الأذان بين الأصالة والتحريف / الصفحات: ١٠١ – ١٢٠
الأمويّون ورسول الله
لقد صحّ عن رسول الله أنّه لعن أبا سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وصفوان بن أميّة في قنوته(١) وهم من أقطاب قريش، وفيهم أبو سفيان رأس بني أميّة.
وصحّ عنه (صلى الله عليه وآله) قوله لمّا أقبل أبو سفيان ومعه معاوية: اللهمّ العن التابع والمتبوع(٢).
وفي آخر: اللهمّ العن القائد والسائق والراكب(٣)، وكان يزيد بن أبي سفيان معهم. وقوله (صلى الله عليه وآله) في مروان بن الحكم: اللهمّ العن الوَزغ بن الوزغ(٤).
فبنو أميّة بعد عجزهم عن ردّ صدور أحاديث اللعن رووا عن أبي هريرة قوله (صلى الله عليه وآله): اللّهم إني أتّخذ عندك عهداً لن تُخلفنيه، فإنمّا أنا بشر، فأيّ المؤمنين آذيته، أو شتمته، أو لعنته أو جلدته.. فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقرّبه بها يوم القيامة(٥)!
ومن المعلوم أنّ هذه الروايات لا تّتفق مع أصول الإسلام والسير التاريخي والفكري لرسول الله، وما جاء به من مفاهيم، لأنّه قال: إني لم أُبعث لعّاناً وإنّما
٣- وقعة صفّين: ٢٢٠.
٤- انظر: تلخيص المستدرك للذهبي ٤: ٤٧٩.
٥- صحيح مسلم ٤: ٢٠٠٧ ـ ٢٠٠٨، كتاب البرّ والصلة، باب من لعنه النبيّ(صلى الله عليه وآله) ح ٢٦٠١، مسند أحمد ٢: ٣١٧.
وهؤلاء القوم لم يسلموا إلاّ ليحقنوا دماءهم، بعدما عجزوا عن الوقوف أمام الدعوة وطمس الإسلام فدخلوا الإسلام لتحريف بعض المفاهيم وإبدال مفاهيم أخرى مكانها، وكان ضمن مخططهم التقليل من مكانة الرسول والتعامل معه كإنسان عاديّ يصيب ويخطئ ويسبّ ويلعن، كما كان في مخطّطهم الاستنقاص من الإمام عليّ، لأنّه كان قد وتر شوكة قريش وسعى لتحطيم سلطانهم.
فقد جاء في كتاب معاوية إلى عماله: “أن انظروا مَن قِبَلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه، فَأَدنُوا مجالسهم وقَرِّبوهم وأَكرموهم، واكتبوا إليَّ بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته”.
“فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإنّ هذا أحبّ إلي وأقرّ لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله”(٢).
نحن لو تأملنا تاريخ قريش وما فعلته مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بدء الدعوة وقضايا فتح مكّة لوقفنا على خبث الأمويين واستغلالهم لرحمة رسول رب
اليوم يوم الملحمة | اليوم تُسبَى الحرمة |
قال له (صلى الله عليه وآله): لا تَقُلْ هذا بل قل:
اليوم يوم المرحمة | اليوم تحفظ الحرمة(١) |
وجاء عنه قوله يوم الفتح في أعدى عدوه: “من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن”(٢)، وقوله: “اذهبوا أنتم الطلقاء”(٣)، لكن قريشاً ومع كلّ هذه الرحمة كانوا يتعاملون مع الرسالة والرسول بشكل آخر.
قال الواقدي:… وجاءت الظهر فأمر رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) بلالاً أن يؤذّن فوق ظهر الكعبة وقريشٌ في رؤوس الجبال، ومنهم من قد تَغيّب وستر وجهه خوفاً من أن يُقتلوا، ومنهم من يطلب الأمان، ومنهم من قد أمن.
