هوية التشيع / الصفحات: ١٦١ – ١٨٠
ودعني اُحدثك عن أروع من هذا كله وهو أن يكون قول بعض أئمة السنة هو المقياس لتصحيح القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إذا اختلف الكتاب والسنة مع قول ذلك الإِمام: يقول الكرخي من أئمة الأحناق:
الأصل وجوب العمل بقول أبي حنيفة، فإن وافقه نص الكتاب والسنة فذالك. وإلا وجب تأويل الكتاب والسنة على وفق قول أبي حنيفة، وقد ذكر ذلك الأستاذ رشيد رضا في تفسير المنار عند تفسير الآية: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً) الآية ١٦٥/ من سورة البقرة(٤). ويأتي القوشجي دون الكرخي بمرقاة فإذا كان الكرخي جعل فقه الأحناف هو المقياس الذي يعرض عليه الكتاب والسنة، فإن القوشجي جعل للخليفة عمر حقاً في أن يجتهد مقابل
(٣) أعلام الموقعين ٤/١١٨.
(٤) تفسير المنار ٢/٨٣.
٥ ـ الأمر الخامس:
إعتبر الأستاذ فرغل روايات الشيعة بأنّها مناخ صالح للغلو، واُريد أن أشرح للأستاذ فرغل موقف الشيعة من الغلو والغلاة: فالغلو عرّفه الطبرسي في تفسيره عند شرح الآية ٧٧ من سورة المائدة: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق) بأنه ما يقابل التقصير وهو تجاوز الحد، فقال: إنّ معنى الآية: لا تتجاوزوا الحد الذي حدّه الله، لكم إلى الإِزدياد، وضده: التقصير وهو الخروج عن الحد إلى النقصان، والزيادة في الحد والنقصان عنه كلاهما فساد، ودين الله الذي أمر به هو بين الغلو والتقصير وهو الإِقتصاد ـ أي الإِعتدال ـ (٢).
أ ـ المنشأ الأول:
أن يغالي الإِنسان بشخص أو فكرة ليتخذ من ذلك مبرراً لاختياره الإِنتماء لهذه الفكرة أو الشخص فكأنّه يريد مرجحاً أمام الناس ومبرراً نفسياً ويتبلور هذا المعنى أكثر وأكثر في العقيدة بالأشخاص فإنّ الأتباع يحاولون رفع من يعتقدون به إلى مستويات غير عادية وهذا المعنى موجود على الصعيد الديني والسياسي، فقد وصف هوبز الحاكم بأنّه المعبر عن إرادة الله وإرادة الشعب، ومنحه السلطة المطلقة في التصرف، ولم يعط الشعب حق عزله واعتبر إرادته من إرادة الله تعالى، وقد ذهب فلاسفة الألمان نفس المذهب فيما خلعوه على الحاكم من صفات، وأشدهم في ذلك: هيكل أستاذ ماركس، فالملك عند هيكل صاحب السلطة المطلقة، وله مركز مستقل عن مصالح الأفراد وتتمثل في شخصيته الذات النهائية وهو مجموع الشعب مشخص في واحد، وهو وهو الخ. وقد سبق هؤلاء جميعاً أفلاطون حين أعطى الحاكم منازل مقدسة، وكذلك الفارابي حيث صور رئيس المدينة بأنّه متصل بالعقل الفعال حيث يقترب من الله تعالى(١).
إنّ كل هذه المواقف تبرير لاعتناق الفكرة بنحو وآخر يوجده تصور معين.
