أهل البيت سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم / الصفحات: ٨١ – ١٠٠
وقد استعملت هذه اللفظة في الذكر الحكيم ثمانية مرات: ووصف به الخمر والميسر والاَنصاب والاَزلام والكافر غير الموَمن باللّه والميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير والاَوثان وقول الزور… إلى غير ذلك من الموارد التي وصفت به في الذكر الحكيم.
ونكتفي بنقل بعض الآيات قال سبحانه: (إِنَّمَا الخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاَنْصَابُ وَالاَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) .(٣)
وقال سبحانه: (إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) .(٤)
وقال سبحانه: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُوَْمِنُونَ)(٥) ، إلى غير ذلك من الآيات.
والمتفحص في كلمات أئمّة أهل اللغة، والآيات الواردة فيها تلك اللفظة،
٣. المائدة: ٩٠.
٤. الاَنعام: ١٤٥.
٥. الاَنعام: ١٢٥.
وقد ورد نظير قوله: (ويطهركم تطهيراً) في حق السيدة مريم «عليها السلام» ، قال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِين) .(١)
نعم: انّ لتطهير النفوس وطهارتها مراتب ودرجات، ولا تكون جميعها مستلزمة للعصمة، وانّما الملازم لها هو الدرجة العليا، قال سبحانه: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِِّرِينَ) .(٢)
قال العلاّمة الطباطبائي: الرجس ـ بالكسر والسكون ـ صفة من الرجاسة وهي القذارة، والقذارة هيئة في النفس توجب التجنّب والتنفّر منها، وهي تكون تارة بحسب ظاهر الشيء كرجاسة الخنزير، قال تعالى: (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) وبحسب باطنه، أُخرى، وهي الرجاسة والقذارة المعنوية كالشرك والكفر وأثر العمل السيّء، قال تعالى: (وأمّا الّذِينَ فِي ُقُلوِبِهمَ َمٌرضَ َفزَاْدُتْهمِ رجساً إلى رِجْسِهِمْ ومَاتُوا وَهُمْ كافِرون)(٣) ، وقال: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً
٣. التوبة: ١٢٥.
نعم لا يتوهم من ذلك انّ أهل البيت خارجون عن إطار التشريع، بل التشريع في كل المجالات يعمّهم كما يعم غيرهم، ولكن هنا إرادة تكوينية مختصة بهم.
٢. انّ العناية البارزة في الآية المباركة أقوى شاهد على أنّ المقصود بالاِرادة، الاِرادة التكوينية لا التشريعية، لوضوح أنّ تعلّق الاِرادة التشريعية بأهل البيت لا يحتاج إلى العناية في الآية، وإليك بيان تلك العناية:
ج. قد بيّـن متعلّق إرادته بالتأكيد، وقال بعد قوله: (ليذهب عنكم الرجس … ويطهركم) .
د. قد أكّده أيضاً بالاِتيان بمصدره بعد الفعل، وقال: (ويطهّركم تطهيراً) ليكون أوفى في التأكيد.
هـ. انّه سبحانه أتى بالمصدر نكرة، ليدل على الاِكبار والاِعجاب، أي تطهيراً عظيماً معجباً.
و. انّ الآية في مقام المدح والثناء، فلو كانت الاِرادة إرادة تشريعية لما ناسب الثناء والمدح.
وعلى الجملة: العناية البارزة في الآية تدل بوضوح على أنّ الاِرادة هناك غير الاِرادة العامة المتعلّقة لكل إنسان حاضر أو باد، ولاَجل ذلك فإنّ المحقّقين من المفسرين يفسرون الاِرادة في المقام بالاِرادة التكوينية ويجيبون عن كل سوَال يطرح عنها.
قال الشيخ الطبرسي: إنّ لفظة (إنّما) محقّقة لما أُثبت بعدها، نافية لما لم يثبت، فإنّ قول القائل: إنّما لك عندي درهم، وإنّما في الدار زيد، يقتضي انّه ليس عنده سوى الدرهم وليس في الدار سوى زيد، وعلى هذا فلا تخلو الاِرادة في الآية أن تكون هي الاِرادة المحضة التشريعية، أو الاِرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس؛ ولا يجوز الوجه الاَوّل، لاَنّ اللّه تعالى قد أراد من كل مكلّف هذه الاِرادة المطلقة، فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق، ولاَنّ هذا
وفي الجملة: ليست ماهية الاِرادة التشريعية أمراً يخالف ماهية الاِرادة التكوينية، بل الكل من واد واحد تختلفان في الاسم وتتحدان في الماهية، والجميع يتعلّق بفعل نفس المريد، غير انّ المراد فيهما مختلف حسب الاعتبار، وهو في التكوينية، عبارة عن الفعل الخارجي الصادر عنه مباشرة، كالتكوين والتصنيع، سواء كان المريد هو اللّه سبحانه أم أحد عباده القادرين على الاَفعال الخارجية باقداره، ولكنّه في التشريعية عبارة عن نفس الطلب والاِنشاء بالاِيماء والاِشارة واللفظ والكتابة، وهو أيضاً فعل المريد الواقع في اختياره، وأمّا قيام الغير بالمطلوب فهو من غايات إرادة المريد ومقاصده وأغراضه، وهي تترتب
وبعبارة أُخرى: هل تعلّقت إرادته سبحانه بصدور أفعال العباد عنهم باختيارهم وإرادتهم، أم تعلّقت بصدورها منهم مطلقاً وإن لم تكن مسبوقة باختيارهم وإرادتهم، فالجبر لازم القول الثاني، والاختيار نتيجة القول الاَوّل، والحق هو القول الاَوّل فنقول في توضيحه:
إنَّ لازم التوحيد في الفاعلية والخالقية ـ كما هو منصوص الآيات ومقتضى البراهين ـ هو انّ كل ما يقع في صفحة الوجود سواء كان فعلاً للعباد أم لغيرهم لا يخرج عن إطار الاِرادة التكوينية للّه سبحانه، ولا يقع شيء في الكون إلاّ بإرادته وإذنه سبحانه، قال تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِن لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ)(١) ، وهذه الآية وغيرها تدلّ بصراحة على أنّ أفعال العباد حلالها وحرامها غير خارجة عن إطار الاِرادة التكوينية للّه وإلاّ لزم أن يكون الاِنسان أو الفواعل الا َُخر مستقلة في الفعل والتأثير، وهو يستلزم الاستقلال في الذات، وهو عين الشرك ونفي التوحيد في الاَفعال والخالقية.