فلمّا أذّن بلال وبلغ إلى قوله “أشهد أن محمّداً رسول الله (صلى الله عليه وآله) ” رفع صوته كأشدّ ما يكون. فقالت جويرية بنت أبي جهل: قد لعمري “رفع لك ذِكرك” فأمّا الصلاة فسنصلّي، ولكن والله لا نحبّ مَن قتل الأحبة أبداً، ولقد كان جاء أبي الذي جاء محمّداً من النبوة، فردّها، ولم يُرِدْ خلاف قومه. وقال خالد بن سعيد بن العاص: الحمد لله الذي أكرم أبي |
٣- المبسوط للسرخسي ١٠: ٤٠.
فلم يدرك هذا اليوم.وقال الحارث بن هشام: واثكلاه، ليتني متّ قبل هذا اليوم، قبل أن أسمع بلالاً ينهق فوق الكعبة!
وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث العظيم، أن يصيح عبد بني جُمحَ، يصيح بما يصيح به على بيت أبي طلحة. وقال سهيل بن عمرو: إن كان هذا سخطاً من الله تعالى فسيغيره وإن كان لله رضا فسيقرّه. وقال أبو سفيان: أمّا أنا فلا أقول شيئاً، لو قلت شيئاً لأخبَرَتْه هذه الحصباء، قال: فأتى جبرئيل(عليه السلام) فأخبره مقالة القوم(١).
|
ولو تأملت في ما رواه لنا العبّاس في كيفية إسلام أبي سفيان لعرفت أنّه لم يسلم عن قناعة وإيمان، إذ قال العباس: غدوت به على رسول الله فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان!! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلاّ الله؟
قال: بلى، بأبي أنت وأمي، لو كان مع الله غيره لقد أغنى عنيّ شيئاً.
فقال: ويحك! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟!
فقال: بأبي أنت وأمي، أما هذه ففي النفس منها شيء.
قال العباس: فقلت له: ويحك! تشهد شهادة الحق قبل أن تضرب عنقك.
قال: فتشهد(٢).
وظل منظّر الفكر القرشي على هذه الوتيرة حتّى بعد وفاة النـبي وخلافة الشيخين. فقد روي صاحب “قصص الانبياء” باسناده إلى الصدوق عن بن عباس أنه قال:.. ولقد كنا في محفل فيه أبو سفيان وقد كُف بصره وفينا عليّ صلوات الله عليه فأذن المؤذن فلما قال: اشهد أن محمداً رسول الله، قال أبو سفيان: ها هنا من يحتشم؟ قال واحد من القوم: لا. فقال: لله در أخي بني هاشم، انظروا اين وضع اسمه؟ فقال عليّ: اسخن الله عينك يا ابا سفيان، الله فعل ذلك بقوله عز من قائل {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} فقال أبو سفيان: اسخن الله عين من قال لي ليس ها هنا من يحتشم(١).
بل إن أبا محذورة كان يستحيي من الإباحة باسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أهل مكّة، إذ جاء في المبسوط للسرخسي ـ عند بيانه لسبب الترجيع في الأذان ـ قوله:… وقيل أن أبا محذورة كان مؤذّن مكّة، فلما انتهى إلى ذكر رسول الله خفض صوته استحياءً من أهل مكّة لأنّهم لم يعهدوا ذكر اسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بينهم جهراً، ففرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) أذنَهُ وأمره أن يعود فيرفع صوته ليكون تأديباً له..(٢)
قال: نعم، هو آمن بأمان الله، فليظهر، ثمّ التفتَ إلى مَن حوله فقال: مَن لقي سهيل بن عمرو فلا يشدنّ النظر إليه، ثمّ قال: قل له: فليخرج، فلعمري إنّ سهيلاً له عقل وشرف، وما مثل سهيل جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يُوضَعُ فيه إن لم يكن له تتابع، فخرج عبدالله إلى أبيه فأخبره بمقالة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فقال سهيل: كان والله برّاً صغيراً وكبيراً.
