أهل البيت سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم / الصفحات: ٤١ – ٦٠
هشام بن عبد اللّه المخزومي: سمعت ابن أبي ذئب يقول: رأيت عكرمة وكان غير ثقة.
وعن بريد بن هارون قال: قدم عكرمة البصرة، فأتاه أيوب ويونس وسليمان التيمي، فسمع صوت غناء فقال: اسكتوا، ثم قال: قاتله اللّه لقد أجاد. وعن خالد بن أبي عمران قال: كنّا بالمغرب وعندنا عكرمة في وقت الموسم فقال: وددت أن بيدي حربة فاعترض بها من شهد الموسم يميناً وشمالاً.
وعن يعقوب الحضرمي عن جده قال: وقف عكرمة على باب المسجد فقال: ما فيه إلاّ كافر. قال: ويرى رأي الاَباضية، انّ عكرمة لم يدع موضعاً إلاّ خرج إليه: خراسان والشام واليمن ومصر وافريقية، كان يأتي الا َُمراء فيطلب جوائزهم.
وقال عبد العزيز الدراوردي: مات عكرمة وكثير عزة في يوم واحد فما شهدهما إلاّ سودان المدينة.
وعن ابن المسيب أنّه قال لمولاه «برد»: لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس.
أفبعد هذه الكلمات المتضافرة الحاكية عن انحراف الرجل عن جادة
وبعبارة أُخرى: إنّ الاعتماد على السياق إنّما يتم لو لم يكن هناك نص على خلافه، وقد عرفت النصوص الدالة على خلافه.
أضف إليه أنّ هناك دلائل قاطعة على أنّ آية التطهير آية مستقلة نزلت كذلك ووقعت في ثنايا الآية المربوطة بأزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمصلحة كان صاحب الشريعة أعرف بها.(١) وإليك الدلائل الدالة على استقلالها:
الدليل الاَُوّل
أطبقت الروايات المنتهية إلى الاَصحاب وأُمّهات الموَمنين والتابعين لهم بإحسان على نزولها مستقلة، سواء أقلنا بنزولها في حق العترة الطاهرة أو زوجات النبي أو أصحابه، فالكل ـ مع قطع النظر عن الاختلاف في المنزول فيه ـ
وروت عائشة: خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات غداة وعليه مرط مرجّل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله معه، ثم جاء الحسين فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه، ثم جاء علي فأدخله معه، ثم قال: (إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) . إلى غير ذلك من النصوص.
حتى انّ ظاهر كلام عكرمة وعروة بن الزبير نزولها مستقلة بقول السيوطي: كان عكرمة ينادي في السوق (إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) نزلت في نساء النبي.
وأخرج ابن سعد عن عروة بن الزبير أنّه قال: (إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) قال: أزواج النبي، نزلت في بيت عائشة.(١)
فالموافق والمخالف اتفقا على كونها آية مستقلة إمّا نزلت في بيت أُمّ سلمة أو بيت عائشة، وإمّا في حق العترة أو نسائه.
وعلى ذلك تسهل مخالفة السياق، والقول بنزولها في حق العترة الطاهرة، وانّ الصدر والذيل راجعان إلى نسائه ص لا ما ورد في ثناياها، فهو راجع إلى غيرهن.
قال الشيخ محمد عبده: إنّ من عادة القرآن أن ينتقل بالاِنسان من شأن إلى شأن ثم يعود إلى مباحث المقصد الواحد المرة بعد المرة.(٢)
وروي عن الاِمام جعفر الصادق (عليه السلام): «إنّ الآية من القرآن يكون أوّلها في شيء وآخرها في شيء».(٣)
ولاَجل أن يقف القارىَ على صحة ما قاله هوَلاء الاَكابر نأتي بشاهد، فنقول: قال سبحانه ناقلاً عن «العزيز» مخاطباً زوجته: (إِنّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ x يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِين) .(٤) نرى أنّ العزيز يخاطب أوّلاً امرأته بقوله: (إِنّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ) وقبل أن يفرغ من كلامه معها، يخاطب يوسف بقوله: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) … ثم يرجع إلى الموضوع الاَوّل ويخاطب زوجته بقوله: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ) … فقوله (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ
٣. الكاشف: ٦|٢١٧.
