ونقول:
إن ذلك لا يمكن أن يصح، وذلك لما يلي:
أولاً: إنهم يقولون: إن عمر النبي “صلى الله عليه وآله” آنئذٍ كان أحد عشر سنة، بل قيل: كان عمره تسع سنين(١).
ويقولون أيضاً: إن النبي “صلى الله عليه وآله” كان أسن من أبي بكر بأكثر من سنتين، وأبو بكر كان أسن من بلال بعدة سنين تتراوح ما بين خمس إلى عشر سنوات(٢).
١- راجع: تاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج٢ ص٣٣ والبداية والنهاية ج٢ ص٢٨٦ والسيرة الحلبية ج١ ص١٢٠ و (ط دار المعرفة) ج١ ص١٩٦ وقال: إن صاحب الهدى قد رجح هذا القول.. وراجع: بحار الأنوار ج١٥ ص٣٦٩ والغدير ج٧ ص٢٧٨.
٢- راجع: السيرة الحلبية ج١ ص١٢٠ و (ط دار المعرفة) ج١ ص١٩٦ لكن ذكر ابن حبان، وكذا الإصابة ج١ ص٦٥ عن أبي نعيم، وإمتاع الأسماع ج٩ ص١١٠: أن بلالاً كان ترباً لأبي بكر.. لكن الأشهر والأكثر هو ما ذكرناه.
فلعل بلالاً لم يكن ولد حين سفر النبي “صلى الله عليه وآله” إلى الشام، فكيف يقال: إن أبا بكر الذي كان آنئذٍ طفلاً كان في ذلك السفر، وأنه أرسل بلالاً مع النبي “صلى الله عليه وآله” كي يوصله إلى مكة؟!
ثانياً: إن بلالاً لم يكن له أي ارتباط بأبي بكر، وإنما كان يملكه أمية بن خلف، فإن كان أبو بكر قد اشتراه ـ كما يزعمون ـ فإنما حصل ذلك بعد ثلاثين عاماً من ذلك التاريخ(١)..
وإن كنا قد قلنا: إن في الروايات ما يدل على أن النبي “صلى الله عليه وآله” هو الذي اشترى بلالاً، وأن أبا بكر لم يملكه أصلاً(٢).
ثالثاً: صرح بعض المؤرخين: بأن أبا بكر لم يكن في ذلك السفر أصلاً، ولعله لأجل ذلك قال الذهبي عن هذا الحديث: أظنه موضوعاً، بعضه باطل(٣)..
وشكك فيه ابن كثير، وحكم عليه الترمذي بالغرابة. فراجع.
١- راجع: تاريخ الخميس ج١ ص٢٥٩ عن حياة الحيوان، عن الحافظ الدمياطي. وراجع: سيرة مغلطاي ص١١.
٢- راجع: الصحيح من سيرة النبي الأعظم “صلى الله عليه وآله” (الطبعة الخامسة) ج٣ الفصل الأول من الباب الثالث.
٣- تاريخ الخميس ج١ ص٢٥٩ والسيرة الحلبية ج١ ص١٢٠ و (ط دار المعرفة) ج١ ص١٩٧.
علي (عليه السلام) أول الصبيان إسلاماً:
وقد ذكرنا في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم “صلى الله عليه وآله” بعض ما يرتبط بمقولة: أن علياً “عليه السلام” كان أول من أسلم من الصبيان، ليكون أبو بكر أول الرجال إسلاماً، وخديجة الأولى من النساء، والأول من الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال(١).
ونزيد هنا ما يلي:
أولاً: لماذا لم يستطرد من ابتدع هذه الفكرة، فيذكر لنا أول من أسلم من الأغنياء، ومن الفقراء، ومن الطوال، ومن القصار، ومن البيض، ومن السود، ومن أهل هذا البلد وذاك، ومن التجار، ومن المزارعين.. وهكذا إلى ما لا نهاية..