وكان سهيل يقبل ويدبر غير خائف، وخرج إلى خيبر مع النبيّ وهو على شركه حتّى أسلم بالجعرانة(١)…
هكذا تعامل رسول الله مع المشركين والطلقاء، لكنّهم أضمروا النفاق للرسول والرسالة فانضووا تحت لوائه كي يغدروا بالإسلام، بل سعوا بكل قواهم لطمسه ودفنه.
فقد جاء عن المغيرة أنّه طلب من معاو ية ترك إيذاء بني هاشم ـ لمّا استقرّ له الأمر ـ لأنّه أبقى لذكره!!… فقال معاو ية للمغيرة: هيهات! هيهات! أيّ ذكر أرجو
ودع عنك نهباً صـيح في حجراته | وهـلم الخـطب في ابن أبي سـفيان |
فلقد أضحكني الدهر بعد ابكائه، ولا غرو واللّه فياله خطباً يستفرغ العجب ويكثر الأود، حاول القوم إطفاء نور اللّه من مصباحه، وسدّ فواره من ينبوعه. وجدحوا بيني وبينهم شرباً وبيئاً. فإن ترتفع عنّا وعنهم محن البلوى أحملهم من الحقّ على محضه وإن تكن الأُخرى {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إنّ اللّه عليم بما يصنعون} (٢)(٣).
وجاء عن معاوية أنّه قال لما سمع المؤذّن يقول “أشهد أنَّ محمَّداً رسول الله”:
٣- نهج البلاغة ٢: ٦٣ / الخطبة ١٦٢.
وهو ابن هند آكلة كبد حمزة سيّد الشهداء(٤)، وهو أبو يزيد الذي هدم الكعبة(٥)، وقتل الحسين بن عليّ(٦)، وأباح المدينة لثلاثة أيّام(٧)، والذي سمّى المدينة الطيّبة بـ “الخبيثة” إرغاماً لأنوف أهل بيت النبيّ(٨)!
فمعاوية ومن قبله أبوه صخر كانا يتصوّران بأنّ النبيّ هو الذي أدرج اسمه في الأذان، فقال أبو سفيان: لله در أخي بني هاشم. انظروا اين وضع اسمه، وقال ابنه معاوية: لله أبوك يا ابن عبدالله! لقد كنت عالي الهمَّة، ما رضيت لنفسك إلاّ أن تقرن
٣- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ١٦: ١٣٦.
٤- أُسد الغابة ٢: ٤٧، الطبقات الكبرى ٣: ١٢.
٥- سبل الهدى والرشاد ١: ٢٢٣، مختصر تاريخ دمشق ٧: ١٩١.
٦- تاريخ الطبري ٥: ٤٠٠ ـ ٤٦٧، وغيره من كتب التاريخ.
٧- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣: ٢٥٩.
٨- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٩: ٢٣٨.
الله جلّ وعلا ورفعه لذكر الرسول(صلى الله عليه وآله)
هذا، ونحن نعلم بأنّ الذي رفع ذكرَ الرسول هو الله في محكم كتابه، وإليك أقوال بعض العلماء والمفّسرين لتقف على المقصود، وأنّه أمر ربّاني، وليس كما تصوره أبو سفيان ومعاوية والأمويّون ومن لف لفهم:
قال الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن نجيح، عن مجاهد في قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قال: لا أُذكَر إلاّ ذُكِرتَ معي “أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله”(١). يعني ـ والله أعلم ـ ذكره عند الإيمان والأذان، ويحتمل ذكره عند تلاوة الكتاب وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية.
وقال النووي في شرحه على مسلم ـ بعد ذكره المشـهورَ عن الشافعي في رسالته ومسنده في تفسير قوله تعالى {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} ـ: “وروينا هذا التفسير مرفوعاً إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن جبرئيل عن ربّ العالمين…”(٢).
