الوقت- مع موجات الجفاف المتتالية في العراق ونقص موارد المياه السطحية، أصبحت أزمة المياه والزراعة قضية محلية مهمة في علاقات العراق الخارجية مع جيرانه، وخاصة تركيا، التي قامت في السنوات الماضية ببناء العديد من السدود على النهرين الكبيرين، دجلة والفرات، والتي تسببت في العديد من المشاكل لدول المصب.
أعلنت لجنة الزراعة والمياه والأهوار في مجلس النواب العراقي، أمس، شروط أنقرة لقبول طلب فتح سدودها، وطالبت في الوقت نفسه بإدراج عدة مقترحات في موازنة 2023 للقطاع الزراعي.
رفيق الصالحي عضو لجنة الزراعة والبرلمان في حديث لوكالة أنباء “المعلومة”، لافت إلى أن “تركيا فرضت عدة شروط على العراق مقابل فتح المياه من سدوده والوصول إلى أنهار العراق”، وقال: من بين هذه الشروط الخارجة هو طرد حزب العمال الكردستاني من شمال العراق.
كما أشار إلى مطالب أنقرة باتفاقات اقتصادية وسياسية وانتقد محاولة تركيا استغلال أزمة المياه في العراق لتحقيق مصالحها المرجوة. في السنوات الأخيرة، كان العراق يعاني من أزمة مياه كبيرة، جزء مهم منها ناتج عن انخفاض استهلاك المياه من تركيا، وهو ما ينسبه العراقيون إلى تنفيذ أنقرة لسياسة العطش في العراق.
خلص تقرير للأمم المتحدة نُشر في عام 2015 إلى أن سيطرة أنقرة على تدفقات المياه قد تسببت في “عواقب وخيمة” على العراق، مثل ارتفاع مستويات الملوحة في اتجاه مجرى النهر، ما أدى إلى الإضرار بالأمن المائي والزراعة والنظام البيئي للمنطقة. وهو ما ينطوي أيضًا على مخاطر الهجرة القسرية للسكان المحليين. تستقبل المياه العذبة في العراق حاليًا أقل من 30٪ من تدفقها الطبيعي. يؤكد خبراء البيئة العراقيون أن مستويات ملوحة المياه في مستنقعات العراق وحدها، والتي كانت تبلغ حوالي 200 جزء في المليون، تتجاوز اليوم 1900 جزء في المليون.
سياسة تركيا المستفزة في بناء السدود
لا تمتلك تركيا الكثير من الموارد الهيدروكربونية، لكنها تمتلك وفرة من المياه في واحدة من أكثر مناطق العالم جفافاً. تتركز هذه المياه في الجبال الوعرة والمرتفعة المغطاة بالثلوج في شرق الأناضول. وحسب الإحصاءات العالمية، فإن المتوسط السنوي لنصيب الفرد من المياه الثابتة لمنطقة الشرق الأوسط هو 300 متر مكعب، بينما يتجاوز هذا الرقم في تركيا حد نصيب الفرد البالغ 3100 متر مكعب سنويًا.
لا شك أن حصة تركيا من المياه التي تعادل 10 أضعاف نصيب جيرانها في الجنوب هي ميزة طويلة الأمد لصالح أنقرة، حيث إن حوالي 90٪ من المياه التي تتدفق في نهر الفرات، على وجه الخصوص، تنبع من جبال الأناضول في تركيا، ويضاف إليها 40٪ من مياه الفرات في تركيا. أي إن الأنهار التي تأتي من تركيا تملأ سلة غذاء المنطقة، وخاصة العراق وسوريا. على مدى السنوات العشرين الماضية، تحولت الحكومة التركية إلى الاستغلال الاقتصادي والتنموي بشكل متزايد لمياه هذين النهرين باستخدام أحدث التقنيات، ما أعطى أنقرة ميزة جيوسياسية كبيرة على جيرانها في الجنوب.
بدأت مشكلة المياه بين تركيا والعراق وسوريا عام 1984، حيث نفذت تركيا خلالها مشروعًا ضخمًا لتطوير نهري دجلة والفرات وهضبة الصحراء بمساحة 74 ألف كيلومتر مربع. كانت الأهداف المحددة لمشروع “جاب” هي إنشاء شبكة ري زراعية كبيرة وتوليد الطاقة بما في ذلك 21 محطة لتوليد الطاقة ومضاعفة الإنتاج الزراعي في تركيا.
أقامت تركيا حوالي 600 سد على هذين النهرين منذ الستينيات، ومن المقرر إنشاء 600 سد آخر خلال الأربعين عامًا القادمة. العديد من هذه السدود جزء من مشروع جنوب شرق الأناضول، الذي يهدف إلى تعزيز النشاط الاقتصادي في المنطقة الغنية بالأراضي الزراعية.
