إن هذه المفردة مشتقة من مادة «قَلْد»، وتعني في الاصل ـ كمـا ورد عن الراغب في المفـردات ـ فتل الحبل، وقيل للقلادة «قلادة» من حيث ان حبالا كانت تُفتل وتعلق في العنق، «والقلائد» جمع قلادة، استعملها القرآن وأراد بها الانعام التي تُعد للاضحية في مناسك الحج، فانها تُقـلَّد لتمييز عن غيرها من الأنعام (الآية الثانية من سورة المائدة)، كما أن اطلاق التقـليد على اتباع الآخرين، من حيث أن المقلِّد يجعل كلام المقلَّد كالقلادة في عنقه، أو من حيث أنه يلقي المسؤولية على عاتق المقلَّد.
[312]
أمّا «مقاليد» ـ وكما يقول كثير من اللغويين ـ فجمع «مقليد» أو «مِقْلد»، إلاّ أن الزمخشري ادعى في كشافه: عدم وجود مفرد لهذه الكلمة.
وأما «مقليد» و «اقليد»، فبمعنى المفتاح، وقـد نقل ابـن منظور في لسـان العرب: إن أصل هذه المفردة هو كلمة «كليد» الفـارسية والتـي تعني مفتـاح كذلك، واستعملت في العـربية بنـفس المعنى، وتستـعمل «مقاليد» بـمعنى الخزائن أيضاً، وذلك من حيث انّها تقفل ولا طريق لها إلاّ بالمفتاح.
إذن، لا علاقة بين مفردة «مقاليد» مع مادة «التقليد» و«القلادة»(1).
إلاّ أنه يحتمل رجوع كلا المفردتين الى مادة واحدة من حيث ان كثيراً من الناس يجعلون المفاتيح في فتائل ويقلدون بها أعناقهم(2).
* * *
شرح الآيات وتفسيرها:
قومٌ أهلكهم تقليدهم:
إن الآيـة الاولـى أشارت الى حـديث قـوم « عاد » مـع رسـولهم العطـوف «هود»، فعندما دعاهم الى التوحيد وترك الظلم والاجحاف والترف أجابوه: (سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَـمْ تَكُنْ مِنَ … ) وبهـذا كشفـوا عن تحجـرهم وصلابتهم تجاه كـلام النبي المنطقـي، وذلك لعدم سماح حجـاب التقـليد لهم بقبول الواقعيات.
* * *
وقد كشفت الآية الثانية عن موقاف مشركي العرب عندما كانوا يُـدعون الـى ما أنزل الله، وإلى ترك عبادة الأصنام، وترك البُدَع في تحريم كثير من الامور
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – مفردات الراغب، ومجمع البحرين، ولسان العرب، والبرهان القاطع، وكتب اخرى.
2 – وقد اعتبر البعض «اقليد» مفردة يمنية أو رومية (مجمع البحرين ولسان العرب ـ مادة قلد ـ ).
[313]
الحلال، وكان جوابهم آنذاك: (حَسْبُنـا ما وَجَدْنـا عَلَيْهِ آبـائَنـا) فيظنون أنّ وهذا يغنيهم عن القرآن هادياً!!
إلاّ ان القرآن أراد ايقاظهم من غفلتهم هذه وأراد تمزيق حجاب التقليد عندهم فأجابهم: (أَوَلَوْ كانَ آبائُهُم لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُؤنَ) وهل يجوز تقليد الجاهل الضالّ: ؟!
* * *
والآية الثالثة أشارت الى مشركي العرب أيضاً (أو فريق من ذوي الصفات الشيطانية) فانـهم اذا ما سُئِلوا عن سبب اتيـانهم الفاحشة والعمـل القبيـح؟ أجابـوا: (وَجَدْنا عَلَيْها آبائَنا) ولا يكتفـون بهـذا بـل قد يضيقـون: (وَاللهُ أَمَـرَنا بِها).