وفي مصنف ابن أبي شيبة الكوفي: حدّثنا ابن عيينة، عن ابن نجيح، عن مجاهد {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} يقال: ممن هذا الرجل؟
فيقول: من العرب.
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} لا أُذكرُ إلاّ ذكرتَ “أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً رسول الله”(١).
حدّثنا شريك بن عبدالله، عن ابن شبرمة، عن الحسن في قوله {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}: أي مُلِئ حكماً وعلماً {وَوَضَعْنَا عَنكَ وَزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} قال: ما أثقل الحمل الظهر {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} بلى لا يذكر إلاّ ذكرت معه…(٢).
وفي دفع الشبه عن الرسول للحصني الدمشقي في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: المراد الأذان والاقامة والتشهّد والخطبة على المنابر، فلو أنّ عبداً عَبَد الله وصدّقه في كلّ شيء ولم يشهد أن محمّداً رسول الله لم يسمع منه ولم ينتفع بشيء وكان كافراً.
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ثمّ إنّ النبيّ سأل جبرئيل (عليه السلام) عن هذه الآية(٣)، فقال: قال الله عزّ وجلّ: اذا ذكرتُ ذُكِرتَ معي.
وقال قتادة رضي الله عنه: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، وقيل: رفع ذكره بأخذ الميثاق على النبيين وألزمهم الإيمان به والإقرار به.
وقيل {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} ليعرف المذنبون قدر رتبتك لديَّ ليتوسّلوا بك إليَّ فلا أردّ أحداً عن مسألته، فأعطيه أياها إمّا عاجلاً وإمّا آجلاً، ولا أخيّب من توسّل بك وإن كان كافراً(٤).
٣- آية {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}.
٤- دفع الشبه عن الرسول للحصني الدمشقي: ١٣٤.
حدّثنا بشر، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيد، عن قتادة {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهّد ولا صاحب صلاة إلاّ ينادي بها: “أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمّداً رسول الله”.
حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحرث، عن درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله أنّه قال: أتاني جبرئيل فقال: إنّ ربّي وربّك يقول: كيف رفعت لك ذِكرك؟ قال: الله أعلم.
قال: إذا ذُكِرتُ ذُكِرتَ معي(٢).
وفي زاد المسير لابن الجوزي: قوله عزّوجلّ {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} فيه خمسة أقوال:
والثالث: رفعنا لك ذكرك في الآخرة كما رفعناه في الدنيا ; حكاه الماوردي.
والرابع: رفعنا لك ذكرك عند الملائكة في السماء.
والخامس: بأخذ الميثاق لك على الأنبياء وإلزامهم الإيمان بك والإقرار بفضلك ; حكاهما الثعلبي(١).
أهل البيت ورفع ذكر رسول الله
ومن هذا المنطلق كان أئمّة أهل البيت: يشيدون بهذه المفخرة، ويجعلونها أكبر إرغام لأعداء النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأعدائهم، الذين أرادوا تحريف هذا الرفع للذكر وحطّه إلى مرتبة الأحلام والاقتراحات، وأرادوا أن يطفئوا نور الله فأبى الله إلاّ أنّ يتمّ نوره.