ب ـ المنشأ الثاني للغلو:
رد الفعل فإنّ البعض قد يضطهد من أجل معتقداته، وقد ينتقص أو يشتم أو يهزأ به فيدفعه كل ذلك إلى المغالاة بدافع رد الفعل، ولهذا رأينا القرآن الكريم في مثل هذه المواطن أخذ العوامل النفسية بعين الأعتبار إذ يقول تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) ١٠٨/ الأنعام. وهذه المسألة لها تطبيقاتها على أبعاد التاريخ في كثير من الموارد، ومن هنا ذهب دونالدسن: إلى أنّ القول بالعصمة هو رد فعل من الخلفاء الغاصبين وهو
ج ـ المنشأ الثالث:
هو الغلو الذي ينشأ من الطيبة والبراءة وحسن الظن بالآخرين فيركن إلى مرويّاتهم من دون تمحيص خصوصاً من الذين اندسوا في الإِسلام لسبب وآخر وأردوا تغطية حقيقتهم فتحمسوا تحمساً مشبوهاً لأشخاص أو أفكار، وهذا المنشأ: الحديث فيه طويل فإنّ كثيراً من المندسين لبعوا دوراً بارزاً في تسجيل نظريات ومواقف تنزع إلى الغلو حتى أفسدوا على كثير من المسلمين عقائدهم لمختلف الأهداف التي كانت تدفعهم وقد كان لكل مذهب من المذاهب حصة من هؤلاء تكثر أو تقل تبعاً لظروف المذهب نفسه وربما يمر علينا هذا المعنى مفصلاً فيما يأتي.
د ـ المنشأ الرابع عدم الدقة:
فقد يبتلي بعضهم بشبهات نتيجة فهم خاطئ، أو تعميم غير مبرر علمياً كان يرى رأياً لشخص من طائفة فيعمم رأيه على الطائفة كلها، وقد تذهب جماعة إلى رأي ثم تبيد ويبقى الرأي فيأتي من يحمل الرأي للآخرين، قد يكون استنتاجاً لرأي من لازم من لوازم القول لم يتفطن له صاحب القول نفسه، وقد يكون نتيجة خطأ في تطبق ضابط من الضوابط الكلية على بعض الجزيئات وهكذا، ولذا لابد من التروي والحذر الشديد عند الكتابة عن فئة أو طائفة، ولا بد من أخذ رأيها من مصادرها المتسالم عليها، فإذا كان بعض الشيعة في يوم من الأيام غالى بالإِمام عليٍّ لقلعه باب خيبر فليس كل الشيعة كذلك وإذا كان شخص قال لعليٍّ وهو يخطب أنت أنت فليس كل الشيعة كذلك.
موقفنا من الغلو والغلاة
وبعد شرح مناشئ الغلو أو أهمها نقول: إنّ الشيعة تبعاً لمواقف أئمتهم وقفوا موقفاً حازماً من الغلوا والغلاة فسلطوا عليهم الأضواء وتبرأوا منهم وكافحوهم وشهروا بهم، وهم بذلك لا يتعدون موقف أمير المؤمنين عليه السلام حينما يقول: «هلك فيَّ اثنان محب غالٍ وعدو قال» وموقف الإِمام الصادق عليه السلام حينما يقول: «ما نحن إلا عبيد الذي خلقنا واصطفانا، والله مالنا على الله من حجة ولا معنا من الله براءة، وإنا لميتون وموقوفون، ومسؤولون، من أحبَّ الغلاة فقد أبغضنا، ومن أبغضهم فقد أحبنا، الغلاة كفار والمفوضة مشركون، لعن الله الغلاة ألا كانوا نصارى ألا كانوا قدرية ألا كانوا مرجئة ألا كانوا حرورية» (١).
والإِمامية لا يورثون الغلاة وإليك نص عبارتهم في ذلك: يرث المحق من المسلمين من مبطلهم ومبطلهم من محقهم ومبطلهم، الا الغلاة يرث منهم المسلمون وهم لا يرثون المسلمين كما أنّ الإِمامية لا يغسلون موتى الغلاة ولا يدفنونهم ويحرمون تزويجهم وإعطائهم الزكاة، وتجد هذه الأحكام موزعة في كتب فقه الإِمامية في أبواب الطهارة والزكاة والإِرث، إنّ الإِمامية لا يعتبرون الغلاة مسلمين:
يقول الشهيدان الأول والثاني في اللمعة وشرحها في باب الوقف! عنه تعريف المسلمين: والمسلمون من صلّى إلى القبلة أي اعتقد الصلاة إليها وإن لم يصلِّ لا مستحلاً، الا الخوارج والغلاة فلا يدخلون في مفهوم المسلمين وإن صلوا إليها للحكم بكفرهم(٢) وألحقا بهم المشبهة والمجسمة في الحكم، بل إنّ
آراء بعض الباحثين
وانطلاقاً من ذلك يقول الشيخ المفيد: الغلاة من المتظاهرين بالإِسلام وهم الذين نسبوا أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب وذريته إلى الاُلوهية والنبوة ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحد وخرجوا عن القصد فهم ضلاّل كفار(٢).