فينفي القرآن هذه التهمة الكبيرة ويقول: (اِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشـاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).
يعتقد كثيـر مـن المفسـرين أن المراد مـن «الفحشـاء» في الآيـة الكريمـة هـو طوافهم رجالا ونساءً عراة فـي عصـر الجاهلية، حـيث كانـوا يعتقدون: ان الملابس التي ارتكب بها ذنباً ليست أهلا لأن يُطاف بها حول بيت الله الحرام.
وعلى هذا المنوال، كان ينتقل عملهم القبيح هذا من نسل الى نسل بالتقيد الاعمى، وما كان التقليد يسمح لهم لأن يدركوا قبح هذا الفعل.
* * *
إن رابع وخامس آية أشارتا الى موقف وكلام فريقاً من المشركين في عهد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أو العهود التي سبقت عهده تجاه دعوة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الانبياء السالفين، خيث كانوا يقولون: (اِنّا وَجَدْنا آبائَنا عَلى أُمَّة وَاِنّا عَلى آثارِهِمْ
[314]
مُقْتَدُونَ).
وهكذا توارثت الأجيال بعد الأجيال الكفر وعبادة الأصنام والآثام والعادات والسنن القبيحة، وقد نسجت روح التقليد حجاباً سميكاً على عقولهم لا يسمح لهم لقبول أي حقيقة، فيقول القرآن عن هؤلاء تارة: (أَوَلَوْ كانَ آبائُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُون).
(المائدة / 104)
ويقـول تـارة اخـرى: (أَوَلَـوْ كـانَ الشَّيطـانُ يَـدْعُـوهُـمْ اِلـى عَذابِ السَّعِيْر)
(لقمان / 21).
واخـرى: (قـالَ أَوَلَـوْ جِئْتُـكُمْ بِأَهْـدَى مِمّـا وَجـدتُـم عَلَيْـهِ
آبـائُكُمْ).
(الزخرف / 24).
* * *
إيضاحات:
1 ـ أنواع التقليد المختلفة:
إن تقـليد الآخـرين، سواء كان تقـليداً لحـي أو ميت، أو تقليداً لشخص أو فريق لا يخرج عن صور أربع:
1 ـ تقليد الجاهل للعالم:
أي تقليد الجاهل بشيء لمن له تخصص أو خبرة بفن أو علم، مثل مراجعة المريض للطبيب الخبير بعلم الطب.
2 ـ تقليد العالم للعالم:
أي مراجعة أهل العلم أحدهم للآخر واتباع كلٌّ منهم للآخر.
[315]
3 ـ تقليد العالم للجاهل:
أي يترك الانسان علمه وخبرته، ويتبع الجاهل ويقلده عشوائياً.
4 ـ تقليد الجاهل للجاهل:
بأن يتخـذ قـوم جُهّال عادات ومعتقدات لأنفسهم بلا مبرر، ويقوم قوم آخر باتباع اولئك القوم وتقـليدهم فيهـا، وهـذا هو أكبر عامل لانتقال المعتقدات الفاسدة والتقاليد الخاطئة من قوم الى آخر، وهذا النوع من التقليد استهدفته أكثر الآيات التي ذمت التقليد.
واضح أن القسم الاول مـن التقليد هـو القسـم المنطقـي الوحيـد، وقد اعتمدت حياة الناس على ذوي الاختصاصات وعلى هذا النوع من التقليد المنطقي، لأن الانسان حتى لو كان نابغة زمانه لا يمكنه التخصص في جميع الاختصاصات والفروع العلمية، خصوصاً، وأن العلم ـ في هذا العصر ـ أصبحت له فروع وتشعبات لا تُعد ولا تُحصى، ومن المحال أن يتخصص انسان في فروع علم أو فن واحد، فضلا عن جميع العلوم والفنون.
وعلى هذا، فكل انسان يمكنه أن يكون مجتهداً فـي فرع من فـروع العـلوم، أما في الفروع الاخرى التي لم يجتهد فيها، فلا طريق له إلاّ الرجوع الى المتخصصين فيها.