ومع ذلك فليس العباد مجبورين في أفعالهم وتصرفاتهم، لاَنّ إرادته سبحانه وإن تعلّقت بأفعالهم لكن إرادته سبحانه متعلّقة بأفعالهم بتوسط إرادتهم الخاصة وفي طول مشيئتهم، وبذلك صح أن يقال لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الاَمرين.
إلاّ أنّ في مسألة العصمة وكيفية تعلّق إرادته تعالى بعصمة المعصوم تحليلاً آخر يختص بهذا المقام ولا يتعدّاه.
وحاصل هذا التحليل يتوقف على معرفة كيفية العصمة وحقيقتها، فنقول:
إنّ حقيقة العصمة ترجع إلى الدرجة العليا من التقوى، بمعنى انّ التقوى إذا بلغت قمتها تعصم الاِنسان عن اقتراف الذنب وجميع القبائح.
وإن شئت قلت: العصمة نتيجة العلم القطعي الثابت والعرفان بعواقب المعصية علماً يصد الاِنسان عن اجتراح المعاصي واقتراف المآثم، كالاِنسان الواقف أمام الاَسلاك التي يجري فيها التيار الكهربائي، فانّه لا يقدم بنفسه على إمساكها.
إنّ هذه الحقائق الموهوبة للمعصوم أشبه بحبل يلقى إلى الغارق في البحر والساقط في البئر حتى يتمسك به وينجي نفسه، فلا شك انّ العاقل يتمسّك به دائماً وينجي نفسه، ولكن هذا العمل لا يخالف قدرته على ترك التمسك به وإلقاء نفسه في مهاوي الهلكة.
فهذه الحقائق النفسانية الموهوبة ليست إلاّ أسباباً لترك العصيان ومقتضيات للطاعات، ومعدّات لقرب العبد من ربّه، ومع ذلك تتوسط بينها وبين فعل العبد من طاعة أو عصيان، إرادته واختياره، فليست هذه المواهب عللاً تامة لتوجه العبد إلى جانب واحد وانحيازه عن جانب آخر، بل هي أسباب مقربة ومعدات للاِرادة، ومع ذلك كله فاختيار المعصوم وإرادته باقيان على حالهما.
فمعنى تعلّق إرادته سبحانه بعصمتهم ليس تعلّقها بالطاعة وترك العصيان، بل معناه تعلّق إرادته التكوينية بإفاضة هذه المواهب عليهم وجعلها في مكامن
وهذا قوله سبحانه بعد الآية: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات اللّه والحكمة…) كلّها أحكام عامة لنساء المسلمين، فاللّه سبحانه بهذه التكاليف يريد أن يطهر الكل وإذهاب الرجس عن عموم النساء، لا عن زوجات النبي خاصة، وعندئذ لا وجه لتخصيصهنّ بالخطاب بالعناية التي عرفت.
وإنّما ذهب بعض الجمهور إلى ما ذهب، لاَجل انّهم تصوّروا نزول الآية في حق نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فاحتالوا لتفسير الاِرادة بما ذكره سيد قطب ونظراوَه، وانّما ذهبوا إلى ذلك بزعمهم اتصال الآية بما قبلها من الآيات، مع أنّه سيوافيك انّ الآية آية التطهير آية مستقلة لا صلة لها بما قبلها ولا ما بعدها، وانّما وضعت في هذا الموضع لمصلحة خاصة سنشير إليها، والاَحاديث بكثرتها البالغة ناصة على نزول الآية وحدها، ولم يرد نزولها في ضمن آيات نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا ذكره أحد حتى أنّ القائل باختصاص الآية بأزواج النبي ينسب القول إلى عكرمة وعروة لا إلى الرواية.
فالآية لم تكن بحسب النزول من آيات النساء، ولا متصلة بها، وستوافيك