هذه التعليمات مودعة في ذات الانسان وان ما جاء في الشرائع السماوية هو شرح مفصل لهذه الصفوة من التعليمات.
ولهذا، فلا يمكن التشكيك في التعاليم الفطرية التي يؤيدها العقل والرؤية الكونية التوحيدية.
* * *
سؤال:
لقد صرّح القرآن: (وَالله اَخْرَجَكُم مِنْ بُطُونِ أمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَبْصارَ والاَفْئِدَةَ) (النحل / 78).
ألا يستفاد من هذه الآية أن لا وجود للمعلومات الفطرية أبداً؟
الجواب:
أولا: أنّ الانسان في ساعات ولادته لا يعلم شيئاً قطعاً، وحتى المعلومات الفطرية ليست فعلية، وعندما يعرف نفسه ويصبح مميزاً يتحسس المعلومات النظرية ويدكرها بلا معلم أو استاذ أو حس او تجربة، وإلاّ فكيف يمكن القول بأن الانسان يعلم كل شيء حتى بوجوده بالذات ـ بالتجربة وأمثالها(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نقلت عبارة معروفة عن (دكارت) قال فيها: «كنتُ شاكاً حتى في نفسي، ثم رأيت اني افكر، فأدركتُ اني موجود» إنها عبارة مليئة بالأخطاء، لأن الذي يقول: أنا أُفكر فانه يعترف بالـ (انا) قبل اعترافه بالتفكير، لا أنّه يعترف بالتفكير قبل الأنا.
[189]
ثانياً: ألَمْ نقل بأن القرآن يفسر بعضه بعضاً؟
حيث ان آيات مثل: (فَاَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) و(فِطْرَةَ الله الَّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها) التي جاءت في أول البحث تفسر الآية: (وَاللهُ اَخْرَجَكُم مِنْ
بُطُونِ اُمَّهاتِكُم لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً)، فتكون المعلومات الفطرية مستثناة من هذه الآية.
* * *
سؤال آخر:
وقد يطرح هنا سؤال آخر عكس الاول وهو: أن القرآن الكريم أطلق كثيراً من مفردة «التذكير» على علوم الانسان، مثل: (اِنَّ فِي ذلِكَ لآيةً لِقوم يَذَّكَّرُونَ)(النحل / 13) ويقول في آية اخرى: (وَما يَذَّكَّرُ اِلاّ اُولُوا الألباب) (آل عمران / 7) وفي اخرى أيضاً: (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلّناسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)
(البقرة 221).
ألَمْ يكن المراد من هذه الآيات وهو نفس ما ذهب إِليه افلاطون، أي ان العلوم عبارة عن تذكير لما هو موجود في سريرة الانسان، وحاصل عنده منذ القدم؟
* * *
الجواب:
إن «التذكير» من مادة «ذكر» ومعناه الاولي ـ كما يقول أئمة اللغة ـ هو الحفظ، وكما يقول الراغب في مفرداته: الذكر قد يطلق على حالة نفسية تُعين الانسان على حفظ العلوم والمعارف، وقد يقال لحضور الشيء في القلب، أو
[190]
البيان، وما جاء في لسان العرب قريب لما جاء في المفردات، حيث قال: الذكر، يعني الحفظ كما يعني الموضوع الذي جرى على الألسن.
وعلى هذا، فالذكر والتذكر لا يعني حضور الشيء في القلب بعد النسيان أو استعادة الذكرى فقط، بل يشمل جميع المعلومات.
* * *
3 ـ «الفطرة» و«الوجدان» في الروايات الاسلامية:
لقد أُشير في الرويات الاسلامية الى هذا المصدر كثيراً ونذكر هنا نماذج من تلك الروايات:
1 ـ قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث معروف له: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصّرانه»(1).
يدل هذا الحديث بوضوح على أن التوحيد، بل حتى الاصول الاساسية للاسلام مودعة في فطرة الانسان(2).
