الرئيسية / الاسلام والحياة / أهل البيت سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم / الصفحات: ٨١ – ١٠٠

أهل البيت سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم / الصفحات: ٨١ – ١٠٠

{sitename}

أهل البيت سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم / الصفحات: ٨١ – ١٠٠

الرجس: القذر لاَنّه لطخ وخلط.(١)وقال ابن منظور: الرجس: القذر، وكل قذر رجس، وفي الحديث: أعوذ بك من الرجس النجس. وقد يعبر به عن الحرام والفعل القبيح والعذاب واللعن والكفر. قال الزجّاج: الرجس في اللغة كل ما استقذر من عمل… فبالغ اللّه في ذم أشياء وسمّـاها رجساً، وقال ابن الكلبي: رجس من عمل الشيطان أي مأثم.(٢)

وقد استعملت هذه اللفظة في الذكر الحكيم ثمانية مرات: ووصف به الخمر والميسر والاَنصاب والاَزلام والكافر غير الموَمن باللّه والميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير والاَوثان وقول الزور… إلى غير ذلك من الموارد التي وصفت به في الذكر الحكيم.

ونكتفي بنقل بعض الآيات قال سبحانه: (إِنَّمَا الخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاَنْصَابُ وَالاَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) .(٣)

وقال سبحانه: (إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) .(٤)

وقال سبحانه: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُوَْمِنُونَ)(٥) ، إلى غير ذلك من الآيات.

والمتفحص في كلمات أئمّة أهل اللغة، والآيات الواردة فيها تلك اللفظة،

 

١. معجم مقاييس اللغة: ٢|٤٩٠.٢. لسان العرب: ٦|٩٤ ـ ٩٥، مادة «رجس».

٣. المائدة: ٩٠.

٤. الاَنعام: ١٤٥.

٥. الاَنعام: ١٢٥.

 

٨١
الصفحات: ٨٢ – ٨٣ فارغة
يصل إلى أنّها موضوعة بمعنى القذارة التي تستنفر منها النفوس، سواءً أكانت مادية، كما وردت في الآيات، أم معنوية كما هو الحال في الكافر وعابد الوثن ووثنه.فلو وصف به العمل القبيح عرفاً أو شرعاً، فلاَجل انّ العمل القبيح يوصف بالقذارة التي تستنفرها الطباع السليمة، وعلى هذا فالمراد من الرجس في الآية هي الاَعمال القبيحة عرفاً أو شرعاً، ويدل عليه قوله سبحانه بعد تلك اللفظة: (ويطَّهركُم تَطْهيراً) ، فليس المراد من هذا التطهير إلاّ تطهيرهم من الرجس المعنوي الذي لا تقبله النفوس السليمة.

وقد ورد نظير قوله: (ويطهركم تطهيراً) في حق السيدة مريم «عليها السلام» ، قال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِين) .(١)

نعم: انّ لتطهير النفوس وطهارتها مراتب ودرجات، ولا تكون جميعها مستلزمة للعصمة، وانّما الملازم لها هو الدرجة العليا، قال سبحانه: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِِّرِينَ) .(٢)

قال العلاّمة الطباطبائي: الرجس ـ بالكسر والسكون ـ صفة من الرجاسة وهي القذارة، والقذارة هيئة في النفس توجب التجنّب والتنفّر منها، وهي تكون تارة بحسب ظاهر الشيء كرجاسة الخنزير، قال تعالى: (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) وبحسب باطنه، أُخرى، وهي الرجاسة والقذارة المعنوية كالشرك والكفر وأثر العمل السيّء، قال تعالى: (وأمّا الّذِينَ فِي ُقُلوِبِهمَ َمٌرضَ َفزَاْدُتْهمِ رجساً إلى رِجْسِهِمْ ومَاتُوا وَهُمْ كافِرون)(٣) ، وقال: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً

 

١. آل عمران: ٤٢.٢. التوبة: ١٠٨.

٣. التوبة: ١٢٥.