إن المعمار يـراجع الطبيب اذا مـرض، والطيب يـراجع المعمار اذا أراد بناء عمـارة، أي أنّ كلا منهما «مجتهد» في تخصصه و«مقلِّد» في التخصص الآخر، وهذا (رجوع الجاهل الى العالم وغيـر المجتهد الـى المجتهـد وغيـر المتخصص الى المتخصص) أصل عقلائي كان ولا يزال متعـارفاً ودارجاً بين النـاس، بـل إن آيـات الحياة تسير علـى عتلات هذا النـوع من التقليد، بالطبع إن هناك شروطاً ينبغي توفرها في المجتهد الذي يُرجع إليه، سنتعرض لها بعد ذلك.
وهذا التقليد هو الذي أشار إليه الله في القرآن الكريم وعنونه بـ (الأُسوة الحَسَنَةَ).
[316]
(الاحزاب / 21).
كما جاء في سـورة الانعام الآية 90: (أولـئِكَ الَّـذِيْنَ هَـدَى اللهُ فَبِهُـداهُمُ اقْتَدِه).
ورغم أنّ الخطاب موجه للرسـول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لـكن لا يبعـد ان يكون المراد الاُمة أجمع.
أما الاقسام الثلاثة الباقية من التقليد فكلها باطلة ولا أساس مـنطقي لهـا، فتقليد (العالم للجاهل) و(الجاهل للجاهل) حالهما واضح، وأما تقليد (العالم للعالم) فاهن كان من باب مراجعة أحدهما الآخر للتشاور وتكميل المعلومات، فلا يُعدُّ هذا تقليداً بل هو نوع من «التحقيق».
إن التقليد هو غض الطـرف عن التخصص الذي يـمتلكه الانسـان واتباع شخص آخر اتباعاً عشوائياً، فالمسلّم أن التقليد لـشخص قادر على التحقيق أمر مذموم ونادر، ولهذا ورد (حرمة التقليد للمجتهد) في الفقه الاسلامي.
ويتضـح ممـا قلنا فلسفـة تقـليد غيـر الفقهـاء في المسائل الفقهيـة للمجتهدين، ومثل هذا دراج في جميع الفروع العلمية، وبما أن الفقه الاسلامي واسع الى درجة حيث لا يمـكن للنـاس جميعاً أن يجتهـدوا، فجميـع أبوابه والتحقيق فيها تعيّن على فريق منهم الاجتهاد بالفقـه، وعلـى الناس اتباعهم، إلاّ أن الأمر يختلف عنه في اصول الدين، فيتعين التحقيق والاجتهاد فيها على كل مسلم، وذلك لامكانيتهما، فلا يجوز التقليد فيها.
* * *
2 ـ شروط التقليد الممدوح:
[317]
عادة ما يقال في تعريف «التقليد» انه عبارة عن قبول كلام الآخرين بلا دليل وتارة يوسعون المفهوم ويعتبرون الاتباع العملي تقليداً من دون الالتزام بحديث أو كلام للآخرين، وتارة يعدون التأثرات اللا إرادية (التي تتركها أعمال وسلوك وصفات الآخرين عند الانسان) قسماً من التقليد.
بالطبع إن القسم الاخير من التقليد (الذي يتحقق بشكل غير ارادي) خارج عن موضع بحثنا، أما القسم الثاني والثالث، فيمكن ان يكونا ممدوحين اذا ما توفر شرطان في «المقلَّد» ـ أو مرجع التقليد ـ وهما: الخبرة والصدق، أي كونه من أهل العلم أولا، وينقل ما يوحي إليه علمه بصدق ثانياً. واذا ما انتفى هذان الشرطان دخل التقليد فثي القسم المذموم.