2 ـ وقد جاء في حديث أن شخصاً سأل الامام الصادق (عليه السلام) عن الآية: (فطرة الله الَّتي فَطَرَ الناسَ عَلَيْها)، فأجاب الامام(عليه السلام): «التوحيد»(3).
3 ـ وفي حديث آخر أجاب عن نفس السؤال بهذا الجواب: «هي الاسلام»(4).
4 ـ وقد قال الامام (عليه السلام) في حديث آخر في هذا المجال: «فَطَرَهُمْ على المعرفة»(5).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – بحار الانوار الجزء 3 الصفحة 281.
2 – يأتي شرح هذا الحديث مفصلا في المجلد الثاني من هذا التفسير.
3 – (2) (3) اصول الكافي الجزء 2، باب فطرة الخلق على التوحيد، حديث 1 و 2 و 4 و الروايات التي جاءت في هذا المجال كثيرة ويمكن الرجوع الى المصادر التالية: البحار الجزء 3 باب 11 من ابواب التوحيد واصول الكافي الجزء 2 باب فطرة الخلق على التوحيد.
[191]
5 ـ وقد جاءت روايات عديدة عن الامام الصادق(عليه السلام) فسرت الآية: (صِبْغَةَ الله وَمَنْ اَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً) بالاسلام(1).
6 ـ وقد جاء في حديث قدسي: «خلقتُ عبادي حُنَفَاء». وقال صاحب مجمع البحرين بعد ذكره لهذا الحديث يعني مؤهلين لقبول الحمد، ثم اعتبر معنى الحديث نفس معنى الحديث المعروف «كل مولد يولد على الفطرة».
وهناك ملاحظة جديرة بالذكر وهي: إِن الروايات الاسلامية عبرت عن الاعمال الحسنة بالمعروف وعن الاعمال السيئة والقبيحة بالمنكر وتطلق هذه المفردة على الأمر المجهول، فقد يُثْبِتُ هذا الاطلاق أن الاعمال الحسنة امور تعرفها الروح وتستأنس بها وتسكن إِليها اما الاعمال القبيحة والسيئة فهي امور تنفر منها الروح، ومجهولة عندها.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – بحار الانوار الجزء 3 الصفحة 280.
[192]
المصدر الخامس:
الوحي السماوي
[193]
5 ـ الوحي السماوي
تمهيد:
توجد آيات كثيرة في القرآن الكريم حول هذا المصدر، بل أن بحث هذا المصدر طرح في جميع الكتب السماوية، وفي الحقيقة أن أتباع الأديان السماوية يعتبرون «الوحي» أهم مصدر للمعرفة، لأنه ينهل من العلم الإِلهي الواسع، في حين ان المصادر الاخرى تتعلق بالانسان نفسه، وهي محدودة جداً بالنسبة لهذا المصدر.
أن الرؤية الكونية الالهية تقول: أن الله عزّ وجلّ (ولأجل هداية البشر (أي بيان الطريق له) أوحى الى رجال الوحي (أي الرسل العظام) كل ما يحتاجه الناس في سبيل اجتياز الطريق الى التكامل والسعادة.
وفي الحقيقة، إِن العقل اذا كان دا إِنارة قوية فان الفطرة والوجدان والتجربة بمنزلة إِنارة من نوع آخر، و«الوحي» بمنزلة الشمس الساطعة، الأكبر والأعظم من الانارتين السابقتين.
وعلى هذا فيُعدُّ الوحي ـ من وجهة نظر الالهيين ـ أهم وأغنى مصدر للمعرفة.
والآن نقرأ خاشعين الآيات الآتية.
1 ـ (وَما كانَ لِبَشَر اَنْ يُكَلِّمَهُ الله اِلاّ وَحْياً اَوْ مِنْ وَراءِ حِجاب اَو يُرْسِلَ
[194]
رَسُولا فَيُوحِي بِاِذْنِهِ ما يَشاءُ اِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)
(الشورى / 51).