يُريدُ الجاحدونَ لِيطفؤوُه | ويأبى الله إلاّ أن يُتمَّهْ |
ففي الندبة الرائعة ـ التي وجّهها إمام البلاغة عليّ بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة الزهراء إلى ابن عمّه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث أرسل دموعه على خدّيه وحوّل وجهه إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ قال فيما قال:
سلامٌ عليك يا رسول الله سلام مودّع لا سَئم ولا قال، فإنْ |
أنصرف فلا عن مَلالة، وإن أقِم فلا عن سوء ظنٍّ بما وَعَد الله الصابرين، والصبرُ أيمنُ وأجمل، ولولا غلبةُ المستولين علينا لَجعلتُ المقام عند قبرك لِزاماً، واللَّبثَ عنده معكوفاً، ولاَعولتُ إعوالَ الثكلى على جليل الرزيّة، فبعينِ الله تُدفَنُ ابنتُك سرّاً… ولم يَطُل العهد، ولم يَخلُ منك الذّكر، فإلى الله يا رسول الله المشتكى، وفيك أجمل العزاء، وصلوات الله عليك وعليها ورحمة الله وبركاته(١). |
وفي هذه الندبة التصريح بأنّ المستولين قلّلوا أو حاولوا التقليل من شأن الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته، وذلك بعد وفاته مباشرة ولمّا يخلق الذكر، وأنّ أمير المؤمنين علياً لو استطاع لجعل مقام رسول الله في محلّه الرفيع الذي وضعه الله فيه، لكنّ الظروف القاسية التي كانت محيطة به لم تتح له الفرصة، فقلّ ذكر النبيّ عند مَن اشتغلوا بمشاغل الدنيا وتركوا النبيّ وذكره أو كادوا، وهذا ممّا جعل الإمام يقول: لجعلتُ المقام عند قبرك لزاماً، واللبث عنده معكوفاً.
وقد أشـارت فاطمة الزهراء في خطبتها التي خطبتها في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى هذه المسألة نفسها، وأنّ هناك قوماً حاولوا إطفاء نور الله وخفض منزلة النبيّ (صلى الله عليه وآله) مع قرب العهد وحَداثة ارتحال النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فقالت:
فلمّا اختارَ اللهُ لنبيّه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهرت فيكم حسكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين… هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لمّا |
يندمل، والرسول لمّا يُقبَر…. ثمّ أخذتم تورون وقدتَها، وتهيجون جمرتَها، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، وإطفاء أنوار الدين الجَليّ، وإهمال سُنَن النبيّ الصفيّ(١)… |
ولذلك كانت تبكي عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتقول: لقد أصبت بخير الآباء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، واشوقاه إلى رسول الله، ثمّ انشأت تقول:
إذا مات يوماً ميّت قلّ ذكرُهُ | وذكرُ أبي مذ مات والله أكثرُ(٢) |
وأشارت بذلك إلى أنّ الله سبحانه وتعالى رفع ذكر نبيّه في حياته، وقدّر له أن يرفع بعد وفاته، وإن ظنّ من ظَنَّ أنّه أبترُ إذا مات انقطع ذكره، وارتدّ مَن ارتدّ لعروجه ومقارنة اسمه باسم ربّ العالمين، وغضب من غضب وحاول عزو ذلك إلى أنّه من اقتراح عمر أو من النبيّ نفسه وأراد له السحق والدفن، كلّ تلك المحاولات التحريفية باءت بالفشل وخلد ذكر النبيّ في الأذان والتشهد وفي كلّ موطن يذكر فيه اسم رب العالمين.
ولو قرأت مقولة الإمام الحسن لمعاوية لمّا استنقص عليّاً وحاول الحطّ من ذكره لرأيت الأمر كذلك ; إذ قال له:
أيها الذاكر علياً، انا الحسن وأبي عليّ وأنت معاوية وأبوك صخر، وأُمّي فاطمة وأُمّك هند، وجدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجدّك حرب، وجدّتي خديجة وجدّتك قتيلة ; فلعن الله أخمَلَنا ذِكراً، وألأمنا حَسَباً، وشَرّنا قدماً، |
وأقدمنا كفراً ونفاقاً.فقال طوائف من أهل المسجد: آمين.
|
قال فضل: فقال يحيى بن معين: ونحن نقول: آمين، قال أبو عبيد: ونحن أيضاً نقول: آمين، قال أبو الفرج: وأنا أقول: آمين(١).
هذا وإن ماسأة كربلاء وقضية الإمام الحسين تؤكّد ما قلناه وأن الإمام خرج للإصلاح في أمة جدّه لمّا رأى التحريفات الواحدة تلو الآخرى تلصق بالدين، وعرف بأنّهم يريدون ليطفئوا نور الله ورسوله.