يعد سد إليسو جزءًا من مشروع جنوب شرق الأناضول، الذي يمكنه إنتاج 4.12 مليارات كيلوواط / ساعة من الطاقة الكهربائية سنويًا وحوالي 250 مليون دولار سنويًا في إنتاج الكهرباء في تركيا، ما يساعد على توفير المياه لري 1.2 مليون هكتار من الأراضي. لكن أهمية السدود بالنسبة لتركيا لا تقتصر فقط على إنتاج الطاقة وري المحاصيل، ولكنها تتعلق أيضًا بالتأثير الجيوسياسي.
قبل بناء سد أتاتورك عام 1990، وافقت تركيا على صرف نحو 500 متر مكعب من المياه في الثانية لسوريا، ولكن بحجة التغير المناخي، رفضت الوفاء بهذا الالتزام، الأمر الذي تسبب في انخفاض حاد في حصة سوريا والعراق من نهر الفرات. أبلغ الأتراك نظراءهم السوريين والعراقيين مسبقًا، لكن دول المصب ردت بغضب، ثم رد الرئيس التركي أوزال بقوله: “لا نقول للعرب ماذا يفعلون بنفطهم … لهذا السبب، لن نقبل أي اقتراح منهم حول ما يجب فعله بمياهنا “. ما يزيد المشاكل في هذه الحالة هو عدم وجود اتفاق رسمي بشأن إدارة المياه بين العراق وسوريا وتركيا.
مبادرة السوداني
بالنسبة للسوداني، تعتبر قضية المياه مهمة، وخاصة أنه وضع استراتيجية طويلة المدى لتطوير المياه وخطتها للعقود الثلاثة القادمة. كانت بداية هذه المهمة إقناع الأتراك بضخ المزيد من المياه من نهر دجلة، وستشمل المرحلة التالية برامج لزيادة تخزين المياه وتقليل الفاقد وتنظيم استهلاك المياه واستخدامها بشكل سليم.
على الرغم من هطول أمطار غزيرة في العراق في الأشهر الأخيرة، وحسب “خالد شمال”، المتحدث باسم وزارة الموارد المائية العراقية، فإن الاحتياطي المائي الاستراتيجي زاد بمقدار ملياري متر مكعب نتيجة إضافة كميات كبيرة من مياه الأمطار في السدود والبحيرات، والتي يمكن أن تلعب دوراً فعالاً في إنعاش المستنقعات وازدهار الزراعة هذا العام، ولكن لا يزال هناك هدر مائي بسبب عدم استخدام الأساليب التكنولوجية والحديثة في ري الأراضي، فإن هناك نقصاً ملحوظاً في إمدادات المياه. وحاول السوداني خلال رحلته إلى أنقرة إرساء الأساس لاتفاقيات استراتيجية بين العراق وتركيا في قطاع المياه باستخدام تجارة 24 مليار دولار بين الجانبين.
وفي هذا الصدد، يرى محللون عراقيون أن بإمكان بغداد استخدام وسائل استيراد البضائع من تركيا كورقة ضغط على أنقرة مقابل الحصول على حقوق العراق المائية والسيادية، ولا سيما بالنظر إلى تدهور الوضع الاقتصادي في تركيا إلى جانب ضعف وضع اردوغان عشية الانتخابات.
ولتشجيع تركيا على التعاون، وضع السوداني مشروع “طريق التنمية” على جدول الأعمال، والذي يبلغ طوله 1200 كيلومتر ويتكون من سكك حديدية وطرق سريعة وخطوط أنابيب تبدأ من ميناء الفاو في البصرة وتصل إلى ميناء تركيا. مرسين. ويفترض أن ينقل خط السكة الحديد الخاص بهذا المشروع 3.5 ملايين طن من البضائع بالمرحلة الأولى و7.5 ملايين طن بالمرحلة الثانية بينما من المتوقع أن تصل التكلفة الإجمالية للمشروع إلى 20 مليار دولار وكبديل لقناة السويس يربط دول الخليج الفارسي والأردن وإيران بأوروبا.
في غضون ذلك، قاوم السوداني حتى المطالب الجادة لممثلي وجماعات العراق، وخاصة فصيل المقاومة، لاتخاذ إجراءات جادة ضد الاحتلال العسكري لتركيا في شمال العراق، من أجل الحفاظ على أجواء التعاون مع تركيا ومنع تصاعد أزمة الخلافات المياه. ومع ذلك، فمن المؤكد أن التوتر المائي في المستقبل سيكون أهم نزاع بين الجارتين، ما سيؤثر على العلاقات بينهما.