2 ـ (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * اِنْ هُوَ اِلاّ وَحيٌ يُوحى)
(النجم / 3 ـ 4)
3 ـ (قُلْ اِنَّما اَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى اِلَيَّ)
(فصلت / 6)
4 ـ (ذلِكَ مَمّا اَوْحِىَ اِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَة)
(الاسراء / 39)
5 ـ (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَاِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِاِذْنِ الله)
(البقرة / 97)
6 ـ (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شيء)
(النحل / 89)
7 ـ (وَكَذلِكَ اَوْحَيْنا اِلَيْكَ رُوحاً مِن اَمْرِنا ما كُنْتَ تَدرِي مَا الكِتابُ وَلاَ الايمان وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإنَّكَ لَتَهْدِي اِلى صِراط مُسْتَقِيم)
(الشورى / 52)
8 ـ (وَما اَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ اِلاّ رِجالا نُوحِي اِليهِمْ)
(النحل / 43)
9 ـ (وَلَقَدْ اَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وَاَنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ)
(الحديد / 25)
10 ـ (اِنّا نَحْنُ نَزَّلنا الذِّكْرَ وَإنّا لَهُ لَحفِظُونَ)
(الحجر / 9)
11 ـ (قَدْ بَيَّنا لَكُمُ الاْياتِ اِنْ كُنْتُمْ تَعقِلُونَ)
[195]
(آل عمران / 118)
12 ـ (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْليماً)
(النساء / 164)
* * *
شرح المفردات:
1 ـ «الوحى» استعملت في القرآن والروايات والأدب العربي بمعان كثيرة، إِلاّ أن المعنى الاولي للوحي ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ هو «الاشارة السريعة»، ولذا يقال للاعمال السريعة «وحي»، كما يقال «وحي» للحديث الرمزي المتضمن كتابات، والذي يُتبادل بسرعة، والذي قد يحصل بالكتابة او الاشارة، ثم اطلقت هذه المفردة على المعارف الالهية التي تقذف في قلوب الانبياء والاولياء.
وللوحي أشكال متعددة، فتارة يكون بمشاهدة ملك من الملائكة واسماع حديثه، كما هو الحال لالنسبة لجبرئيل(عليه السلام) حيث كان الله يُوحي الى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)بواسطته.
وتارة باستماع صوته فقط دون مشاهدته كما كان يوحى الى موسى(عليه السلام).
وتارة يُوحى بالالقاء بالقلب فقط.
وتارة يوحي الله بالالهام فقط كما هو الحال النسبة لأُم موسى(عليه السلام).
وتارة بالمنام (كالرؤيا الصادقة)(1).
إِلا أن الخليل بن أحمد في كتاب العين يقول: إِن أصل معنى «الوحي» هو «الكتابة»، ويقول ابن منظور في لسان العرب: إِن الوحي يعني «الاشارة» و«الكتابة» و«والرسالة» و«الالهام» و«والحديث الخفي» و«كل خطاب يُلقى على
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – مفردات الراغب مادة «وحي».
[196]
آخر».
ومن مجموع ما تقدم نستشف أن «الوحي» في الأصل يعني الاشارة السريعة والحديث الرمزي والخطاب الخفي المتبادل بالرسائل أو الاشارات، وبما أن التعاليم الالهية أوحيت الى الانبياء بشكل غامض، أطلقت مفردة «الوحي» عليها.
وذلك لأن الألفاظ التي نستعملها وضعت لمستلزمات حياتنا اليومية، فاذا أردنا أن نستعملها في الامور الخارجة عن قضايانا اليومية، فينبغي توسيع معانيها، وتارة تجريدها أو استعمالها فيها بملاحظة مناسبة ما.
يقول الشيخ المفيد(قدس سره) في «شرح الاعتقادات»: إِن أصل الوحي يعني الكلام الخفي، أطلق على كل شيء قصد به تفهيم المخاطب بحيث يخفى عن الآخرين، واذا نسب الوحي الى الله عزّ وجلّ فالمراد به الخطابات التي تخص الانبياء والرسل(1).
2 ـ امام «الانزال» و«التنزيل» فاشتقتا من مادة «نزول» وتعني ـ في الأصل ـ الهبوط والمجيء من المكان العالي الى المكان الداني، وفرقهما عن النزول أنهما مصدران لفعلين متعديين في حين أن النزول مصدر لفعل لازم.