ومن جهة اخرى، ينبغي ان يكون موضوع التقليد من مواضيع الاختصاصات كي يباح التقليد فيه، أما اذا كان من المسائل العامة التي يتمكن للناس كافة في الخوض والتحقيق فيها (مثل اصول الاعتقادات وبعض المسائل الالخلاقة والاجتماعية غير ذات الجانب الاختصاصي) فانه يتعين على كل انسان التحقيق فيها والوصول إليها بنفسه.
ومن جهة ثالثة، فان المقلِّد ينبغي أن لا يكون قادراً على الاستنباط، فاذا ما قدر على ذلك في مسألة ما، مُنع من التقليد فيها.
ومن هنا تتضح حدود التقليد الممدوح والتقليد المذموم من الجهات الثلاث (أي شروط المرجع وشروط المقلِّد) وشروط الموضوع المقلِّد فيه).
ننهي كلامنا هذا بحديث عن الامام الصادق(عليه السلام):
قال رجل للصادق(عليه السلام): اذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب الأ بما يسمعونه من علمائهم فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلاّ كعوامنا يقلّدون علماءهم. فقال(عليه السلام): بين عوامنا وعوام اليهود فرق من جهه وتسوية من جهة امّا من حيث الاستواء فان الله ذم عوامنا بتقليدهم علماءهم
[318]
كما ذمّم عوامهم، وامّا من حيث افترقوا فان عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح واكل الحرام والرشا وتغيير الاحكام واضطرّوا بقلوبهم الى أن من فعل ذلك فهو فاسق لا يجوز ان يصدّق على الله ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله فلذلك ذمهم. وكذلك عوامنا اذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على الدنيا وحرمها فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذي ذمّهم الله بالتقليد لفسقة علمائهم فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعاً لامر مولاه فللعوام أن يقلّدوه(1).
* * *
3 ـ عوامل التقليد الأعمى:
التقـليد الأعمى أو بتعبيـر آخـر: (تقليد الجاهل للجاهل) والأسـوء منـه (تقليد العالم للجاهل)، دليل على الارتبـاط الفكري، ولـه عوامل عـديدة، نتعرض لبعضها بالاجمال هنا:
1 ـ عدم النضج الفكري: إن أشـخاصاً قـد ينضجون ويبـلغون جسميـاً، إلاّ أن فكرهم لا يستقل ولا يبلغ الى آخر العمر، ولهذا يضلون من أتباع هذا وذاك، ولا يفكرون يوماً في مسألة ما ولا يحللونها باستقلال.
إن أنظار هؤلاء تترصد الآخرين دائماً، فيرددون ما يتفوه به الاخرون، وكأنهم خُلِقوا بلا إرادة، ولهذا قد يغيروا اتجاههم بالكامل اذا ما تغيرت بيئتهم أو تغير محيطهم.
إن طريق مكافحة هذا النوع من التقليد الأعمى هو رفع المستوى الثقافي للمجتمع والسعي لازدهغر الأفكار والقابليات.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الوسائل الجزء 18 الصفحة 94.
[319]
2 ـ التأثر بشخصية: وهي أَنْ يتأثَرَ الانسان بشخصية ما ويجعلها أسـوة له بحيث لا يرى نفسه أهلا لإبداء الرأي أمام صاحبها، فيتبعه بكل معنى الكلمة ويسير خلفه وإن لم تكن تلك الشخصية أهلا للاتباع والتقليد.
3 ـ التعـلق الشـديد بالأسلاف: والتعـلق هذا قـد يصنع منهم أناساً مقدسين وإن لم يكونوا .هلا لذلك، فتتبعهم الأجيال اللاحقة عشوائياً. ومع ان الأجيال اللاحقة التي ترث علوم السالفين وتضيف اليها علوماً اخرى تكون اكثر وعياً بطبيعة الحال، لكنها مع ذلك تبتلي بالتقليد الشعوائي.
4 ـ التحزّب أو التعصّب الطائفي: إن تعصباً كهـذا يدفع بفـريق من النـاس لاتباع حزب أو طائفة والسير خلفهما والتمسّك بترديد ما يتبناه ذلك الحزب او تلك الطائفة، بحيث لا يسمح الانسان لنفسه التفكير باستقلال والعمل خارج اطار الحزب أو الطائفة.