ولا أحتاج إلى حشد النصوص والأدلة على براءة الشيعة من الغلاة وأي موقف أشد صراحة من هذه المواقف التي ذكرتها. ولا يسع مؤمناً يؤمن بالله ورسوله ويصدر عن تعاليم الإِسلام في سلوكه ثم ينزع إلى الغلو في عقيدة أو بشر إلا من ضرب الله على بصيرته. ولأجل وضوح موقف الشيعة من الغلاة انطلقت الأصوات الموضوعية تشهد ببراءتهم من ذلك، ومن هذه الأصوات: مؤلفوا دائرة المعارف الإِسلامية فقد جاء في دائرة المعارف:
الزيدية والإِمامية الذين يؤلفون المذهب الوسط يحاربون الشيعة الحلوليين حرباً شعواء ـ الحلولي لا نعتبره من الشيعة كما مر ـ ويعتبرونهم غلاة يسيئون إلى المذهب بل يعتبرونهم مارقين عن الإِسلام(٣).
ويقول الدكتور أحمد محمود في نظرية الإِمامة عند ذكره للبابية والبهائية:
(٣) دائرة المعارف الإِسلامية ١٤/٦٣.
(٣) الفرق بين الفرق ص٥٣.
(٤) الفرق بين الفرق ص٤٤.
يقول الدكتور كامل مصطفى في كتابه: وبذلك يتبين أن الغلاة وإن كانوا مغضوباً عليهم من الشيعة المعتدلين وأئمتهم: قد أسسوا العقائد الأصلية للتشيع
أولاً:
إذا كان هذا النص وارداً في الرجعة فمعنى هذا أنّ الإِمام علياً عليه السلام هو الذي وضع عقيدة الرجعة وليس الغلاة كما يقول الدكتور كامل.
ثانياً:
إنّ هذا النص ولكل بساطة أجنبي بساطة أجنبي كما ذكره الدكتور ولا صلة له بالمرة بالمعاني التي ذكرها وكل ما في الأمر أنّ هذا النص يفيد معنى الرواية «من أحبَّ عمل قوم حشر معهم وشاركهم في عملهم» ولذلك سأل الإِمام عليّ عليه السلام الرجل عن هوى أخيه هل هو مع أمير المؤمنين عليه السلام وأصحابه فلما أجابة بنعم قال: «لقد شهدنا» أي شاركنا بمشاعره ثم قال له الإِمام: إنّ جميع من سيرعف بهم الزمان وهم على رأينا سيشاركوننا بعد ذلك بحصول الثواب والفرح بالنصر، وكم لهذا الموضوع من نظائر، ومن ذلك ما رواه مؤرخوا واقعة الطف حيث قالوا: إنّ جابر بن عبدالله زار الحسين عليه السلام بعد قتله فقال في زيارة: «أشهد أنّا شاركناكم فيما أنتم فيه» فقال له رفيقه الأعمش: إن القوم قطعت رؤوسهم وجاهدوا حتى قتلوا فكيف شاركناهم نحن فيما هم فيه؟ فقال له جابر: إنّ نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحاب الحسين ذكر ذلك أصحاب المزارات كافة، هذا هو معنى كلام الإِمام عليّ عليه السلام لا كما ذهب إليه الدكتور.
