نهج الحق وكشف الصدق / الصفحات: ٦١ – ٨٠
وهل هذا إلا جهل عظيم؟. لأن الضرورة قاضية بسبق التصور على التصديق.
وإذ قد تمهدت هذه المقدمة فنقول: لا شك في أنه تعالى متكلم، على معنى أنه أوجد حروفا وأصواتا مسموعة، قائمة بالأجسام الجمادية، كما كلم الله تعالى موسى من الشجرة، فأوجد فيها الحروف والأصوات..
والأشعرية خالفوا عقولهم، وعقول كافة البشر، وأثبتوا له تعالى كلاما لا يفهمونه هم ولا غيرهم.
وإثبات مثل هذا الشئ والمكابرة عليه، مع أنه غير متصور البتة، فضلا عن أن يكون مدلولا عليه، معلوم البطلان. ومع ذلك فإنه صادر منا أو فينا عندهم، ولا نعقله نحن، ولا من ادعى ثبوته.
كلامه تعالى متعدد
المطلب الثاني: في أن كلامه تعالى متعدد: المعقول من الكلام على ما تقدم: أنه الحروف والأصوات المسموعة، وهذه الحروف المسموعة إنما تلتئم كلاما مفهوما، إذا كان الانتظام أحد الوجوه التي يحصل بها الأفهام. وذلك بأن يكون خبرا، أو أمرا، أو نهيا، أو استفهاما، أو تنبيها. وهو الشامل للتمني، والترجي، والتعجب، والقسم، والنداء، ولا وجود له إلا في هذه الجزئيات.
والذين أثبتوا قدم الكلام اختلفوا، فذهب بعضهم: إلى أن كلامه
حدوث الكلام
المطلب الثالث: في حدوثه: العقل والسمع متطابقان على أن كلامه تعالى محدث ليس بأزلي، لأنه مركب من الحروف والأصوات، ويمتنع اجتماع حرفين في السماع دفعة واحدة، فلا بد أن يكون أحدهما سابقا على الآخر، والمسبوق حادث بالضرورة، والسابق على الحادث بزمان متناه حادث بالضرورة، وقد قال الله تعالى: ” ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ” (٢).
وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك، فجعلوا كلامه تعالى قديما لم يزل معه، وأنه تعالى في الأزل يخاطب العقلاء المعدومين.
وإثبات ذلك في غاية السفه والنقص في حقه تعالى، فإن الواحد منا لو جلس في بيت وحده منفردا، وقال: يا سالم قم، ويا غانم اضرب، ويا سعيد كل، ولا أحد عنده من هؤلاء، عده كل عاقل سفيها، جاهلا، عادما للتحصيل. فكيف يجوز منهم نسبة هذا العقل الدال على السفه، والجهل، والحماقة إليه تعالى؟.
استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة
المطلب الرابع: في استلزام الأمر، والنهي: الإرادة، والكراهة:
كل عاقل يريد من غيره شيئا على سبيل الجزم فإنه يأمر به، فإذا كره الفعل، فإنه ينهى عنه، وإن الأمر والنهي دليلان على الإرادة والكراهة..
وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك، وقالوا: إن الله تعالى يأمر دائما بما لا يريده، بل بما يكرهه، وإنما ينهى عن ما لا يكرهه، بل عما يريده (١).
وكل عاقل ينسب من يفعل هذا إلى السفه والجهل، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
كلامه تعالى صدق
المطلب الخامس: في أن كلامه تعالى صدق: اعلم أن الحكم يكون كلام الله تعالى صادقا، لا يجوز عليه الكذب، إنما يتم على قواعد العدلية، الذين أحالوا صدور القبيح عنه تعالى، من حيث الحكمة، ولا يتمشى على مذهب الأشعرية، لوجهين:
الأول: أنهم أسندوا جميع القبائح إليه تعالى، وقالوا: لا مؤثر في الوجود من القبائح بأسرها وغيرها إلا الله تعالى (٢). ومن يفعل أنواع الشرك، والظلم، والجور، والعدوان، وأنواع المعاصي، والقبائح المنسوبة إلى البشر، كيف يمتنع أن يكذب في كلامه؟. وكيف يقدر الباحث على إثبات كونه صادقا؟.