٤. يوسف: ٢٨ ـ ٢٩.
١. (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) .
٢. (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ان اتقيتن…) .
٣. (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاَُولى) .
فعند ذلك صح أن ينتقل إلى الكلام عن أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وذلك لوجهين:
١. تعريفهنّ على جماعة بلغوا في التورع والتقى، الذروة العليا، وفي الطهارة عن الرذائل والمساوىَ، القمة. وبذلك استحقوا أن يكونوا أُسوة في الحياة وقدوة في مجال العمل، فيلزم عليهن أن يقتدين بهم ويستضيئنّ بضوئهم.
٢. التنبيه على أنّ حياتهنّ مقرونة بحياة أُمّة طاهرة من الرجس ومطهرة من الدنس، ولهن معهم لحمة القرابة ووصلة الحسب، واللازم عليهن التحفّظ على شوَون هذه القرابة بالابتعاد عن المعاصي والمساوىَ، والتحلّـي بما يرضيه سبحانه ولاَجل ذلك يقول سبحانه: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) ، وما هذا إلاّ لقرابتهن منه ص وصلتهن بأهل بيته. وهي لا تنفك عن المسوَولية الخاصة، فالانتساب للنبي الاَكرم ص ولبيته الرفيع، سبب المسوَولية ومنشوَها،
وقال العلاّمة المظفر: وإنّما جعل سبحانه هذه الآية في أثناء ذكر الاَزواج وخطابهن للتنبيه على أنّه سبحانه أمرهن ونهاهن وأدّبهن إكراماً لاَهل البيت وتنزيهاً لهم عن أن تنالهم بسببهن وصمة، وصوناً لهم عن أن يلحقهم من أجلهن عيب، ورفعاً لهم عن أن يتصل بهم أهل المعاصي، ولذا استهل سبحانه الآيات بقوله: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) ضرورة أنّ هذا التميّز انّما هو للاتصال بالنبي وآله، لا لذواتهن فهن في محل، و أهل البيت في محل آخر، فليست الآية الكريمة إلاّ كقول القائل: يا زوجة فلان لست كأزواج سائر الناس فتعفّفي، وتستّـري، وأطيعي اللّه تعالى، إنّما زوجك من بيت أطهار يريد اللّه حفظهم من الاَدناس وصونهم عن النقائص.(٣)
٣. دلائل الصدق: ٢|٧٢.
الدليل الثاني
إنّ لسان الآيات الواردة حول نساء النبي لسان الاِنذار والتهديد، ولسان الآية المربوطة بأهل بيته لسان المدح والثناء، فجعل الآيتين آية واحدة وإرجاع الجميع إليهن ممّا لا يقبله الذوق السليم، فأين قوله سبحانه: (يا نساء النبي من يأت منكنَّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب) من قوله: (إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) ؟!
كما انّ لسان القرآن في أزواج النبي، لسان المدح والانذار ويكفيك الاِمعان في آيات سورة التحريم فلاحظ.
الدليل الثالث
إنّ قوله سبحانه: (إنّما يريد اللّه…) في المصاحف جزء من الآية الثالثة والثلاثين فلو رفعناه منها لم يتطرق أيّ خلل في نظم الآية ومضمونها وتتحصل من ضم الآية الرابعة والثلاثين إلى ما بقيت، آية تامة واضحة المضمون، مبينة المرمى منسجمة الفاصلة، مع فواصل الآيات المتقدمة عليها، وإليك تفصيل الآية في ضمن مقاطع:
ألف. (وقرن في بيوتكن ولا تبرَّجن تبرُّج الجاهلية الاَُولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن اللّه ورسوله) .