وقد يكتسب الانزال معنىً حسياً مثل ما جاء في هذه الآية: (وَاَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءاً طَهُوراً) (الفرقان / 48).
وقد يكون بمعنى موهبة تُؤهب من صاحب مقام عال الى صاحب مقام دان: (َاَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعامِ ثَمانيةَ اَزْواج) (الزمر / 6).
وقد يكون الانزال بمعنى إِلقاء المعارف الالهية من قِبَلِ الله، وقد استعمل هذا المعنى في القرآن كثيراً.
وهناك بحث لأئمة اللغة في كون الانزال والتنزيل بمعنى واحد، أو ان لكل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – سفينة البحار الجزء 2 الصفحة 638.
[197]
معنى يختص به، فبعض يقول: انه لا اختلاف في المعنى بينهما غير ان التنزيل يفيد الكثرة فقط(1).
بينما يعتقد بعض آخر: ان «التنزيل» يفيد التدريج، و«الانزال» يفيد التدريج والدفعة الواحدة، واعتمد الراغب في تفريقه هذا على الآية:
(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَولا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَاِذا اُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيها القِتالُ رَأَيْتَ الَّذينَ فِي قُولبِهِم مَرَضٌ يَنْظُرُونَ اِلَيْكَ نَظرَ الْمُغْشِيِّ عَلَيهِ مِنَ الْمَوتِ)
(محمد / 20)
فالآية تحدثت أولا عن طلب المؤمنين لنزول آيات الجهاد تدريجياً، ثم أشارت الى نزول حكم الجهاد بصورة قاطعة وجامعة، وعندها ينظر المنافقون الى الرسول نظر المغشي عليه من الموت.
3 ـ إِن «تبيين» اشتقت من مادة «بَينْ» أي المسافة الفاصلة بين الشيئين، ثم جاءت بمعنى «الايضاح» و«الفراق»، وذلك لأن الفصل بين الشيئين يستدعي هذين الأمرين، ثم استعملت بعد ذلك لكل من المعنيين بصورة مستقلة، فتارة تعني «الفراق» واخرى «الايضاح».
وقد جاء في «صحاح اللغة» أن «بين» تأتي بمعنيين متضادين هما، الفراق والآخر الاتصال. ويظهر أن معناهما في الأصل ـ كما جاء في غصر صحاح اللغة ـ هو الفراق، إِلاّ ان الفراق قد يؤدي الى الاتصال بشيء آخر فاستعمالها في للاتصال لانه يلازم الفراق.
وعلى أية حال فان مفردة (تبيين» جاءت في كثير من آيات القرآن بمعنى الظهور والانكشاف والوضوح، ولهذا يقال للدليل الواضح والمنكشف «بيّنة» سواء كان عقلياً أو محسوساً، فيطلق على الشاهدين العادلين (اللذين هما أمرٌ محسوس) «بيّنة»، كما تطلق «البينة» على معاجز الأنبياء، و«البيان» يعني رفع
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – وهذا رأي صاحب لسان العرب، حيث نقله عن ابي الحسن.
[198]
ستار الأبهام عن شيء، سواء كان بالنطق أو بالكتابة أو بالاشارة.
4 ـ «التكليم» و«تكَلُّم» من مادة «كلم»، وفي الاصل ـ كما يقول الراغب ـ يعني التأثير الذي يُرى أو يُسمع، فالذي يُرى كجُرح الآخرين، والذي يُسمع فهو الحديث الذي نسمعه من الآخرين.