ثانياً: إن أولية إسلام علي “عليه السلام” بالنسبة لخصوص الصبيان لا تتلاءم مع اعتبار ذلك من فضائل وامتيازات أمير المؤمنين “عليه السلام” ومن مفاخره على رجال ونساء الأمة بأسرها.
وكان النبي “صلى الله عليه وآله” أول من جعل ذلك من مفاخره. فراجع ما يرتبط بزواج فاطمة “عليها السلام”، حيث ذكر أنه زوجها أقدم الأمة إسلاماً، أو “أولهم سلماً”(٢).
١- راجع كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم “صلى الله عليه وآله” (الطبعة الخامسة) ج٣ ص٦١ و (الطبعة الرابعة) ج٢ ص٣٣١.
٢- راجع: المناقب للخوارزمي ص١٠٦ وكشف الغمة للإربلي ج ١ ص ١٤٨ و٣٧٤ والغدير للشيخ الأميني ج٢ ص٤٤ ج٣ ص٩٥٤ و ٢٢٠ وج٩ ص٣٩٤ والذرية الطاهرة النبوية للدولابي ص٩٣ و ١٤٤ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج٣ ص٢٥٧ وج١٣ ص٢٢٧ وكنز العمال ج١١ ص٦٠٥ وج١٣ ص١١٤ و ١٣٥ ومناقب الإمـام أمـير المـؤمنين “عليه السـلام” للكـوفي ج١ ص٢٩٠ والعثمانيـة = = للجاحظ ص٢٨٩ وفضائل أمير المؤمنين “عليه السلام” لابن عقدة الكوفي ص٢٤ و ١٠٢ وتنبيه الغافلين عن فضائل الطالبين لابن كرامة ص٩٨ وشرح الأخبار ج٢ ص٣٦٠ وكنز الفوائد للكراجكي ص١٢١ وبحار الأنوار ج٣٨ ص١٩ وج٤٣ ص١٣٦ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٤ ص١٥١ و ١٥٢ و ١٥٥ وج١٥ ص٣٢٥ و ٣٣٨ و ٣٣٩ و ٣٤٠ و ٤١٠ وج٢٠ ص٢٧١ وج٢٢ ص١٤٢ و ١٥٣ و ١٨٦ و ٢٥٦ و ٣٥٩ و ٣٦٠ وج٢٣ ص٥٢٦ و ٥٢٩ و ٥٣٧ و ٦١١ و ٦١٤ وج٣١ ص٢٦٨ وج٣٢ ص٤٦ و ٢١١ وج٣٣ ص٣٢٤ و ٣٢٦ و ٣٢٧. ودفع الإرتياب عن حديث الباب ص١٦ وفتح الملك العلى للمغربي ص٦٧ و ٦٨ وتاريخ مدينة دمشق ج٤٢ ص١٣٢ وأسد الغابة لابن الأثير ج٥ ص٥٢٠ وغاية المرام للبحراني ج٥ ص١٧٩.
كما أنه هو نفسه “عليه السلام” كان يفتخر بذلك.. فراجع الكتب التي جمعت الأحاديث حول إسلامه عليه الصلاة والسلام..
ثالثاً: إن هذه الطريقة في الجمع بين الأخبار لا توصلهم إلى تقدم إسلام أبي بكر على إسلام علي “عليه السلام”، وإن أوهمت ذلك.. فإن تقدم إسلام أبي بكر
وزيد، وبلال، وخديجة على أمثالهم لا يمنع من أن يكون إسلام علي “عليه السلام” قد تقدم على إسلام هؤلاء جميعاً، وعلى الأمة بأسرها بأشهر أو بسنوات.
وقد صرح علي “عليه السلام”: بأنه أسلم قبل أن يسلم أبو بكر، بل صرح: بأنه صلى قبل الناس كلهم بسبع سنين كما تقدم. فمن صلى مع النبي “صلى الله عليه وآله” قبل بعثته بسبع سنين، لا يمكن أن يسبقه أحد، أو أن يساويه أحد في موضوع التقدم في الإسلام..