الثاني: أن الكلام النفساني عندهم مغاير للحروف والأصوات، ولا
صفاته عين ذاته
المطلب السادس: في أنه تعالى لا يشاركه شئ في القدم.. العقل والسمع متطابقان على أنه تعالى مخصوص بالقدم، وأنه ليس في الأزل سواه، لأن كل ما عداه سبحانه وتعالى ممكن، وكل ممكن حادث، وقال تعالى:
” هو الأول والآخر ” (١).
وأثبتت الأشاعرة معه معاني قديمة ثمانية (٢)، هي علل الصفات، كالقدرة، والعلم، والحياة، إلى غير ذلك ولزمهم من ذلك محالات:
منها: إثبات قديم غير الله تعالى، قال فخر الدين الرازي: ” النصارى كفروا بأنهم أثبتوا ثلاثة قدماء، وأصحابنا أثبتوا تسعة ” (٣)!.
ومنها: أنه يلزمهم افتقار الله تعالى في كونه عالما إلى إثبات معنى هو العلم، ولولاه لم يكن عالما، وافتقاره في كونه تعالى قادرا إلى القدرة، ولولاها لم يكن قادرا، وكذا باقي الصفات، والله تعالى منزه عن الحاجة، والافتقار، لأن كل مفتقر إلى الغير فهو ممكن.
ومنها: أنه يلزم إثبات ما لا نهاية له من المعاني القائمة بذاته تعالى، وهو محال، بيان الملازمة: إن العلم بالشئ مغاير للعلم بما عداه، فإن من شرط العلم المطابقة، ومحال أن يطابق الشئ الواحد أمورا متغايرة متخالفة في الذات والحقيقة، لكن المعلومات غير متناهية، فيكون له علوم غير متناهية، لا مرة واحدة بل مرارا غير متناهية، باعتبار كل علم يفرض في كل مرتبة من المراتب الغير المتناهية، لأن العلم بالشئ مغاير للعلم بالعلم بذلك الشئ. ثم العلم بالعلم بالشئ مغاير
(٣) التفسير الكبير ج ١ ص ١٣٢ وراجع أيضا: شرح العقائد، وحاشية الكستلي ص ٦٦ و ٧٧.
ومنها: أنهم ارتكبوا هاهنا ما هو معلوم البطلان، وهو أنهم قالوا:
إن هذه المعاني لا هي نفس الذات، ولا مغايرة لها (٢)، وهذا غير معقول لأن الشئ إذا نسب إلى آخر فإما أن يكون هو هو، أو غيره. ولا يعقل سلبهما معا.
البقاء ليس زائدا على الذات
البحث السابع: في البقاء. وفيه مطلبان:
الأول: أنه ليس زائدا على الذات.
وذهب الأشاعرة إلى أن الباقي إنما يبقى ببقاء زائد على ذاته، وهو
الأول: أن البقاء، إن عني به الاستمرار لزم اتصاف العدم بالصفة الثبوتية، وهو محال بالضرورة، بيان الملازمة: أن الاستمرار كما يتحقق في جانب الوجود، كذا يتحقق في جانب العدم، لإمكان تقسيم المستمر إليهما، ومورد التقسيم مشترك، ولأن معنى الاستمرار: كون الأمر في أحد الزمانين كما كان في الزمان الآخر. وإن عني به صفة زائدة على الاستمرار، فإن احتاج كل منهما إلى صاحبه دار، وإن لم يحتج أحدهما إلى الآخر أمكن تحقق كل منهما بدون صاحبه، فيوجد بقاء من غير استمرار وبالعكس، وهو باطل بالضرورة. وإن احتاج أحدهما إلى صاحبه انفك الآخر عنه، وهو ضروري البطلان.
الثاني: أن وجود الجوهر في الزمان الثاني، لو احتاج إلى البقاء لزم الدور، لأن البقاء عرض يحتاج في وجوده إلى الجوهر، فإن احتاج إلى وجود هذا الجوهر الذي فرض باقيا، كان كل من البقاء ووجود الجوهر محتاجا إلى صاحبه، وهو عين الدور المحال. وإن احتاج إلى وجود جوهر غيره لزم قيام الصفة بغير الموصوف، وهو غير معقول.
أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر، فجاز أن يقوم بذاته لا في محل، ويقتضي وجود الجوهر في الزمان الثاني، وهو خطأ، لأنه يقتضي قيام البقاء بذاته، فيكون جوهرا مجردا، والبقاء لا يعقل إلا عرضا قائما بغيره.