أين موضع الغلو
أعود بعد ذلك لأضع بين يدي الأستاذ فرغل بضع روايات من مئات من نوعها تدله على موضع الغلو ليعلم أنّ الغلو عند غير الشيعة، وعلى أسوأ
١ ـ الشاهد الأول:
ذكر الشيخ إبراهيم العبيدي المالكي في كتابه عمدة التحقيق في بشائر آل الصديق قال روي أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال يوماً لعائشة: إنّ الله لما خلق الشمس خلقها من لؤلؤة بيضاء بقدر الدنيا مائة مرة وأربعين مرة ـ مع ملاحضة أنّ حجم الشمس كما يقول الفلكيون مليون وثلثمائة ألف مرة تقريباً ـ وجعلها على عجلة وخلق للعجلة ثمانمائة عروة وستين عروة وجعل في كل عروة سلسلة من الياقوت الأحمر، وأمر ستين ألفاً من الملائكة المقربين أن يجروها بتلك السلاسل مع قوتهم التي اختصهم الله بها، والشمس مثل الفلك على تلك العجلة وهي تجول في القبة الخضراء وتجلو جمالها على أهل الغبراء وفي كل يوم تقف على خط الإِستواء فوق الكعبة لأنّها مركز الأرض:ـ ملاحظة: خط الإِستواء ليس فوق الكعبة ـ وتقول يا ملائكة ربّي إنّي لأستحيي من الله عز وجل إذا وصلت إلى محاذاة الكعبة التي هي قبلة المسلمين أن أجوز عليها والملائكة تجر الشمس لتعبر على الكعبة، بكل قوتها فلا تقبل منهم وتعجز الملائكة عنها فالله تعالى يوحي إلى الملائكة ومن الإِلهام فينادون: أيتها الشمس بحرمة الرجل الذي اسمه منقوش على وجهك المنير الا رجعت إلى ما كنت في من السير، فإذا سمعت ذلك تحركت بقدر المالك فقالت عائشة:
يا رسول الله من الرجل الذي اسمه منقوش عليها؟
قال: هو أبو بكر الصديق يا عائشة قبل أن يخلق الله العالم علم بعلمه القديم أنه يخلق الهواء ويخلق على الهواء هذا السماء ويخلق بحراً من الماء ويخلق عليه عجلة مركباً للشمس المشرقة على الدنيا وإنّ الشمس تتمرد على الملائكة إذا وصلت الإِستواء وإنّ الله قدر أن يخلق في آخر الزمان نبياً مفضلاً على الأنبياء وهو بعلك يا عائشة على رغم الأعداء ونقش على وجه الشمس إسم وزيره أعني أبا بكر صديق
٢ ـ الشاهد الثاني:
ذكر محمد بن عبدالله الجرداني في مصباح الظلام قال: روي عن ابن عباس جاء جبرئيل وقال يا محمد اقرأ عمر السلام وأخبره أنّ رضاه عز، وغضبه حلم، وليبكِ الإِسلام بعد موتك على موت عمر فقال: يا جبرئيل أخبرني عن فضائل عمر وما له عند الله تعالى؟ فقال: يا محمد لو جلست معك قدر ما لبث نوح لم أستطع أن اُخبرك بفضائل عمر وماله عند الله تعالى(٢).
٣ ـ الشاهد الثالث:
ذكر الإِمام أحمد في مسنده بإسناده عن عائشة: أنّ أبا بكر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وكان مضطجعاً في بيته كاشفاً عن فخذيه وساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وسوّى ثيابه فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلس فجلست وسويت ثيابك فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة(٣).
هذا ثلاثة نماذج من عشرات من الروايات: التي يأباها الخلفاء أنفسهم فإنّ لهم من مواقفهم ومناقبهم ما يكفيهم إنّهم ليسوا بحاجة إلى أن تشاد لهم صروح من خيال أبله أّنّ تاريخنا الإِسلامي أعز علينا من أن نرضى بأن تكون
(٣) مصباح الظلام ٢/١٦.
وبوسعك أن تقرأ روايات في الإِمام مالك وفي الإِمام الشافعي وفي كثير من الفقهاء والأئمة مما نسج من الخيال ووضع في طريق القارئ يؤذي ذوقه ويخذش حسّه، وبعد ذلك فماذا يسمّى مثل هذا هل هو غلو أم لا سؤال موجه للأستاذ فرغل؟. وساُقدم لفرغل نموذجاً واحداً فقط يقول صاحب تفسير روح البيان:
عند تفسير قوله تعالى: (ويحمل عرش ربّك فوقهم يومئذ ثمانية) إنّ نصف الثمانية الذين ذكرتهم الآية هم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، ما يقول مولانا فرغل في ذلك؟؟!!