رابعاً: حبذا لو ذكر لنا هؤلاء قائمة بالصبيان الذين أسلموا في تلك الفترة، ليكون علي “عليه السلام” قد تقدمهم في ذلك.
الإجماع على تقدم إسلام علي (عليه السلام):
قال ابن حجر الهيثمي حول تقدم إسلام علي “عليه السلام”:
“قال ابن عباس، وأنس، وزيد بن أرقم، وسلمان الفارسي، وجماعة [من الصحابة]: إنه أول من أسلم، [حتى] ونقل بعضهم الإجماع عليه”(١).
كما أن الحاكم بعد أن روى عن زيد بن أرقم: أن أول من أسلم مع رسول الله “صلى الله عليه وآله” علي بن أبي طالب، قال: “هذا حديث صحيح الأسناد، وإنما الخلاف في هذا الحرف أن أبا بكر الصديق كان أول الرجال البالغين إسلاماً، وعلي بن أبي طالب تقدم إسلامه قبل البلوغ”(٢).
١- الصواعق المحرقة الباب التاسع، الفصل الأول (ط مصر) ص١٢٠ و (ط بيروت) ص١٨٥ غاية المرام للسيد هاشم البحراني ج٥ ص١٦٥.
٢- المستدرك للحاكم النيسابوري ج٣ ص١٣٦.
فالحاكم يصرح: بأنه لا خلاف في تقدم إسلام علي “عليه السلام” على الناس أجمعين. وإنما الخلاف في تقدم إسلام أبي بكر على البالغين، لا على علي “عليه السلام”..
ونحن قد أثبتنا في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم “صلى الله عليه وآله”: أن أبا بكر قد أسلم في السنة الخامسة أو السادسة.
وذكر في الطبري: أنه أسلم بعد أكثر من خمسين فراجع(١).
موقف أبي طالب من إسلام علي (عليه السلام):
هناك عدة نصوص تتحدث عن موقف أبي طالب من إسلام ولده علي “عليه السلام”، فلاحظ ما يلي:
١ ـ رووا عن علي “عليه السلام”: أنه حين رآه أبو طالب “عليه السلام” هو والنبي “صلى الله عليه وآله” ساجدين، قال: أفعلتماها؟!
قال علي: ثم أخذ بيدي، فقال: أنظر كيف تنصره. وجعل يرغبني في
١- تاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج٢ ص٦٠ والإفصاح للشيخ المفيد ص٢٣٢ وكنز الفوائد للكراجكي ص١٢٤ ومناقب آل أبي طالب ج١ ص٢٨٩ وبحار الأنوار ج٨ ص٢٢٨ والغدير ج٣ ص٢٤٠ و ٢٤٣ وج٧ ص٩٢ و ٢٨٠ و ٣٢٤ والبداية والنهاية ج٣ ص٣٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج١ ص٤٣٦ ونظرة في كتاب البدايـة والنهاية للشيخ الأميني ص٧٧ والإمام علي بن أبي طالب “عليه السلام” للهمداني ص٥٤٤.
ذلك، ويحضني عليه(١).
وفي نص آخر: أنه لما صادف أبو طالب “عليه السلام” النبي “صلى الله عليه وآله” وعلياً “عليه السلام” يصليان في بعض جبال مكة بإزاء عين الشمس، قال أبو طالب لجعفر: صل جناح ابن عمك(٢).
ومرة أخرى: رأى أبو طالب “عليه السلام” النبي وعلياً “صلى الله عليهما وآلهما” يصليان في المسجد، فقال لجعفر: صل جناح ابن عمك.
وهذا يدل على أن أمر أبي طالب لجعفر بصلة جناح ابن عمه قد تكرر في وقائع مختلفة(٣).