ب. (إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً) .(١)
إنّ الاَحاديث على كثرتها صريحة في نزول الآية وحدها، ولم يرد حتى في رواية واحدة نزولها في ضمن آيات نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا ذكره أحد حتى القائل باختصاص الآية بأزواج النبي كما ينسب إلى عكرمة وعروة، فالآية لم تكن حسب النزول جزءاً من آيات نساء النبي ولا متصلة بها، وانّما وضعت إمّا بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عند التأليف بعد الرحلة.
ويوَيده أنّ آية (وقرن في بيوتكن) باقية على انسجامها واتصالها لو قدّر ارتفاع آية التطهير من بين جملها.(٢)
وليس هذا أمراً بدعاً فله نظير في القرآن الكريم.
فقد تضافرت السنّة، وروى الفريقان أن قولــه سبحانــه: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَـرُوا مِنْ دِينِكُـمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاِسْلاَمَ دِيناً)(٣) نزلت في غدير خم عندما نصّب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً إماماً للا َُمّة وولياً للموَمنين، مع أنّه في المصاحف جزء الآية الثالثة من «سورة المائدة» التي تبيّـن أحكام اللّحوم، وإليك نفس الآية في
مقاطع ثلاثة:
٣. سورة المائدة: ٣.
الجواب: التاريخ يطلعنا بصفحات طويلة على موقف قريش وغيرهم من أهل البيت (عليهم السلام)، فإنّ مرجل الحسد ما زال يغلي والاتجاهات السلبية ضدهم كانت كالشمس في رابعة النهار، فاقتضت الحكمة الاِلهية أن تجعل الآية في ثنايا الآيات المتعلّقة بنساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أجل تخفيف الحساسية ضد أهل البيت، وان كانت الحقيقة لا تخفى على من نظر إليها بعين صحيحة، وأنّ الآية تهدف إلى جماعة أُخرى غير نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما بيّناه قبل قليل.
وللسيد عبد الحسين شرف الدين هنا كلام ربّما يفصل ما أجملناه فإنّه ـ قدّس اللّه سرّه ـ بعد ما أثبت أنّ قوله سبحانه: (إنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُوَْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(١) منزل في حق الاِمام أمير الموَمنين (عليه السلام) طرح سوَالاً، وهو أنّه إذا كان أمير الموَمنين «عليه السلام» هو المراد من الآية فلماذا عبر عن المفرد بلفظ الجمع؟
فقال: إنّ العرب قد تعبّـر عن المفرد بلفظ الجمع لنكتة التعظيم حيث يستوجب، ثم قال: وعندي في ذلك نكتة ألطف وأدق، وهي أنّه إنّما أُتي بعبارة الجمع دون عبارة المفرد بُقياً منه تعالى على كثير من الناس، فإنّ شانئي علي
وقال بمثله أيضاً في كتاب قسمة الصدقات: ٢|٣٥٣، المسألة ٢٦.
وعلى ذلك فليس لهذه النظرية دليل سوى ما رواه مسلم عن زيد بن أرقم، وقد قدمنا نصّه عند ذكر الاَحاديث الواردة حول الآية.(٢)
وأمّا النظرية الرابعة: فقد ذهب إليها بعضهم، جمعاً بين الاَحاديث المتضافرة الحاكية عن نزول الآية في العترة الطاهرة، وسياق الآيات الدالة على رجوعها إلى نسائه، فحاول القائل الجمع بين الدليلين بتفسير الآية بأولاده وأزواجه، وجعل عليّاً أيضاً منهم بسبب معاشرته وملازمته للنبي ص.
قال الرازي: والاَولى أن يقال هم: أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعلي معهم، لاَنّه كان من أهل بيته بسبب معاشرته بيت النبي وملازمته.(٣)
وقال البيضاوي: والتخصيص بهم أولاده لا يناسب ما قبل الآية وما
٣. مفاتيح الغيب: ٦|٦١٥.