إن هذه العوامل الأربعة وعوامل اخرى سببٌ لانتقال كثيـر مـن الخرافات والأوهام والعقـائد الباطلة والتقـليد والعـادات الخاطئة والسنن الجاهلية والأعمال القبيحة من قوم الى قوم آخرين ومن نسلى الى نسل آخر.
وبتعبير آخر، فان الميول الخاطئة تجعل حجاباً على فكر الانسان تحول دون معرفته للحق.
* * *
8 ـ حجاب حب الرفاه
في البداء نصغي خاشعين الى الآيات التالية:
[320]
1 ـ ( وَاِذا أُنْـزِلَتْ سُـورَةٌ أَنْ آمِنُـوا بِـاللهَ وَجـاهدُوا مَـعَ رَسُـولِـهِ اسْتَـأْذَنَـكَ أولُوا الطَّـوْلِ مِنْهُـمْ وَقـالُوا ذَرْنـا نَـكُنْ مَـعَ الْقـاعِـدِينَ * رَضُـوا بِـاَنْ يُـكُونُـوا مَـعَ الْخَـوالِفِ وَطُبـعَ عَلـى قُلُـوبِهِـمْ فَهُـمْ
لا يَفْقَهُـونَ)
(التوبة / 86 ـ 87)
2 ـ (إِنَّمـا السَّبِيـلُ عَلَـى الَّـذِيْنَ يَسْتَـأذِنُـونَـكَ وَهُـمْ أَغْنِيـاءُ رَضُـوا بِـاَنْ يَكُونُوا مَـعَ الْخَوالِـفِ وَطَبَـعَ اللهُ عَلـى قُلُوبِهِـمْ فَهُـمْ لا
يَعْلَمُـونَ)
(التوبة / 93)
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
اعفنا من الجهاد:
أشارت الآية الاولى الى اولئك الذين لم يستعدوا لتنفيذ الأوامر الالهية في مجال الجهاد، فبالرغم من اقتدارهم الجسمي والمالي للحضور في سوح القتال لكنهم انضموا إلى صفوف القاعدين وغير القادرين على الجهاد، وقد ألحوا على الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يذرهم ويجعلهم مع القاعدين والخوالف.
و«القاعدين» جمع «قاعد» وهم المعذورون عن الجهاد.
و«الخوالـف» جمـع «خالفـه» ومن مـادة (خَلْف) ومعنـاها يقـابل الإمام، ولهذا يقال «خالفة» للنساء اللاتي تبقى ماكثة في البيت عنـد خروج رجالـهن، ولا يبعد أن يكون مفهوم هذه المفردة أعم من النسا، بحيث يشمل جميع العاجزين
[321]
عن الجهاد والمعذورين عن الالتحاق بساحات القتال من النساء والأطفال والشيوخ والمرضي.
يقول الراغب في مفرداته: إن «خـالفة» عمـود يجعل فـي نهاية الخيمـة وتطـلق ـ كناية ـ على النسـاء الماكثات في البيت، ويقول البعض: إن «خالف» من تخلّف كثيراً(1).
وتستعمل هذه المفردة ـ أحياناً ـ بمعنى «كرية الرائحة» من باب أن الـرائحة الكـريهة تستخلف الرائحة الجيدة اذا ما ذهبت.
وقال البعض: إنـها بمعنـى الانحطـاط والميـل الى الامـور الدنيئة لانَّ هذا المَيْل يدلّ على التخلف(2)، إلاّ أن المعنى الأول أنسب من بقيّة المعاني.
وعلى أي حال، فان محبي الرفاه وطلبة العافية غير مستعدين للايثار والتضحية عند الازمات والكوارث الاجتماعية، وهم مستعدون لأن يُجعلوا في صفوف الأطفال والمرضى دون أن يلتحقوا بصفوف المجاهدين، ويقول القرآن فيهـم، في نهايـة الآيـة نفسهـا: (وَطُبـعَ عَلـى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ
لا يَفْقَهُونَ).