١- بحار الأنوار ج٣٨ ص٢٠٦ وج٣٤ ص٣٦٠ ومناقب آل أبي طالب (المطبعة الحيدرية) ج١ ص٣٠٠ وشرح الأخبار للقاضي النعمان ج١ ص١٧٩ و (ط مركز النشر الإسلامي) ج٣ ص١٧٠ والغدير ج٧ ص٣٨٩ وإيمان أبي طالب للشيخ الأميني ص٨١ والغارات للثقفي ج٢ ص٥٨٧.
٢- كنز الفوائد للكراجكي ج١ ص١٨١ و (ط مكتبة المصطفوي ـ قم) ص١٢٤ وشرح الأخبار للقاضي النعمان ج٣ ص٥٤٩ وبحار الأنوار ج٣٥ ص١٢٠ والغدير ج٧ ص٣٩٧ والحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب ص٢٤٨ وإيمان أبي طالب للشيخ الأميني ص٩٣.
٣- راجع: روضة الواعظين ج١ ص١٤٠ و (منشورات الشريف الرضي ـ قم) ص٨٦ و ١٣٩ و ١٤٠ والأمالي للصدوق ص٥٩٧ ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج٨ ص٢٨٨ و (ط دار الإسلامية) ج٥ ص٣٧٣ ومستدرك الوسائل ج٦ ص٤٥٥ والفصول المختارة ص١٧١ و ٢٨٣ ومناقب آل أبي طالب ج١ ص٣٠١ وكتاب الأربعين للشيرازي ص٤٩٣ وحلية الأبرار ج١ ص٦٩ وبحار الأنوار ج١٠ ص٣٨٠ وج١٨ ص٥٣ و ١٧٩ وج٢٢ ص٢٧٢ وج٣٥ ص٦٠ و ٨٠ و ١٢١ و ١٧٤ وج٨٥ ص٣ وجامع أحاديث الشيعة ج٦ ص٤٠٦ و ٤٦٣ والغدير ج٧ ص٣٥٦ و ٣٥٧ و ٣٩٤ و ٣٩٦ و ٣٩٧ ومستـدرك سـفـيـنـة البحـار ج٦ = = ص٣٢٥ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٣ ص٢٧٢ وتفسير القمي ج١ ص٣٧٨ ونور الثقلين ج٣ ص٣٢ والبحر المحيط ج٨ ص٤٨٩ وتفسير الآلوسي ج٣٠ ص١٨٣ والدرجات الرفيعة ص٦٩ وأسد الغابة ج١ ص٢٨٧ والعثمانية للجاحظ ص٣١٥ وإعلام الورى ج١ ص١٠٣ وقصص الأنبياء للراوندي ص٣١٦ والدر النظيم ص١٣٤ وكشف الغمة ج١ ص٨٧ ونهج الإيمان ص٣٧٦ والسيرة الحلبية ج١ ص٤٣٤ و ٤٣٦ والحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب ص٢٥٠ وإيمان أبي طالب للأميني ص٣٦ و ٣٧ و ٨٨ و ٩٠ و ٩٢ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج٧ ص٥٥٥.
٢ ـ وفي نص آخر: أن رسول الله “صلى الله عليه وآله” كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب “عليه السلام”، مستخفياً من أبيه أبي طالب، ومن جميع اعمامه، وسائر قومه. فيصليان الصلوات فيها، فاذا أمسيا رجعا.
فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا.
ثم إن أبا طالب “عليه السلام” عثر عليهما يوماً وهما يصليان، فقال لرسول الله “صلى الله عليه وآله”: يا ابن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟
قال: أي عم، هذا دين الله، ودين ملائكته، ودين رسله، ودين أبينا ابراهيم.
٣ ـ وذكروا أنه قال لعلي “عليه السلام”: أي بني، ما هذا الدين الذي أنت عليه؟
فقال: يا أبت آمنت بالله، وبرسول الله، وصدقته بما جاء به، وصليت معه لله، واتبعته.
فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير، فالزمه.
٤ ـ وفي لفظ عن علي “عليه السلام”: إنه لما أسلم قال له أبو طالب: الزم ابن عمك فإنك تسلم به من كل بأس، عاجل وآجل.