وأيضا يلزم أن يكون هو بالذاتية أولى من الذات، وتكون الذات بالوصفية أولى منه، لأنه مجرد مستغن عن الذات، والذات محتاجة إليه، والمحتاج أولى بالوصفية من المستغني، والمستغني أولى بالذاتية من المحتاج.
إنه تعالى باق لذاته
المطلب الثاني: في أن الله تعالى باق لذاته.
الحق ذلك، لأنه لو احتاج في بقائه إلى غيره كان ممكنا ولا يكون واجبا، للتنافي بالضرورة بين الواجب والممكن. وخالفت الأشاعرة في ذلك، وذهبوا إلى أنه تعالى باق بالبقاء (١).
وهو خطأ لما تقدم، ولأن البقاء: إن قام بذاته تعالى لزم تكثره، واحتياج البقاء إلى ذاته تعالى، مع أن ذاته محتاجة إلى البقاء، فيدور.. وإن قام بغيره، كان وصف الشئ حالا في غيره، وإن غيره محدث، وإن قام البقاء بذاته، كان مجردا.
وأيضا بقاؤه تعالى باق، لامتناع تطرق العدم إلى ذاته (صفاته) تعالى.
ولأنه يلزم أن يكون محلا للحوادث، فيكون له بقاء آخر، ويتسلسل.
وأيضا: صفاته تعالى باقية، فلو بقيت بالبقاء لزم قيام المعنى بالمعنى.
يصح البقاء على الأجسام
خاتمة: تشتمل على حكمين:
الأول: البقاء يصح على الأجسام بأسرها، وهذا حكم ضروري لا يقبل التشكيك.
وخالف فيه النظام من الجمهور، فذهب إلى امتناع بقاء الأجسام بأسرها، بل كل آن يوجد فيه جسم ما، يعدم ذلك الجسم في الآن الذي بعده، ولا يمكن أن يبقى جسم من الأجسام، فلكيها، وعنصريها، بسيطها، ومركبها، ناطقها وغيرها. آنين (١).
ولا شك في بطلان هذا القول، لقضاء الضرورة بأن الجسم الذي شاهدته حال فتح العين، هو الذي شاهدته قبل تغميضها، والمنكر لذلك سوفسطائي، بل السوفسطائي لا يشك في أن بدنه الذي كان به بالأمس هو بدنه الذي كان الآن، وأنه لا يتبدل بدنه من أول لحظة إلى آخرها، وهؤلاء جزموا بالتبدل.
البقاء يصح على الأعراض
الثاني: في صحة بقاء الأعراض.
ذهبت الأشاعرة: إلى أن الأعراض غير باقية، بل كل لون، وطعم، ورايحة، وحرارة، وبرودة، ورطوبة، ويبوسة، وحركة، وسكون، وحصول في مكان، وحياة، وعلم، وقدرة، وتركب، وغير ذلك من الأعراض، فإنه لا يجوز أن يوجد آنين متصلين، بل يجب عدمه في الآن الثاني من آن وجوده (٢).
وهل إنكار السوفسطائيين للقضايا الحسية، عند بعض الاعتبارات أبلغ من إنكار كل أحد بقاء ذاته، وبقاء جميع المشاهدات آنين من الزمان؟.
فلينظر المقلد المنصف في هذه المقالة، التي ذهب إليها الذي قلده، ويعرض على عقله حكمه بها، وهل يقصر حكمه ببقائه، وبقاء المشاهدات عن أجلى الضروريات؟ ويعلم أن إمامه الذي قلده: إن قصر ذهنه عن إدراك فساد هذه المقالة، فقد قلد من لا يستحق التقليد، وأنه قد التجأ إلى ركن غير شديد.. (١) وإن لم يقصر ذهنه، فقد غشه، وأخفى عنه مذهبه، وقد قال صلى الله عليه وآله: ” من غشنا فليس منا ” (٢).
الثاني: أنه يلزم تكذيب الحس الدال على الوحدة، وعدم التغير، كما تقدم.
الثالث: أنه لو لم يبق العرض إلا آنا واحدا لم يدم نوعه (لم يلزم تأبيد نوعه)، فكان السواد إذا عدم، لم يجب أن يخلفه سواد آخر، بل
وهذا الدليل لا يتمشى، لانتقاضه بالأعراض عندهم، فيكون باطلا، فلا يمكن الحكم ببقاء شئ من الأجسام آنين، لكن الشك في ذلك هو عين السفسطة.