 

٨٤
١. انّ الظاهر من الآية هو تعلّق إرادة خاصة بإذهاب الرجس عن أهل البيت، والخصوصية إنّما تتحقّق لو كانت الاِرادة تكوينية، إذ لو كانت تشريعية لما اختصت بطائفة دون طائفة، لاَنّ الهدف الاَسمى من بعث الاَنبياء هو إبلاغ تشريعاته ودساتيره إلى الناس عامة لا لا َُناس معيّنين، ولاَجل ذلك ترى أنّه سبحانه عندما شرّع للمسلمين الوضوء والغسل بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا…) علّله بقوله: (وَلَكِنْ يُريدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١) خاطب سبحانه الموَمنين عامة بالوضوء والغسل وعلّل تشريعه العام بتطهيرهم وإتمام نعمته عليهم وهذا بخلاف الآية التي نحن بصددها، فإنّـها خصّصت إرادة تطهيره بجمع خاص تجمعهم كلمة «أهل البيت» وخصّهم بالخطاب وقال: «عنكم أهل البيت» أي لا غيركم.وبالجملة فتخصيص تعلّق الاِرادة بجمع خاص على الوجه الوارد في الآية، يمنع من تفسير الاِرادة بالاِرادة التشريعية التي عمّت الا َُمّة جميعاً.

نعم لا يتوهم من ذلك انّ أهل البيت خارجون عن إطار التشريع، بل التشريع في كل المجالات يعمّهم كما يعم غيرهم، ولكن هنا إرادة تكوينية مختصة بهم.

٢. انّ العناية البارزة في الآية المباركة أقوى شاهد على أنّ المقصود بالاِرادة، الاِرادة التكوينية لا التشريعية، لوضوح أنّ تعلّق الاِرادة التشريعية بأهل البيت لا يحتاج إلى العناية في الآية، وإليك بيان تلك العناية:

 

 

١. المائدة: ٦. 

٨٥
أ. ابتدأ سبحانه كلامه بلفظ الحصر، ولا معنى له إذا كانت الاِرادة تشريعية، لاَنّها غير محصورة بأُناس مخصوصين.ب. عيّـن تعالى متعلّق إرادته بصورة الاختصاص، فقال: (أهل البيت) أي أخصّكم أهل البيت.

ج. قد بيّـن متعلّق إرادته بالتأكيد، وقال بعد قوله: (ليذهب عنكم الرجس … ويطهركم) .

د. قد أكّده أيضاً بالاِتيان بمصدره بعد الفعل، وقال: (ويطهّركم تطهيراً) ليكون أوفى في التأكيد.

هـ. انّه سبحانه أتى بالمصدر نكرة، ليدل على الاِكبار والاِعجاب، أي تطهيراً عظيماً معجباً.

و. انّ الآية في مقام المدح والثناء، فلو كانت الاِرادة إرادة تشريعية لما ناسب الثناء والمدح.

وعلى الجملة: العناية البارزة في الآية تدل بوضوح على أنّ الاِرادة هناك غير الاِرادة العامة المتعلّقة لكل إنسان حاضر أو باد، ولاَجل ذلك فإنّ المحقّقين من المفسرين يفسرون الاِرادة في المقام بالاِرادة التكوينية ويجيبون عن كل سوَال يطرح عنها.

قال الشيخ الطبرسي: إنّ لفظة (إنّما) محقّقة لما أُثبت بعدها، نافية لما لم يثبت، فإنّ قول القائل: إنّما لك عندي درهم، وإنّما في الدار زيد، يقتضي انّه ليس عنده سوى الدرهم وليس في الدار سوى زيد، وعلى هذا فلا تخلو الاِرادة في الآية أن تكون هي الاِرادة المحضة التشريعية، أو الاِرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس؛ ولا يجوز الوجه الاَوّل، لاَنّ اللّه تعالى قد أراد من كل مكلّف هذه الاِرادة المطلقة، فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق، ولاَنّ هذا