ثم قال لي:
إن الوثيـقـة في لزوم محمدٍ | فاشدد بصحبتـه علي يديكا(١). |
١- الغدير ج٧ ص٣٥٥ و ٣٥٦ وإيمان أبي طالب للأميني ص٣٦ وبحار الأنوار ج٣٥ ص١٢٠ و ١٦٣ وج٣٨ ص٢٠٧ و ٣٢٣ والدرجات الرفيعة ص٥٤ والحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب ص٢٤٢ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج١٤ ص٧٥ وراجع ص٥٢ و ٥٣ وج١٣ ص٢٠٠ وراجع: الإصابة ج٧ ص١٩٨ وعيون الأثر ج١ ص١٢٥ ومجمع البيان ج٥ ص١١٣ ونور الثقلين ج٢ ص٢٥٦ وتفسير الثعلبي ج٥ ص٨٤ والجوهرة في نسـب الإمام علي وآله ص١١ وتاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج٢ ص٥٨ ومطالب السؤول ص٦٤ وسبل الهدى والرشاد ج٢ ص٣٠١ والسيرة الحلبية ج١ ص٤٣٦ وغاية المرام ج٥ ص١٥٤ وشرح إحقاق الحق ج٢٢ ص٦٢٠ وج٢٣ ص٥٢٥ وج٣٠ ص٦٢٤ وج٣٣ ص٢١٦ ومناقب آل أبي طالب (المطبعة الحيدرية) ج١ ص٣٠١ والسيرة النبوية لابن هشام (ط مكتبة محمد علي صبيح) ج١ ص١٦٣.
٥ ـ وروا: أن النبي “صلى الله عليه وآله” لما أنزل عليه الوحي أتى المسجد الحرام وقام يصلي فيه، فاجتاز به علي “عليه السلام” وكان ابن تسع سنين فناداه: يا علي! إلي، أقبل.
فأقبل إليه ملبياً، فقال له النبي “صلى الله عليه وآله”: إني رسول الله إليك خاصة وإلى الخلق عامة، فقف عن يميني وصل معي.
فقال: يا رسول الله، حتى أمضي وأستأذن أبا طالب والدي.
فقال له: إذهب، فإنه سيأذن لك.
فانطلق إليه يستأذنه في اتباعه، فقال: يا ولدي، تعلم أن محمداً أمين الله منذ كان. إمض إليه واتبعه ترشد وتفلح.
فأتى علي “عليه السلام” ورسول الله “صلى الله عليه وآله” قائم يصلي في المسجد، فقام عن يمينه يصلي معه، فاجتاز أبو طالب بهما وهما يصليان. فقال: يا محمد ما تصنع؟!
قال: أعبد إله السماوات والأرض، ومعي أخي علي يعبد ما أعبد، وأنا أدعوك إلى عبادة الواحد القهار.
فضحك أبو طالب حتى بدت نواجذه، وأنشأ يقول:
والله لن يصلوا اليـك بجمعهم | حتى أغيَّب في الـتراب دفينــا |
إلى آخر الأبيات(١).
ونقول:
إننا نسجل هنا الملاحظات التالية:
١ ـ إن النصوص الأربعة الأول منسجمة كل الإنسجام، والإختلاف في طبيعة ما قاله أبو طالب لولده لا يضر، فلعله “رحمه الله” قد ذكر أكثر من مطلب، فاقتصر بعض الرواة على هذه الخصوصية، وبعضهم على تلك.. أو أن بعضهم نقل النص بالمعنى.
٢ ـ إن النصوص الأربعة الأولى، لا تنافي النص الأخير، لأن هذا النص يتحدث عن أن النبي “صلى الله عليه وآله” إنما طلب من علي “عليه السلام” أن يصلي معه في المسجد الحرام ظاهراً لكل أحد..