يذكر الخليل بن أحمد في كتابه «العين»: أن أصل التكليم يعني «الجرح»، وعلى هذا فاطلاقه على النطق كان بسبب التأثير العميق الذي يتركه الحديث في قلوب المستمعين له، بل قد يكوت تأثير الكلام أشد من تأثير السيف والخنجر، وكما يقول الشاعر العربي المعروف:
جراحات السنان لها التيام ***** ولا يلتام ما جرح اللسان
ويستفاد من بعض العبارات ان «التكليم» و«التكلم» لهما معنى واحد،
وكلاهما بمعنى النطق والحديث، ولهذا عدت «متكلِّم» او «كليم» احدى صفات الله في حين إِذا أردنا التقيد بالآية: (وَكَلَّمَ الله مُوسى تَكْلِيما) ينبغي القول أن الله «مُكلِّم».
ولا يستبعد احتمال استعمال مفدرة «التكلّم» في موارد حيث يحدّث شخصٌ شخصاً آخرَ، إِلاّ أن «التكليم» مثل «المكالمة» تطلق على الحديث المتبادل بين طرفين، وكلام الله مع موسى(عليه السلام) في جبل طور من هذا القبيل.
ومن هنا يطلق «علم الكلام» على علم العقائد، لانه يذكر أن أول بحث بُحث فيه بعد الاسلام هو كلام الله (القرآن)، حيث كان البعض يعتقد أنه أزلي، والبعض الآخر: أنه حادث. وقد أدى الخلاف في هذه المسألة في القرون الاولى من عهد الاسلام الى شجار ونزاعات شديدة، حديثت بين المسلمين آنذاك(1).
ونعلم الآن أن ذلك النزاع لم يكن له أساس ولا نتيجة، لأنه إِذا اريد من القرآن محتواه، فالمسلم أنه كان مع علم الله أزلياً، وإِذا كان المراد منه ألفاظه وكتابته
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ذكر هذا الاحتمال في دائرة معارف القرن العشرين كاول احتمال في مجال التسمية هذه (دائرة معارف القرن العشرين ـ فريد وجدي ـ الجزء 8 مادة كلم).
[199]
ونزوله بواسطة الوحي، فهذا حادث في زمن بعثة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بلا شك، وعلى أية حال، فالهدف من هذا الحديث كان بيان وجه تسمية «علم العقائد» بـ «علم الكلام».
* * *
شرح الآيات وتفسيرها:
شمس الوحي الساطعة:
إِنّ قضية الوحي انعكست في القرآن بشكل واسع.
وقد أشارت مئات الآيات إلى الوحي كمصدر عظيم للعلم والمعرفة، حيث أشارت بعضها اليه بهذا العنوان «الوحي» وبعضها بـ «التنزيل» و«الانزال»
وبعضها بـ «تبيين الآيات الالهية» وبعضها بـ «تكليم الله والرسل»، وبمصلحات اخرى.
وأفضل تعبير في هذا المجال أن يقال: إذا كان العقل في المظار القرآني بمثابة «مصباح» شديد الاضاءة لكونه مبيناً للحقائق، فان الوحي «كالشمس» الساطعة التي تضيء أرجاء المعمورة».
اُشير في الآية الاولى الى ثلاثة طرق من طرق اتصال الانبياء بالله عزّ وجلّ، حيث قالت: (وَما كانَ لِبَشَر اَنْ يُكَلِّمَهُ الله اِلاّ وَحْياً اَوْ مِنْ وَراءِ حِجاب اَو يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحى بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ اِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) فالطريق الاول هو الايحاء، والثاني هو التكلم من وراء الحجاب كما تكلم الله مع موسى في جبل طور سيناء، والطريق الثالث هو إرسال رسول لابلاغ الخطاب الالهي الى النبي، كما كان يهبط جبرئيل(عليه السلام) على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لإبلاغه الخطابات الالهية.
وعلى هذا، فالالهام القلبي وايجاد الامواج الصوتية (النقر في السمع) وهبوط ملك الوحي، ثلاثة طرق لاتصال الانبياء بعالم ما وراء الطبيعة.
[200]
* * *
والآية الثانية بعد أن أقسمت بالنجم قالت: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى اِنْ هُوَ اِلاّ وَحيٌ يُوحى).
إِن القسم (بالنجم إِذا هوى) قد يكون إشارة الى غروب وافول نور الايمان والهداية عن الوجود في عصر الجاهلية، الغروب الذي يكون مقدمة لطلوع آخر، أي طلوع شمس الوحي على لسان الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).