الخامس: أن الحكم بامتناع انقلاب الشئ من الامكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي ضروري، وإلا لم يبق وثوق بشئ من القضايا البديهية، وجاز أن ينقلب العالم من إمكان الوجود إلى وجوب الوجود، فيستغني عن المؤثر، فيسد باب إثبات الصانع تعالى، بل ويجوز انقلاب واجب الوجود إلى الامتناع، وهو ضروري البطلان. وإذا تقرر هذا فنقول:
الأعراض إن كانت ممكنة لذاتها في الآن الأول، فتكون كذلك في الآن الثاني، وإلا لزم الانتقال من الامكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي.
وإذا كانت ممكنة في الثاني جاز عليها البقاء.
وقد احتجوا بوجهين:
الأول: البقاء عرض، فلا يقوم بالعرض.
الثاني: أن العرض لو بقي لما عدم، لأن عدمه لا يستند إلى ذاته، وإلا لكان ممتنعا، ولا إلى الفاعل، لأن أثر الفاعل الايجاد، ولا إلى طريان الضد، لأن طريان الضد على المحل مشروط بعدم الضد الأول عنه،
سلمنا. لكن نمنع امتناع قيام العرض بمثله، فإن السرعة والبطء عرضان قائمان بالحركة، وهي عرض.
والجواب عن الثاني: أنه لم لا يعدم لذاته في الزمان الثالث، كما يعدم عندكم لذاته في الزمان الثاني؟.. سلمنا، لكن جاز أن يكون مشروطا بأعراض لا تبقى، فإذا انقطع وجودها عدم.
سلمنا، لكن يستند إلى الفاعل، ونمنع انحصار أثره في الايجاد، فإن العدم ممكن لا بد له من سبب.
سلمنا، لكن يعدم بحصول المانع، ونمنع اشتراط طريان الثاني بعدم الضد الأول، بل الأمر بالعكس. وبالجملة فالاستدلال على نقيض الضروري باطل، كما في شبه السوفسطائية، فإنها لا تسمع لما كانت الاستدلالات في مقابل الضروريات.
القدم والحدوث اعتباريان
المبحث العاشر: في أن القدم والحدوث اعتباريان.
ذهب بعض الأشاعرة (١) إلى أن القدم وصف ثبوتي، قائم بذات الله تعالى، وذهبت الكرامية إلى أن الحدوث وصف ثبوتي قائم بذات الحادث (٢).
وكلا القولين باطل، لأن القدم لو كان موجودا مغايرا للذات لكان:
إما قديما، أو حادثا. فإن كان قديما، كان له قدم آخر، ويتسلسل.
نقل الخلاف في مسائل العدل
المبحث الحادي عشر: في العدل. وفيه مطالب:
الأول: في نقل الخلاف في مسائل هذا الباب.
إعلم: أن هذا أصل عظيم تبتني عليه القواعد الإسلامية، بل الأحكام الدينية مطلقا. وبدونه لا يتم شئ من الأديان، ولا يمكن أن يعلم صدق نبي من الأنبياء على الاطلاق، على ما نقرره فيما بعد إن شاء الله. وبئس ما اختار الإنسان لنفسه مذهبا، خرج به عن جميع الأديان، ولم يمكنه أن يعبد الله تعالى بشرع من الشرايع السابقة واللاحقة، ولا يجزم به على نجاة نبي مرسل، أو ملك مقرب، أو مطيع في جميع أفعاله من أولياء الله تعالى وخلصائه، ولا على عذاب أحد من الكفار والمشركين، وأنواع الفساق والعاصين، فلينظر العاقل المقلد هل يجوز له: أن يلقى الله تعالى بمثل هذه العقائد الفاسدة، والآراء الباطلة، المستندة إلى اتباع الشهوة، والانقياد إلى المطامع؟.
قالت الإمامية، ومتابعوهم من المعتزلة: إن الحسن والقبح عقليان، مستندان إلى صفات قائمة بالأفعال، أو وجوه واعتبارات يقع عليها.
. وقالت الأشاعرة: إن العقل لا يحكم بحسن شئ البتة ولا بقبحه، بل كل ما يقع في الوجود من أنواع الشرور: كالظلم، والعدوان، والقتل،
وقالت الإمامية ومتابعوهم من المعتزلة: إن جميع أفعال الله تعالى حكمة وصواب، ليس فيها ظلم، ولا جور، ولا كذب ولا عبث، ولا فاحشة، والفواحش، والقبائح، والكذب، والجهل، من أفعال العباد، والله تعالى منزه عنها، وبرئ منها.