لعمرك إنّـي يوم أحمِلُ رايةً | لتَغْلِبَ خَيلَ اللات، خيلُ محمد |
لكالمُدلج الحيرانِ أظلم ليلُــهُ | فهذا أواني حين أُهدي وأهْتدى(١) |
ولو أُريد منه «بيت الوحي» فلازمه الاختصاص بمن بلغ من الورع والتقوى ذروتهما، حتى يصح عدّه من أهل ذلك البيت الرفيع المعنون، ومثله لا يعم كل من ينتمي بالوشائج النسبية أو الحسبية إلى هذا البيت، وإن كان في جانب الاِيمان والعمل في درجة نازلة تلحقه بالعاديين من المسلمين.ثانياً: قد عرفت أنّ الاِرادة الواردة في الآية تكوينية تعرب عن تعلّق إرادته الحكيمة على عصمة أهل ذلك البيت، ومعه كيف يمكن القول بأنّ المراد كل من ينتمي إلى ذلك البيت بوشائج النسب والحسب؟!
ثالثاً: انّ النظرية في جانب مخالف للاَحاديث المتضافرة الدالة على نزول الآية في حق العترة الطاهرة، وقد قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتفسيرها بوجوه مختلفة أوعزنا إليها عند البحث عن القول الاَوّل، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المبين الاَوّل لمفاد كتابه الذي أرسل معه قال سبحانه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) .(٢)
فليست وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القراءة والتلاوة بل التبيين والتوضيح من وظائفه التي تنص الآية عليها.
هذا هو موجز القول في تفسير الآية ولا بأس بإكمال البحث بنقل بعض ما أنتجته قريحة الشعراء الاِسلاميين حول أهل البيت وفضائلهم، على وجه يعرب عن أنّ المتبادر من ذلك اللفظ في القرون الاِسلامية لم يكن إلاّ العترة الطاهرة، أعني: فاطمة وأباها وبعلها وابنيها سلام اللّه عليهم أجمعين، وإليك نزراً يسيراً في هذا المجال.
ألـم ترني من حب آل محمـد | أروح وأغدو خـائـفاً أترقب |
فإن هي لم تصلح لحي سواهم | فإنّ ذوي القربى أحق وأوجب |
يـقولون لم يورث ولولا تراثه | لقد شركت فيها بكيل وأرحب(١) |
قال العبدي الكوفي (المتوفّـى ١٢٠ هـ):
ولما رأيت الناس قد ذهبت بهم | مذاهبهم في أبحر الغي والجهل |
ركبت على اسم اللّه في سفن النجا | وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل |
وأمسكت حبل اللّه وهو ولاوَهم | كما قد أمرنا بالتمسّك بالحبل(٢) |
قال الاِمام الشافعي:
يا أهل بيت رسول اللّه حبكم | فرض من اللّه في القرآن أنزله |
كفاكم من عظيم القدر أنّكم | من لم يصل عليكم لا صلاة له(١) |
وذكر ابن الصباغ المالكي في «الفصول» لقائل:
هم العروة الوثقى لمعتصم بها | مـنـاقبهم جـاءت بوحي وانزال |
مناقب في شورى وسورة هل أتى | وفي سورة الاَحزاب يعرفها التالي |
وهم آل بيت المصطفى فودادهم | على الناس مفروض بحكم وإسجال(٢) |
وذكر الشبلنجي في «نور الاَبصار» عن أبي الحسن بن جبير:
أحب النبيّ المصطفى وابنَ عمه | علياً وسبطيه وفاطمة الزهرا |
هم أهل بيت أذهب الرجس عنهم | وأطلعهم أفق الهدى أنجماً زهرا |
موالاتهم فرض على كل مسلم | وحبهم أسنى الذخائر للاَُخرى |