وعلى هذا الاساس، فالآية أدرجت كلام الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) تحت أصل كليٍّ ناتج عن الوحي والارتباط الغيبي.
* * *
والآية الثالثة أمرت الرسول بأن يتخذ موقفاً اتجاه مطاليب بعض المشركين العجيبة وغير المألوفة، ويقول لهم: إِني لستُ ملكاً من ملائكة الله ولا موجوداً أعلى من البشر ولا ابن الله، ولا شريكه، (اَنّما بَشَرٌ مِثْلُكُم يُوحى إلَيَّ) وهذا (الإيحاء) هو الذي يفرقني عنكم.
وعلى هذا، فالرسول يمتاز عن بقية البشر بميزة خاصة وهي اختصاصه بمصدر المعرفة هذا (الوحي).
* * *
والآية الرابعة، بعد ما ذكرت ستة من أحكام الاسلام المهمة (حرمة قتل الاولاد وحرمة الزنا وقتل النفس والاقتراب من مال اليتيم ووجوب الوفاء بالعهد وايفاء الكيل) خاطب الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قائلة: (ذالِكَ مِمّا اَوْحِى اِلَيكَ رَبُّكَ مِنَ
الْحِكْمَة).
وطبقاً لهذه الآية، فان الاحكام الجزئية حالها حال اصول الدين والعقيدة
[201]
توحى إِلى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).
* * *
إِن خامس آية نزلت لتجيب على اولئك اليهود الذين قالوا: إِن جبرئيل
عدونا عندما سمعوا أنه يأتي الرسول بتعاليم الاسلام، فأمرته الآيه بأن يقول لهم: (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَاِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِاِذْنِ الله).
والتعبير في هذه الآية يكشف عن أن جبرئيل(عليه السلام) كان يُنزل ـ أحياناً ـ آيات القرآن على قلب الرسول مباشرة في حين أنّ بعض الروايات تشير الى ان جبرئيل كان يأتي للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) على هيئة انسان احياناً ويقوم بابلاغه الخطاب الالهي
بهذا الطريق(1).
* * *
والآية السادسة وضحت الحقيقة الآتية: إِن القرآن الذي انزلناه على الرسول هو تبيانٌ لكلِّ شيء وحاملا للهداية والرحمة والبشارة الى جميع المسلمين، وعليه فإن جميع هذه المعارف تصدر عن هذا المصدر العظيم أي الوحي.
بديهي أن المراد من «كل شيء» هو جميع القضايا التي تتعلق بسعادة الانسان، فتعلم أن اُسس جميع هذه القضايا قد جاءت في القرآن (سواء المادية منها أو المعنوية) في صورة قوانين كلية.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – أصرَّ الفخر الرازي على تأويل الآية بما يتناسب مع ما ذهبت إليه الروايات من أن جبرئيل(عليه السلام) كان يتمثل امام الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في صورة انسان، وبما أن القلب هو مركز حفظ الآيات عبر الله بهذا التعبير (فَاِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) (تفسير الفخر الرازي الجزء 3 / 196)، لكننا لا نرى ضرورة لتأويل الآية بالشكل الذي قاله الفخر الرازي، بل يمكن القول بأن اتصال جبرئيل(عليه السلام) بالرسول كان يتم بطريقين: جسماني وروحي.
[202]
وقد صرحت الآية السابعة بأن القرآن روح نزلت على الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من قِبَل الله عزّ وجلّ، ولم يكن يدري ما الكتاب ولم يكن يدري ما الايمان، وقد قيل للقرآن «روح» لأنه يبعث الحياة في قلوب المجتمع البشري، وهذا حديثٌ سلّم به كثير من المفسرين(1).

 

شاهد أيضاً

الجاهل القاصر والجاهل المقصر

الجاهل القاصر والجاهل المقصر الجاهل القاصر: هو الذي يعتقد جازما أن هذا الفعل الذي يفعله ...