والعقيلة زينب قد أشارت إلى هذه الحقيقة عندما خاطبت يزيد بقولها:
“كد كيدك، واسْعَ سعَيك، واجهَد جهدك، فوالله الذي شرّفنا بالوحي والكتاب والنبوّة والانتخاب لا تُدرِك أمدَنا، ولا تَبلُغ غايتنا، ولا تمحو ذِكرَنا، ولا تُميتَ وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فَنَد، وأيامك إلاّ عَدَد، وجمعك إلاّ بَدَد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنةُ الله على الظالم العادي…”(٢)
|
وكأنّ الإمام السجّاد عليّ بن الحسين أراد الإلماح إلى قضية الاختلافات الأذانيّة، وعداء معاوية مع ذكر اسم النبيّ محمّد في الأذان، حين عرّض بيزيد لمّا أمرَ المؤذن أن يؤذّن ليقطع خطبة الإمام عليّ بن الحسين في مسجد دمشق..
قالوا: قال الإمام عليّ بن الحسين: يا يزيد، ائذَن لي حتّى أصعد هذه الأعواد… فأبى يزيد، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، ائذن له ليصعد فلعلّنا نسمع
أيّها الناس، أُعطينا سِتّاً وفُضّلنا بسبع، أُعطينا العلم والحلم… وفُضّلنا بأنّ منّا النبيّ المختار محمّد، ومنّا الصدّيق، ومنّا الطيّار، ومنا أسد الله وأسد الرسول، ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول، ومنّا سبطا هذه الأمّة وسيّدا شباب أهل الجنة، فمَن عَرَفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني أنبأتُه بحسبي ونسبي: انا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا… أنا ابن من حُمِلَ على البراق في الهوا، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فسبحان من أسرى، أنا ابن من بَلَغ به جبرئيل إلى سِدرة المنتهى، أنا ابن مَن دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمّد المصطفى…(١)
|
قال: ولم يزل يقول: أنا أنا حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد أن تكون فتنة، فأمر المؤذن أن يؤذّن فقطع عليه الكلام وسكت.
فلمّا قال المؤذّن: “الله اكبر” قال عليّ بن الحسين: كبّرتَ كبيراً لا يقاس، ولا يُدرَك بالحواس، ولا شيء أكبر من الله.
فلمّا قال: “أشهد أن لا إله إلاّ الله” قال عليّ بن الحسين: شَهِد بها شَعري
وها هنا ثلاث ركائز مهمة في هذه الخطبة:
أولّها: إن يزيد خاف أن يذكر الإمامُ السجّادُ فضائحَ يزيد ومعاوية وآل أبي سفيان، مع أنّ الإمام في خطبته هذه لم يذكر صريحاً شرك أبي سفيان ولا معاوية ولا كونهما ملعونين، كما لم يذكر هنداً وما كان منها في الجاهلية من سوء السيرة، ولا ما كان من بقرها بطن حمزة ولا ولا… فكانت الفضيحة لهم ببيان الحقائق النيّرة، وما حرّفه المحرّفون، وبيان مقامات النبيّ وعترته.
وثانيها: إنّ قسطاً مهمّاً من الخطبة انصبَّ على حقيقة الإسراء والمعراج ; إذ فيها العناية المتزايدة ببعض تفاصيلهما، والتأكيد على أنّهما حقيقة عيانيّة بدنيّة كانت للنبيّ (صلى الله عليه وآله)، لا أنّها رؤيا وحُلُم كما يدّعيه الأمويّون، فكان الإسراء والمعراج فيهما رفع ذكر النبيّ وتشريع الأذان والصلاة، وفيهما رفع ذكر آل النبيّ (صلى الله عليه وآله) تبعاً له.