٨٦
الصفحة: ٨٧ فارغة
القول يقتضي المدح والتعظيم لهم بغير شك وشبهة ولا مدح في الاِرادة المجرّدة، فثبت الوجه الثاني، وفي ثبوته ثبوت عصمة المعنيين بالآية من جميع القبائح.(١)وقال السيد ابن معصوم المدني في تقريب دلالة الآية على عصمة المعنيّين بالآية: إنّ لفظة (إنّما) محقّقة لما أُثبت بعدها، نافية لما لم يثبت، فإنّ قول القائل إنّما لك عندي درهم، وإنّما في الدار زيد، يقتضي انّه ليس له عنده سوى درهم وليس في الدار سوى زيد، إذا تقرر هذا فلا تخلو الاِرادة في الآية أن تكون هي الاِرادة المطلقة أو الاِرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس، فلا يجوز الوجه الاَوّل، لاَنّ اللّه تعالى قد أراد من كل مكلّف هذه الاِرادة المطلقة، فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق. وهذا القول يقتضي المدح والتعظيم لهم بغير شك ولا شبهة ولا مدح في الاِرادة المجرّدة، فثبت الوجه الثاني، وفي ثبوته ثبوت عصمة المعنيّين بالآية من جميع القبائح، لاَنّ اللام في الرجس للجنس، ونفي الماهية نفي لكل جزئياتها، وقد علمنا أنّ من عدا ما ذكرناه من أهل البيت حين نزول الآية غير مقطوع على عصمته، فثبت أنّ الآية مختصة بهم، لبطلان تعلّقها بغيرهم. وما اعتمدوا عليه من أنّ صدر الآية وما بعدها في الاَزواج، فجوابه انّ من عرف عادة العرب العرباء في كلامهم واسلوب البلغاء والفصحاء في خطابهم لا يذهب عليه انّ هذا من باب الاستطراد، وهو خروج المتكلم من غرضه الاَوّل إلى غرض آخر ثم عوده إلى غرضه الاَوّل، واتفقت كلمة أهل البيان على أنّ ذلك من محاسن البديع في الكلام نثراً ونظماً والقرآن المجيد وخطب البلغاء وأشعارهم مملوءة من ذلك.(٢)

 

 

١. مجمع البيان: ٤|٣٥٧ تفسير سورة الاَحزاب؛ وقريب منه ما أفاده الشيخ الطوسي في تبيانه: ٨|٣٤٠.٢. رياض السالكين: ٤٩٧، الروضة السابعة والاَربعون، وقد نقلنا عن الطبرسي ما يقرب منه.

٨٨
الصفحة: ٨٩ فارغة
تعريف التشريعية منها بتعلّقها بفعل الغير غير صحيح قطعاً، وذلك لاَنّ الاِرادة لا تتعلّق إلاّ بأمر اختياري وهو فعل المريد، وأمّا فعل الشخص الآخر، فهو بما انّه خارج عن اختيار المريد، لا تتعلّق به إرادته، وكيف يصح لشخص أن يريد صدور فعل من الغير مع أنّ صدوره منه تابع لاِرادة ذلك الغير وليس تابعاً لاِرادة المريد الآخر ؟وإن شئت قلت: إنّ زمام فعل الفاعل المختار بيد الفاعل المباشر، فلو أراده لقام به. ولو لم يرده لما قام به وليس زمامه بيد الآمر، حتى يريده منه جداً ولا تصيّره إرادة الآمر مسلوب الاختيار ولا تجعله مضطراً مقهوراً مسخراً في مقابل إرادة الآمر، لاَنّ المفروض انّ الفاعل بعد، فاعل مختار، ومن هذا شأنه لا تتعلّق بفعله، إرادة الغير الجدية، لاَنّ معنى تعلّقها بفعل الغير أنّه في اختيار المريد ومتناوله، ويوجد بإرادته وينتفي بانتفائه، مع أنّه ليس كذلك وإنّما يوجد بإرادة الفاعل المباشر وينتفي بانتفاء إرادته، ولا ملازمة بين إرادة الآمر وإرادة المأمور ولاَجل ذلك كثيراً ما يعصى ويخالف.

وفي الجملة: ليست ماهية الاِرادة التشريعية أمراً يخالف ماهية الاِرادة التكوينية، بل الكل من واد واحد تختلفان في الاسم وتتحدان في الماهية، والجميع يتعلّق بفعل نفس المريد، غير انّ المراد فيهما مختلف حسب الاعتبار، وهو في التكوينية، عبارة عن الفعل الخارجي الصادر عنه مباشرة، كالتكوين والتصنيع، سواء كان المريد هو اللّه سبحانه أم أحد عباده القادرين على الاَفعال الخارجية باقداره، ولكنّه في التشريعية عبارة عن نفس الطلب والاِنشاء بالاِيماء والاِشارة واللفظ والكتابة، وهو أيضاً فعل المريد الواقع في اختياره، وأمّا قيام الغير بالمطلوب فهو من غايات إرادة المريد ومقاصده وأغراضه، وهي تترتب

٩٠
الصفحة: ٩١ فارغة
يحتاج إلى إيضاح، فنقول:إنّ مشكلة الجبر تنحل بالتعرّف على كيفية تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد، والاِمعان في هذا الموضوع يكفي لحل بعض المشاكل المطروحة في مسألة الجبر والاختيار.