نعـم، إن حب الراحـة والرفاه كالحجاب الذي يمنع من الرؤية الفكرية الصحيحة، فهؤلاء لا يدركون أن السعادة ليست بالأكل والشرب، بل قد تكون في الحضور في ميادين الجهاد، وفي التخضب بالدماء، وبلقاء الله، إلاّ ان الـذي لا يفهم هذه الامور يستهزأ بها.
* * *
وتشير الآية الثانية الى المعذورين عن الجهاد مثـل الضعفـاء والمرضى
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – المنار الجزء 10 الصفحة 572.
2 – تفسير الفخر الرازي الجزء 16 الصفحة 163.
[322]
والذين لا يملكون الوسيلة للقيام بهذا الأمر، بينمـا تشـتاق اليه قلوبهم، وتـصب دموعهـم لعـدم اقتدارهم على الانفـاق، يقـول الله فيهـم: (إِنَّمـا السَّبِيـلُ عَلَـى الَّـذِيْنَ يَسْتَـأذِنُونَـكَ وَهُـمْ أَغْنِيـاءُ رَضُـوا بِـاَنْ يَكُونُـوا مَـعَ
الْخَـوالِفِ).
ثـم يضيـف: (وَطَبَـعَ اللهُ عَلـى قُلُوبِهِـمْ فَهُـمْ لا يَعْلَمُـونَ) وذلك لأن الـميل الى الراحة جَعَلَ حجاباً سميكاً على قلوبهم فلا يكادون يفقهون شيئاً، إن كلتا الآيتين توضح حقيقة واحدة وهي العلاقة بين «التخلف عن الجهاد لأجل الراحة والصحة» و«عدم إدراك الحقائق».
* * *
9 ـ حجاب الأمانيّ
1 ـ (يُنـادُونَـهُمْ أَلَـمْ نَكُنْ مَعَكُـمْ قـالُوا بَلـى وَلكِنَّكُـمْ فَتَنْتُـمْ أَنْفُسَكُـمْ وَتَرَبَّصْتُـمْ وَارْتَبْتُـمْ وَغَرَّتْكُـمُ الأَمـانِيُّ حَتّـى جـاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَـرَّكُـمْ بـِاللهِ الْغَرُورُ)
(الحديد / 14)
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
الآمال الطويلة:
إن « الأماني » جمع « أمنية » وتطـلق علـى الحالة النفسية التي تعرض
[323]
للانسان من جراء تمنيـه لشيء ما(1)، والجدير بالذكر ان الاماني المعقولة والمنطقيـة ليست نقصـاً، بل هي عامـل لتقدم البشر وبناء مستقبل أفضل لهُ من الحاضر، انـما النقص في الآمـال البعيـدة وغير المنطقيـة، ولهذا يفسرون الاماني في موارد كهذه بالمعنـى الثـاني، حيث تجعـلُ الانسان في غفلة وتسدل حجاباً من الظلمة على قلبه.
ويقـول ابن الاثير: إن التمني يعني تشهّي حصـول الامر وكـذلك يطـلق علـى ما يخطر علـى النفس بالنسبة للمستقبل، كما ان «مُنْية» و«الاُمْنيّة» وردتا بمعنى واحد(2). إلاّ ان بعضاً فسّـر «الامنية» بالكذب، ذلك لان الكذب يُقدّر أمراً في قلبه ثم يحدّث به(3).
يقول الـراغب: لما كان الكذب تصوّر ما لا حقيقة له صار التمني كالمبدأ للكذب فصحّ ان يُعبّر عن الكذب بالتمنّى.
وادعـى البعض: ان معنـى هـذه المفردة في الاصل هو التقدير والفرض والتصوير(4)، وقد قيـل للاماني أماني لأن الانسان يقدرها ويصورها في ذهنه.