كما أنّ في الخطبة حقيقة أنّ عليّاً هو الصدّيق لا غيره، وأنّ فاطمة سيّدة نساء العالمين، لا كما حرّفوا من أنّ الصدّيق هو أبو بكر، وأنّ اسمه على قائمة العرش، مع أنّ الحقيقة هي أنّ عليّاً هو الصديق وأن اسمه مكتوب على العرش ـ كما سيأتيك بيانه لاحقاً ـ وأن الصدّيقة فاطمة الزهراء قد كذَّبت أبا بكر الصديق!!! وقالت له: لقد جئتَ شيئاً فَريّاً(٢) وكذا الإمام عليّ فانه كذب من ادعى الصدّيقية في أبي بكر
وعن معاذة قالت: سمعت عليّاً وهو يخطب على منبر البصرة يقول: أنا الصدّيق الأكبر، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر وأسلمت قبل أن يسلم [أبو بكر](٣)، فلا يعرفُ بعد هذا من هو الصادق ومن هو الكاذب ومن هو الصدّيق ومن هي الصدّيقة في قاموس القوم؟ وقد مرّ عليك أنّ معاوية حرّف كلّ فضيلة لعليّ وجعلها في غيره.
وثالثها: أنّ يزيد لمّا أمر المؤذّن بالأذان ليقطع كلام الإمام، كان الإمام السجّاد يوضّح كلّ فقرة من فقرات الأذان، مُعرِّضاً بمن يتلفّظون بألفاظه دون وعي لمفاهيمه، وهو ما سنقوله لاحقاً من أنّه يحتوي على مفاهيم الإسلام، وأنّه وجه الدين، وأنّه ثبت بالوحي، لا كما أرادوا تصويره بأنّه مجرّد إعلام قابل للزيادة والنقصان، وُضع بأحلام واقتراحات من الصحابة!!
وفي قول السجّاد (عليه السلام) “يا يزيد! محمّد هذا جدّي أم جدّك” بيان لارتفاع ذكر النبيّ وآله، وأنّ الأمويّين لم يفلحوا في حذف اسمه من الأذان وإخماد ذكره،
٣- شرح نهج البلاغة ١٣: ٢٢٨، وأنساب الاشراف بتحقيق المحمودي ١٤٦، الآحاد والمثاني ١: ١٥١، والمعارف لابن قتيبة ٩٩.
ويؤكد ذلك أنّه لمّا قدم عليّ بن الحسين بعد قتل أبيه الحسين (عليه السلام) إلى المدينة استقبله إبراهيم بن طلحة بن عبيدالله وقال:
يا عليّ بن الحسين، مَن غَلَب؟ وذلك على سبيل الشماتة فقال له عليّ بن الحسين: إذا أردتَ أن تعلم من غَلَب ودخل وقت الصلاة فأذِّن ثمّ أقِم(٢).
|
وذلك أنّ ذكر الرسول المصطفى خُلّد في الأذان والإقامة رغم نصب الناصبين وعداء المعادين، وبه خلود ذكر آل النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فيكونون هم الغالبين لا بنو أميّة ولا من غصبوا الحقوق وحرَّفوا المعالم عن سُنَنها ومجاريها.
وقد كانت نعرة البغض لرهط النبي وآله مترسّخة متجذرة في نفوس الأمويين إلى أبعد الحدود، حتّى وصلت بهم درجة الإحساس بالتعالي والتيه والكبر إلى أن يحاسبوا حتّى من يمدحهم غاية المدح فيما إذا قدّم عليهم آل الرسول، فقد افتخر ابن ميادة الشاعر بقومه بعد رهط النبي وبعد بني مروان، فقال:
فَضَلْنا قريشاً غيرَ رهطِ محمَّدِ | وغيرطَ بني مروان أَهلِ الفضائلِ |
فقال له الخليفة الاموي الوليد بن يزيد: قدَّمْتَّ رهطَ محمّد قبلنا؟! فقال ابن