وبعبارة أُخرى: هل تعلّقت إرادته سبحانه بصدور أفعال العباد عنهم باختيارهم وإرادتهم، أم تعلّقت بصدورها منهم مطلقاً وإن لم تكن مسبوقة باختيارهم وإرادتهم، فالجبر لازم القول الثاني، والاختيار نتيجة القول الاَوّل، والحق هو القول الاَوّل فنقول في توضيحه:

إنَّ لازم التوحيد في الفاعلية والخالقية ـ كما هو منصوص الآيات ومقتضى البراهين ـ هو انّ كل ما يقع في صفحة الوجود سواء كان فعلاً للعباد أم لغيرهم لا يخرج عن إطار الاِرادة التكوينية للّه سبحانه، ولا يقع شيء في الكون إلاّ بإرادته وإذنه سبحانه، قال تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِن لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ)(١) ، وهذه الآية وغيرها تدلّ بصراحة على أنّ أفعال العباد حلالها وحرامها غير خارجة عن إطار الاِرادة التكوينية للّه وإلاّ لزم أن يكون الاِنسان أو الفواعل الا َُخر مستقلة في الفعل والتأثير، وهو يستلزم الاستقلال في الذات، وهو عين الشرك ونفي التوحيد في الاَفعال والخالقية.

ومع ذلك فليس العباد مجبورين في أفعالهم وتصرفاتهم، لاَنّ إرادته سبحانه وإن تعلّقت بأفعالهم لكن إرادته سبحانه متعلّقة بأفعالهم بتوسط إرادتهم الخاصة وفي طول مشيئتهم، وبذلك صح أن يقال لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الاَمرين.

 

 

١. الحشر: ٥. 

٩٢
جميع الموارد ورافع للاِشكال في مجال الجبر، وانّ من أعضل الموارد في الجبر والاختيار، هي تحليل كيفية تعلّق إرادته بأفعال العباد وانّه: هل يوجب الجبر ويسلب الاختيار، باعتبار انّ إرادته لا تنفك عن المراد، أم لا ؟ لاَنّ إرادته تعلّقت بصدور أفعالهم عن أنفسهم عن مبادئها المكونة فيهم وهي إرادتهم واختيارهم، فلو صدرت عنهم بلا هذه الخصوصية لزم انفكاك إرادته عن مراده.ولمّا استشكل هذا المطلب على بعضهم انصرفوا إلى إخراج أفعال العباد عن إطار إرادته سبحانه، وانّما تتعلّق بالكائنات دون أفعالهم، وهو كما ترى، لاَنّه يستلزم تحقّق شيء في صحيفة الوجود بغير إذنه وإرادته، مع أنّ مقتضى التوحيد في الخالقية انتهاء كل ما في عالم الاِمكان إلى وجوده وخالقيته، وبالتالي إلى إرادته، فإخراج أفعال العباد عن مجال إرادة اللّه، يخالف الا َُسس التوحيدية التي جاء بها القرآن ودعمها العقل.

إلاّ أنّ في مسألة العصمة وكيفية تعلّق إرادته تعالى بعصمة المعصوم تحليلاً آخر يختص بهذا المقام ولا يتعدّاه.

وحاصل هذا التحليل يتوقف على معرفة كيفية العصمة وحقيقتها، فنقول:

إنّ حقيقة العصمة ترجع إلى الدرجة العليا من التقوى، بمعنى انّ التقوى إذا بلغت قمتها تعصم الاِنسان عن اقتراف الذنب وجميع القبائح.

وإن شئت قلت: العصمة نتيجة العلم القطعي الثابت والعرفان بعواقب المعصية علماً يصد الاِنسان عن اجتراح المعاصي واقتراف المآثم، كالاِنسان الواقف أمام الاَسلاك التي يجري فيها التيار الكهربائي، فانّه لا يقدم بنفسه على إمساكها.