فأراد “عليه السلام” أن يجمع بين امتثال أمر الرسول “صلى الله عليه وآله” وبين التأدب مع أبيه بإعلامه وإلا.. فإن قبول الدين الحق لا يحتاج إلى
١- الغدير للأميني ج٧ ص٣٥٦ عن أبي بكر الشيرازي في تفسيره، ومناقب آل أبي = = طالب (ط المكتبة الحيدرية) ج١ ص٣٠١ وبحار الأنوار ج٣٨ ص٢٠٧ وإيمان أبي طالب للأميني ص٣٧.
إذن أحد..
ولأنه أراد أن يعلم أباه لكي يعرف كيف يتصرف لو تطورت الأمور، بسبب رعونة قريش.
ويشهد لذلك ما ذكرته الرواية من أن أبا طالب قال في هذه المناسبة:
والله لن يصلوا اليـك بجمعهم | حتى أغيَّب في التراب دفيـنــا |
فليس في استمهال علي “عليه السلام” رسول الله “صلى الله عليه وآله” لاستئذان أبيه أية دلالة على تردده في طاعة رسول الله “صلى الله عليه وآله”، أو تردده في قبول ما يعرضه النبي “صلى الله عليه وآله”.
ويشهد لما نقول: قول علي “عليه السلام” إنه قد صلى لله تعالى مع رسول الله “صلى الله عليه وآله” قبل أن يصلي أحد من الأمة سبع سنين وأشهراً..
٣ ـ اللافت هنا قول أبي طالب لولده علي “عليه السلام”: “أنظر كيف تنصره”. ولم يقل له: انصره.. فإن نصرة علي “عليه السلام” لرسول الله “صلى الله عليه وآله” محرزة في نظر أبي طالب “عليه السلام”، ولكنه يريدها نصرة قائمة على التدبر والوعي، وتقدير الأمور، وليست نصرة عشوائية ربما يكون ضررها أكثر من نفعها..
وهذا يدل على بعد نظر أبي طالب “عليه السلام”، ومدى دقته وحكمته، ونظره للعواقب..
٤ ـ لا ندري مدى صحة ما ورد في الرواية رقم (٢) من أن علياً كان
يستخفي بصلاته عن أبيه، وسائر أعمامه.. إذ لا مبرر لاستخفائه بصلاته من أبيه، إلا إن كان رسول الله “صلى الله عليه وآله” قد أمره بذلك لمصلحة رآها، وهي أن لا يحرج أباه أمام قريش، إذا ظهر لها أن أبا طالب يدبر ويشارك في هذا الأمر، وأنه يخدعهم بذلك. فيكون هذا التدبير ظاهرياً وليس حقيقياً. وإلا، فإن أبا طالب هو الذي جعل ولده مع النبي “صلى الله عليه وآله”، وكان يرى منهما الكرامات والمعجزات التي تبين له أن لهما شأناً..
بل في النصوص ما يدل على أن أبا طالب “عليه السلام” كان يعلم بذلك منذ ولادة علي “عليه السلام”، ومنذ تزويج النبي “صلى الله عليه وآله” بخديجة صلوات الله عليها، وقد صرح أبو طالب بذلك في خطبة الزواج، فراجع..
٥ ـ إنه “صلى الله عليه وآله” قال لعلي “عليه السلام”: “إني رسول الله إليك خاصة، وإلى الخلق عامة”. وهذا يدل على أمرين:
أولهما: أن علياً لم يكن حكمه حكم الأطفال، رغم صغر سنه، بل هو مكلف ومطالب بما يطالب به الكبار البالغون.
الثاني: إن إسلامه “عليه السلام” يوازي اسلام الأمة بأسرها، لأن الله بعث رسوله إليه خاصة، وإلى الأمة عامة، وان لله عناية خاصة به، دون سائر الخلق. فلولا علم الله تعالى بما سيكون له من أثر في هذا الدين، أو بموقعه فيه لم يكن الأمر كذلك.
٦ ـ قوله في الرواية المتقدمة رقم (٢): فمكثا ما شاء الله ان يمكثا..