وعلى أي حال، فان المؤمنين عنـدما يجتـازون المحشر نحـو الجنة بسرعة في ظل الايمان يصرخ المنافقون والمنافقات: انظرونا نقتبس من نوركم. فيجيبهـم المؤمنـون : ( ارجعوا ورائكم ( الدنيا ) فَـالْـتَمِسُـوا نُـوراً فَضُـرِبَ بَينَهُـم بِسُـور لَـهُ بـابٌ بـاطِنُهُ فيـهِ الْـرَحْمَـة وَظـاهِـرُهُ مِـنْ قـِبَلِهِ الْعَـذاب). (الحديد / 13).
وعنـدها يصـرح المنـافقون: (أَلَـمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) فـي الدنيـا في مجتمـع واحد وقد كنا في بعض الطريق معكم؟ فما الذي حصل حيث انفصلتم عنا واتجهتم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – مفردات الراغب، وينبغي الالتفات الى أن الأماني جمع أمنية، أما مُنى فجمع منية.
2 – لسان العرب.
3 – المنجد مادة مني.
4 – المنجد مادة مني.
[324]
نحو رحمة الله وتركتمونا في العذاب؟
فيجيبهـم المؤمنـون «بلى» كنا معكم في مجتمـع واحـد، في الزقـاق وفي السوق، وفي السفر والحضر، وكنا جاراً لكم، بل عشنا في بيت واحد، ولكنكم أخطتم خمسة أخطاء فاحشة، الأوّل أنكم سلكتم طريق الكفر والنفاق ففتنتم أنفسكم (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُم اَنْفُسَكُم).
وثانياً، أنكم (تربصتم) وترصدتم فشل المسلمين، وموت الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتحججتم في كل عمل خير.
وثالثاً (وَارْتَبْتُم) وترددتم خاصة في مسألة المعاد، وحقانية الاسلام.
ورابعاً (وَغَرَّتْكُمُ الأَمانِيُّ) التي نسجت حجاباً ضخماً على عقولكم وأفكاركم (حَتّى جاءَ أَمرُ الله).
وخامساً (وَغَرّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي غركم الشيـطان بعفـو الله ووعدكم بألاّ يَنالَكُمْ عذابه.
نعم، إن هذه العوامل معاً أوجدت المنظر الذي صوره القرآن لنا، وهي التي سببت خلق سور عازل بين المؤمنين والمنافقين.
إن شـاهد حديثنـا هو الجملة الرابعة، حيث جـاء فيهـا (وَغَرَّتْكُمُ الأَمانِيُّ)، فان الأماني قد تصل الى درجـة بحيث تشغـل فكر الانسـان بالكامـل، فيغفل عن كلّ شيء، ويظل فـي عالـم الوهـم والظن، فتعمـى عينا، ويثقـل سمعـه، ويفقـد وعيـه ( إذا كان واعيـاً )، ويضـل فـي الظلمات التـي وضعها بنفسـه
تائهاً.
إن سعة الأماني قد تصل الى درجة يرسم صاحبها خططاً لنفسه لا يمكن تطبيقها حتى لو كان نوحاً في العمر، وقد يقوم بمقدمات امنيةً، الكلُّ يعلم بعدم امكانها حتى لو كان قد بدأ بها منذ قرون، وهذا هو حجاب الاماني الذي يحول دون المعرفة.
[325]
وقد نقل بعض المفسرين خمسة أقوال في تفسير الأماني إضافة الى الآمال البعيدة، والأقوال هي:
( تمني فشل المؤمنين وضعتهم، وإغواء الشيطان، والدنيا، وتوقع استغفار الرسول للمنافقين، وتذكّر الحسنات ونسيـان السيئات )(1)، وقـد فسرها البعض بـ «الأباطيل».