الفصل الخامس
مِن عقائدنا ـ المهدي
ما رأيت كتاباً كتب عن الشيعة إلا واتخذ من عقيدتهم بالمهدي وسيلة للسخرية والتهريج ووضع للفكرة حواشي ورتب عليها لوازم وأشرع سلاحه وتفيهق بكلامه وصال وجال كأنّه اكتشف كشفاً ضخماً وأنّه وحده العبقري وأنّ الآخرين بلهاء، ولنر من أين جاءت فكرة المهدي وهل أخذها الشيعة من مصدر ديني سليم أم لا؟ وهكذا نمشي مع الفكرة، إنّ الذين كتبوا عن المهدي ربطوا مصدر هذه الفكرة بأمرين أحدهما الفكر الوضعي والآخر العقيدة الدينية، والذين ربطوا العقيدة بالفكر الوضعي انقسموا أيضاً. وسنذكر أقوالهم حسب الشق الذي مالوا إليه ورجحوا أنّه المصدر لهذه الفكرة:
١ ـ القسم الأول:
الذين ربطوا الفكرة الإِمام المهدي بالفكرة الوضعي في بعده النفسي يرون أنّ عقيدة المهدوية ليست وقفاً على الفكر الشيعي ولا على المسلمين فقط بل ولا على الديانات السماوية كلها إنما هي على مستوى الشعوب ذلك أنّ العامل المشترك بين كل هذه الفئات هو عامل نفسي موحد: وهو الشعور بوضعية غير عادلة من حكم قائم بالفعل وخزين متراكم من حكام سابقين عاشوا مع شعوبهم على شكل قاهر ومقهور، ومتسلط ومسحوق، ورزحوا تحت نير الظلم والطغيان. ولذا كانت هذه العقيدة عند الشعوب الشرقية ونظائرها ممن يشترك
إذاً فالقدر الجامع بناءً على هذا هو الأمل بظهور مخلّص من واقع سيّئ تعيشه الجماعة، وفي ذلك يقول الدكتور أحمد محمود:
إنّ الإِعتقاد بظهور مسيح أو انتظار رجعة مخلص وليد العقل الجمعي في مجتمعات تفكر تفكيراً ثيوقراطياً في شؤونها السياسية، وبين شعوب قاست الظلم ورزحت تحت نير الطغيان، سواء من حكامهم أم من غزاة أجانب، فإزاء استبداد الحاكم وفي ظل التفكير الديني تتعلق الآمال بقيام مخلّص أو محرر يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً(٢).
فهذه العقيدة بالرغم من وجود مصادر دينية لها عند المسلمين واليهود والمسيحيين إلا أنّ هذه المصادر ليست هي العامل الأساسي في نظر هؤلاء بالإِعتقاد بها، وإنّما تعلب دوراً مبرراً ثانوياً، ويرى الدكتور أحمد محمود أنّ عقيدة السنة بالصبر على الظالم وعدم الخروج عليه عمقت نزعة المهدي وتركت الوسط الديني السني الذي الذي يعتقد بموضوع المهدي يعيش بين عامل الألم من الواقع الفاسد الذي عاشه أيام الأمويين وما تلاها من عصور، وبين ضرورة الخلاص، فمال إلى الخلاص في المدى الأبعد الذي وجده في عقيدة المهدي وقد حاول إشراك
١ ـ الملاحظة الأولى:
أنّ هذا الخلط بين السبب وبعض نتائجه ذلك لأنّ الشعوب المرتبطة بدين معيّن تُربط مظاهرها العقائدية بدينها في الجملة، فإذا لم يوجد مصدر ديني لذلك المظهر يبحث عندئذ عن سببه الآخر، ولا شك أنّ الأديان الثلاثة بشرت بفكرة المخلص وهو إما واحد للجميع يوحد به الله تعالى الأديان في الخلاص من الظلم، أو متعدد لكل اُمة من الاُمم مهديها، والهدف منه ومن التبشير به أن يوضع أمام كل اُمة مثل أعلى يجسد فكرة العدل ولتكون الشعوب على تماس مباشر مع فكرة الخيّرة والمثل الأعلى كما هو متصور فالأصل في فكرة المهدي النصوص الدينية، وساعد على ترسيخها في النفوس ارتياح النفوس إليها، خصوصاً إذا لم تقو على تجسيد العدل لسبب ما. ولكنّها إذ تتخذ من فكرة المهدي وسيلة تعويضية