وقالت الأشاعرة: ليس جميع أفعال الله تعالى حكمة وصواب
(وصوابا ظ) لأن الفواحش والقبائح كلها صادرة عنه تعالى، لأنه لا مؤثر غيره (٢).
وقالت الإمامية: نحن نرضى بقضاء الله تعالى: حلوه ومره، لأنه لا يقضي إلا بالحق.
وقالت الأشاعرة: لا نرضى بقضاء الله كله، لأنه قضى الكفر، والفواحش، والمعاصي، والظلم، وجميع أنواع الفساد (٣).
وقالت الإمامية والمعتزلة: لا يجوز أن يعاقب الله الناس على فعله،
(٣) شرح العقائد، وحاشيته للكستلي ص ١١٣، والملل والنحل ج ١ ص ٩٤، والتفسير الكبير ج ٢٦ ص ٢٠١.
” فما لهم عن التذكرة معرضين ” (٢)، ويمنهم من الفعل، ويقول:
” ما منع الناس أن يؤمنوا ” (٣).
وقالت الإمامية: إن الله تعالى لم يفعل شيئا عبثا، بل إنما يفعل لغرض ومصلحة، وإنه إنما يمرض لمصالح العباد، ويعوض المؤلم بالثواب، بحيث ينتفي العبث والظلم.
وقالت الأشاعرة: لا يجوز أن يفعل الله شيئا لغرض من الأغراض، ولا لمصلحة، ويؤلم العبد بغير مصلحة ولا غرض، بل يجوز أن يخلق خلقا في النار، مخلدين فيها، من غير أن يكونوا قد عصوا أو لا (٤).
وقالت الإمامية: لا يحسن في حكمة الله تعالى أن يظهر المعجزات على يد الكذابين، ولا يصدق المبطلين، ولا يرسل السفهاء، والفساق، والعصاة.
(٣) الكهف: ٥٥، أقول: ذكر الفضل في المقام مقالة الأشاعرة وأوضحها، وليراجع:
. الفصل لابن حزم ج ٣ ص ٥٤، وشرح العقائد ص ١٠٩.
(٤) التفسير الكبير ج ١٧ ص ١١ و ج ٢٨ ص ٢٣٢، وشرح التجريد للقوشجي ص ٣٧٥.
وقالت الإمامية: إن الله سبحانه لم يكلف أحدا فوق طاقته.
وقالت الأشاعرة: لم يكلف الله أحدا إلا فوق طاقته، وما لا يتمكن من تركه وفعله، ولامهم على ترك ما لم يعطهم القدرة على فعله، وجوزوا أن يكلف الله مقطوع اليد الكتابة، ومن لا مال له الزكاة، ومن لا يقدر على المشي للزمانة (٢): الطيران إلى السماء، وأن يكلف العاطل الزمن المفلوج خلق الأجسام، وأن يجعل القديم محدثا، والمحدث قديما، وجوزوا: أن يرسل رسولا إلى عباده بالمعجزات، ليأمرهم بأن يجعلوا الجسم الأسود أبيض دفعة واحدة، ويأمرهم بالكتابة الحسنة، ولا يخلق لهم الأيدي والآلات، وأن يكتبوا في الهواء بغير دواة ولا مداد، ولا قلم، ولا يد ما يقرؤه كل أحد (٣). وقالت الإمامية: ربنا أعدل وأحكم من ذلك.
وقالت الإمامية: ما أضل الله تعالى أحدا من عباده عن الدين، ولم يرسل رسولا إلا بالحكمة، والموعظة الحسنة.
وقالت الأشاعرة: قد أضل الله كثيرا من عباده عن الدين، ولبس عليهم وأغواهم، وأنه يجوز أن يرسل رسولا إلى قوم لا يأمرهم إلا بسبه، ومدح إبليس، فيكون من سب الله تعالى، ومدح الشيطان واعتقد التثليث
(٢) الزمانة: بفتح الزاي المعجمة: العاهة، عدم بعض الأعضاء، تعطيل القوى.
(٣) الملل والنحل ج ١ ص ٩٦ و ١٠٢، والفصل لابن حزم ج ٣ ص ٥٤، وشرح العقائد ص ١٠٢ و ١٢٣.
وقالت الإمامية: قد أراد الله تعالى الطاعات، وأحبها، ورضيها، واختارها، ولم يكرهها، ولم يسخطها، وأنه كره المعاصي، والفواحش.