* * *
إيضاحات:
حجاب الأماني في الروايات الاسلامية:
إنّ مسألة (الآمال الطويلة والأوهام البعيدة عن الواقع، وانها تجعل حجـاباً على عقل الانسان وشعوره) لم يشر اليها في القرآن الكريـم فحسب، بل لها شواهد كثيرة في الروايات الاسلامية والتواريخ ايـضاً، ففـي حديث مشهور للامام علي(عليه السلام)يقول فيـه: «إن أخوف ما أخـاف عليـكم إثنان، إتّباع الهوى وطول الأمل، فأمّا اتباع الهوى فيصدُّ عن الحق وأما طول الأمل فيُنسي الآخرة»(2).
ويقول في كلماته القصار: «الأماني تُعمي أعين البصائر»(3).
ونقـرأ في حديث آخر لنفس الامام(عليه السلام): «جماع الشرفي الاغترار بالمُهل والاتكال على الأمل»(4).
كما نقل عن نفس الامام في هذا المجال أنه قال: «غرورُ الأملِ يفسدُ العلم»(5).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير القرطبي الجزء 6 الصفحة 6417.
2 – نهج البلاغة الخطبة 42.
3 – الكلمات القصار، الجملة 275.
4 – غرر الحكم (حرف ج رقم 55).
5 – غرر الحكم.
[326]
والخلاصة ان من يـريد الاطلاع على جمال الحقيقة كما هي ويصـل الى ينبوع المعرفة الصافي، ينبغي له أن لا يغطي عقله بحجاب الأماني السميك، وأن لا يضل في متاهات طريقها.
ونختم هذا البحث بحديث آخر للامام امير المؤمنين(عليه السلام) حيث يقول فيه: «واعلموا أن الأمل يُسهي العقل ويُنسي الذكرَ فأكذبوا الأمل فإنّه غرورٌ وصاحبه مغرور»(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نهج البلاغة الخطبة 86.
[327]
القسم الثاني:
الاعمال التي تحجب
عن المعرفة
[328]
[329]
القسم الثاني
الأعمال التي تحجب عن المعرفة
10 ـ حجب الذنوب
نصغي خاشعين معاً للآيات التالية:
1 ـ ( اَلَّـذِينَ يُكَـذِّبُـونَ بِيَـوم الدِّيْن * وَما يُكَـذِّبُ بِـه اِلاّ كُلُّ مُعْتَـد أَثِيْـم * اِذا تُتْـلى عَلَيْـهِ آيـاتُنـا قـالَ أَسـاطِيرُ الأَوَّلِينَ * كَـلاّ بَلْ رانَ عَلَـى قُلُـوبِهِـمْ ما كانُـوا يَكْسِبُونَ)
(المطففين / 11 ـ 14)
2 ـ ( فَهَلْ عَسَيْتُـمْ إنْ تَوَلَّيْتُـمْ أَنْ تُفْسِـدُوا فِـي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُـوا أَرْحـامَـكُمْ * أوْلـئِكَ الَّـذِيْـنَ لَعَنَهُـم اللهُ فـَأَصَمَّهُـمْ وَأَعْمـى
أَبْصـارَهُـمْ)
(محمد / 22 ـ 23)
3 ـ ( أَوَ لَـمْ يَهْدِ لِلَّـذِيْنَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشـاءُ أَصَبْنـاهُمْ بِذُنُوبِهِم وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُم لا يَسْمَعُـونَ)
(الاعراف / 100)
4 ـ (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِيْنَ أَساؤُوا السُّوأى أَنْ كَذَّبُؤا بِآيـاتِنـا)
[330]
(الروم / 10)
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
الذنب يُعمي الانسان ويصمه:
أشارت الآيـة الاولى الى اولئك الذين أنـكروا القيامـة بالكـامل، وأضافت: ان القيـامة لا ينـكرها إلاّ المعتـدون والآثمون، فـانهم لا يخضعون أمام الـحق ولا يسلمـون إليه أنفسهم أبداً، ولهذا إذا تُليت عليهم آيات الله قالوا: أساطير الأولين.