٢ ـ الملاحظة الثانية:
إنّ إشراك الشيعة مع السنة بأنّهم لا ينهضون ضد الظالم تقية مغالطة صريحة، وذلك لأنّ عامل صبر السنة على الظلم عامل اختياري نتيجة تمسك بأحاديث يرون صحتها في حين أنّ صبر الشيعة على الظلم نتيجة عامل قهري لعدم وجود قدرة ووسيلة للنهضة، وهذا عامل عام عند كل الناس، أما لو وجدت عوامل النهضة فلا ينتظر الشيعة خروج المهدي ليصلح لهم الأمر بدليل أنّ حكم الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بشروطهما قائم عندهم فعلاً، وكذلك الجهاد بكل أقسامه بوجود نائب الإِمام الخاص أو العام في رأي بعضهم قائم بالفعل، أما دفاع الظالم عن النفس والمقدسات فلا يشترط فيه وجود إمام أو نائبه على رأي جمهور فقهاء الشيعة لأنّه دفاع عن النفس ويتعين القيام به في كل وقت من الأوقات(١).
إنّ الرجوع إلى تاريخ الشيعة يشكل أدلة قائمة على ما ذكرناه لكثرة ثوراتهم على الباطل في مختلف العصور والجهاد مع باقي فرق المسلمين في ساحات الجهاد ضد الكفر والظلم ولست بحاجة للإِطالة بذلك لوضوحه.
٣ ـ الملاحظة الثالثة:
لا ينهض اشتراك الشعوب في عقيدة المهدي دليلاً على وحدة العامل، لأننا
٢ ـ الشق الثاني:
الذين ربطوا فكرة الإِمام المهدي عليه السلام بالأخذ التقليدي وقالوا إنّها عبارة عن اقتباس أخذه المسلمون عن بعض الشعوب من دون أن يكون هناك عامل شعوري مشترك وسواء اُخذت هذه العقيدة من هذا الشعب أو ذاك فإنّ جولد تسيهر، وفان فلوتن: المستشرقان قالا إنّها مقتبسة من اليهود بشكل وبآخر، ويؤكد فان فلوتن أنّها جاءت من تنبؤات كعب الأحبار ووهب بن منبه فهي من
٣ ـ الشق الثالث:
ربط فكرة المهدي بالفكر الوضعي في بعده السياسي ويقول أصحاب هذه الفكرة أنّ فكرة المهدي اخترعها بعض الحكام الذين حكموا ولم تتوفر فيهم صفات يفترضها المسلمون في الحاكم، فافترضوا أنّ هناك إماماً غائباً محرّراً سيظهر بعد ذلك وقد عهد إليهم بالقيام بالحكم إلى أن يظهر وقالوا إنّ المختار الثقفي ممن سلك هذا الطريق وادعى أنّه منصوب من قبل المهدي من آل محمد، وممن أكد هذا الرأي المستشرق وات(٣) وهذا الرأي يضع الأثر مكان المؤثر فإنّ الذين اتخذوا من فكرة المهدي سناداً لهم على فرض وجودهم بهذه الكثرة: لابد أن تكون فكرة المهدي شائعة عند الناس قبل مجيئهم فاستفادوا منها وركبوا ظهر العقيدة، على أنّ نسبة هذا الرأي للمختار باعتباره جزءاً من العقيدة الكيسانية
(٣) تاريخ الإِمامية وأسلافهم ص١٦٥.