ولم يحبها، ولا رضيها، ولا اختارها.
وقالت الأشاعرة: قد أراد الله من الكافر: أن يسبه ويعصيه، واختار ذلك، وكره أن يمدحه، قال بعضهم: أحب وجود الفساد، ورضي بوجود الكفر (٢).
وقالت الإمامية: قد أراد النبي صلى الله عليه وآله من الطاعات ما أراد الله عز وجل، وكره من المعاصي ما كرهه الله عز وجل.
وقالت الأشاعرة: بل أراد النبي صلى الله عليه وآله كثيرا مما كرهه الله عز وجل، وكره كثيرا مما أراد الله (٢).
(٣) التفسير الكبير ج ١٧ ص ٢١٨، ويأتي ما هو الحق في ذلك في مسألة النبوة.
وقالت الإمامية: قد أمر الله عز وجل بما أراده ونهى عما كرهه.
وقالت الأشاعرة: قد أمر الله عز وجل بكثير مما كرهه، ونهى عما أراد (٢).
فهذه خلاصة أقاويل الفريقين في عدل الله تعالى.
وقول الإمامية في التوحيد يضاهي قولهم في العدل، فإنهم يقولون:
إن الله عز وجل واحد لا قديم سواه، ولا إله غيره، ولا يشبه الأشياء، ولا يجوز عليه ما يصح عليها من التحرك، والسكون، وأنه لم يزل ولا يزال حيا، قادرا، عالما، مدركا، لا يحتاج إلى أشياء يعلم بها، ويقدر ويحيي، وأنه خلق الخلق، أمرهم، ونهاهم، ولم يكن آمرا وناهيا قبل خلقه لهم.
وقالت الإمامية: إن أنبياء الله وأئمته منزهون عن المعاصي، وعما يستخف وينفر، ودانوا بتعظيم أهل البيت الذين أمر الله تعالى بمودتهم، وجعلها أجر الرسالة، فقال: ” قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ” (٣).
(٢) الملل والنحل ج ١ ص ٩٥.
(٣) الشورى: ٢٣، ويأتي في بحث الإمامة ما هو التحقيق في تفسير الآية.
ترجيح أحد المذهبين
فلينظر العاقل في المقالتين، ويلمح المذهبين، وينصف في الترجيح، ويعتمد على الدليل الواضح الصحيح (٢)، ويترك تقليد الآباء، والمشايخ الآخذين بالأهواء (٣)، وغرتهم الحياة الدنيا (٤)، بل ينصح نفسه، ولا يعول على غيره (٥)، ولا يقبل عذره غدا في القيامة: إني قلدت شيخي الفلاني (٦)، أو وجدت آبائي وأجدادي على هذه المقالة (٧). فإنه لا ينفعه ذلك يوم القيامة، يوم يتبرأ المتبعون من أتباعهم، ويفرون من أشياعهم.
وقد نص الله تعالى على ذلك في كتابه العزيز (٨). ولكن أين الآذان السامعة،
(٣) كما قال تعالى: ” يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء “، وقال تعالى:
” اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ” التوبة: ٢٣ و ٣١.
(٤) كما قال تعالى: ” وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، وغرتهم الحياة الدنيا ” الأنعام: ٧٠
(٥) كما قال تعالى: ” أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين ” الزمر: ٥٦.
(٦) كما قال تعالى: ” ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ” هود: ١١٣، وقال تعالى:
” فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون ” الروم: ٥٧.
(٧) كما قال تعالى: ” وإذا فعلوا فاحشة قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها. قل إن الله لا يأمر بالفحشاء، أتقولون على الله ما لا تعلمون ” الأعراف: ٢٨.
(٨) أقول ينص كتاب الله: على أن يوم القيامة يوم تكشف فيه الأسرار، ويتذكر فيه الإنسان ما سعى، ويرى أنه لا يغادر من عمله صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها في صحيفة عمله، قال تعالى: ” فإذا جاءت الطامة الكبرى، يوم يتذكر الإنسان ما سعى ” النازعات: ٤٣، ٣٥ وقال تعالى: ” ووضع الكتاب، فترى المجرمين مشفقين مما فيه، ويقولون: يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ” الكهف: ٥٠ وقال تعالى: ” إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا، ورأوا العذاب، وتقطعت بهم الأسباب. وقال الذين اتبعوا: لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا، كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، وما هم بخارجين من النار ” البقرة: ١٦٧، ١٦٨.