 

٩٣
الصفحة: ٩٤ فارغة
وبعبارة ثالثة: العصمة: الاستشعار بعظمة الرب وكماله وجلاله استشعاراً منقطع النظير حيث يحدث في المستشعر التفاني في الحق، والعشق لجماله، وكماله، بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً.فإذا كانت حقيقة العصمة نفس هذه الحقائق أو قريباً منها، فليس اتصاف الاِنسان بهذه الحقائق موجباً للجبر وسالباً للاختيار، بل المعصوم مع هذه المواهب الاِلهية قادر على اقتراف المعاصي وارتكاب الخطايا غير انّه لاَجل حصوله على الدرجة العليا من التقوى، والعلم القطعي بآثار المعاصي والاستشعار المنقطع النظير بعظمة الخالق، يختار الطاعة وترك المعصية مع القدرة على خلاف ذلك، فحاله كالوالد العطوف لا يقدم على قتل ولده ولو أُعطيت له الكنوز الكثيرة.

إنّ هذه الحقائق الموهوبة للمعصوم أشبه بحبل يلقى إلى الغارق في البحر والساقط في البئر حتى يتمسك به وينجي نفسه، فلا شك انّ العاقل يتمسّك به دائماً وينجي نفسه، ولكن هذا العمل لا يخالف قدرته على ترك التمسك به وإلقاء نفسه في مهاوي الهلكة.

فهذه الحقائق النفسانية الموهوبة ليست إلاّ أسباباً لترك العصيان ومقتضيات للطاعات، ومعدّات لقرب العبد من ربّه، ومع ذلك تتوسط بينها وبين فعل العبد من طاعة أو عصيان، إرادته واختياره، فليست هذه المواهب عللاً تامة لتوجه العبد إلى جانب واحد وانحيازه عن جانب آخر، بل هي أسباب مقربة ومعدات للاِرادة، ومع ذلك كله فاختيار المعصوم وإرادته باقيان على حالهما.

فمعنى تعلّق إرادته سبحانه بعصمتهم ليس تعلّقها بالطاعة وترك العصيان، بل معناه تعلّق إرادته التكوينية بإفاضة هذه المواهب عليهم وجعلها في مكامن

٩٥
الصفحات: ٩٦ – ٩٧ فارغة
وحاصل ما ذكره مبني على نزول القرآن في مورد نساء النبي، وانّه سبحانه علّل خطاباته لهنّ بأنّه يريد من هذه التكاليف إذهاب الرجس عنهنّ، ويكون المعنى انّ التشديد في التكاليف وتضعيف الثواب والعقاب ليس لانتفاع اللّه سبحانه به، بل لاِذهاب الرجس عنكنّ وتطهيركنّ.ولا يخفى انّ ما ورد في الآيات من الاَحكام ليست أحكاماً خاصة بنساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذا قوله سبحانه قبل آية التطهير: (وَقَرْنَ فِي بُيْوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الاَُوْلَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ) .(١)

وهذا قوله سبحانه بعد الآية: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات اللّه والحكمة…) كلّها أحكام عامة لنساء المسلمين، فاللّه سبحانه بهذه التكاليف يريد أن يطهر الكل وإذهاب الرجس عن عموم النساء، لا عن زوجات النبي خاصة، وعندئذ لا وجه لتخصيصهنّ بالخطاب بالعناية التي عرفت.

وإنّما ذهب بعض الجمهور إلى ما ذهب، لاَجل انّهم تصوّروا نزول الآية في حق نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فاحتالوا لتفسير الاِرادة بما ذكره سيد قطب ونظراوَه، وانّما ذهبوا إلى ذلك بزعمهم اتصال الآية بما قبلها من الآيات، مع أنّه سيوافيك انّ الآية آية التطهير آية مستقلة لا صلة لها بما قبلها ولا ما بعدها، وانّما وضعت في هذا الموضع لمصلحة خاصة سنشير إليها، والاَحاديث بكثرتها البالغة ناصة على نزول الآية وحدها، ولم يرد نزولها في ضمن آيات نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا ذكره أحد حتى أنّ القائل باختصاص الآية بأزواج النبي ينسب القول إلى عكرمة وعروة لا إلى الرواية.

فالآية لم تكن بحسب النزول من آيات النساء، ولا متصلة بها، وستوافيك

 

١. الاَحزاب: ٣٣. 

٩٨
الصفحة: ٩٩ فارغة
أهل البيت (عليهم السلام) للأستاذ جعفر السبحاني ص ٩٩ – ص ١١٢

شاهد أيضاً

مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم 20

حتى ينقطع، ويصير كالشن البالي، ثم أتاني جاحدا لولايتهم فما أسكنته جنتي، ولا أظللته تحت ...